دراسات وبحوث

الأنا والأمة في السنّة "الدائرة" عند الغزالي

ميثم الجنابي"أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لايفتنون؟

ولقد فتنا الذين من قبلهم"

إن التكرار الجديد لغربة الإسلام هي الاستعادة العميقة لمبادئه الحقيقية. كما أنها الدعوة التي تلازم المحافظة على نقاء وقوة الشعلة الأولى و"خلودها" المميزة لبداية الحق في تقرير ذاته. ذلك يعني أن المهمة الأساسية لا تقوم في استعادة محاربة الوثنية الجاهلية، بل محاربة "وثنية" الابتعاد عن المبادئ الأولى. وبهذا يكون الغزالي قد فسح المجال أمام إمكانية الظهور الدائم "للروح المحمدي" في دفاعه عن الإصلاح والتجديد. وقد تضمنت آراء الغزالي جملة من العناصر التي يمكن في حال جمعها وترتيبها أن تولد انطباع الوجود الفعلي لفكرة "الروح المحمدي". غير إن هذه المحاولة تبقى في نهاية المطاف مجرد صيغة مجازية عن حقيقة افكاره ومضمونها الواقعي والتاريخي في نظراته عن "الروح المحمدي". اذ ليس لهذا الروح في منظومته الفكرية سوى أبعاد معنوية محتملة. بمعنى إننا نعثر عنده على صيغة روحية معنوية هي بدورها التعبير الظاهري عما في الفكر الصوفي وتقاليده من ذوق ومشاهدة للمثال الإنساني الإسلامي الأكبر. لاسيما وانه كان بالنسبة للغزالي المثال الواقعي والضروري والحجة التي لابد منها لفكرته الاصلاحية والأخلاقية العملية. وبهذا المعنى فقط يمكن لهذا المثال أن يكون مصدرا لتأسيس القناعة الباطنية وشعارا للعمل الظاهر. من هنا يمكن فهم عثوره في هؤلاء الغرباء على أولئك الذين "يصلحون ما أفسده الناس من سنّة الرسول والذين يحيون ما أماتوه من السنّة"[1]، أي التركيز على مهمة الإصلاح التي نعثر على ملامحها الكبرى في (الإحياء). وسوف تحصل هذه الفكرة على تجسيدها الذاتي في شخصية الغزالي نفسه من حيث إدراكه لذاته باعتباره الكيان الحامل لمهمة الإصلاح والتمثيل الحي لإنجازها التي سبق وأن واجهها النبي محمد قبل خمسة قرون مضت. إلا أن المهمة المطروحة أمامه لم تكن في دعوة الناس للانتقال من الوثنية للإسلام، ومن الشرك للوحدانية، بل لإصلاح ما أفسده الناس وإحياء ما أماتوه (من السنّة). إنها ليست المهمة المحمدية في مواجهة الوثنية (الجاهلية) بل الاستكمال الجديد للوحدانية الإسلامية من خلال استعادة الروح الأخلاقي الأول. إلا أن هذا الإدراك الذاتي لموقعه في سلسلة الإصلاح (المئوي) وفاعلية الإحياء لم تعن في الواقع سوى السير في اتجاه ابداع التآلف الفكري الجديد المستند في أغلب عناصره الجوهرية إلى تراث الخلافة الإسلامية المسبوك في أخلاقية الصوفية ورؤيتها للعالم.

لقد صاغت المتصوفة أكثر من غيرها المقدمات الفكرية المجردة لمحاربة التقليد. وفسحت المجال الكبير أمام حرية الفكر. فعبر تحويلها التجربة الفردية إلى معيار جوهري في استكناه الحقائق تكون قد أرست أسس الإمكانية المجردة لإعادة النظر بكل حقيقة مستتبة. فأفلحت في هذا المجال ما لم تفلح به أي حركة فكرية اجتماعية وسياسية في الخلافة. وفي الواقع ليس هناك من حكم اجتماعي مهما بدا ثورياً أو مغامراً معزول عن التقاليد. إذ ليس هناك من جديد في ميدان الفكر خارج إطار استحداث التقاليد وإعادة إنتاجه من جديد. وبقدر ما ينطبق هذا على العلاقات الاجتماعية والأخلاقية والروحية ينطبق نسبياً أيضا على أساليب التفكير وأحكامه المجردة. فكلاهما يتضمنان عملية النفي الدائمة التي تحول الخوف إلى نظام، والنظام إلى تقليد، والتقليد إلى مثال. ولهذا السبب دعت المتصوفة للرجوع إلى صفاء القلب وإعادة عكس الوجود من خلال إزالة كل ما انطبع فيه من "أدران" الحياة الاجتماعية وتصوراتها وأحكامها وقيمها الشرطية، أي كل المفاهيم التي أدخلها الغزالي في آرائه عن الفطرة الإنسانية كمقدمة لمحاربة التقليد. إلا أنه بالاختلاف عن متصوفة زمانه لم يقف عند حدود عوالم النفس وتنقيتها الدائمة، رغم متابعته إياهم في هذا الشرط باعتباره المقدمة الضرورية لصيرورة الذات العارفة (الصوفية) واستكمال وحدة العمل كشرط للسعادة الحقيقية وغاية الإصلاح والإحياء.

