دراسات وبحوث

إشكالية العقل والأخلاق في المصير الروحي للغزالي (4-4)

ميثم الجنابي"الجنون فنون"

إن الانتقاد العقلاني لمفاهيم التعليمية عن الإمام المعصوم من خلال التركيز على موضوعية الحقيقة قد وضعه أمام إحدى القضايا الكبرى للثقافة الإسلامية، ألا وهي طبيعة العلاقة بين الأخلاق والحقيقة، بين الحقيقة والأيديولوجيا. فالغزالي في مرحلته هذه لم يسعَ لحل هذه القضايا بصورة مستقلة. بمعنى أنه لم يواجهها بوصفها قضاياه الشخصية، بقدر ما أنه واجهها كجزء من مهمات الصراع ضد "الزيغ والباطل" التعليميـ الباطني. لهذا لم يكن بإمكان آرائه هنا أن تتعدى في أفضل الأحوال حدود الدفاع عن العقل واستقلاليته الفكرية ورفض التقليد.

إن لهذه الظاهرة مقدماتها في تقاليد الجدل الكلامي وصراع الفرق الإسلامية. وإذا كان الغزالي قد سار هنا على العموم في تيارها الجارف، فإن مأثرة هذا الانتقاد تقوم في تمظهره بموضوعية التحليل والأحكام بصدد القضايا المثيرة للجدل. لهذا فإنه حالما يتطرق إلى فكرة التعليم، فإنه يؤكد على ضرورتها. ويشدد في الوقت نفسه على أنها لا تستلزم أية عصمة. فالعلوم البرهانية العقلية هي ليست علوماً تقليدية، بينما لا يمكن معرفة حقيقة العصمة إلا بالضرورة أو التقليد. وفي كلتا الحالتين، فإننا لا نستطيع هنا بالدلالة والتدليل سوى اقتراف حماقات لا غير. أما حماقة التعليمية الباطنية، فإنها تقوم في هجومها المستميت ضد العقل وتفضيل تكذيبه. ومنطقياً لا تؤدي هذه المحاولات إلا إلى نفي فكرة العصمة ذاتها. إذ حتى في حالة افتراض إمكانية وجود العصمة والإقرار بقدراتها العملية، بمعنى استطاعة الإمام المعصوم تقديم العلم المطلق في كل شيء، فإن ذلك لا يمكنه تفسير كل من وجود الخلافات أو كيفية القضاء عليها. ولو كان وجوده فعلياً فلم لا يسلك الكل في ربقة التصديق؟ بصيغة أخرى، إنه يحاول من خلال انتقاداته اللاذعة لفكرة العصمة أن يتوصل إلى أن إنكار الرأي والعقل والدعوة للرجوع إلى الإمام المعصوم هي ذاتها قضية مرهقة للمعصوم نفسه ومأزق لا يمكن الخلاص منه. لهذا أكد على أنه إذا كان بالإمكان الإقرار جدلاً بوجود المعصوم كفكرة لها أتباعها في أوساط بعض الفرق الإسلامية وفرق الأديان الأخرى (كل بطريقته الخاصة)، فكيف يمكن يا ترى أن تكون مقنعة لمن لا يقر بوجود الله والأنبياء والمعجزات؟ ومن هنا استنتاجه القائل بضرورة رفض العصمة والمعصوم والدفاع عن حرية الرأي والعقل. فالأخير ليس قادراً على الإقرار بالمعجزة، كما يقول الغزالي، بل وبإمكانه اعتبارها أيضاً مخرقة وسحراً. وبالتالي فبأي معنى يمكن الإقرار أو القناعة بوجود عصمة ما عند فرد ما؟ ولم لا يمكن لهذا الإنسان أو ذاك أن يقلد أو يقتنع بعصمة الآخرين والمعارضين لمن يدّعي العصمة لنفسه؟ ومن هنا بديله القائل بأن الحل الوحيد هنا هو "الأمر بالتفكر والنظر في الدليل" . وبهذا يتحول الرأي والنظر عنده إلى الوسيلة الحقيقية والوحيدة لبلوغ اليقين. أما افتراض إمكانية الثغرات الدائمة في معطيات العقل وأحكامه فهو نتاج السفسطة والجهل العقائدي. إذ أنه يؤدي إلى إبطال العلوم والاعتقادات جميعاً. بل وحتى في هذه الحالة فكيف "يبقى معه وجود التعلم ومعرفة العصمة" .

