دراسات وبحوث

الكمون الحي لمفارقات الحقيقة العقلية-الاخلاقية عند الغزالي (2-2)

ميثم الجنابيأيا حجر الشحر إلى متى

تسنّ الحديد ولم تُقطَعِ؟

إن المهمة السياسية الأيديولوجية القائمة وراء (فضايح الباطنية) لم تتجرد في الوقت نفسه عن "ازدواجيتها" العميقة. بمعنى أنها ظلت تحمل في أعماقها ليس فقط حوافز الدفاع عن السلطة العباسية والبرهنة على أحقيتها في الخلافة، بل وكونها كانت من الناحية التاريخية والفكرية شيئاً ما نسبياً وعابراً مقارنة بأسلوبه الجدلي ومضمونه العقلاني. فقد ساهم مؤلفه هذا، سواء على المستوى الشخصي والاجتماعي والثقافي، في تعميق منظومة وقيم الحرية الفكرية واستقلالية العقل ودحض فكرة السلطوية الروحية وأوهام العصمة واحتكار الحقيقة من جانب أي كان. فهو في دفاعه عن السلطة العباسية، على سبيل المثال، لم يتهاو في أوحال التبرير بالصيغة التي يمكن أن يطوي بها قيمة العقل وفضيلة الاجتهاد وحرية الرأي أو أن يرتضي بالعصمة لخلفاء بني العباس.

لقد عمّقت حذاقة النقد المتصدي لفكرة التعليمية الباطنية عن إمامها (العقائدي والسياسي)، باعتباره العارف بحقائق الأشياء والملزم طاعته والتعلم منه لأجل نيل سعادة الدنيا والآخرة، أسلوب الجدل الفكري. غير أن وجهته كانت أيضا تسير باتجاه خدمة مصالح الإمام العباسي (المستظهر بالله). إن جهود الغزالي النظرية لإبطال فكرة التعليمية الباطنية عن عصمة وأحقية إمامها في مصر آنذاك كانت تحتوي على تمهيد الأساس الأيديولوجي للدفاع عن الخليفة العباسي، باعتباره إماماً للمسلمين. بمعنى أنه لم يقف عند حدود دحض الفكرة الباطنية وكشف "فضائحها"، بل ونفيها بالبديل العباسي من خلال جمع كل ما يمكنه ضمان تأييدها بما في ذلك كثرة المعطيات المباشرة والعادية مثل وجود أغلبية المسلمين والقوة إلى جانب المستظهر بالله وما شابه ذلك. رغم أنه كان يدرك جيداً انعدام الصلة الضرورية واللازمة بين القوة والحق، والكثرة والحقيقة. بل إن انتقاداته الفكرية الشديدة للباطنية حول الإمام الواحد والحق كانت موجهة أساساً من أجل البرهنة على استقلالية وموضوعية الحقيقة وتجردها بالتالي عن عوارض الكميات (أتباعاً ومعارضين). وذلك لأن كثرة الأغبياء والحمقى واتفاقهم على الكلمة، كما أكد الغزالي نفسه، لا يعني حقيقتها وأحقيتهم. إن استعماله هذه الفكرة ضمن سياق الدعاية السياسية لم يعن في الواقع سوى إحدى محاولات إعطاء الخلافة العباسية في شخصية المستظهر بالله شرعية وجودها وصلاح إمامها. ومن هذا المنطلق يمكن فهم استنتاجه القائل "بقدسية" الخلافة العباسية. فقد أكد على أن وصول المستظهر بالله للسلطة لم يكن نتاجاً للحيلة البشرية والمخادعات بل بل "رزقاً إلهياً". بمعنى أن اختياره هو اختيار الله له. غير أن الغزالي مع ذلك لا يجعل من واقع الاختيار مقياساً للحقيقة، بقدر ما أنه يمثل أحد مؤشراتها، أي أنه نظر إلى الاختيار باعتباره مقدمة للبيعة الحقيقية، التي ستصرف لاحقاً "قلوب الخلق لطاعته والانقياد له في الأمر والنهي"[1]. وإذا أتاح الله لامرئ هذا، كما يقول الغزالي، فإنه كان من الله لطفاً في اختياره لخلافته[2].