إن تجانس آراء الغزالي في محاربة التقليد منذ بداياته الأولى حتى مرحلة التصوف بما في ذلك دعوته الدائمة للبحث عن الحقيقة لم تقف عند تخوم التجريد، بل تضمنت في ذاتها وجهها الآخر واستمرارها الطبيعي. اذ لم تكن محاربة التقليد بالنسبة له قضية فكرية خالصة، بقدر ما كانت واتخذت في وقت لاحق مضموناً اجتماعيا سياسياً وأخلاقياً عميقاً. فرفضه للتقليد في (ميزان العمل) لم يعد من مقومات الجدل كما هو الحال في مؤلفاته السابقة، بل تحول إلى عنصر من عناصر التثوير الاخلاقي الروحي. فهو يشير إلى أن كثيراً من الناس تناقش وتطالب بالبرهان عن خسارتها درهم واحد ولكنها تأخذ في حالات عديدة مفاهيم كاملة وتقر بها دون أن تطالب ببراهين كافية، بغض النظر عما في هذه المفاهيم من حساسية وأهمية بالنسبة للسلوك الحياتي والروحي[2].

وفي الوقت نفسه كان الغزالي يدرك تعقيد الخروج على التقليد، بمعنى إدراكه لضرورته التاريخية باعتباره بديلاً شاملاً. وهو ما يمكن ملاحظته في مجرى تطور نظراته ومواقفه من مفهوم الفطرة الإنسانية، ومواجهته الآراء التقليدية للمتكلمين والفلاسفة وانتهاءً بدعوته للانتقال من لا تقليدية الفكرة إلى لا تقليدية الممارسة، أي المنظومة الاجتماعية الأخلاقية للكلّ، والتي ستحصل على صيغتها الفكرية من خلال استلهام القناعة التقليدية في ظاهريتها عن الإصلاحي المئوي وتقاليده الإسلامية في الحديث المنسوب للنبي محمد عن ظهور كل قرن من يجدد للأمة دينها. ولم يشذ الغزالي عن تقليدية هذه الصيغة. وهذا بدوره مرتبط بالحقيقة القائلة، بان استمداد النزعة الإصلاحية وبراهينها المنطقية من الروح الأخلاقي المعرفي هو الأسلوب الأكثر عمقا وتـأسيسا في التعامل مع قضايا الوجود الاجتماعي لعصره. لقد بحث الغزالي عما هو جوهري في ميدان الروح الأخلاقي والمعرفي، وبالتالي لم تكن التقليدية الظاهرية في فكرة التجديد المئوية سوى أسلوب تعميق التحرر من التقليد. لاسيما وأن محاربة التقليد والتنقية القلبية (المعرفية - الاخلاقية) هي المقدمة الضرورية والشرط الذي لابد منه لكل عملية إصلاح حقيقية. وهنا نعثر على ما يمكن دعوته بظهور الجديد المتحرر من التقليد بلباس التقليد الظاهري الذي يتطابق من حيث حقيقته مع معنى التقاليد. وبالتالي لا دورية بالمعنى الدقيق للكلمة في الحركة الدورية للإصلاح. تماما كما ان فكرته عن محاربة التقليد تصبح جزء من الرؤية الشاملة للوجود الإنساني، والتي وقف أمام مهمة الرؤية الشاملة للبديل الشامل. ونعثر على ذلك بوضوح في تناوله مختلف القضايا الكبرى لعصره كقضايا الإيمان، والعقل، والسلطة، والأخلاق، ومعنى الوجود والحياة والموت وغيرها، أي كل ما هو عضوي في كينونة النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والروحي القائم آنذاك. وهي القضايا التي سيتناولها من منطلق إحياء ما هو جوهري ومتراكم في حضارة الخلافة من خلال الرجوع إلى المبادئ الأولى.

لقد أراد من وراء ذلك العثور والتمسك "بالعروة الوثقى" أو عين اليقين الذي يمكن أن يعطي له حافز العمل أو قدوة المثال، أي البحث عن التطابق المثالي بين الحاضر والماضي، وبين التاريخ الملموس والمجرد المثالي، والعابر والدائم، أو وحدة الثنائيات والمتناقضات والمتضادات المنفية في المجرى العلمي - العملي. وذلك لأن الرجوع إلى المبادئ الأولية ليس رجوع المقلد الأعمى بل إرجاع الجوهري الحي. فالتاريخ الملموس كما استرعته التقاليد الإسلامية التي تمثلها الغزالي له حدوده الزمنية، والمعرفية، والأخلاقية، والحقوقية. إنه "مزرعة الاخرة"، أو الممر الضروري الذي وعت به مختلف الحركات والمدارس والشخصيات الإسلامية أسلوب وجودها ومعنى حياتها، مما حدد بالتالي مواقفها من مجرياته. فمأثرة الغزالي هنا تقوم في عدم بقائه أسيراً للصراعات الإسلامية اللاهوتية عن الجبر والاختيار وغيرها من معضلات اللاهوت التقليدي بل تعدى حدود الصراع الأشعري ــ المعتزلي إلى الميدان الأوسع والأعمق، أي ميدان القلب الذي يمكن أن تبرز فيه وتتعمق روابط الملك والملكوت والجبروت، والمعرفة والأخلاق، والعلم والعمل والحال، والفناء وفناء الفناء والبقاء. فهو الميدان الذي يمكن احتواء كل ظواهر الوجود، باعتبارها قضاياه الخاصة، ومن ثم النظر اليها بعين البصيرة والتفاعل معها بالهمة الواحدة. بمعنى النظر إليها من منطلق الوحدانية المطلقة التي يتطابق الرجوع فيها إلى المبادئ الأولية مع عملية الانتقال (السريان) من التاريخي إلى المطلق ومنه إلى الملموس. لهذا لم يعن رجوعه إلى مبادئ الأمة الأولية رجوعاً آلياً بسيطاً، بل عملية عميقة المضمون والمغزى استمدت قواها من طبيعة التآلف الفكري الذي غابت عناصره "المتناقضة" وراء وحدة الكلّ. وليست وحدة الكل هنا سوى الاصلاحية الدائمة أو ما دعاه الغزالي بتجديد السنة الدائمة"[3].