إن الجدل الفكري الذي خاضه ضد التعليمية الباطنية لم يكن "تمريناً" فكرياً، كما كان الحال في (تهافت الفلاسفة)، رغم احتوائه على بعض القواسم المشتركة فيما سيدعوه في وقت لاحق بالدفاع عن عقيدة العوام، أي أن ما يميزه عن سالفه هو اتجاهه ومضمونه الأيديولوجي العقلاني وهدفه السياسي المباشر. وقد أدى بفعل قوته العقلانية إلى نتائج غاية في التباين من حيث تأثيره على تطوره الفكري الروحي. ففي إجابته على ما إذا كان الإمام المعصوم ضرورياً أم لا، فإنه يتوصل إلى فكرة من حيث استدراجها المنطقي إلى أحكام غاية في الجرأة في دفاعه عن الوحدانية الكلامية الفلسفية، أي تلك الأحكام التي يفترضها منطق العقلانية الصارم. فالفكرة التعليمية الباطنية القائلة بضرورة الإمام المعصوم وبأن غيابه هو فقدان للحق، تتناقض مع الحكمة الإلهية في ترتيب حياة الناس وقيامها على مبادئ الحق هي مقدمة خاطئة. إذ ليس هناك بنظره من حكمة تستلزم من الله خلق إمام معصوم، بل إنه يجوّز خلوّ العالم من نبي استناداً إلى قدرة الله المطلقة. وهو لم يعنِ بذلك سوى "القدرة الإلهية" وحكمتها من افتعال الذهنية المذهبية ومصالح السياسة وبما يتوافق أيضاً مع تجانس نظراته عن حقيقة العدالة والظلم، والحكمة واللاحكمة في الوجود. إذ ليس الظلم حسب عبارة الغزالي سوى وضع الشيء في غير موضعه. ولا يعني ذلك سوى التجريد الاشمل لما يمكنه أن يغطي كل ظواهر الوجود دون أن "يتلوث" بها. من هنا اعتباره لفكرة التعليمية وأمثالها عن ضرورة إرسال الأنبياء والأئمة المعصومين للأمم من أجل إرشادهم، وأن عدم إرسالهم هو مناقضة لأوصاف الكمال الإلهي، مجرد خداع لا غير. بل وحتى في تلك الحالة التي يؤكد فيها على أن الله لا يلزمه في نعوت كماله أن يراعي مصلحة الخلق فإنه لم يسع بذلك لعزله عن مصيرهم بقدر ما أنه سعى للبرهنة على أن التحكم الجزئي والمفتعل بمعطيات العقل في تقرير ما هو واجب وما هو غير واجب على الله، هو وضع الله ووحدانيته المطلقة في قفص الاتهام أمام انتقائية العقل الجدلية ورغبات النفس . إذ أن ذلك يعني فيما يعنيه تقييد العقل ذاته بذاته في هوس يشابه في جنونه فكرة النص والعصمة. غير أن تشديده على هذا الجانب لم يكن يرمي في الواقع إلا لإبراز فساد الفكرة التعليمية الباطنية عن ضرورة الإمام والإمامة. وإذا كان الغزالي يواجه أحياناً لاعقلانية التعليمية بلا عقلانية مناقضة، فلأن ذلك كان نتاجاً لتقاليد الجدل الكلامي من جهة، وأسلوباً لبلوغ الحد  المعقول "للوسط العقلاني" من جهة أخرى، أي أنه الوجه الآخر لتقييد العقل بالعقل. من هنا كلماته القائلة بأن الأمور أعقد مما يبدو لقناعة الذهنية التقليدية عن ضرورة الإمام والنبي، انطلاقاً من أن "صفات الربوبية لا توزن بموازين الظنون. وبهذا يستبين أنه لا يجب بعث نبي ولا نصب إمام" . من هنا فإنه لا معنى "للعهد الأزلي" في تنصيب الإمام مازال ذلك غير ضروري بما في ذلك للنبي. وبغض النظر عن أن التعليمية الباطنية ليست الوحيدة في ادعائها بوجود إمامها المعصوم، إلا أن الغريب في الأمر هو ظنها أن هذه الحماقة، كما يكتب الغزالي، خاصة بها فقط. إذ أن تاريخ الخلافة كما يقول في (فضائح الباطنية) مليء بالأشخاص والحركات التي ادعى كل منها نفسه ممثلاً ليس للعصمة والنبوة، بل وحتى للربوبية. وبهذا المعنى فإنه لا أساس يقيني في ادعاء التعليمية الباطنية، وأحقية معصومها مقارنة بالآخرين.

