دراسات وبحوث

إشكالية العقل والأخلاق في المصير الروحي للغزالي (3-4)

ميثم الجنابي"الجنون فنون"

وهنا يجدر القول، بأن انتقادات الباطنية للعقل لا تعني رفضها للعقل. فالمنظومات الفلسفية والفكرية للباطنية الإسماعيلية ذات مسحة وعمق عقلي رزين. وبالتالي فإن إهمال الغزالي لهذا الجانب في انتقاداته كان أساساً لاعتبارات النقد السياسي الأيديولوجي، التي ساهمت بدورها في كشف الثغرات الفعلية للاتجاهات الباطنية، بفعل جوهرية فكرة الإمام المعصوم في منظومتها الفكرية. وقد أشار الغزالي بدقة إلى هذه المسألة عندما كتب قائلاً بأنه لولا قولهم بأساسية التعليم وتعارض العقول لما "صنّف هذا الكتاب"[1]، أي (فضايح الباطنية). فقد استندت التعليمية في آن واحد إلى التجربة الواقعية وشدّة الصراعات الفكرية وحوافز الصدامات السياسية. وحاولت من خلالها استبدال العقل الكلامي والفلسفي المعارض لها"بعقل الإمام المعصوم". وفي هذا التناقض حاول الغزالي اكتشاف مأزق التفكير الباطني الإسماعيلي ومفارقاته. فالآراء العامة للتعليمية تشترك في إقرارها بالفكرة القائلة بأن من تتبع العقل وصدّقه ففي تصديقه تكذيبه، وذلك لأنه لابد وله خصم عقلي فيه. وإن جميع المفكرين لهم عقولهم المتماثلة إلا أن أقاويلهم مختلفة كما هو الحال بالنسبة للفلسفي والأشعري والمعتزلي وغيرهم. بينما الحقيقة واحدة ولا كثرة فيها.ومن هنا استنتاجهم بأن الوحدة هي الحق والكثرة هي الباطل، والوحدة مع الإمام والكثرة مع العقول.

غير أن هذه الاستنتاجات التعليمية الباطنية تضع نفسها بالضرورة أمام العقل المستقل، الذي سعت للتقليل من شأنه، أو ما وضعه الغزالي بسؤاله القائل بأي وسيلة بلغ الفكر التعليمي الباطني استنتاجه المذكور؟ هل بالضرورة أم بالنظر؟ وإذا كانت الحالة الأولى مرفوضة بفعل عدم جلائها للجميع، لأنها لا تمتلك طابع البديهة، فإن الثانية هي اعتراف بصحة النظر العقلي. لكن هذا يتعارض مع آراء التعليمية، وذلك لأن مجرد الإقرار بمعرفة خاصة لا يدركها إلا الإمام المعصوم، يعني بأن معرفته إما بالضرورة وإما بالنظر ولا طريق آخر. وفي كلتا الحالتين هو إبطال للمذهب التعليمي الباطني[2].

وقد رد على اعتراض التعليمية الباطنية المتشكك بصحة النظر وبالكيفية التي يتم بها النظر، قائلا، إن كان بالضرورة كما تقول الباطنية فإنه إنكار لهذا الإدعاء بفعل عدم إقرار الجميع بهذه الفكرة وكذلك بفعل تعارض العقول. وإن كان بالنظر لحاله فما هو معيار صحة هذا النظر والخلاف قائم بين الجميع؟ ومع، أقر الغزالي "بشرعية" هذه الأسئلة والاعتراضات ولكن في حالة "إن كانت المعقولات بالموازنات اللفظية"، أي في حالة رفع الجدل السفسطي إلى مصاف البحث عن الحقيقة ومعيارها. ولا يعني هذا بدوره سوى الانطلاق من الواقع ذاته.