لم يكن هذا الرجوع سلفية جامدة مبسطة ومباشرة، بل كان استيعاباً جديداً بروح الإصلاحية العقلانية والأخلاقية المطلقة (الصوفية) لدراسة الواقع وتحديد مهلكاته ومنجياته. وهذا ما يبرز بوضوح على مثال موقفه من مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فهو ينظر إلى هذا المبدأ نظرته إلى "قطب الدين الأعظم" و"الهمّ الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين". بل لو طوى بساطه، كما يقول الغزالي، "وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة"[4]. وهنا يشدد الغزالي على أن هذا التعبير يعكس شطح العبارة الصوفية في محاولاتها تذليل ضعف الهموم الخاصة تجاه الهموم الكبرى لأتباع الحق، أي كل ما له علاقة بقضايا الوجود الإنساني وإشكالاته الأخلاقية. فإذا كانت التقاليد الصوفية بدء من التستري قد وضعت فكرة "تعطيل النبوة" في اطار تصورتها عن "سرّ القدر"، فإن تحويرها في مواقف الغزالي العملية من الإرادة الأخلاقية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعكس الكيفية التي جرى من خلالها انكسار ووحدة الأبعاد العقلانية والصوفية في مجرى تطور آراءه عن الإصلاح والإحياء. وضمن هذا السياق يمكن فهم حقيقة موقفه النقدي من الواقع الذي يكشف كل ما فيه عن "إندراس علم وعمل القطب وانمحاق حقيقته ورسمه بالكلية"[5]، أي دلائل تمويت السنّة التي ينبغي "سد ثلمتها اما متكفلا بعملها أو متقلداً لتنفيذها مجدداً لهذه السنّة الدائرة"[6].

وسوف يعطي لفكرة "السنة الدائرة" معانيَ تتعدى حدود زمنها التأريخي الملموس لكي تربط في كل واحد الإصلاح الفردي بالاجتماعي ونقلها من عالم الأخلاق إلى السياسة وبالعكس. إن محاربة التقليد التي أدت في مجرى تطورها إلى خلخلة القناعة الذاتية وتحطيم أسسها المذهبية (الضيقة) كان لابد وأن تؤدي في حالة ملامستها الواقع الاجتماعي والسياسي إلى مواجهة مهمة التعامل معه بمعاييرها الخاصة. وإذا كان التاريخ المنصرم للإصلاحية الإسلامية التي كان نشاط النبي محمد مثالها النموذجي (المجرد والملموس) فإنها اتخذت عنده صيغة الربط الخفية فيما بينهما كصيرورة جديدة لما يمكن دعوته "بالروح المحمدي"، والتي ستحصل في وعي الذات الإصلاحي الإسلامي على أحد تعابيره المفارقة بكلمات: "لو كان بعد النبي نبيٌ لكان الغزالي"، و"كاد الإحياء أن يكون قرآناً".

ولايمكن استيعاب حقيقة المضمون التاريخي لهذه "الصلات" إلا في إطار فهم طبيعة العلاقة بين النموذجي والملموس في التقاليد الإسلامية التي شكلت فيها فكرة النبوة النموذج الأعلى للتمثيل الإنساني في الممارسة (الملموس). إن تحليل هذه الأفكار النموذجية في ثقافة الرمز الإسلامية تكشف عن تمركز وتجوهر الأفكار العقلانية في قالب الأحكام القيميية العليا. وبهذا تكون قد تجاوزت التصورات والأحكام اللاهوتية المباشرة في تعاملها مع رموز الدين الكبرى. فإمكانية الاقرار بوجود نبي بعد النبي محمد هو بحد ذاته "كفر". إلا أن ذلك لم يعق ترديده من جانب أكثر الشخصيات الإسلامية إسلاما وورعا. وينطبق هذا بدوره على مقارنة (الإحياء) بالقرآن. إننا نقف هنا أمام الظاهرة التاريخية الثقافية، التي تصبح فيها قيم الروح العليا مؤشرات نموذجية للاستمرار والتقدم. وفي الحالة المعنية لم تكن هذه الكلمات والمقارنات وليدة الصدفة بقدر ما أنها تعكس المضمون الجديد الذي ادخله الغزالي لعالم الخلافة في أسلوبه غير المباشر في التعامل مع تجربة الإسلام الروحية والفكرية في مجرى القرون الخمسة السابقة له. وهذا ما يفسر أيضا الأسباب التي اعاقت حتى أشد الفلاسفة عقلانية كالفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم من تجاوز القيمة المعرفية والعملية للنبوة ودورها النموذجي في كيان وكينونة الأمة الإسلامية.