إن ما يمكن قبوله في اتجاهات التعليمية الباطنية عن الإمامة، حسب نظر الغزالي، هو ادعاؤها بأحقيتها في الخلافة. فهو ادعاء يمكن قبوله عقلاً، لأنه وارد عند الكثير من الاتجاهات الفكرية والسياسية التي يدعي كل منها أفضليته وأحقيته بالخلافة. ثم إن هذا الإدعاء لا بأس به في حالة تركه شرط العصمة والمعرفة المطلقة. آنذاك سيتمظهر الإدعاء في هيئة مشكلة سياسية ومسألة فكرية يمكن التعامل معها على أساس واقعيتها. بمعنى تعاملنا مع مسألة الإمامة باعتبارها قضية بشرية لا إلهية، وحياتية وضعية لا دينية واجبة. فالتجربة التاريخية تبرهن، كما يقول الغزالي، على أن فقدان الإمامة هو هجوم على الأحكام الشرعية وبطلان القضاء وإهدار الدماء. وأن إبطال الإمامة يؤدي بالضرورة إلى الفوضى. وبغض النظر عن رفض بعض المسلمين لضرورتها، إلا أنها محل إجماع الأغلبية. بصيغة أخرى، إن الفرَق العام بين الفِرق بصدد هذه القضية يقوم في أسلوب تعيينها لا في أصلها. وقد أدرك المسلمون هذه الضرورة البالغة في أولى تجاربهم السياسية حيث دعت تجربة السلف الأوائل إلى ضرورة الإمامة. فالنبي محمد مازال مضطجعاً في الموت، بينما الصحابة اجتمعت على اعتقاد أن "الفرض الواجب" يقوم في البيعة ونصب الإمام. بحيث حلوا هذه القضية حتى قبل دفنه. كل ذلك يبرهن على أهميتها في وعيهم السياسي والديني. وبهذا المنحى فُهم ضرورة الإمامة والإمام على أنهما ضمانة للسنّة ودفع الباطل وتقرير الحق . ويتفق الغزالي هنا مع التعليمية الباطنية بضرورة الإمام الواحد. لكنه يختلف عنهم في الأسلوب والمضمون. وينطبق هذا بالقدر ذاته على مختلف القضايا الأساسية الكبرى. فالخلاف في ما بينه وبين التعليمية الباطنية بصدد الإمامة يقوم في تباين مواقفهما منها، وفي تعارض رؤيتهما لأسلوب الإقرار بها، أي كل ما يؤدي في حصيلته إلى تباين رؤية الكيان العام للسلطة والدولة وأيديولوجيتها. ذلك يعني بأنهما يلتقيان في نقاط كثيرة ولكنهما لا يتطابقان في أي مكان. فاتفاقهما الظاهري عن إمامة الواحد يتخلله خلاف داخلي يصل حد التضاد الكامل. وأن هذا التضاد لم يحدده فقط تعارض المصالح السياسية وصراعاتها، بل والرؤية الكلامية الفلسفية لموقع السلطة والإمام في منظومات التعليمية الباطنية ومعارضيها. فالغزالي يتفق، كما هو الحال بالنسبة للتعليمية وأغلبية الفرق الإسلامية، على الصفات الضرورية لما يسمى بشروط الإمامة. إلا أن بحثها وتدقيقها الملموس يؤدي بهما إلى خلافات وصراعات لا تنتهي. وحالما وقف أمام مهمة مهاجمة آراء التعليمية الباطنية، فإنه أدرك، إلى جانب تعقيد القضية الفكري، تعقيدها السياسي. فإذا كانت "سهولة" الجانب الفكري بالنسبة له تستمد مقوماتها من نماذج وتقاليد الجدل الكلامي وأساليبه المتفرعة في الهجوم والهجوم المضاد (كما هو جلي في انتقاده لفكرة النص والعصمة)، فإن التعقيد السياسي يقوم في كونه الأكثر حسماً في واقعيته ووجوده.

***

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم