دراسات وبحوث

تجربة الكلام اللاهوتي وصيرورة الروح النقدي عند الغزالي (1-2)

ميثم الجنابي"العمى أقرب إلى السلامة من بصيرة حولاء"

 لقد شكل علم الكلام أحد المصادر الأساسية المكونة لثقافة الغزإلى ونزوعه العقلاني ومقدرته الجدلية. وهي الجوانب التي نعثر على انعكاسها الدقيق في (المنقذ) بما في ذلك من حيث أهميتها بالنسبة لتطور الفكري والروحي. حيث يعتبر علم الكلام أحد مراحل اهتمامه النظري وأحد ميادين نشاطه والمحك المعقد لامتحان سعيه لبلوغ الحقيقة كما هي. وقد استند إلى تراث الكلام العريق في ابداع اساتذته الكبار كالباقلاني والجويني إضافة إلى شيوخ المعتزلة. وبغض النظر عن الانتقادات الشديدة التي وجهها للكلام المعتزلي بما في ذلك في أحد اعماله الفقهية المتأخرة (المستصفى من علم الأصول) إلا انه ظل يكن احتراما لعقلانيته المتألقة، كما نراه أيضا في (فيصل التفرقة) وموقعه في مستويات التأويل والتكفير.

أما موقفه من الكلام وتقاليده في صيرورة نزوعه العقلاني، الذي ساهم في انتقاله إلى التصوف، فمن الصعب توقعه دون وخارج الاعتزال. فالمعتزلة هم أول من أدخل في الثقافة الإسلامية منهجية البحث عن الأسباب والعلل والبحث العقلي تجاه فهم كل شيء. ونعثر على أثر ذلك في تقييم الغزالي لتجربته الفكرية العقلية كما وضعها في (المنقذ) وغوصه في "بحر المعرفة". بل نعثر على ذلك أيضا حتى في آخر أبحاثة الكبرى كما نراها في (المستصفى من علم الأصول) في معرض جدله ونقضه لآراء المعتزلة بصدد الأخلاق. إذ نعثر فيها على محاولة دفع الأخلاق العقلية للمعتزلة إلى اقصى درجة ممكنة. إذ نعثر في اعماقها ليس على تفنيد وجدل العقل اللاهوتي المميز للكلام وتجاربه الشخصية الأولى في مهاجمة آراء المعتزلة. لقد حاول نقض آراءهم ضمن سياق تقاليدهم العقلانية وتقاليد الكلام ككل. لهذا كان نقده ونقضه ومهاجمته إياهم يحمل طابع الاجتهاد العقلي والأخلاقي والروحي. كما نعثر فيه على النفي المبطن وغير المباشر لتقاليد الكلام بحد ذاته

إن تجربة الغزالى في موقفه من علم الكلام وتقاليده هي تجربة إدراك محدوديته المعرفية. فعندما يتناول في احدى مراحل تطوره الصوفي، بعد أن قطع شوطا بعيدا في التخلي عن "هواجس النفس" و"مكر العقل" وإعادة النظر والتصنيف بمؤلفاته السابقة، فإننا نراه يضع اغلبها مثل (تهافت الفلاسفة) و(المستظهري) و(حجة الحق) وغيرها في مصنفات علم الكلام الذي لم يعد بالنسبة له أكثر من "علم الدفاع عن عقيدة العوام"[1]، إي انه مجرد الاستمرار "النظري" لعقائد العوام في الإيمان. ولم يصل إلى إدراك وإعلان محدودية الكلام وطابعه الأيديولوجي (بوصفه فن الدفاع عن عقيدة العوام) إلا في وقت متأخر نسبيا. وما صاغه في (المنقذ) من اعادة النظر في تجربته السابقة تعكس رغم قناعتها الهادئة، المسار المعقد للبحث عن الحقيقة واليقين. فهو يشير إلى قناعته الأولية القائلة بأنه لا مطمع لبلوغ الحق خارج الأصناف الأساسية لطالبي الحقيقة (المتكلمون والباطنية والفلاسفة والمتصوفة). وبهذا فإن نظرته إلى علم الكلام وموقفه منه اتخذ في بداية الأمر صيغة الكيان والمنهج الذي يمكن من خلاله بلوغ الحقيقة. بمعنى، إن موقفه منه في بداية الأمر لم يتصف بالرفض، على العكس! فتربيته بروح الكلام الأشعري وتقاليده قد صنعت منه متكلما رفيع المستوى. وبالتالي، فإن دخوله في دهاليز الكلام لم يتضمن في نزوعه الأولي سوى رغبة بلوغ الحقيقة لا إتقان حلوله الجاهزة. وأن تطوره اللاحق هو الصورة الحية لمتابعة مجرى المعرفة المتعمقة في بحثها عن الحقيقة.