ومن الممكن القول بأن هذا الاستنتاج الأيديولوجي الملطف للتبريرية الجبرية يعكس في بعض جوانبه خشونة المواجهة الفكرية والسياسية للمرحلة. لهذا حاول أن يعطي له طابعاً سياسياً عقلانياً من خلال تصوير استنتاجه السابق على أنه نموذج معارض لفكرة "النص الإلهي" للتعليمية الباطنية، التي وضعت الاختيار الإلهي قبل الإنساني. في حين وضع الاختيار الإنساني قبل الإلهي، أو بصورة أدق أنه وجد في الاختيار الإنساني تطبيقاً للإلهي، وفي وحدتهما الصيغة المثلى لما ينبغي، أي أنه سعى إلى إيجاد نوع من التجانس الواقعي الممكن بين الإلهي والإنساني في الاختيار السياسي. وقد أدت هذه  الفكرة إلى خلافات جوهرية مع ما يقابلها في التعليمية الباطنية. إلا أن الغزالي حالما حاول إنزال هذا التجانس الممكن إلى ميدان الواقع، فإنه كان لابد من أن ينكسر على موشور الصفات الأساسية، التي ينبغي أن يتحلى بها الإمام (الخليفة). فالغزالي يستند هنا جزئياً إلى تقاليد الكلام السياسي في موقفه من الصفات الأساسية للإمام، إلا أنه أخضعها لمصالح أيديولوجية السلطة، بحيث أدى به ذلك إلى أن يجعلها جزءاً من الصراع لا من مكونات البحث عن الحقيقة. فعندما حاول أن يطبق الصفات المكتسبة الأربع على شخصية الخليفة المستظهر بالله (النجدة والكفاية والورع والعلم)، فإنه ينطلق من أن النجدة ضرورية لإظهار قوة السلطة وحسم الفتن وإقرار النظام. وبما أن الغزالي يصطدم بواقع كون القوة العسكرية ليست بيد الخليفة، بل بيد السلاطين الأتراك وما تنتجه هذه الحالة من انتقادات المعارضة للخليفة بما في ذلك في صفة النجدة، فإنه وجد المخرج المناسب في ازدواجية الانتقاد والتبرير. فهو يشير إلى واقع مخالفة السلاطين والأمراء لأوامر الخليفة ونواهيه. بل إنهم في حركاتهم لا يترددون إلا خلف شهواتهم، وإذا هاج لهم غضب لم يبالوا بالأتباع ولم يعرفوا إلا الرجوع إلى ما جبلوا عليه من طباع السباع[3].

إن الغزالي يصوّر الواقع وينتقده بحذق ضمني، لكنه يحدّه في الوقت نفسه ايديولوجياً على أساس أن ذلك لا يغير من طبيعة الخلافة وشرعيتها، مازال السلاطين أنفسهم "يتقربون إلى الله بنصرته ويعتقدون ويطيعون خلافته". أما عدم الطاعة والتردد إلى الشهوات، فإنها صفة كانت قائمة على الدوام. فالمؤمنون على سبيل المثال، لا يخضعون كلهم بقدر واحد لله. إذ هناك الموافق والمخالف. والسلاطين رغم تنصلهم عن الخضوع أحياناً، فإنهم على الدوام شديدو الحرص على إظهار الطاعة له. ذلك يعني أن هذه الظاهرة المثيرة لانتقادات التعليمية لا تغير من أحقيته في الخلافة. ولنا في ذلك أمثلة كثيرة بما في ذلك مع الإمام علي بن أبي طالب، الذي دفعه تنافر قومه وعدم خضوعهم لرأيه وإتباعهم إياه إلى أن يقول يوماً "لا رأي لمن لا يطاع". وإذا كان الإمام علي يقود العساكر بنفسه، فإنه لم يعد ذلك، حسب نظرية الغزالي، شرطاً من شروط الإمامة. بصيغة أخرى، إنه يجمع مختلف الأدلة من أجل البرهنة على شرعية الخليفة العباسي. وبغض النظر عن طابعها التبريري الجزئي، إلا أنها صبّت في مجال التقاليد الكلامية العقلية، التي جعلت من شدة الكلمة وقوتها الجدلية أسلوب البرهنة على الحق والحقيقة. ويمكننا أن نلحظ هذا الأسلوب أيضاً في كيفية تطبيقه على كافة الصفات الأخرى. فالمستظهر بالله يظهر كما لو أنه أحد ممثلي الورع الإسلامي الكبار. وإذا كان الغزالي يركز على هذه الصفة أكثر من غيرها، فلأنها تستلزم أولاً وقبل كل شيء "معاناتها" الذاتية باعتبارها صفة ذاتية مكتسبة على خلاف النجدة والهداية وغيرهما من الصفات، مما يمكن تقويته بمساعدة المستشارين والأعوان. من هنا فإن تميز المستظهر بالله بالورع هو الذي يعطي للغزالي إمكانية حلّ خياله وعقله قيود الاعتدال، ولكنه يبقى مع ذلك أميناً "لمنطقية" الاستنتاج في تقاليده الثقافية الإسلامية. فهو حالما يستنتج من صفة الورع المميزة للمستظهري أحقيته في الخلافة، فإنه يكون بذلك قد عبّر عن استمرارية التقاليد الإسلامية في موقفها من إحدى أهم الصفات وأكثرها جوهرية في صيرورة كيانه الروحي الأخلاقي. فالورع، كما أفرزته تقاليد الإسلام، هو البؤرة الداخلية التي تلتف حولها طبقات الوعي الأخلاقي. ومنها تشع علامات الحق. وإليها تنجذب قوى الروح الكامنة في القلب والعقل والجوارح. وليس مصادفة أن يجمع في تصويره شخصية الخليفة كل هذه الصفات قائلاً بأن المستظهر بالله هو "إمام الورع والتقوى حتى أوفى على الغاية القصوى. فتميز بمتانة الدين وصفاء العقل واليقين حتى ظهر من أحواله منذ تجمّل صدر الخلافة بجماله من إفاضة الخيرات والعطف على الرعايا، وقطع العمارات التي كانت العادة جارية عليها بالمواظبة عليها. كل ذلك إضراباً عن عمارة الدنيا. هذا وما ظهر من سيرته في خاصة أحواله من لبس الثياب الخشنة واجتناب الترفّه والدعة والمواظبة على العبادات"[4].  كل ذلك في ريعان الشباب، فما بالك يا ترى في حالة مقاربته سن الكمال. إذ أن الهلال إذا رأيت نموه أيقنت أن سيصير بدراً كاملا!