 غير أن الغزالي لم ينظر إلى النبوة والنبي كرديف للفيلسوف الأفلاطوني أو الحكيم الارسطي أو مثيلاتها الإسلامية، بل نظر إليهما بروحية التقاليد الصوفية في مواقفها من العارف الكامل. ولم يقف هو هنا عند تخوم الأخلاقية الصوفية الصارمة وعزلتها المتسامية، بل حوّرها في الميدان الأكثر تعقيداً في تعامله مع الواقع، أي ميدان الروح الفعال أو الاصلاح الشامل، والذي يمكن لكل انسان تمثله وتحقيقه. لهذا كان بإمكانه أن يتخذ من شخصه مثال هذه العملية كحلقة في سلسلة "تجديد السنة الدائرة".

قد حاول الكشف عن ذلك في آواخر حياته عندما غادر عزلته راجعاً إلى حلبة الصراع، الذي لم يعد بالنسبة له مجرد رجوع عادي. لهذا لم ينظر إلى رجوعه للتدريس ونشر العلم كرجوع. فالرجوع كما يقول الغزالي هو عُوْد إلى ما كان بينما لا تكرار في الوجود كما سيردد ابن عربي لاحقاً معمقاً فكرة الغزالي ذاتها. فالرجوع ههنا هو شبيه "بالانحصار" بين الأبد والأزل، الذي تتحول فيه الذات الفاعلة بعد ادراكها حقيقة الوجود ومعنى الحياة إلى "قلب بين اصابع الرحمن". ولم تعن هذه الفكرة في آراء الغزالي سوى بلوغ تطابق الغاية والوسيلة في الذات وتذليل استقلالها النسبي في مجرى ووحدة المساعي الحرة. وشكلت هذه النتيجة الفكرية مقدمة القناعة الراسخة للعمل الإصلاحي. من هنا يمكن فهم سبب جعله الرجوع إلى التدريس الحافز الداخلي لكتابة (المنقذ). ولهذا ايضاً يمكن أن نفهم سبب تشديده على إن رجوعه للتدريس في نظامية نيسابور لم يكن رجوعاً عادياً أو بصورة أدق أنه ما رجع. إذ ان الرجوع هو عود إلى ما كان. وعندما يكون قد تغير مضمون كل ما يقوم به فإن مظهر الفعل (الرجوع والتدريس) يصبح هو الآخر مغايراً. اذ لم يعد الفعل (العلمي والتدريسي) بعد الآن نتاج اختياره الضروري بقدر ما انه اصبح تقلبا بين "أصابع الرحمن". ولم تعن هذه الفكرة في مضمونها الصوفي وفي حالة الغزالي بعد الخروج من العزلة سوى وحدة التطابق بين حقيقة الغاية والوسيلة، أو غياب الوسيلة كلياً وذوبانها في رؤية الغاية المتسامية. وعبّر عن هذه الحالة في كلماته القائلة بأن أمنيته وقصده في العمل (التدريس) لم يكن سوى "إصلاح النفس والغير"[7]. فقد شدد الغزالي متتبعا أثر الصوفية وتصوراتها عن سر الروح الاخلاقي. ولم يكن هذا المفهوم الصوفي عن سر الروح من وجهة النظر التاريخية والفكرية ذا بعد واحد. إذ كان هذا المفهوم نتاجا طبيعيا للفكرة الصوفية عن الظاهر والباطن. غير أن التصوف ذلل هذه الثنائية من خلال تأسيس الوحدة التامة والمرنة في علاقة الشريعة بالطريقة وثمرتها الخالصة في الحقيقة. لهذا كان بإمكانه القول بأن القلب لا يدخل في ولاية الفقيه، أو حسب عبارته ليس للفقيه ولاية على القلب، أي انه جرّد الروح الانساني (من ضمير ونية وأفكار وهواجس ووساوس وما شابه ذلك) من خضوعها للأحكام الفقهية للفقهاء. ومن الناحية التاريخية لم تكن هذه الافكار مجرد احتجاج مباشر ضد سلطان فقه السلطة الدينية والدنيوية بل واستمرار معقد لانكسار التصورات الصوفية عن الوحدانية ومبادئها العملية. وبالتالي لم تعد العبارة والكلمة والعمل سوى احد مظاهر وتجليات مستوى تمثل حقيقة الوحدانية في النفس، او وحدة الظاهر والباطن في الوهم والعقل والهواجس والخواطر والأعمال والأفعال، او وحدة الطريقة والشريعة في الحقيقة. وبهذا المعنى كان خروج الغزالي من العزلة فعلا معبر عن حاله لا غير. فهو لم يرجع من الحقيقة للعلم، ومن الطريقة للشريعة، وإلا لأدى ذلك، كما تقول المتصوفة، الى إفساد ارادته. فما هو جوهري في كل ذبك هو تذليل استقلال الظاهر والباطن، والغاية والوسيلة في وحدة الهّم. آنذاك لم يعد للفعل معنى خارج حقيقة السمو الاخلاقي والروحي. من هنا سطحية الاحكام القائلة بتذبذبه وانحرافه وزيغه وما شابه ذلك من احكام فيما يتعلق بسبب رجوعه للعلم والتدريس. فهي أحكام في اغلبها مبنية على الجهل بحقائق الفكرة الصوفية. وليس مصادفة أن يؤسس الغزالي لفكرة إصلاح النفس قبل إصلاح الغير، رغم ربطه الدائم بينهما.  