لقد تجمعت عناصر إدراك المحدودية المعرفية لعلم الكلام في مجرى دفاع الغزالي عن معتقداته الكلامية. لهذا ركز في انتقاده لعلم الكلام على كشف أسلوبه الجدلي وبراهينه التي تبتدع "الحقائق" النفسية الأيديولوجية لا حقائق المعرفة المجردة. ولم يكن هذا بدوره معزولا عن تفحصه النقدي لتجربته الكلامية ذاتها. حقيقة إن إعادة النظر بالكلام اللاهوتي لم تكن عملية فردية أو انعكاسا مباشرا لتجربته الشخصية. فتاريخ الكلام الإسلامي يعرف الكثير من حالات الانقلاب وشواهده من الكلام إلى التصوف والميادين الأخرى. غير أن هذا التاريخ نفسه لا يقدم لنا مثالا نموذجيا كبيرا عن انتقال صوفي إلى الولع بالكلام. وإذا كان بالإمكان استثناء الحارث بن أسد المحاسبي (ت ـ 243  للهجرة) فليس إلا لكونه نتاج المراحل الأولى لمزاوجة الكلام بالزهد الصوفي. وبهذا المعنى يمكنه ان يخدم كمثال للمقارنة مع الغزالى، إلا انه لا يفسر الظاهرة الغزالية.

فقد جرى انتقال الغزالي من الكلام إلى التصوف في وقت بلغ به تطور الكلام مراحل عليا بحيث اتخذ في الكثير من جوانبه هيئة المنظومات النظرية المختلفة من حيث أسس بنائها ومستويات عمقها. بينما كان التصوف يمارس في مدارسه وشخصياته تأمل تراثه الكبير وسعيه نحو المطلق. ومن العبث البحث في هذه العملية عما يمكن دعوته بالتآلف الجديد بين التصوف والسنّة التي تحول بها مخزونه الكلامي إلى ذرات متناثرة في تصوفه العقلاني، كما كان الحال بالنسبة للصيغة العامة المميزة لنموذج المحاسبي. وذلك لأن هذه الفرضية عاجزة عن تفسير حقيقة هذا "الربط" كما أنها لا تستطيع فهم مضمونه ونوعية هذا التصوف. اضافة إلى ذلك إن هذا الافتراض لا يمكنه تسليط الضوء على الكيفية التي كان بإمكان الغزالى ان يوّحد بها انتقاده للكلام (اللاهوتي) الإسلامي ومعتقداته السُّنية، وكذلك رميه إياه في مزبلة الوعي الثقافي باعتباره جهل متحذلق بالمعرفة. أما في الواقع فإن العملية جرت شأن كل ما هو جوهري في الحياة والواقع، أي من خلال نفيه الضروري.

فعلم الكلام الذي شكل أحد مصادر الوعي العقلاني وثقافة البحث عن الأسباب، شحذ قريحة الجدل المعرفي والمذهبي والعقائدي وكذلك أسلوب التبرير والقناعة الشخصية، أي مصدر كل التناقضات الواقعية والممكنة في التفكير العقائدي الاجتماعي والسياسي والميتافيزيقي. وعمَّق في شخصية الغزالى، بسبب "تطرفه" الشديد في ميدان الجدل العقلي، مواجهة حقيقة الإمكانات الفعلية للكلام نفسه، باعتبارها طاقات مفتعلة. مما حدد بالضرورة إعادة النظر بموقع ومضمون ووظيفة الكلام في المعرفة والكينونة الاجتماعية والروحية للأمة.

فالغزالى الذي ولع بالجدل الفكري إلى الدرجة التي أدت به احياناً إلى هاوية السفسطة، قد تمثل في الواقع ليس الاشعرية وخصوصا بصيغتها الباقلانية، بل والاعتزال ومهاترات الفرق الكلامية الأخرى. وإذا كان علم الكلام الإسلامي قد عرف بنماذجه أيضا أسلوب الورع والخشية، فليس إلا عند تلك الشخصيات التي استمدت مثالها الفردي الأخلاقي من بعض ممثلي الإسلام الأول. في حين بقيت في جدالها الفكري ضحية العقائدية والمذهبية الضيقة ومنطقها المقيد لحرية الفكر بين الاتهام والشتيمة وبين التكفير وإباحة الدماء. ولم يجد الفكر العقلاني حرجا في مزاولة ما هو مناهض لمنطق العقل. غير أن مفارقة هذه الظاهرة تقوم في أن هذا المنطق الجدلي قد حوّل العقل إلى أداة طيعة لتبرير كل استنتاجاته بحيث أصبح من الصعب تحديد ما هو منطقي في الأخلاق وما هو أخلاقي في المنطق، والحقيقة في النقد والنقد في الحقيقة. ومن الممكن العثور على هذا النموذج في كتاب (التمهيد) للباقلاني و(التهافت) للغزالي من حيث تشابههما الكبير في منهجية الجدل. ولم يكن هذا الأسلوب حصيلة التيار الأشعري فقط، بل وجميع تيارات علم الكلام.  فالجاحظ، على سبيل المثال، قد مّثل في بعض سخرياته اللاذعة السفسطة الجارحة للنقد العقلاني. انه استهزأ بكل ما هو موجود إلى الدرجة التي رفع بها "الوضيع" أحيانا إلى أعلى عليين واهبط "الرفيع" إلى اسفل السافلين. لكنه ابقى مع ذلك على جوهرية النزعة الإنسانية العقلانية في أحكامه النهائية. بينما اصيب بالحمى ثم الموت مؤسس الفرقة النجارية الحسين بن محمد النجار (ت ـ 230  لهجرة) بعد ان افحمه النظّام في احدى مناظراته[2]. ولعل تاريخ الكلام الإسلامي يعرف في شخصياته نماذج عديدة في استثارة حفيظة الوعي المقارن والنقدي الذي أحتل فيه الغزالى أيضا أحد امثلته الرفيعة.