إن الغزالي يدرك صعوبة تحقيق التجلي الواقعي لحقيقة الكمال. وذلك لأن الكمال الحقيقي هو لله فقط. إلا أن عدم تجليه الكامل لا يعني عدم وجوده. وبهذا فإن انتقادات التعليمية الباطنية وغيرهم القائلة بخلو الزمان من الإمامة لافتقاد شرطها في الكمال لا يمتلك أساسه السليم. لهذا حاول جهد الإمكان رد هذه الاعتراضات بالصيغة التي يمكنها أن تعقلن المواقف أو تصوغ مبادئ اعتدالها الواقعي. فعندما يتناول على سبيل المثال، شخصية الخليفة الذي بحوزته كل تلك الأموال والإمكانات الاقتصادية الهائلة، فإنه لا ينساق وراء ما يمكن دعوته بالتبريرية الاقتصادية، بل وراء عقلنة المواقف من خلال التركيز على وحدة الورع والاقتصاد في النفقات من خلال شرعنتها الفقهية الحقوقية. فهو ينطلق من أنه لا عصمة للبشر، بما في ذلك للأنبياء. والإنسان عرضة للزلل. وعلى هذا الأساس حاول أيضاً استعمال فكرة الشافعي حول شرط عدالة الشهادة ليطبقها على الإمامة. فالشافعي يؤكد على أنه لا يمكننا القول عن فرد ما بأنه غير ذي طاعة خالصة إلا في حالة عدم اقترافه معصية مطلقا. ولا يمكننا القول عن فرد ما بأنه عاص كلياً إلا إذا أدركنا أنه لم يقم بطاعة قط. أما في الواقع فإنه ليس هناك إنسان منفكّ عن الخلط بينهما. إلا أن من غلبت الطاعات عنده على المعاصي وأن السيئة تثير عنده شعور الاستياء، والحسنة شعور الاستحسان، فهو يقول الشهادة. وفي استناده إلى هذا الاستخلاص الفقهي، يستنتج مخرجاً سياسياً يقول بأننا لا نشترط في عدالة القضاء إلا ما نشترطه في الشهادة، ولا نشترط في الإمامة إلا ما نشترطه في القضاء[5]. إذ ليس الإمام في نهاية المطاف سوى قاضٍ أكبر. وإذا كان الغزالي قد استطاع إخراج المستظهر بالله يابساً من بلل الانتقادات والاتهامات المعارضة في الصفات الأساسية كالنجدة والورع، فإنه أفلح بقوة أكبر في إظهار لمعانه في صفات العلم والكفاية.  غير أن ما يصوغه هنا هو جزء موجز من قناعته السياسية أيضاً بصدد قضايا الدولة والسلطة. إلا أن الثغرة التي ظلت قائمة على الدوام في منظومته الفكرية ما قبل التصوف تقوم في كمون فاعلية الصراع بين عقلانيته المنطقية وتبريره الايديولوجي، أي كل ما كان يسهم في خلخلة روحه الأخلاقي المعرفي.

ولم يكن ذلك معزولاً عن الصراعات الاجتماعية والسياسية والفتن المذهبية وعلائم انهيار الدولة وانحلال الوحدة وتشوّه القيم وانفلات الأمن. وبهذا المعنى كانت أراءه واحكامه ومواقفه الايديولوجية الوجه الآخر للواقعية العقلانية. فعندما حاول الدفاع عن أحقية المستظهر بالله فإنه يصور حالة الدولة والمجتمع بصورة دقيقة، مشيراً إلى أن صعوده إلى سدة الخلافة بعد سابقه (المقتدي) رافقه "إحداق العساكر بمدينة السلام وازدحام أصناف الجند على حافتها. والزمان زمان الفترة، والدنيا طافحة بالمحن متموجة بالفتن. والسيوف مسلولة في أقطار الأرض. والاضطراب عام في سائر البلاد. لا يسكن فيها أوار الحرب ولا تنفك من الطعن والضرب. وامتدت أطماع الجند إلى الذخائر ففغروا أفواههم نحو الخزائن. وكان يتداعى إلى تغيير الضمائر وثور الأحقاد والضغائن"[6]، أي كل ما كان ينبغي للمستظهر بالله وضع حد له وإعادة ترتيب الأوضاع بالصورة الأفضل. وهو ما استطاع القيام به. لهذا كان دفاع الغزالي عنه هو دفاع عن الوحدة الاجتماعية والسياسية للدولة. كما انه دفاع عقلاني وواقعي في الوقت نفسه. أما التناقضات المظهرية في بعض صياغاته النظرية فإنها لم تكن في الواقع نتاجاً لمعارضة الحقيقة بالمذهبية السياسية، بقدر ما أنها نتاج لمعارضة المذهبية العقائدية بالعقلانية السياسية. وقد أدت هذه العقلانية به إلى أن يقف لاحقا أمام هاوية تأنيب الضمير الأخلاقي. وفي وقت لاحق، فإنه لم يقدم الحقيقة كبشاً لفدائه الشخصي، بل شخصه كبشاً لفداء الحقيقة الأخلاقية، أي كل ما سيظهر بجلاء لا لبس فيه بما في ذلك في تمسكه الدائم بآرائه التي صاغها في (المستظهري) ضد التعليمية الباطنية.

لقد تنازل عما هو دعائي وتبريري في آرائه وأحكامه باعتبارها عوارض للصراعات السياسية. فقد كانت هذه العوارض بمعنى ما محاولات إضافية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. لهذا فإنه حالما ستظهر أمام مصيره الشخصي معادلة الحقيقة والسياسة، والعقل والأخلاق فإن حلها الضروري اتخذ صيغة التآلف المعرفي الجديد. فلا عقل وأخلاق، بل عقل أخلاقي. وبهذا يكون قد حافظ، كما هو الحال في موقفه من الكلام والفلسفة، على ما هو إيجابي فيهما. وبهذا يكون قد أضاف إلى صرح تجربته النقدية العقلية تجربة الكلام السياسي، رغم أن تأثير التعليمية الباطنية على آرائه لم يكن محصوراً أساساً في ميدان السياسة بل في استمرار تأثير العقلانية النقدية وظهور قيمة الوعي الأخلاقي. ولم يكن هذا بدوره معزولاً عن آراء الباطنية وأسلوبها التأويلي.