إن بلوغ الغزالي حالة "القطبية" قد افترضت تلقائية العمل بوحي "مشكاة النبوة" أو نورها المؤيد[8]. بصيغة اخرى، انه لم يعد يعمل إلا بعد مخاض الرؤية اليقينية لحقيقة المرمى. وبهذا ينبغي للعقل أن ينصهر كليا في لحمة المبادئ الأخلاقية المطلقة. فرجوعه إلى معاودة التدريس لم يكن فعلاً ارادياً من جانبه أو من جانب السلطان بل يصبح ذوبانا أو اندماجا خالصا للقضاء والقدر في ضرورة الإصلاح. إلا أن عقلانية الغزالي التي ساهمت في تشذيب الروح النقدي (والمناهض للتقليد) قد تعرضت هي ذاتها إلى تهذيب الشك المعرفي، الذي حالما يعثر على يقينه النهائي في الأخلاق فإنه يعطي بالضرورة لعناصر العقلانية هيئة السمو الروحي ونوازعه الوجدانية الباحثة في كل فعل عن معنى يتجاوز "الأنا" الفردية وكيانها البشري. وإذا كان الغزالي قد شدد مراراً على انه لا معنى لتجاوز بشرية الإنسان، فإن غلبة الافكار المطلقة قد قيدته في حريته الجديدة، أو حررته من قيوده "البشرية" بحيث جعلته ينظر إلى ما هو قائم من زاوية التأمل الكليّ لا من زاوية الانقضاض البهيمي، أي من منطلق الروح والحقيقة لا السياسة والمصلحة. فقد رأى هو اصناف الخلق كما يخبرنا في (المنقذ) وقد ضعف إيمانهم لأسباب يُجملها ببواعث فكرية واجتماعية وأخلاقية عديدة[9].لكنه يرى في الوقت نفسه استعداده النفسي أو ضغط عالم النفس في دعوتها لمهاجمة الفرق من جديد تحت أثر تجربته القديمة وتمكنه الهائل من الصراع ضدها. ذلك يعني أنه كان يتحسس على الدوام ويدرك الصلة الداخلية في تطوره واستمرارية البراهين العقلية والجدلية. إلا ان ما كان يقيده هو عالم النفس بإشعاعه الصوفي. فقد كان يعاني من ضغط عوالم المعرفة ومهمة الإصلاح ووسيلة تجسيده. وهو نفس الصراع الاجتماعي النفسي الأخلاقي بين الغاية والوسيلة الذي ادى في يوم ما إلى إثارة ازمته الروحية الأولى ومرضه النفسي. أما الآن فإن ذلك لم يؤد إلا إلى استثارة التأمل الحزين لما يجري.

لقد تعامل مع معضلات وانحطاط أمته بقدر عال من المسؤولية والاندماج الوجداني. فهو يتحسس عدم اغناء الخلوة والعزلة وقد "عمّ الداء ومرض الاطباء وأشرف الخلق على الهلاك"[10]. وفي الوقت نفسه نراه يواجه النفي الداخلي المستند إلى نفي عالم النفس في براهينه المضادة. فهو يحاور نفسه عن مدى انهماكه في كشف هذه الغمم ومصادمة هذه الظلمات والزمان زمن الركود والدور دور الباطل. أنه يدرك حقيقة الصدام وقوته الذي رغب وعزب عن أن يكون ضحيته المأساوية (المغامرة). لقد أدرك الشقة المثيرة لقلق العقل والضمير، التي يثيرها إدراك ما ينبغي القيام به وعدم توفر الظروف المناسبة لتحقيق ذلك. وقد صوّر كل خلجات ضميره الحرجة وحجج عقله الجدلية في (المنقذ) عندما كتب عن معاتبة نفسه بعبارة "فما تغنيك الخلوة والعزلة وقد عم الداء ومرض الاطباء واشرف الخلق على الهلاك"[11]. في حين رد عليها في نفسه على نفسه:"متى تشتغل أنت بكشف هذه الغمة ومصادمة هذه الظلمة، والزمان زمان الفترة والدور دور الباطل. ولو اشتغلت بدعوة الخلق عن طرقهم إلى الحق لعاداك أهل الزمان بأجمعهم. وأنى تقاومهم فكيف تعايشهم؟"[12]. واذا كان صراع النفس العقلية هي الصفة المميزة للمفكرين فلأنها تعكس ذلك التداخل القائم بين أحكام النطق المجردة ورغبات النفس. ومن الصعب تجاوز هذه الصلة اللامرئية بما في ذلك في الصيغ المجردة للفكر والتفكر دون السعي لتمثل الحقيقة الأخلاقية أو تلك التي سيدعوها لاحقاً بالمعرفة الحرة التي لا يقيدها قيد (المصلحة وأمثالها). وإذا كان الغزالي قد أبرز "عجزه" الفردي أمام واقع الركود ودور الباطل، فإنه أدرك في الوقت نفسه قوة عالمه الروحي. فقد استثار وما يزال "خمول" في الظروف العصيبة للخلافة ومأزقها السياسي وتعرضها للهجمات الخارجية على ردود لعل عديدة ومتنوعة في محاولاتها فهم حقيقة موقفه الصامت. وعادة ما يجري التطرق البها بعلامات الاستفهام والاستغراب والتعجب وما شابه ذلك تجاه موقفه الخامل من هجمات الصليبين على عكس هجومه الشرس ضد الإسماعيلية والإسماعيليين. وهو انتقاد له أساسه الفكري والأخلاقي والعقائدي. غير أن القضية أبعد وأعمق من ان يجري حصرها وتقيمها بمعايير المواقف السياسية والنفسية الظاهرية والمسطحة ومن منطلق "متطلبات الساعة". فالغزالي لم يسلك سلوك الجندي المقاتل أو السياسي الماكر أو المتملق والمتسلق الذليل في موقفه من احداث الساعة. لقد كان آنذاك مهموما بالبحث عن الأسباب الجوهرية التي ينبغي توجيه قواه البها من اجل استنهاض وتجديد قوة الأمة وجبروتها. إذ بين المفكر العظيم والسياسي المحنك بون لا يمكن تذليله وتباين لا يمكن القضاء عليه حتى في تلك الحالة التي يجسد فيها السياسي مقدرة المفكر والمفكر مقدرة السياسي. اما بالنسبة للغزالي فانه حاول تجسيد علاقة المفكر بالسياسة في الميدان الأكثر تعقيدا، أي ميدان إبداع وصيانة أسس ومبادئ المتانة الصلدة لقوة الفرد ومناعة الأمة في وحدتها الروحية والإخلاقية. لقد صاغ الغزالي أحد الأسس الكبرى التي ما زالت تمتلك قيمة هائلة لحد الآن، والقائل بأن إمكانيات التحدي والتصدي الناجح لأي عدوان خارجي يفترض استناده الواعي إلى فكرة الحق. بعبارة أخرى، لقد اكسبته عقلانية الفكر وواقعية التصور إدراك الصلة الممكنة والضرورية بين الإصلاح وأداته القائمة في قوة الفكر، كما نراه في عبارته القائلة:"ولا يتم ذلك إلا بزمان مساعد وسلطان متدين قاهر"[13].

وعندما يصور الغزالي جدل النفس والعقل في موقفه من الأمر السلطاني للتدريس في نيسابور، والذي رفضه مراراً فإنه لم يسع من وراء ذلك إلا للكشف عن التطابق والتوافق بين نضوجه اليقيني وإرادته المجردة للمساهمة في الإصلاح وبين الحركة الطوعية المنبعثة من أمر السلطان لدعوته للعمل. وقد اعطى له ذلك إمكانية الحكم على أن ما جرى لم يجر بإرادته الخاصة المقيدة بمطامع النفس و"مكر العقل"، بل بفعل السر الخفي في هذه الحركة التي ترافقت مع حلول القرن الجديد مما اعطى لها قيمة مطلقة. لكن هذه القيمة من حيث كونها فعلا لم تكن مقنعة بحد ذاتها كما هو الحال بالنسبة للسلوك الصوفي، الذي عادة ما يجري امتحانه الدقيق في عالم اليقظة والمنام، أي حالما تصبح القيمة واحدة في الوعي والوهم، وحالما تتحول إلى همّ واحد وغيب يدور وراء الحجج المادية للنفس، يعد تحوله إلى غاية اخلاقية صارمة كما كان حال النبي محمد.

غير أن التطابق بين شخصية الغزالي والنبي محمد في هذا المجال لم يكن تطابقا مضمونيا، بل تطابقاً معنويا. بمعنى انه استمد تصوراته من "نور مشكاة النبوة" في تقاليدها الصوفية. اضافة إلى تصادف الظاهرة التاريخية مع نهاية القرن الهجري التي جعلته يعتقد باستمراره المعنوي الحق في اتباع حقيقة النبوة وآثارها باعتبارها صراعاً من اجل الإصلاح.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن للثقافة التاريخية حدودها المقيدة. ومن الممكن تجاوز هذه القيود إلا أن من الصعب تهشيمها بصورة تامة، خصوصا إذا كانت هذه القيود تمثل في شفافيتها الروحية لمعان الأنوار المغرية. فقد أبدعت الثقافة الإسلامية أنوارها الخاصة شأن الثقافات الكونية الكبرى. لهذا من الصعب اتهامها أو وصفها "بالطفولة" و"الرعونة" في حال اتخاذ بعض مظاهرها هذا الطابع في أعين البصيرة المعاصرة. ولعل فكرة الدورة المئوية للإصلاح بتمثلها الفردي هو من بين نماذجها المتميزة. فإذا كانت الدورة المئوية قوية التأثير بما في ذلك في الزمن الحالي (بل وتبدو اشد تأثيرا بفعل الطابع الحسي للزمن المعاصر في الوعي والثقافة العالمية ككل)، فإن تجسيده الفردي لم يعد قضية مقلقة للوعي الاجتماعي أيا كان مستواه ونموذجه. وإذا كانت الثقافة الإسلامية قد ساهمت واختبرت بمعايير العقائد في مجرى القرون السابقة للغزالي السر المجهول والساحر لفكرة الانبعاث المئوي، فإن ذلك لا يحتوي اطلاقا على ما يمكنه أن يكون نقيصة أو سذاجة للوعي بما في ذلك النظري، بقدر ما انه يعكس أحد ملامح رؤية التقدم والتجديد في الأصالة الثقافية من حيث رؤية ارتباطها بإرثها الخاص. فقد كان العالم آنذاك واسعا بمعايير المكان والزمان، لكنه ضيقا بمعايير النظر الى الله. فالمساحات الشاسعة والأبعاد الزمنية تتضاءل إلى اقصى درجة أمام الملحمة الخاطفة "للرحمة الإلهية" في ثوابها وعقابها. وقد اعطى ذلك للوعي النظري والعادي قيمة روحية في تأمل دوراته السنوية. لقد وجد فيها صيغة لتحدد الحياة وانبعاثها وإحيائها، أي على خلاف العالم المعاصر الذي أصبح ضيقا في الزمان والمكان وواسعا وبعيدا في نظراته الى الله. لقد اصبح كل شيء بالنسبة له لا متناه مما خلّصه منة عقدة تأمل وملاحظة ما بعد الموت. بمعنى انه افتقد لسحر الملحمة الخاطفة لوعي الوحدة. فهو يعيش اللامتناهي في تناهيه الشعوري. من هنا كان الزمن في "دورته" مجرد استعادة جديدة للمشاكل ومقدمة الحلول، وعتبة وعقبة على طريق مليء بالمستجدات.