فقد تتبع في (تهافت الفلاسفة) أسلوب الجدل الكلامي بحيث اكد فيه على أن انتقاده ودحضه للفلاسفة مبني أساسا على منهجية "مقابلة الإشكالات بالإشكالات" من اجل "اظهار فساد كلامهم". أما براهينه الإيجابية فسوف يسطرها في (قواعد العقائد)[3]. غير أن الغزالى لم يكن بإمكانه آنذاك وعي محدودية هذه الايجابية أو صيغتها النهائية. فإذا كان المقصود (بقواعد العقائد) هي (الرسالة القدسية) التي أدرجها في (الإحياء) فإنه يضعها في (جواهر القرآن) في صنف مؤلفات علم الكلام وطبقاته الدنيا، التي تلي من حيث مستواها مؤلفاته الكلامية الشهيرة مثل (الاقتصاد في الاعتقاد) و(تهافت الفلاسفة)، أي الكتابات التي نظر إليها باعتبارها مؤلفات حجاجية لا تهدف إلى بلوغ الحقيقة كما هي[4]. ذلك يعني، أن الغزالى لم يعِ ويقطع بالمحدودية المعرفية لعلم الكلام إلا في مجرى انتقاله إلى التصوف. وهو ما نعثر عليه بوضوح كامل في (الإحياء). آنذاك أخذت تبرز فكرة افتقاد علم الكلام للحقيقة وأن مهمته هي الدفاع عن عقيدة العوام.

ففي مؤلفاته السابقة (للإحياء) لم تختمر هذه الأحكام النهائية بعد. إلا إننا نعثر فيها على بعض العناصر الجوهرية التي شكلت روافد تجاوزه لمحدودية علم الكلام في مجرى معاناته لقبول حقائق الطريق الصوفي. ففي (تهافت الفلاسفة) يظهر المتكلم باعتباره نموذجا للفطانة البتراء والبصيرة الحولاء. بصيغة أخرى، إن البصيرة الحولاء والفطانة البتراء للمتكلمين رغم توجهها العام لاستثارة الهِّمة الكفاحية للعقائد اللاهوتية ضد "زندقة" الفلاسفة، إلا أنها كانت تتضمن في أعماقها إقرارا بواقع المحدودية الفعلية للفكر الكلامي في كل من جدله العقائدي وفي قابليته للبرهنة على مقالاته ومعتقداته. وفي وقت لاحق، حالما واجه مهمة "تثوير" الذهنية اللاهوتية للمتكلمين التقليديين والفقهاء المتشددين من خلال دعوته إلى إدراك أهمية المنطق، فإنه يكون قد سار في التقاليد العقلانية الصارمة للكلام، التي ألزمته بالوقوف أمام حصيلتها الفكرية الأيديولوجية والمعرفية النظرية ومفاهيمها عن "تكافؤ الأدلة".

فقد عمّق مفهوم تكافؤ الأدلة من الناحية التاريخية، الصراع الفكري وشحذ في الوقت نفسه ذهنية العقلانية الجدلية. لكنه أثار في نفس الوقت حفيظة وتعصب النزعة الضيقة التي افرغت المنطق العقلي من محتواه السليم وقدرته البرهانية. ومن الناحية المنهجية كان هذا المفهوم النتيجة النظرية لاستعصاء حل المعضلات الميتافيزيقية (الإلهيات) بصورة قاطعة ومقبولة للجميع، إلا انه احتوى ضمنيا الاقرار بالصراع في ما بين الحلول النظرية المتعارضة للقضايا الفلسفية الكبرى و"شرعية" وجودها. أما من الناحية المعرفية فهو تعميق لمنهجية برهان الخلف.

إن وحدة وتفاعل التأريخي والنظري والمعرفي بعناصرهم جميعا فسح المجال أمام حرية أوسع للنزوع السوفسطائي. إذ انه صنع في مجرى صراع المدارس الفكرية بشكل عام واللاهوتية الكلامية بشكل خاص، إمكانية الجدل السوفسطائي الذي دخل بدوره كعنصر فعال في التقاليد الكلامية التي واجهها الغزالى في سعيه لحل معضلات الفكر الفلسفي وقضايا الميتافيزيقا والمسائل النظرية العملية للوجود الاجتماعي.

إن خوض الغزالى جدل الكلام اضطره إلى الاستعمال الجزئي لجدلية "تكافؤ الأدلة" أو ما دعاه في (تهافت الفلاسفة) "بمواجهة الإشكالات بالإشكالات". بينما اعتبر نفسه الشخصية المعارضة والمنتقدة والمفندة لمقالات الفلاسفة التي يمكنها ان تستلهم كل حصيلة الجدل الكلامي بغض النظر عن مدارسه عندما رفع شعار "عند الشدائد تذهب الاحقاد". لكنه وضع في الوقت نفسه مشروعه الايجابي القادم الذي اقترح له عنوان (قواعد العقائد).

لقد أدرك الغزالي القوة النسبية لمنهج "تكافؤ الأدلة" في الجدل وضعفها في المعرفة. وهذا ما سيظهر بوضوح في موقفه من مفهوم ونظرية تكافؤ الأدلة، والجدل، وحقيقة المعرفة. فقد شدد في (معيار العلم) الذي كان من حيث مشروعه ومهمته تنفيذا وإثباتا لما سبق وأن استعرضه في (مقاصد الفلاسفة) وقرره في (تهافت الفلاسفة) عن صحة المنطق وضرورته لمختلف ميادين الفكر النظري والعملي. فهو يؤكد على أن الإقرار بتكافؤ الأدلة كنهج في النظر أو كمقدمة فكرية عامة لا يعني في الواقع سوى إمكانية مطابقة المنطق مع السفسطة. بل شدد على أن القول بتكافؤ الأدلة هو نتاج الفكر السوفسطائي[5]. وقد أفرز ذلك في مجرى تطور آرائه وصراعه ضد مناهضي المنطق من المتكلمين والفقهاء، عناصر محاربة الأدلجة الكلامية رغم انه لم يتخلص منها كلياً. وفي الوقت نفسه تعيق أحكام المنطق والعقل. فالذين اقروا بالضرورات المنطقية الأولية كما يكتب الغزالى وزعموا "إن الأدلة متكافئة في النظريات فإنما حملوا عليه ما رأوا من تناقض أدلة فرق المتكلمين وما اعتراهم في بعض المسائل من شبه وإشكالات عسر عليهم حلها فظنوا انها لا حل لها اصلاً. ولم يحملوا ذلك على قصور نظرهم وضلالتهم وقلة درايتهم بطريق النظر، ولم يتحققوا شرائط النظر المنطقي"[6]. ذلك يعني أن الأساس المعرفي لمفهوم تكافؤ الادلة يستند إلى رؤية واقع التناقض في أدلة وآراء الفرق الكلامية وتعارضها وعدم تمكنها من شروط المنطق. وبالتالى، فإن نفي إمكانية إدراك الحقيقة في اطار هذا المفهوم هو نتاج الضعف الخاص. لهذا لا يمكنه ان يشكل اساسا للقول باستحالة بلوغ الحقيقة. فالأمور النظرية هي ليست تناقضات خلف خالصة. وبالتالي، فإن الاستعصاء النظري أو تكافؤ الأدلة في النظريات هو نتاج غياب نظرية شاملة ومتجانسة. بينما استعصاء بلوغ الحقيقة في اطار علم الكلام وتناقض أدلة فرقه فهو نتاج تقليديته وتعصبه العقائدي وطابعه التبريري.

فقد بنى علم الكلام استنتاجاته "المنطقية" كما يقول الغزالي، على مقدمات مشهورة جدلية غير مبرهن عليها. ومن ثم جرى اخذها كمسلمة من حيث استبشاع نقيضها أما لما فيه من مخالفة الجمهور (العوام) وأما لما فيه من مخالفة ظاهر القرآن، أي تلك الحالة "المنطقية" المزيفة التي يمكن ملاحظتها في الكثير من "المقدمات المنطقية" في آراء الناس وأحكامهم المبنية على اساس كراهتها للنقيض لا غير.  فالمقدمة التي يحاول المتكلم أن يبرهن فيها "منطقيا" على فكرة رحمة الله وإنه أرحم الراحمين تستند إلى مادة القياس (الكاذبة) من أن الرحيم لا يؤلم البريء عن الجناية، والله أرحم الراحمين فإذن لا يؤلم بريا عن الجناية. إلا إننا نرى، كما يقول الغزالي، إيلام الله للحيوانات والمجانين وما شابه ذلك. فالقضية هنا ليست في الإيلام والرحمة بقدر ما هي في استيعاب طبيعتها وهويتها. فالرحيم بالنسبة للغزالى هو الذي لا يؤلم من غير فائدة. ولا معنى للرحمة خارج المتناقضات، بل أن وجه التناقض والنقص في الأحكام "المنطقية" للكلام تقوم في أخذها النصوص والكلمات القرآنية أو تصورات العوام كما هي. بمعنى إدراك الرحمة والقسوة (الإلهية) بأنسنتها، في حين أن الغلط القائم هنا يقوم في ترك التأويل في محل وجوبه مما يؤدي إلى تناقض أقيسة المتكلمين. إذ أنهم ألِفوا "هذه الأقيسة من مقدمات مسلمة لأجل الشهرة أو لتواضع المتعصبة لنصرة المذاهب عليها من غير برهان ومن غير كونها أولية واجبة التسليم"[7]. وقد حدد ذلك، كما يستنتج الغزالي، الطابع الضيق والوظيفة التبريرية لعلم الكلام. بل نراه يعتبر العلاقة السائدة بين الفرق الكلامية وتناحرها شبيها بتناحر القبائل[8].

إن ضيق ومحدودية الكلام يقوم في منطقه غير المنطقي وسيادة التقليد والتعصب العقائدي والمذهبي الذي يبرز بوضوح في اتجاهاته الكبرى. فالمتكلم يشكل بحد ذاته منظومة فكرية مغلقة لا يتطرق إليها الشك، ولا تتقبل انتقادات المعرفة العلمية بفعل أسسها وأحكامها القَبلية. فالمعتزلي لا يتقبل وجدانياً ومعرفياً آراء الأشعرية، والأشعري يتعامل مع الآراء المعتزلية بالمزاج نفسه. فهي الظاهرة المميزة لأكثر من لقاهم من المتكلمين، كما قال مرة عن نفسه. أو ما دعاه بأولئك "المترسمين باسم العلم" الذين "لم يفارقوا العوام في أصل التقليد، بل أضافوا إلى تقليد المذاهب تقليد الدليل. فهم في نظرهم لا يطلبون الحق، بل يطلبون طريق الحيلة في نصرة ما اعتقدوه حقاً بالسماع والتقليد"[9]. فالكلام بهذا المعنى لا يمكنه أن يؤدي إلى الحقيقة واليقين. وهو يتشابه في الكثير من عناصره الداخلية بالفقه. فأسلوبه الجدلي، كما هو الحال في الفقه، مجرد مشاغبة لا برهان. مما جعله ذلك يستنتج قائلا إن "ما ذكره المتكلمون في مناظراتهم مع الفرق جدليات. وهكذا ما يجري في مناظرات الفقه"[10].

وبغض النظر عن إشكاليات تقييمه لاتجاهات الكلام، إلا أن تقييمه العام القائل بضعفه ونقصه بسبب تعمق وهيمنة عناصر التبرير والأدلجة العقائدية فيه، يبقى دقيقاً للغاية. بل يمكن القول بأنه يشكل أحد أهم إنجازاته النقدية في نزوعها العقلي.

ومما هو جدير بالاهتمام، أن الغزالي في معرض إشارته لهذه الجوانب المميزة لعلم الكلام لا ينفي في الوقت نفسه أهميته الاجتماعية السياسية والدينية العقائدية. فهو يشدد على أهمية علم الكلام باعتباره حارس عقيدة العوام. وأن هذا التناقض القائم بين الطابع العملي الأيديولوجي للكلام ووظيفته العقائدية وبين فقدانه لحوافز البحث عن الحقائق كما هي، له جذوره الواقعية في الصفات "الهرمونية" للثقافة السائدة ومُثلُها الأساسية العامة في وحدة ثنائياتها الكبرى كالخواص والعوام ومختلف نماذجها الأخرى كالتأويل والتفسير، والظاهر والباطن، والحقيقة والشريعة وغيرها.

إن الشيء الجوهري في موقفه من علم الكلام يقوم في أن هذه الثنائيات العامة التي ابدعتها الثقافة الإسلامية كانت الأسلوب الواقعي لتأسيس وتراكم المعرفة واستمرارها في وحدة التقاليد الثقافية والحضارية. وقد أدرك الغزالي هذه الحقيقة التي توصل اليها بأثر تجربته الشخصية ومحاولات جمعه إياها في توليف نظري وعملي خاص. بمعنى انه حاول توظيفها أيضا في مجال توحيد الأمة والدفاع عن حصيلة وخصوصية ابداعها الثقافي والحضاري. ويمكن الرجوع بهذا الصدد إلى كتابه (الاقتصاد في الاعتقاد)[11]. اضافة لذلك إن هذه القضية تتسم بقدر كبير من التعقيد والتشابك وبالأخص ما يتعلق منها بعلاقة الفكر النظري بالسياسة، وعلاقة السياسة بالأخلاق، وعلاقة كل ذلك بالشريعة.

لقد نظر إلى علم الكلام باعتباره حصيلة الأدلة التي ينتفع بها للدفاع عن العقائد الإيمانية. إلا أن خروج علم الكلام عن إطار مهمته الأولية وتحوله إما إلى مجادلة مذمومة أو مشاغبة بالتعلق بمتناقضات الفرق والخصوم هو الذي أدى به إلى أن يمتلئ، كما يقول الغزالي، بالترهات والهذيانات[12].  غير أن ذلك لا يعني عرضية علم الكلام. فقد نشأ الكلام كما يؤكد الغزالي، شأن أغلب علوم الدين، بفعل الحاجة. وقد طابق الغزالي هذه "الحاجة" مع مهمة علم الكلام الأيديولوجية، أي في الدفاع عن عقيدة العوام. وبغض النظر عن مفارقة هذه الصياغة، إلا أنها تبقى دقيقة من حيث محتواها. بمعنى أنه نشأ ضد "غوغائية العوام" ولأجلها. ولا تعني هذه الظاهرة وتعبيرها المجرد في أحكامه عن منشأ علم الكلام سوى الصيغة المعبرة عن الصراعات السياسية والانتفاضات الجماهيرية التي رافقت تكوين الدولة الإسلامية وعالم الخلافة الثقافي. وليس بعيداً عن الذاكرة كل تلك الانتفاضات والثورات الكبرى للخوارج والشيعة وأمثالها، التي كانت تكتسب أتباعها ببساطة استناداً إلى بساطة مفاهيمها وتباينها. مما جعل إمكانية الوحدة (الأمة) عرضة للتفتت بفعل "الأدلجة" المتزايدة للنزوع الديني والنصوص السمعية (الإيمانية). وقد كشف الغزالي عن هذه الظاهرة بدقة بليغة عندما أكد على أن ضرورة الرد وظهور الكلام نشأت "على ما ظهر من البدع وتجرؤ العوام مع كل ناعق والمنازعة لهم، والسعي في اجتماع الكلمة على السنّة بعد افتراقها"[13]. وبهذا يمكن القول بأن الغزالي أدرك الطابع السلبي للحاجة بعلم الكلام، أي أنه نظر إليه باعتباره العلم المناهض "للبدع". لكنه لم يقصد بضرورة الرد المميزة للكلام في دفاعه عن إيمان العوام سوى مراحله الأولى.

فالبدعة لا تتطابق في أحكامه مع ما هو سيء ورديء، ولا تتضمن على الدوام فحوى سلبي. فهي عادة ما تظهر بهيئة رد فعل على الحاجة، وبالتالي تتضمن تمثلها الواعي لهذه الحاجة. لكن ذلك قد يتخذ صيغة المظهر السلبي كظهور الحرس بسبب ظهور اللصوص في طريق الحج[14]. إن هذا الفهم الواقعي لترابط الظواهر يعكس الادراك العميق للكيفية التي نشأت فيها العلوم بشكل عام والاجتماعية (الدينية) منها بشكل خاص. فتخصص المعارف يعكس الحاجة الطبيعية للإنسان والجماعة. ومع أن الغزالي لم يتطرق إلى هذه القضايا بصورة محترفة، لكنه بلور الكثير من الآراء والمواقف القيمة بهذا الصدد، والتي حاول من خلالها أن يربط في كل واحد الأبعاد الطبيعية للحاجة بما في ذلك من حيث مقدماتها الاجتماعية والسياسية والحياتية. أما موقفه من علم الكلام فقد ربطه بصيرورة الدولة ومؤسساتها. وتعكس هذه الفكرة العميقة إدراكه الدقيق للطابع الأيديولوجي والوظيفي لعلم الكلام وبالاخص في مراحل نضجه الكبير. وفي هذا يكمن أحد الأسباب التي جعلته يقف منه موقفا نقديا. 

وليس مصادفة أن يضع مرتبة المتكلمين مقارنة بالفقهاء في (جواهر القرآن) كنسبة بدرقة طريق الحج وحراسه إلى الحجاج[15]. وهي ذات الفكرة التي يكررها في (الإملاء)، عندما وصفهم "بخدام الشرع وحراس متبعيه"[16]. أنه يدرك وحدة الأضداد التي حالما تفرز ظاهرتها الجديدة، فإن الحكم الأخلاقي المجرد يفقد جوهريته بفعل انتقال مواقع الإدانة وتقدم وتأخر "الأولويات" العملية فيه.

لقد شغلت هذه القضية وما تزال اهتمام الفكر الفلسفي بمختلف ميادينه ومستوياته. وهي قضية علمية وعملية بقدر واحد. بل نعثر فيها على بؤرة التوتر الدائم في أعماق الإدراك العلمي المجرد والضمير الأخلاقي الصافي. فهي تمثل الوحدة المتآلفة من عالِمية المعرفة وأخلاقية الأخلاق. فإذا كانت المعرفة هي حلقات السلسلة الملازمة لتطور الإدراك العلمي المحددة بحاجات الروح والجسد، فإن أخلاقية الأخلاق هي الأخرى أيضا نتاج الوحدة الخفية لحاجات الروح والجسد. وبالقدر الذي يمكن أن يتحولا كلاهما (المعرفة والأخلاق) إلى "عبيد" للجسد، يمكنهما أن يصبحا "أسياد" الروح. وفيما بينهما تتراوح نسب الرؤية والمواقف في تعاملهما مع "الأولويات". فعلى هذا الاساس جرى بناء نظريات الأخلاق وموقفها المختلفة والمتباينة تجاه أبسط القضايا وأكثرها تعقيدا. فمن الناحية التاريخية شكلت النماذج والاتجاهات والمستويات المتباينة للنظريات والمواقف التعبير "الطبيعي" للتنوع الأخلاقي. أما من الناحية المعرفية فقد شكلت الأسلوب الثقافي للمواقف من "الأولويات" والقيم العليا. ومأثرة الغزالي هنا تقوم في عدم خضوعه لآلية الإدانة أو ولع الأولويات المميز للعقائدية الضيقة والمذهبية المفرطة، بل في التتبع الدقيق لعلاقة المكون التاريخي الثقافي بالمعرفي الأخلاقي.