فالغزالي يربط في كل واحد حقيقة النظر العقلي بالسلوك. فمن سلك وصل ومن وصل عرف ومن عرف ما سلكه كان هو الطريق. وحتى في حالة الشك، فإن السلوك الوحيد لإزالته هو سلوك جديد آخر من أجل بلوغ الحقيقة. فالمعيار الحقيقي هو الممارسة وليس التقليد والعصمة. ويقدم الغزالي مثالاً غاية في البساطة والإقناع عن أنه فيما لو سألنا شخص ما عن طريق الكعبة فدللناه عليه، وإذا استفسر من أين عرفنا كون هذا هو الطريق بعينه، أجبناه: عرفناه بالسلوك، فإنا سلكناه فوصلنا إلى الكعبة فعرفنا كونه طريقاً. لقد أراد القول بأن التجربة العملية أو الممارسة الواقعية هي معيار حكمنا واستيعابنا للحقيقة النظرية. إلا أنه يدرك تعقيد معيار الممارسة في تطبيقه على كافة الحقائق. فالممارسة ذاتها لا يمكنها أن تحدد على الدوام نهاية الحقائق. فهي بدورها تصنع معضلات الشك المتجدد. وقد أدرك  الغزالي هذه الحقيقة، لهذا حاول أن يوحّد في آن واحد محدودية الممارسة وأحكامها وتطور الحقيقة ضمن هذه المحدودية، أي نسبية الحقائق وجزئيتها بما في ذلك الخطأ. وبهذا حاول أن يكشف عن وحدوية الممارسة في كافة الميادين، رغم تباينها بفعل مستوياتها ونوعيات المنظومات الفكرية وموضوعاتها المختلفة. فإذا كان الطريق إلى الكعبة لا يستلزم سوى المشي من أجل اكتشاف الطريق، فإن طريق الأمور الحسابية من الهندسة والمساحة، يمكنه أن يوصلنا إلى معرفة المجهول بينما يؤدي سلوك طريق الحساب بنا إلى الاعتراف بأن نظر وطريق العقل دليل في الحساب. وينطبق هذا بدوره على العقليات التي يمكن للنظرية أن تكون طريقها. وبهذا المعنى تصبح النظرية طريق النظر العقلي[3].

من كل ما سبق يتضح بأن الغزالي أردا الكشف عن موضوعية الحقيقة، المستقلة عن سفسطات المذاهب. وأن يبرهن في الوقت نفسه على أن سلوك النظر العقلي يمكن أن يبلغ الحقيقة ذاتها في حالة استناده إلى منطق الظاهرة ذاتها وترتيبها العقلي. فالناظر في الهندسة "إذا حصر المقدمات ورتبها على الشكل الواجب، حصل العلم بالنتيجة ضرورة على وجه لا يتمارى فيه. فهكذا جوابنا في المعقولات. فإن المقدمات النظرية، إذا رتّبت على شروطها أفادت العلم بالنتيجة على وجه لا يتمارى فيه، ويكون العلم المستفاد من المقدمات بعد حصولها ضرورياً كالعلم بالمقدمات الضرورية المنتجة له"[4]. إلا أنه يدرك التعقيد الملازم لتطابق أو وحدة المنهج والطريق (السلوك) العملي في بلوغ الحقيقة. وبغض النظر عن تعقيد القضية من حيث إمكانية استيعابها، إلا أنها تبقى سليمة من حيث طابعها المجرد بوصفها الأسلوب العام لإمكانية وتباين وصعوبة بلوغ الحقيقة كما هي. فالمعرفة الحسابية والهندسية على سبيل المثال، معترف بها لأنها ضرورية (بديهية)، أما المعارف العقلية (النظريات العقلية)، فلو كانت مقدماتها بالطريقة المعلومة فلم وقع الخلاف فيها؟ وهو لا يجد في هذا الإحراج "الباطني" قوة منطقية، رغم كونه السؤال الدائم للعقل النظري. لهذا أكد على أن هذا الاعتراض لا يصمد أمام النقد المنطقي العقلي رغم استناده إلى واقع الخلافات القائمة. بمعنى محاولته البرهنة على الطابع الضروري للاستنتاجات العقلية. فاتهام العلوم العقلية استناداً إلى خلافاتها لا يعني بطلان حقائقها. فحتى العلوم الحسابية والهندسية قد دققت حقائقها.. فهي الأخرى تعرف الخطأ دون أن يفقدها ذلك طابعها الضروري. فالعلوم الحسابية والهندسية، كما يقول الغزالي، اختلف فيها جملة وتفصيلاً، كما اختلفوا في هيئة الفلك ومعرفة مقاديرها وهي مبنية على مقدمات حسابية. غير أنها أندر مما هو عليه الحال في العقليات. وسبب ذلك متأتٍ لا من وجود الحقيقة في مكان وفقدانها في آخر. كل ما في الأمر إن الخلاف في الحساب أندر لأنه أظهر، وفي العقليات أكثر لأنها أخفى وأستر. ومع ذلك هناك استنتاجات في العلوم العقلية والحسابية يمكن اعتبارها متساوية في طابعها الضروري، بل لا فرق بينهما. ففي العقليات اتفق الجميع، كما يقول الغزالي، على أن القديم لا يعدم[5].

