دراسات وبحوث

فلسفة الغزالي في نقد التقليد (1-2)

ميثم الجنابي"من شرط المقلد أن لا يعلم انه مقلد. فإذا علم ذلك انكسرت زجاجة تقليده، وهو  شعب لا يرأب" (الغزالي) 

لقد رد الغزالي في إحدى رسائله الأخيرة على الطلبات المتكررة الداعية إياه بالعودة للتدريس في نظامية بغداد قائلاً: "إن هذا الوقت هو وقت فراق الدنيا لا السفر إلى العراق"[1]. أما الحافز والتأسيس القائم وراء دعوته للتدريس بوصفه من يمكنه جمع الخلق للتوجه إلى الله وأن وجوده في قلب الخلافة (بغداد) هو الأمثل، أجاب:"إن الطريق إلى الله من طوس ومن بغداد ومن كل مكان سواء"، أي أن الطريق إلى الحقيقة والمطلق واحد. وقد أنجز هو ما استطاع إنجازه في غضون سنواته السابقة، وليس له بالتالي سوى انتظار أيامه الأخيرة ليكف الزمان والمكان عن التباين، ولتحلّ الوحدة في موته! فهي اليقظة التي تقطع عليه نوم الوجود، كما سيقول ذلك لاحقا متتبعاً أثر الصوفية.

ولم يصل إلى هذه الذروة إلا بعد شوط طويل من "تنقية" النفس، التي لا يمكن النظر إليها على أنها مجرد حياته الخاصة فقط. فقد كانت هي في حقيقتها التمّثل الغزالي لثقافة العصر ككل. لقد مّثل هو عصارتها الذهنية. وليس هناك أفضل منه ممن اكتشف أخطاءه كما ترجمها في (المنقذ من الضلال).

وشكلت وحدة رفض التقليد والبحث عن الحقيقة جوهر (المنقذ)، أو ما يمكن دعوته بجوهر الظاهرة الغزالية. إلا أنها شأن كل ظاهرة فكرية لم يكن بإمكانها أن تتشكل خارج محيطها الثقافي. فروايات الكتب التاريخية والسير عن طفولته اليتيمة، ومسعى أبوه المحب للمتصوفة والفقهاء في أن يكون وليده من بينهم، واضطرار مربيه الأول (الصوفي) إلى أن يرسله وأخاه أحمد إلى المدرسة الفقهية لتوفير لقمة العيش لهم، لا يمكنها أن تكشف عن الأسباب الفعلية وراء التحول الذي سينسب له لاحقاً في عبارته القائلة "أردنا العلم للدنيا فأبى إلا أن يكون لله". إذ لم يكن بإمكان هذا التحول الجارف في توجه علمه من الدنيا إلى الله، أو من المصلحة إلى الغاية المتسامية، أو من المهاترات إلى الحقائق، أن يتبلور إلا من خلال نفي المصلحة والمهاترات نفسها. وهو ما تكشفه ليس فقط حياته الاجتماعية السياسية وتطوره الفكري الروحي، بل وصراعهما على خلفية الثقافة السائدة آنذاك.

ففي هذا العالم يمكن للشخصية المفكرة أن تظهر بهيئة استقلال تلقائي لا هدف مسبق لها، مختطّة لنفسها مصيرها الخاص كي تعيه فيما بعد على أنه ما لم يكن بالإمكان تصور غيره واستبداله، أو حسبما صاغته العبارة الإسلامية الوجيزة:"ما أصابك لم يكن ليخطأك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك"، أي عندما تتخذ الدراما الحياتية هيئة التفاؤل المطلق. آنذاك سيغيب الجميع وراء الكلّ. وهي الصيغة التي لابد وأن يواجهها كل وعي ذاتي عميق. إلا أن كلاً منها يضمّنه مضمونه الخاص. وفي هذه الخصوصية تظهر حقيقة الشخصية ما زال الإنسان لا يمكنه تعدي حدود الزمن بوجوده. بينما الأخير هو مطلق النهاية في اللانهاية. وقد أدرك الغزالي حقيقة هذه الحقيقة في ذاته. ومن العسير تتبع جزئياتها فيه، بمعنى أنه لا يمكننا تخطي حدود الشرطية التي تناولها هو عن نفسه. فهو يظهر لنا منذ البداية بوصفه حركة الحقيقة، أي التركيز على الاستقلال الفردي والفكري المبني على "نبوغ مبكر"، كما ستحاول الصيغ التاريخية فيما بعد إبرازه بهيئة تناقض خفي في موقف استاذه" إمام الحرمين" الجويني منه، بمعنى الاعجاب والتباهي الظاهري به والامتعاض والحسد الداخلي منه. وقد لا يخلو ذلك من صدق واقعي لاسيما وأننا لا نعثر على تبجيل أو احترام أو حتى ذكرى عابرة في مؤلفات الغزالي اللاحقة عن استاذه. ومن الصعب الآن الجزم عما إذا كانت الحكايات المروية حول علاقة الجويني بتلميذه الغزالي أو الغزالي باستاذه حقيقة أم خيال، وذلك لما فيها من اختلاق وتناقضات. والشيئ الوحيد المشترك بينها هو تركيزها على هذه العلاقة. ففي بعضها يجري اظهار نبوءة الجويني عن صعود الغزالي وتألق نجمه في العبارة التي تصفه بانه "بحر مغرق". بينما تشير بعض الروايات إلى صورة أخرى تعّبر عن حسده الداخلي وامتعاضه منه في العبارة المنسوبة اليه بعد أن كتب مؤلفه الأول (المنخول):"دفنتني وأنا حي! هلا انتظرت حتى أموت!". ومن الصعب الأخذ بالعبارة الأخيرة كما هي لاعتبارات واقعية تتعلق بحجم وقوة إبداع الجويني وشخصيته. ولكن يمكن القبول بها في حال النظر اليها باعتبارها شكلا من اشكال الاعجاب المتحمس بكتاب تلميذه الغزالي. ولربما كانت هذه الصيغة شكلا ماكرا من أشكال الإدانة المبطنة من خلال تصوير شخصية الجويني الاشعري بالنفاق الأخلاقي. والاحتمال الأكثر رجوحا في تفسير هذه الرواية يقوم في نزعة الغزالي نحو الاستقلال وعدم التقليد لأي كان. إلا أنه لم يبن ذلك على قاعدة التبجح الشخصي والخواء الروحي، بل على أساس وعي إمكانية الإبداع الفكري الجديد، أي الاستناد إلى التراث العقلاني واللاعقلاني بمختلف اشكاله ومظاهره ومستوياته. بمعنى إلى كل المتناقضات القائمة في مرحلته، والتي أسس لها وبلورها تاريخ الخلافة السابق. إذ لا إبداع كبير خارج المتناقضات. فعندما يشير الغزالي في (المنقذ) إلى مساره الفكري، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن انعكاس تلك المعاناة الفكرية التي مر بها، أو ما اسماه باستخلاص الحق من بين اضطراب الفرق. بمعنى سيره في وسطها مترفعاً في الوقت نفسه عن التقليد، أي وعي ضرورة قبول الفكرة والاستنتاجات بعد غربلتها العقلية المستقلة. وهذا ما يعادل معنى عدم الاقتناع بالكلمة أياً كان مصدرها. ولم يكن ذلك بمعزل عن شدة الصراعات الفكرية التي أظهرت في معاركها عدم إمكانية القناعة الموحّدة حتى تجاه أبسط الحقائق، مما جعله يخوض غمار الجدل من أجل أن يكتشف هو الآخر حقيقة اليقين من بينها. إلا أن البحث عن الحقائق الخاصة لم يكن في الواقع سوى حقائق الأسلوب الجدلي والبحث عن الحقائق المتضاربة. بحيث جعله ذلك يجد نفسه كما سيقول في (المنقذ) مرمياً منذ وقت مبكر قبل بلوغه العشرين في "لجة هذا البحر العميق"[2]، أي بحر المعارف والصراعات الفكرية.

وقد خاض هذا الصراع خوض "الجسور لا خوض الجبان الحذور". إذ كان يتوغل في كل مظلمة، ويهاجم كل مشكلة، ويقتحم كل ورطة، ويتفحص عقيدة كل فرقة، ويستكشف أسرار كل طائفة ليميز المحق والمبطل فيها[3]. وقد وضعته هذه الحالة العقلية والاجتماعية أمام مهمتين بمضمون واحد ألا وهما محاربة التقليد، والبحث عن الحقيقة. وبالتالي فإن ما أبدعه قد تأرجح ضمن هذين القطبين المتصارعين. من هنا فإن التصورات والأحكام التي حاولت أن تجعله سنياً متشدداً أو ما شابهها من الأحكام تغفل الجوهري لحساب الثانوي، والجزئي والعابر لحساب الكلي الدائم، والتاريخي لصالح غير التاريخي، والماضي ودقائقه لصالح المصطلح المعاصر.

ففي التاريخ الفكري لا يمكن للمنظومة أن تكون سخفاً لا معنى له حتى في حالة تحول السخف واللامعنى إلى عناصر جوهرية فيها، أو إلى عنصر من عناصر القناعة الذاتية. فحتى في هذه الحالة يمكن رؤية إدراك أهمية غير العقلاني في الوعي، أي العنصر الضروري بالنسبة لإمكانية تثوير الفكر القائم سواء في عناصره ومكوناته المجردة أو في أحكامه. إننا نقف هنا أمام تجربة الوعي التاريخي في متضاداته بوصفها المقدمة الضرورية لتثويرها الممكن. وقد تعامل الغزالي مع مجموع هذه المتضادات في الثقافة المعاصرة له. بمعنى أنه تعامل مع تجربة الوعي الإنساني المتعدد المناهل، والتي اتخذت تشكلت في إطارها العام آنذاك في الفقه وعلم الكلام والفلسفة والتصوف، أي في كل تلك العناصر الأساسية لثقافة عصره ومكونات فكره الخاص. وأدرك أكثر من غيره آنذاك، بأن معياره في التعامل مع ثقافة عصره النظرية والمجردة وشخصياتها ليس السياسة بل الحقيقة. وبهذا المعنى تصح كلمات السبكي عنه والقائلة، بأن الغزالي كان "ضرغاماً لا كالأسود، وقمراً لا كالأقمار! حمى حوزة الدين دون أن يلطخ حسامه بدم المعرضين"[4]. ففي هذه العبارات نعثر على تصوير أدبي مذهبي لا يتعارض في الوقت نفسه مع الحقيقة، رغم أنه لا يتطابق معها.

فقد مثّل في تطوره وتحوله ديناميكية الوعي الثقافي، بمعنى أنه مثّل أكثر من أي مفكر آخر آنذاك المثال الايجابي الذي عبّر وعكس الرموز المتعددة في البحث والجدية، والشك والعقلانية، والقدوة الفعالة وجوهرية القناعة الذاتية، ووحدة العلم والعمل، وضرورة اليقين، أي التجربة التي كشف في صيرورتها الدائمة، عن أن أي ادعاء مطلق لامتلاك الحقيقة يعادل معنى الهيئة والهيبة الفعلية لنسبية الجهل. وفي هذه الصيرورة سعى لأن يوحّد ما هو جوهري في الاتجاهات المعاصرة له بوصفها النتاج التاريخي لتطور الفكر، أي البحث عن الحلقة الوسطى، تماماً مثلما فعل ارسطو تجاه مكونات الثقافة الاغريقية. بمعنى السعي لصنع تآلف فكري جديد. وقد جرت هذه العملية جريان الأنهار إلى بحارها، بوصفها العملية التاريخية التي جرت عبر صراعه مع أساليب وقيم ومفاهيم مرحلته التاريخية، متمثلاً اياها على أساس ضرورة وعي الحقيقة كما هي.

إذ لا يمكن فهم حقيقة موقفه من الاتجاهات الأساسية، التي مثلت في خطوطها العامة مراحل وتداخل ثقافة العصر التجريدية (الكلام والفلسفة والباطنية والتصوف)كما وضعه في (المنقذ من الضلال) على أساس ما واجهه منها وجهاً لوجه. فقد كان (المنقذ من الضلال) الصيغة المبطّنة والحذرة، التي تعكس ما ينبغي أن يقال لا الحقيقة كلها. إنه أراد الكشف عما أنقذه. فهو لم يوجه كتابه للمؤمنين والوثنيين  كما فعل أوغسطين، بل للباحثين عن الحقيقة وأسلوب بلوغها.

فالموقف من التقليد الذي صاغه في (المنقذ) هو التعبير الخارجي عما تراكم في مجرى تطوره الحقيقي منذ بداياته الأولى. فقد بدأ الغزالي من تلك الملاحظة الدقيقة للتناقض القائم بين وعي الإنسان الاجتماعي التاريخي والعقائدي وبين حقيقة هذا الوعي، بين الإيمان الظاهري المذهبي وحقيقة الإيمان. إلا أن هذه الصياغة الأخيرة ليست إلا الملاحظة الأولية عما هو قائم، والتي ستتطور لاحقاً حول إشكالية الحقيقة كما هي. فقد اصطدم شأن مفكري تلك المرحلة الكبار بظاهرة الإيمان التقليدي السائد، والذي أفلح الوعي الكلامي العقلاني بتأطيره بصيغة الحديث المنسوب للنبي محمد، والقائل بأن الإنسان يولد على الفطرة، وإنما أبواه هما اللذان يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه. وإذا كان الإسلام يتطابق بالمفهوم السنّي الخالص مع الفطرة الإنسانية، فإن الغزالي لم يشغل ذهنه بهذه التفريعات التبريرية، وتعامل أولاً وقبل كل شيء مع واقع الحديث كما هو. مما اضطره لاحقاً إلى أن يدخل الأسلمة في إطار التقاليد التي لا تختلف من حيث الجوهر والظاهر عما هو مميز للمعتقدات الدينية ككل. مما اضطره للبحث عما هو جوهري في الإنسان وعما هو قبل كل هذه الاعتقادات فيه. وهذه بدورها ليست سوى "اعتقادات طارئة" على حقيقة الفطرة. ولم تعن  الفطرة بالنسبة له مجموع الصفات الطبيعية التي يولد عليها الإنسان، ولا الصفحة البيضاء للوجود الإنساني الأول، بل والقدرة الطبيعية الأولية، التي تتجلى في ميدان المعرفة "بغريزة العقل"، وفي الوجود الاجتماعي التاريخي بفكرة الاستعداد للتقليد، وفي الوجود الحياتي بالطبع والمزاج. وقد وجّه الغزالي اهتمامه في الموقف من التقليد صوب هذه المظاهر في وحدتها، لأنه وجد في تفاعلها سرّ التقليد، وفي إدراك هذا السر ّعلاجه.

ووضعه تتبع واقع التقليد وأشكاله أمام مهمة انتقاده ليس في ميدان المعتقدات الدينية، بل وميدان القناعة الفكرية. انه حاول البحث عن محك ومعيار للحقيقة خارج الطابع الشرطي للوجود الاجتماعي التاريخي، أي مناقشة حقيقة المعرفة وطرق بلوغها وأشكال تجلياتها.

فالتقليدية العادية المترعرعة في الوسط الاجتماعي التاريخي يمكنها المساهمة في نقلا القناعة الأولية إلى ميدان التبرير والدفاع "العقليين" مما يجعل من العقل، كما يقول الغزالي، وسيلة الخداع الذاتي. لاسيما وأن الواقع الاجتماعي مليء بالظواهر التي تتحول فيها القدرة العقلية إلى أسلوب عقلنة الرذيلة. بمعنى إمكانية استغلال العقل في الصراعات الاجتماعية والسياسية من أجل السلطة والكبر والخداع والإثراء وما شابه ذلك.

لقد وضع الغزالي مهمة الرجوع إلى البداية الأولية وضرورة النظر إلى حقائق الأشياء كما هي عبر استلهامه فكرة الفطرة الإنسانية، أي محاولة انتزاع تكلس الأحكام والتصورات والرموز الاجتماعية التاريخية. لكنه لم يطابق بين عدم التقليد والحقيقة، ولا بين التقليد وغير الحقيقة. إنه ينتقد أسلوب التقليد والعناصر المانعة لرؤية الحقيقة كما هي. إذ لم يصل إلى مرحلة إدراك الحقائق كما هي إلا بعد المرور بكل ما هو تقليدي. فقد كان هذا المرور يعادل ثقل التقاليد وتجربة المدارس وتصارع الفرق والتربية الثقافية ولحد ما نمط الوعي، أو ما يمكن دعوته  "بالموضوعية الثقيلة"، التي لا يستطيع المفكّّر التخلّص منها دون أن يقدم لها تضحية خاصة في ممارساته وتصوراته وأحكامه. فالغزالي الذي هاجم "المبتدعة" بقي لحد الآن في نظر الكثيرين ضحية ما سعى لتثبيته. أما في الواقع، فان هذه الحالة جزء من مفارقات التناقض الدائم بين الوجود الاجتماعي التاريخي والفكري المجرد. فالتطور الفكري وبوادره الأولى الناشئة في صيرورة الدولة والأمة الإسلامية، الذي تصلّب في هياج الصراع الاجتماعي والسياسي والديني والعقائدي، أدى بالقوى المتحاربة إلى إقحام كل مناهض لها تحت خيمة الكفر والالحاد. وبالتالي تقديم الحقيقة ومعيارها في الاحكام بصيغة الخطأ والباطل، أي انعدام الحقيقة والحق فيه. مما حدد بدوره أسلوب الحكم على ما ينبغي من خلال الحكم على ما لا ينبغي، والحكم على الفضيلة من خلال إدانة الرذيلة، والحكم على المؤمن من خلال تكفير وتفسيق مرتكب الكبيرة.

وقد خاض الغزالي غمار هذه "الشروط الأولية" ليكتشف فيها إرادته الخاصة بوصفها جزء من سلسلة "الشروط  غير المتناهية"، أي أنه اكتشف حريته بفعل الضرورة. أما هذا الاكتشاف فهو حصيلة تجربة فكرية معرفية وعملية اخلاقية عميقة أوصلته إلى اكتشاف حقيقة ذاته في هذه الشروط الاولية (الضرورية) للثقافة، بوصفها أوهاماً وعقائد طارئة وزيفاً أخلاقياً. لكن  هذا الاكتشاف، شأن كل ظاهرة عميقة في التجربة الفردية الفكرية، كان الحصيلة المفاجئة لصيرورة المعرفة. وحتى في حال بلوغ ذروتها (كالشك العميق أو التحول الفكري العقائدي)، فإن كل ما ساهم في هذه الصيرورة المفاجئة لا يكفّ عن التأثير، مازال الأخير ذاته هو نتاج التراكم الدائم للعلم والعمل. لهذا لم يفعل في "نزاله الأخير" مع المذاهب ووعيها التقليدي، أي في مجرى انتقاله من "عالم التجزئة" الكلامية والفلسفية (المجردة والتأملية) إلى "عالم الوحدة" الصوفية سوى أن نقل تجربته العلمية والعملية السابقة إلى الميدان الذي طالبه بإعادة النظر تجاه كل ماله وفيه وعليه. فهو أسلوب معرفة النفس ومن ثم حقائق العالم وإعادة اكتشافها كما هي. وقد كمن ذلك في الحافز الدائم لمهاجمة التقليد بفعل الرؤية الدقيقة التي وجدها في مخاطره باعتبارها آفة عمى للبصر والبصيرة، وتشويه العقل، وصدأ الروح الأخلاقي.

إذ يكشف ما وضعه في (المنقذ من الضلال) من حيث الجوهر إعادة تقييم تطوره الفكري. وبالتالي من الصعب المطابقة بين حقائق وعيه الجديد وتجربته الفعلية السابقة. إلا أن قيمة إعادة التقييم الفكرية، تقوم في أنه تتبع على مثاله الشخصي مساعي محاربة التقليد، الذي كان أحد الحوافز الأكثر فعالية في تطوره. ومن الممكن التسليم فيما أورده في (المنقذ) على أنه تصوير صادق مازال "تقلبه" اللاحق و«مزالق عقله في العلوم والأعمال هو المثال الحي على ما أراد قوله بهذا الصدد.

فقد وقف أمام مهمة إعادة النظر بالقيم والمفاهيم التقليدية منذ سن مبكرة. فهو يخبرنا في (المنقذ) كيف أنه بلغ مرحلة كسر التقليد في عمر يناهز العشرين. آنذاك أدرك الصيغة الأولية للحقيقة التي صورها بدقة بالغة والقائلة بأن من "شرط المقلّد ألا يعلم أنه مقلد، فإذا علم ذلك انكسرت زجاجة تقليده، وهو شعب لا يرأب"[5]. وجعله ذلك يتحمل لنفسه بنفسه وزر مهمة البحث عن "حقيقة الفطرة الإنسانية، وحقيقة العقائد العارضة بتقليدات الوالدين والاستاذين"[6]. ولم يعن ذلك من الناحية التاريخية سوى ما كان سائداً في العقائد الايمانية والسياسية اللاهوتية (الباطنية خصوصاً) والكلام والفلسفة والتصوف. إذ أدرك خصوصية التقليد في هذه الميادين. وقدّم أمثلة عديدة ملموسة للمقارنة فيما بين تقليدية الوعي في الفقه والكلام والباطنية والفلسفة والتصوف. لكنه أدرك أيضاً التباين الشاسع فيما بينها بسبب تباين موضوع ومادة هذه الاتجاهات وتقاليد كل منها. لهذا فإن انتقاده للتقليدية الواقعية في هذه الاتجاهات، لم ينف الحقائق التي صاغتها في مجرى تطورها. إنه سعى لانتقاد التقليدية القديمة والمعاصرة له، التي أخذت تجثم على رؤوس الأحياء من البسطاء والدهماء، والمفكرين والمتحذلقين.

فقد نظر إلى تقليدية الفكر الفقهي في تحجّره المذهبي، والكلام في أيديولوجيته العقائدية، والباطنية في خضوعها لعصمة الإمام، والفلسفة في استلابها أمام ادعاءاتها المنطقية الصارمة بصدد قضايا الميتافيزيقا وتقليدها لفلسفة الإغريق. فعلم الكلام على سبيل المثال، لم يهتم بالكشف عن الحقائق[7]. إذ ليست مهمته سوى "الدفاع عن عقيدة العوام من تشويش المبتدعة" كما يقول الغزالي. بحيث جعله هذا الموقف النقدي الحاد أن يدرج في الكتب الكلامية "التي لا تبحث عن الحقائق كما هي" الكثير من مؤلفاته الكبرى (كالاقتصاد في الاعتقاد) و(تهافت الفلاسفة) و(المستظهري) وغيرها. ومن الممكن أن تثير هذه الفكرة اعتراضات جدية بصدد حقيقة موقفه من كسر "زجاجته" التقليدية في مراحله الأولى، مازالت مؤلفاته الكبرى لا يمكن إدراجها في مضمار الكتب الباحثة عن الحقيقة كما هي. أما حقيقة هذه القضية فتقوم في الصلة المتعلقة بتطوره الفكري ومضمون ووظيفة مواقفه من الفلسفة والكلام وتمارين الجدل. فقد أدى كل ذلك في حياته الفكرية والروحية الى إدراك خطورة الوعي المذهبي والطابع المدمر للخلاف والاختلافات بالنسبة للروح الأخلاقي. وبالتالي فان لها مسارها وأثرها الخاص على بلورة معارضة التقليد. إذ شقّت هذه المعارضة لنفسها الطريق في جمعية هذه الجوانب. وبالتالي، فإن التناقض الممكن تصوره عن الفكر الكلامي عند الغزالي في بداية امره من جهة، ومعارضة التقليد من جهة أخرى، يمكن  تذليله في حالة إدراكنا حقيقة موقفه من التقليد ومعارضة التقليد السائد عند الخواص والعوام على السواء.