بعبارة أخرى، إن نشوء علم الكلام وتطوره هو "بدعة ضد البدعة". وقد تضمنت هذه العملية الفكرية التاريخية للنفي مقومات ذاتها. فالبدعة حسب تحديده هي "ما يحلّ ويضعف عقدة الإيمان"، بينما الكلام هو "ما يدفع حيل التحليل والتضعيف. والعارف به يسمى متكلماً". ذلك يعني أن علم الكلام هو العلم الذي يقف ضد تلك "الحيل الفكرية"، التي تحاول ردم العقيدة الإيمانية للعوام "بحيل أخرى". فالكلام يخوض معمعة الحيل وبالضد منها دون أن يتجاوز أسلوبها وحدودها ووظيفتها. فهو يمثل وظيفة  الدفاع "المشرّفة" عن العقيدة الإيمانية للعوام، دون أن يمثل في الوقت نفسه الحقيقة كما هي. الأمر الذي جعله يؤكد على أن علم الكلام حالما أخذ على عاتقه تلبية هذه المهمة، فإنه "لم يعد بدعة، بل أصبح بحكم الضرورة مأذوناً فيه، بل صار من فرض الكفايات"[17]. لهذا السبب وقف موقف المعارض للاتجاهات الإسلامية وممثليها الذين لم يروا في الكلام سوى جوانبه "السوداء".

فعندما تناول القضايا المتعلقة بالمذموم والممدوح في العلوم، فإن مما يلفت الانتباه هو عدم إدراجه الكلام والفلسفة في فلك تقييماته، أي أنه يتجاهلها هنا عمداً. ويمكن فهم مرمى الغزالي من وراء هذا "التغافل" فيما يبدو، باعتباره أسلوباً لنقل الجدل إلى ميدان آخر من أجل إثبات نقص وأحادية الأحكام القييمية المباشرة (الذم والمدح) تجاههما (الكلام والفلسفة). وهذا ما يفسر أيضاً اتجاهه المعارض لمواقف أئمة الفقه المستهجنة لعلم الكلام. فقد بنى الشافعي حكمه المعارض للكلام على أساس إحدى المناقشات التي جرت بينه وبين حفص الفرد (الذي يدعوه الشافعي بحفص القرد) بحيث جعله ذلك يقول "لأن يلقي الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله، خير من أن يلقاه بشيء من علم الكلام. ولقد سمعت من حفص كلاماً لا أقدر أن أحكيه". من هنا حكمه على أصحاب الكلام بأن "يضربوا بالجريد ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنّة". أما أحمد بن حنبل فقد أكد على أنه "لا يصلح صاحب علم الكلام أبداً. ولا تكاد ترى أحداً نظر في علم الكلام إلا وفي قلبه غفل".  ومن هنا حكمه القائل بأن "علماء الكلام زنادقة".  في حين أشار مالك بن أنس إلى "بدعة" علم الكلام وضرره على عقائد الإيمان قائلاً "أرأيت إن جاءه من هو أجدل منه أيدع دينه كل يوم لدين جديد؟".  من هنا حكمه "لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء".  في حين اختصر أبو يوسف القاضي هذه الأحكام والمواقف بعبارة "منطقية" مفادها "من طلب العلم بالكلام تزندق".

وعلى الضد من ذلك وقف علماء الكلام، الذين بنوا مواقفهم وأحكامهم منه على تبيان ضرورته الشرعية. فقد أكدوا، كما يقول الغزالي، على أن لغة الكلام المثيرة للفقهاء، مثل الجوهر والعرض وغيرها هي شيء طبيعي وذلك لأن لكل علم اصطلاحاته الخاصة به بما في ذلك الفقه. إضافة لذلك، ليس هناك من دليل يحرم ضرورة المجادلة. على العكس! إذ أن الفهم والبرهان على معرفة الله والوحدانية هما من صلب القرآن والسنّة. أما انعدام وجود التصانيف الكلامية عند الأوائل فله أسبابه الخاصة، تماماً كما لم يوجد عندهم علم الفقه.

أما الغزالي فإنه لم يؤيد وجهة النظر الأولى ولا الثانية. لقد جعلته أحكامه الواقعية ينظر إلى الظاهرة من منظار آخر يقول بأن إطلاق القول بذمّ علم الكلام أو بحمده في كل حال خطأ. فهناك ما يحرّم لذاته. بمعنى أن علة تحريمه في ذاته كالخمر والميتة. في حين أن هناك ما يحرّم لضرره في حالات أخرى كالعسل الكثير. وعلم الكلام شأنه شأن العلوم الأخرى، له منفعة وفيه مضرة. فمنفعته تقوم في الدفاع عن عقيدة العوام، أما مضرته فتقوم في إثارته الشبهات وتحريكه العقائد وتأديته إلى التعصب. إن هذا الاستنتاج الذي وصل إليه الغزالي يعبّر في أحد ملامحه عن تجربته النظرية (العقلية) في رؤية محدودية علم الكلام وانسداد تطوره. غير أن هذا الجانب "السلبي" في علم الكلام هو النتيجة النهائية للعملية الفكرية التاريخية الطويلة، التي أخذ ينظر إليها من حيث قيمتها المعرفية والعملية (الأخلاقية والسياسية) على أنها من بقايا عالم منصرم، أي النتيجة المنطقية لاستيعاب تجربة الكلام في مجرى تطوره الشخصي، التي جعلته ينظر إليه نظرته لداء مناسب لداء آخر أو لدواء مرّ. وذلك لأن مهمته الأساسية حسب نظره، لا تقوم في معرفة حقائق الأشياء كما هي عليه، بل في الدفاع عن عقيدة العوام[18]. فالكلام يبدو حسب وصفه إياه، كشيخ أدخل في بيته طباخ ماهر وجارية حسناء، أي أنه لا يستطيع هضم ما يقول ولا يتمتع بجمال حقائق الأشياء. فكل ما يقوم به ويسعى إليه ينقلب بالضد منه. والقضية هنا ليست فقط في شيخوخة الكلام، بل وفي اعتقاده بلوغ حقائق الأشياء. أما في الواقع، فإنه لا يختلف في اعتقاده وقناعته عما هو مميز لاعتقادات العوام. فالاختلاف الوحيد في ما بينهما يقوم كما يقول الغزالي، في أن المتكلمين يتقنون "صنعة تلفيق الكلام"[19]، أي أنه يعمق مضمون الفكرة التي سبق وأن تناولها في (الإحياء) من أن الفرق البسيط القائم بين اعتقاد المتكلمين واعتقاد العوام يقوم في أن اعتقاد المتكلم يزيد على العامي في "صنعة الكلام" لا غير[20]. وهي ذات الفكرة التي سيرددها بقوة أكبر في (الإملاء) عندما يؤكد على أن المتكلمين من حيث "صناعة الكلام فقط لم يفارقوا عقود العوام، وإنما فارقوهم بالجدل عن الإنخرام. والجدل علم لفظي وأكثره احتيال وهمي. وهو علم النفس وتخليق الفهم، وليس بثمرة المشاهدة والكشف. ولأجل هذا كان فيه السمين والغث. وشاع في حال النضال إيراد القطعي وما هو حكمه من غلبة الظن وإبداء الصحيح وإلزام مذهب الخصم"[21]. بصيغة أخرى لقد أراد القول، بأن العلم الذي لا يفارق في محتوى عقائده عقائد العوام لا يمكنه أن يكون باحثاً عن حقائق الأشياء. وذلك لأن كل أساليبه الجدلية تستند في جوهرها إلى احتيال الوهم وألاعيب النفس ومكر العقل. فهو يعطي للظن طابع اليقين ومهمته ليس الإقناع بل إحراج الخصم. وبالتالي فإن علماً كهذا لا يمكنه أن يتجاوز حدوده، التي رسمها لنفسه أو ما عبّر عنه الغزالي بكلمات "من أين للنازل طي المنازل!؟" وأدى ذلك إلى ظهور شخصية المتكلم الأجير، الذي يتخذ في الكثير من ملامحه صورة النائحة المستأجرة. وليس مصادفة أن يورد الغزالي كلمات محمد بن ذر، عندما سأله ابنه:

ــ ما بال المتكلمين يتكلمون فلا يبكي أحد فإذا تكلمت أنت سمعت البكاء من كل جانب؟

ــ يا بني! ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة.

وهي ذات المفارقة الداخلية التي ستضعه وجهاً لوجه أمام ممارسته الشخصية، أي التناقض الذي مزق وحدة النسيج الداخلي لفكره وقناعته العقائدية، والذي شكل أحد عناصر انتقاله اللاحق إلى التصوف.(يتبع..)

*** 

ا. د. ميثم الجنابي

....................

[1]  الغزالي: جواهر القرآن ودرره، ص21.

[2] ابن النديم: الفهرست، ص268.

[3] الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص123.

[4]  الغزالي: جواهر القرآن ودرره، ص21

[5] الغزالي: معيار العلم في المنطق، ص161.

[6] الغزالي: معيار العلم في المنطق، ص162.

[7] الغزالي: معيار العلم في المنطق، ص167.

[8]  الغزالي: ميزان العمل، ص150.

[9] الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، ص77.

[10] الغزالي: ميزان العمل، ص116.

[11] الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، ص8.

[12] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص22.

[13] الغزالي: الإملاء، ص29.

[14] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص22.   

[15] الغزالي: جواهر القرآن، ص23.

[16] الغزالي: الإملاء على مشكل الإحياء، ص29.

[17] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص22.

[18] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص97؟

[19] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص246.

[20] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص52.

[21] الغزالي: الإملاء على مشكل الإحياء، ص29.

 

في المثقف اليوم