وقد عمّق هذه الفكرة من أجل البرهنة على موضوعية الحقيقة وإمكانية المعرفة الحقة. فهو يقف في آن واحد ضد حصر مدارك العلوم في الحواس، وإنكار العلوم والمعطيات النظرية (التجريدية العقلية) أو بالعكس. فليست الأولى بنظره سوى سفسطة الحواس، وليست الثانية سوى تشويه المنطق "بالضرورات" المذهبية. وفي كل الأحوال فإن هذا الصراع أبرز مسألة ما إذا كان ذلك يؤدي إلى ضرورة التصديق بمعطيات العقل أو عدم التصديق بها. فالانتقادات السفسطائية التي تنكر ضروريات المعرفة باعتبارها خيالات كما هو الحال بالنسبة لأظهرها، أي معطيات الحس، تبقى بنظره مجرد سفسطات كلامية، أي أنها لا تقدم برهانا منطقياً على التشكيك بالضروريات والعقليات والنظريات. فالعقليات والنظريات حال حصولهما في المقدمات تبقى ضرورية، أما التعليمية فإنها تثير المسألة من منطلق آخر يسعى في نهاية المطاف إلى حصر العقل وإجباره على الاستسلام أمام عصمة الإمام. فالتعليمية لا تطلق القول بإبطال الرأي، وذلك لأن مفكريها يستعملون الأدلة والبراهين على إثبات التعليم. من هنا فإن قولهم ببطلان معطيات العقل ما هو في الواقع سوى نقيض ونقض لآرائهم نفسها. إضافة لذلك إن رفض معطيات العقل واستنتاجاته على أساس الخطأ الوارد فيه لا يعني بنظره سوى قوة العقل لا ضعفه. وذلك لكونها العملية المعرفية العقلية التي تشق لنفسها الطريق في خلافات أتباعه وممثليه في بحثهم عن الحقيقة. من هنا رأى بأنه إذا كان التشكيك بمعطيات العقل مبنياً على أساس خلافات أتباعه، فإن من الممكن مواجهة هذه السفسطة بالتشكيك في حصافة قائلها من خلال الرد عليه والتشكيك فيما إذا كان ما يطرحه هو من أحلام المنام لا من "يقين" اليقظة، أي أن يجري إحراجه بالسؤال عن الكيفية التي يميز هو بها عما إذا كان ما يقوله في النوم أم اليقظة. وإذا أجاب بأنه يدرك ذلك بالضرورة، فإننا يمكن أن نرد عليه بأن الإجابة العقلية في الواقع هي الوحيدة التي يمكنها أن تدرك هذه الضرورة، أي التفرقة بين ما يجوز الغلط فيه من مقدمات وبين ما لا يجوز أيضاً ضرورة[6]. وينطبق هذا بالقدر ذاته على كل الغلط والصواب في مختلف العلوم الأخرى. أما أولئك الذين ينكرون معطيات النظر العقلي كلياً، فإنهم بنظره لم يفهموا معنى النظر العقلي بحد ذاته.

فالأحكام النظرية والعقلية، حسب رأي الغزالي، مبنية على مقدمات منطقية تستند بدورها إلى الحس والتجربة، والتجربة والعقل. من هنا فإن التشكيك بها يستلزم أدلة برهانية، وإلا لكان بإمكان أي كان أن يقول بأن ما يورده أو يعترض عليه هو "مقدمة ضرورية قاطعة". ومن هنا فإن إبطال نظر العقل يعني الوقوع في خلاف لا نهاية له ولا قرار. مما سبق يبدو واضحاً بأن هذه الأدلة التي يقدمها الغزالي تسعى لبناء أسس نظرية يمكن الاستناد عليها للبرهنة على خطأ الفكرة الباطنية التعليمية عن عصمة الإمام القائلة بضرورة التعليم. فهو يتفق مع التعليمية في ضرورة التعليم، إلا أنه يختلف عنها بحصر ضرورته في الإمام المعصوم. فالاستنتاجات التعليمية الباطنية التي تحاول أن تبني في وحدتها هيكل الضرورة المطلقة للإمام المعصوم والتعلم منه استناداً إلى اختلاف العقلاء في ما بينهم، لا تستند بنظره إلى أساس منطقي سليم.  وأن مقدمات هذه الفكرة هي مقدمات خاطئة. وقد عارض الغزالي هذه المقدمات انطلاقاً من تقسيمه للعلوم. فهو ينطلق من أن هناك ما لا يمكن تحصيله إلا بالسماع والتعلم كأخبار الماضي وأحوال الجنة والنار وما شابه ذلك، وبالتالي فإنه لا قيمة هنا لأخبار الآحاد لأنها أخبار ظنية لا يقينية. أما القسم الثاني فهو العلوم النظرية العقلية، التي ليس في فطرة الإنسان ما يمكنه أن يرشده إلى تعلمها، وبالتالي لابد فيه من التعلم لا التقليد، أي تعلم القواعد الأساسية وطرق إدراك الحقائق بغض النظر عن شخصية المعلم سواء كان أفهمهم أو أورعهم، أي تلك المعارف التي لا تحتاج بحد ذاتها إلى معلم "معصوم" مثل الحساب والهندسة وما شابه ذلك. أما القسم الثالث فهو العلوم الشرعية والفقهية، أي معرفة الحلال والحرام والواجب والندب. وهي علوم تبنى أساساً على السماع الذي يورث بدوره العلم والمعرفة. إلا أنها علوم ظنية لا يقينية بفعل العلاقة القائمة بين محدودية النصوص ولا محدودية الوقائع. وبالتالي فلا حاجة هنا، كما يقول الغزالي، لإمام معصوم. من كل ما سبق يتوصل إلى أن رفض المنطق والعقل استناداً إلى خلاف ممثليه وأتباعه شبيه برفض معطيات الرياضيات لخطأ أحدهم فيها. أما معرفة الحق والباطل فإنها تستغني بحد ذاتها عن ضرورة الإمام المعصوم. وذلك لأنه إذا كانت القضايا الجوهرية للفكر الفلسفي والكلامي كقضايا معرفة الله ووجوده وغيرها من القضايا لا تحتاج إلى إمام معصوم، فإن قضايا الشرع والفقه لا تحتاج بدورها إلى أي عصمة بفعل استقلاليتها وخضوعها لأحكام الظن والاجتهاد. فالناس في مواقفهم من هذه القضايا، كما يقول الغزالي، أنواع. منهم المقلدون، الذين يغنيهم تقليدهم عن الإمام المعصوم. ومنهم المتشكك المتأمل، أي أولئك الذين لا يشفيهم إلا الدليل والبرهان القاطع. وبالتالي فإنه لا مفر أمام الإمام "المعصوم" من أجل إثبات عصمته أمام دعوتهم للإيمان به تقليداً أو ضرورة أو تقديم البرهان. ففي الحالة الأولى لا معنى للتقليد إذ لا قيمة له ولا ضرورة. أما في الحالة الثانية، فإنه ملزم بالخضوع لتأمل المتشكك ذاته، لأن البراهين هنا لا تمتلك طابع الضرورة أو اليقين المطلق. بمعنى أن براهينه الممكنة هي كالبراهين الأخرى (العقلية) العديدة. كل ذلك يفقد "العصمة" معناها وضرورتها. وينطبق هذا بجلاء أكبر على القضايا الفقهية. ففي الفقه يوجد ما هو معلوم للجميع كالصلاة والصوم والحج وغيرها، أي ما لا يحتاج إلى معلم معصوم، ومما لا يعرف بصورة قطعية، وما لا نصّ فيه مما يستلزم الإجتهاد. وبالتالي فإن اجتهاد الإمام المعصوم هنا هو الآخر اجتهاد ظني. بمعنى فقدانه العصمة. فهو كإنسان لا يختلف عن الآخرين، وأن ظنه عرضة للخطأ كغيره. فالعصمة في الظنون، كما أراد الغزالي القول، هو صنف من الجنون، إذ أن الأحكام التي يقدمها المعصوم لا بد وأن تستند إلى سماع وهذا غير موجود، أو دليل عقلي كالآخرين، أو تواتر الوحي (مما يتعارض مع النبوة).  وهو مما لا يمكنه أن يكون بفعل استحالة حصر الموجودات (بما في ذلك للنبي نفسه)، بفعل  عدم تناهي الحوادث. ثم إن الشرعيات والفقهيات، حسب نظره، هي أمور وضعية اصطلاحية تختلف باختلاف الأنبياء والعصور والأمم. ثم إن الفقهيات شأنها شأن التجارة والسياسة لابد من الظن فيها، وبالتالي حتمية الاجتهاد[7].

غير أن انتقاده لآراء الباطنية التعليمية يسعى في جوهره إلى تبيان ثغراتها المنطقية والحساسة، وبالأخص ما يتعلق بتضييقها على حرية الرأي والاستقلال الفردي في التعامل مع القضايا الفكرية والسياسية من خلال تحويل الإمام المعصوم إلى حاكم الحقيقة المطلقة. والغزالي يسير هنا في خطى الراديكالية المعرفية التي رفعت حرية الفقيه واستقلاليته الفكرية إلى مصاف الفضيلة الكبرى. متتبعاً تقاليد الإسلام الاجتهادية بالصيغة التي جعلته يجد في أخطاء الاجتهاد أيضاً فضيلة ومغفرة. وقد حدد ذلك بدوره ظهور إحدى المعضلات الاجتماعية السياسية والأخلاقية الكبرى بصدد الموقف من الاجتهاد الظني وفكرة المخطئ  المصيب، أي الكيفية التي يمكن للمخطئ (في اجتهاده) أن يكون مصيباً، لاسيما وأن خطأه قد يكون متعلقاً بقضايا حياتية كبرى؟ وقد رد على هذه الاعتراضات وأمثالها بالصيغة التي لم تجعل منه تبريراً للظلم الممكن، بل للتركيز على حرية الفكر ودحض أفضلية "العصمة" انطلاقاً من واقع خطأ الفقهاء، بما في ذلك إمكانية تعسف بعضهم.

فالغزالي لم يرغب القول بأن رذائل العقل المجتهد أكثر أخلاقية من فضائل التقليد، بقدر ما أنه سعى من خلال إظهار الظن في الفقهيات إلى فسح المجال أمام حرية الرأي. فعندما يتناول فكرة كل مجتهد مصيب، فإنه لم يقصد بذلك سوى ظنية الإصابة لا حقيقتها. وحتى في حالة مساس ذلك بمصالح الناس ومصائرهم، فإن الاجتهادات الظنية تبقى مجرد فرضيات وحلول المصيب فيها واحد. وعلى هذا الأساس حاول البرهنة على عدم إجازة الخلط بين ما يمكن دعوته بالمبدأ المطلق وأشكال تجليه. فخطأ الفقيه لا يعني خطأ المبدأ العام. على العكس، إنه يؤكد ضرورة الاجتهاد مازال الفقه يتعامل مع حياة الناس المتغيرة ومتطلباتها المستجدة. من هنا فإن الخطأ هو في اتباع المجتهد لغيره. فالمقلد لا يمتلك قوة الحقيقة، وأن كل ذلك يبرهن على عدم جدوى العصمة بسبب افتقادها للضرورة في محتواها ومعناها.

وقد دفع جداله مع التعليمية الباطنية هنا حتى نهايته المنطقية، عندما حاول البرهنة على أن الخطأ يصبح أحياناً ضرورة حياتية. وبهذا المعنى فإن تخوف وتخويف التعليمية من وقوع الأخطاء هو مجرد جهل "معقلن"، مازالت الحياة ومقوماتها لا تستند على الدوام إلى ضرورة عقلية ومنطقية. فالمصالح الدنيوية، كما يقول الغزالي، هي مصالح ظنية ولا يمكن التيقن المسبق من نتائجها، أو التخلص من إمكانيات الخطأ فيها ومن أضرارها. وإذا كان الأمر كذلك، وأن الفقهيات الشرعية مبنية على هذا الأساس وأنها تسعى أساساً للإصلاح، فإن الخطأ فيها لا ضرر قاتل فيه.ولهذا اعتبر أن الخطأ في تفاصيل الفقهيات معفو عنه. ووصل في تجانس  آرائه بهذا الصدد ومواقفه إلى الدرجة التي أخذ يخترق فيها إجماع اللاهوت السنيّ من خلال دفاعه عن مرتكب الكبيرة، باعتبارها لا تشكل سبباً موجباً لتخليد العقاب ولا للزومه على وجه لا يقبل العفو. في حين أن الاجتهادات لا أثم على الخطأ فيها[8]. ولهذا نظر إلى الاجتهاد الدائم نظرته إلى أسلوب بلوغ درجة الأئمة.(يتبع...).

***

 ا. د. ميثم الجنابي

............................

[1] الغزالي: فضائح الباطنية، ص31.

[2] الغزالي: فضائح الباطنية، ص51.

[3] الغزالي: فضائح الباطنية، ص52-53.

[4] الغزالي: فضائح الباطنية، ص53.

[5] الغزالي: فضائح الباطنية، ص56.

[6] الغزالي: فضائح الباطنية، ص56-57.

[7] الغزالي: فضائح الباطنية، ص66.

[8] الغزالي: فضائح الباطنية، ص69.

 

في المثقف اليوم