فعندما يتناول الغزالي قضية رفض التقليد، فإنه ينظر إليها من زاوية الكشف عن حقيقة المعرفة، أي البحث عن الحقائق الموضوعية كما هي، على عكس ما يظهر في ميدان الصراع الفكري الاجتماعي السياسي والعقائدي. وأن هذا التناقص بدوره ليس تناقض الفكر، بقدر ما هو النتاج الطبيعي للماضي، الذي لم يقض عليه تطور الممارسة الاجتماعية السياسية والفكرية. بمعنى انه الافراز الملازم لما يمكن دعوته بعدم التطابق الدائم بين الأيديولوجية والحقيقة، بين السياسة والمعرفة الأخلاقية، بين الجزء والكلّ. والغزالي لم يضع أي منهما بالضد من الآخر، بقدر ما أنه أشار إلى مستوى تاريخي ملموس للوعي القائم آنذاك ومقدماته التي تبلور هو نفسه فيها. بمعنى أن رفض التقليد لا يعني التطابق مع الحقيقة، تماماً كما لا تتطابق الحقيقة بالضرورة مع رفض التقليد. فهو لم يسع من وراء اطروحاته إلا إلى أن يصنع الوحدة الممكنة بين الحقيقة ومعارضة التقليد. ولهذا السبب يمكن أن نفهم لماذا وضع مصنفاً كبيراً (كتهافت الفلاسفة) في إطار كتاباته التي لا تبحث عن الحقيقة كما هي، بل للدفاع عن عقيدة العوام، رغم إدراكه للجديد الذي أدخله في علم الكلام والفكر الفلسفي. وهي الفكرة التي بلورها للمرة الأولى  في (الاقتصاد في الاعتقاد)، باعتباره احد مؤلفاته الكلامية المهمة عندما أكد فيه على أن تقليدية أهل الكلام تقوم في كون اعتقاداتهم وتصوراتهم مبنية على النظرات المسبّقة. فالمعتزلي يرفض الآراء الأشعرية بغض النظر عما هو صحيح فيها والعكس هو الصحيح. وهي الظاهرة المميزة لأكثر هؤلاء "الذين رآهم من المتوسمين باسم العلم. فإنهم لم يفارقوا العوام في أصل التقليد، بل أضافوا إلى تقليد المذهب تقليد الدليل. فهم لا يطلبون الحق، بل يطلبون طريق الحيلة في نصرة ما اعتقدوه حقاً بالسماع والتقليد"[8]. ووجد في هذه التقليدية الصارمة المخيمة على عقول المتكلمين مقدمة وسر ّمأزق علم الكلام. فعلماء الكلام لم يكن بإمكانهم الخروج من هذا المأزق كما سيردد في (المنقذ من الضلال)، بفعل بقائهم في إطار التقليد. إلا أنه كما سبق وأشرت، لم يقف في انتقاده للتقليدية في الفقه وعلم الكلام، بل وأشار إلى إمكانية التقليد في الفلسفة. (يتبع.....)

 

ا. د. ميثم الجنابي

............................

[1] الغزالي: فضائل الإنام من رسائل الإمام، ص75.

[2][2]  الغزالي: المنقذ من الضلال، ص79.

[3] المصدر السابق، ص79-80.

[4] السبكي: طبقات الشافعية الكبرى، ج4، ص102.

[5] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص89-90.

[6] المصدر السابق، ص81.

[7]  الغزالي: جواهر القرآن ودرره، بيروت، دار الافاق الجديدة، 1983، ط5، ص21.

[8] الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، مصر، المطبعة الادبية، ط1، ص77.

 

في المثقف اليوم