 ونعثر على كافة هذه الجوانب والقضايا في استشهاداته وتأويله للآيات القرآنية المنبعثة من قناعة الروح الأخلاقي مثل "أحسب الناس ان يتركوا ان يقولوا آمنا وهم لا يفتنون؟ ولقد فتنا الذين قبلهم"، أي الدعوة للتحدي التي تعي مهمتها استنادا إلى الالهام (الصوفي) لا إلى عوالم الظواهر الخارجية. فهو يظهر في استيعابه للآية بوصفه جزء من الأمة التي لا يمكن ترك مصيرها عرضة للزلل دون أن يتحمل بذلك مسؤولية أمام الله. وهذه بدورها ليست إلا وحدة الإيمان والعمل. وإلا فلا معنى للإيمان ولا قيمة للعمل. تلك الفكرة التي وجد استمرارها في مثال الدعوة القرآنية للنبي محمد في صراعه كما هو موجود في الآية "لقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا واوذوا حتى اتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله". فالمثال النبوي يتحول في وعيه إلى مثاله الخاص. آنذاك لم يعد بحاجة إلا لقناعة اليقين التي وجد رؤيتها في الآية "انما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب". حينذاك يتخذ النشاط اسم الحق (المطلق) لأنه من تدبيره. أما في الواقع فإن هذه التصورات لم تكن سوى نتاج تقاليد الإسلام الإصلاحية التي بلورتها قرون عديدة. بحيث اتخذت في أحد نماذجها الخلابة هيئة التجديد المئوي بإرجاعها إلى لسان النبي محمد من أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة عام من يجدد لها دينها.

وقد اتخذت حياة الغزالي في الكثير من انعطافاتها صيغة التطابق الظاهري مع الشخصية النبوية لمحمد. فهو ايضاً انتقل في الأربعين من العمر إلى عالم "مشكاة النبوة". فعند النبي محمد بداية النبوة وعند الغزالي بداية العزلة ومهمة الإحياء. وإذا كان التطور التاريخي من الناحية الزمنية قد دفع خروجه للإصلاح عند تخوم القرنين الخامس ـ السادس الهجري فإن التطابق الظاهري بين شخصيته وشخصية النبي محمد قد ولّدت في وعيه إمكانية انصهار الابعاد التاريخية والميتافيزيقية إلى الدرجة التي وجد فيها نفسه ممثل الإصلاح والمجدد للأمة دينها.

لكن ما يميز الغزالي هنا هو كونه ذاته نتاجاً للتقاليد الاجتماعية السياسية والروحية للخلافة التي طابقت في شخصيته فكرة وأهمية الأربعين والمائة. ومن الخطأ البحث في آرائه وسلوكه عما يوحي باستلابه أمام قوة الكلمة أو خضوعه الأعمى للتعاليم الدينية اياً كان مصدرها، بقدر ما كان للتطابق الظاهري مقدماته الفعلية في صيرورة الأنا المجددة التي اختزلت وحدة تطوره (الغزالي) المعرفي والأخلاقي على خلفية التصوف الإسلامي. فالتقاليد هي مقدمة النشاط. لهذا لم ير الغزالي في عودته للتدريس سوى بداية تطبيق الوعد القائل بضرورة التجديد المئوية التي وقعت على عاتقه نهاية 499 ـ بداية 500 هجرية. فالعمل الإصلاحي لم يعد فعلاً طارئاً ولا حتى سعياً ذاتياً محضاً بل فعلاً خلاّقاً يعي ارتباطه بالوجود من خلال الله. فهو لم يعط للإصلاح فعل الحركة التنويرية الظاهرية أو التأثير المباشر أو الانقلاب الحاسم في الوجود الاجتماعي التاريخي، بل فعل السعي الحثيث لبلوغ التطابق الحق بين النية والفعل، والغاية والوسيلة، والباطن والظاهر، والحقيقة والشريعة، اي تذليل كل التناقضات الممكنة في طريق السمو الذاتي، باعتباره الأسلوب الأعمق للإصلاح الحقيقي.

وقد استندت فكرته عن الإصلاح الشامل إلى نظراته في المعرفة والوجود وضرورة وحدة المعرفة والتخلق بأخلاق الله (المطلقة)، أي نظريته عن وحدة الكون ووحدانية الله. لهذا وجد في كل حياته من دخوله بغداد حتى خروجه منها، ومن دخوله العزلة حتى خروجه منها، حلقات في مجرى "الرحمة الإلهية". وليس هو نفسه بالتالي سوى "قلب بين أصابع الرحمن" يحركه كيفما يشاء. ومن ثم فمن الخطأ البحث في هذه الفكرة عن هيمنة الجبرية المفرطة في وعي الذات عند الغزالي. فبين الجبرية كفعل ازلي مخطط له وبين وعي الذات في جبرية الوجود بون شاسع. وقد سار الغزالي في الاتجاه الثاني دون ان يفتقد روح التفاؤل التي سيظهرها لاحقا في موقفه القائل "ليس بالإمكان إبداع أفضل مما كان" دون ان يقيد لا تناهي المممكنات. وفيما بين هذه المتناقضات ظهر وتبلور تآلفه الفكري كمحاولة لرؤية العلاقة بين الوجود والمثال، بوصفهما كلا واحد. مما اعطى لآرائه حتى في اشدها تجريدية مهمة كشف الحقائق لذوي البصيرة، أي إننا نقف أمام احدى المعضلات الجوهرية للوعي الفلسفي ألا وهي قضية وحدة الإصلاح والحقيقة، وللوعي السياسي الاخلاقي بوصفها قضية موقع الإنسان في الكون ومعنى الحياة ومبادئ السلوك والقيم، أي كل ما طبع آراءه ومواقفه من قضايا ومعضلات الأمة الإسلامية وثقافتها.

لقد سعى الغزالي لإبداع نظرية تتجاوز الطابع التقليدي وتلفيقية الحلول السائدة في عصره، من خلال إبراز مقياس ومحك الإخلاص الإنساني. ولم تكن هذه المهمة والغاية سهلة الحل. فالمحاولات العديدة التي بذلها الفكر والمفكرون القدماء لم تتجاوز جزئية الإصلاح في ميادين الاختصاص على عكس الغزالي الذي حاول ربط الإصلاح بمصير الإنسان وكينونته الأخلاقية. وقد اثار ذلك الكثير من المعضلات الفكرية أمامه في مختلف ميادين المعرفة والأخلاق العملية، أي المحاولة التي وضعت نصب اعينها مهمة ايجاد الوحدة الايجابية الفاعلة كما وعاها الغزالي في ثقافة القرون الخمسة السابقة بربط مصادرها الفكرية وعصارتها الذهنية من اجل ابداع تآلف فكري مقبول لطبقات الأمة كل بمستوى فهمه وإدراكه. بمعنى حدة الخاصة والعامة، والباطن والظاهر، والمطلق والنسبي، والعقل والنقل، والحقيقة والشريعة، والتي ظلت تحمل في بعض جوانبها نسبية الموازاة التي لم يذللها فكريا احد آنذاك سوى ابن عربي. فقد انطلق ابن عربي في بدايته من نهاية التجربة الحية للموتى. فما ظهر في (الإحياء) كإحياء لما مات سيظهر في (الفتوحات) كنظرة في الغيب وكوحدة للحي الذي لا يموت. ولربما شكلت كلمات الغزالي في نزعه الأخير: الاخلاص! الاخلاص! التعبير الذاتي الواقف أمام هوة المطلق. وقد سبق له وإن شرح نزعه الاخير في (الإحياء) بعبارة تقول "إن الإخلاص هو مساعدة الحال للمقال، أي أن يكون المرء من أهل لا إله الا الله حالا ومقالا ظاهرا وباطنا حتى يودع الدنيا"[14]. وقد سلك الغزالي حسب هذه الوصية حتى لحظاته الأخيرة. انه وعى مصيره قبل موته بزمن طويل دون أن يفرض مثاله على الآخرين.

***

 ا. د. ميثم الجنابي

.....................................

[1] الغزالي: الإحياء، ج1، ص38.

[2] الغزالي: ميزان العمل، ص16.

[3] الغزالي: الإحياء، ج2، ص306.

[4] الغزالي: الإحياء، ج2، ص306.

[5] الغزالي: الاحياء، ج2، ص306.

[6] الغزالي: الاحياء، ج2، ص306.

[7] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص160.

[8] استعمل هنا مفهوم القطبية بما يتوافق مع معنى الحقيقة الصوفية، أي انه يتطابق مع ما هو مميز للطريقة الصوفية التي تعطي للقطب والقطبية مقامها الخاص في الكيان والكينونة الصوفية والوجود أيضا. ومع انه تناول في أعماله الصوفية فكرة القطب في مجرى تأملاته وتأسيسه لمعنى وحقيقة ونموذج الإنسان الكامل، إلا انه لم يتطرق الى هذا اللقب حوله نفسه، شأن بعض كبار الصوفية. لكنه وعى أو تعامل مع نفسه بوصفه مجددا على رأس المائة السادسة للهجرة. ومن الممكن احتمال تضّمن هذه الحالة على معنى القطب والقطبية، أو انها الوحدة الجديدة للمصلح النبوي (الفلسفي العقلاني) والقطب الصوفي. ووجد ذلك انعكاسه فيما بعد في اقوال ومواقف بعض كبار الصوفية. فقد وصفه ابو الحسن الشاذلي بعبارة "حبر الأمة" الذي باهى به النبي محمد انبياء اليهود والنصارى (موسى وعيسى). بينما شهد له تلميذه ابو العباس المرسي بالصديقية العظمى (السبكي: طبقات الشافعية الكبرى، ج4، ص134).

[9] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص154-156.

[10] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص157.

[11] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص157.

[12] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص157-158.

[13] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص157-158.

[14] الغزالي: الإحياء، ج1، ص303.

 

في المثقف اليوم