فعلى الرغم من معارضة الغزالي الدائمة لآراء التعليمية الباطنية وأسلوبها التأويلي، إلا أن معارضته جرت أساساً، كما هو الحال بالنسبة لمواقفه من الاتجاهات الفكرية الأخرى، من خلال تطوير وتعميق وعي الذات المعرفي النقدي. ومن الممكن رؤية تأثير المادة الباطنية التعليمية الغزيرة في آرائه بما في ذلك في مرحلته الصوفي، وبالأخص ما يتعلق منها بقضايا النبوة والظاهر والباطن والسمو الأخلاقي والمعرفي وغيرها. وليس مصادفة أن تظهر، على سبيل المثال، إحدى القضايا الجوهرية في التعليمية الباطنية، ألا وهي قضية العلم والتعليم والمعلم في آرائه وتتصدر كتابه الأكبر (الإحياء) كإحدى قضاياه الأساسية وأولها، وباعتبارها مدخلاً لما أراد قوله. إلا أن الخلاف مع التعليمية الباطنية ظل مع ذلك جوهرياً، وبالأخص ما يتعلق منه بمواقفهما المتباينة من التأويل وأساليبه ومضمونه وغايته. لكنه حالما تعامل مع قضايا الفكر الصوفي، فإنه أصطدم بالضرورة بالمخزون المشترك لباطنية الصوفية وباطنية الباطنيات العديدة، بما في ذلك التعليمية بفعل دورها الكبير في صياغة وتعميق تقاليد التأويل واستدراجها خيال وعقل الثقافة في أمثلتها العديدة (الفلسفية واللاهوتية والأدبية المجازية وغيرها). لهذا لم يكن بإمكانه التخلي كلياً عما بدا له مضراً في بادئ الأمر في الفكر الباطني. فقد أدرك في مجرى صياغته أطر وموضوعات تآلفه الفكري الجديد، الصلة الخفية بين أسلوب المعرفة القلبية  (الصوفية) في أحوالها ومقاماتها من تذوق وكشوف ومشاهدات وبين التأويل المفرط للمادة القرآنية والحديث باعتباره نتاجاً وتمرينا للفكر الباطني. وقد انعكس في ذلك إحدى أساليب تطور إدراك الغزالي المعرفي وفكره. وبدون ذلك يصبح من الصعب فهم صيرورة تآلفه اللاهوتي الفلسفي الصوفي باعتباره نفياً لآرائه السابقة أو تطويراً مضموني لها. إذ لم تكن هذه الظاهرة بالنسبة له قضية فكرية خالصة بقدر ما أنها ارتبطت أوثق ارتباط بالموقف النقدي من النفس، والذي أدى إليه تجمع عناصر التناقض الداخلية في وعيه الفردي، أي كل ما استجمع في ذاته تناقضات الواقع ومحاولات الخروج من أزمتها.

فهو لم يرفض تراثه السابق بل استعاده بعمق جديد وآفاق أرحب، مشذباً إياه بالصيغة التي عادة ما ترافق إعادة التقييم النقدية الخالصة. وبدون ذلك يكون من الصعب فهم إشاراته العديدة في مرحلته الصوفية إلى مؤلفاته الأولى (ما قبل التصوف)، بما في ذلك دعواته المتكررة للرجوع إلى هذا الكتاب أو ذاك، أو إلى هذا الفصل والباب منه أو ذاك، بما فيها كتبه الموجهة منها ضد الباطنية. ومن الممكن تفسير هذه الظاهرة جزئياً استناداً إلى "شرعية" الحقيقة القائمة في هذه المؤلفات باعتبارها مؤلفات "ظاهرية" مدافعة عن عقيدة العوام، إلا أن هذا "الدليل" لا يشكل بحد ذاته قيمة جوهرية لا من حيث مضمونه ولا من حيث وظيفته في منظومة الحقائق التي أبدعها في تآلفه الفكري الجديد.

لقد ظلت هذه المؤلفات تحمل الكثير من الحقائق الجوهرية التي تمسّك بها ودافع عنها في مرحلته الصوفية أيضاً. وليس مصادفة، على سبيل المثال، أن يردد في (المنقذ من الضلال) جملة الآراء التي بلورها وعرضها في (المستظهري). فهو يشير إلى ما أسماه بالمستحثّ الخارجي، أي أمر الخلافة في الرد على الباطنية[7]. وكذلك آراؤه الداحضة لفكرة العصمة ودعوته للاجتهاد انطلاقاً من أن النصوص متناهية ولا تستوعب الوقائع غير المتناهية[8]. ويؤكد في الوقت نفسه على الفكرة الرئيسية في انتقاده للباطنية  والمتعلقة بقضية التأويل، وأن ما يصوغه من آراء ومفاهيم تستمد مقوماتها من القرآن ويدعو القارئ في حالة رغبته بالتمعن بآراء الباطنية بالرجوع إلى مؤلفاته العديدة بهذا الصدد مثل كتاب (المستظهري) و(وحجة الحق) و(مفصل الخلاف) و(القسطاس المستقيم). ذلك يعني أن الغزالي لم يرفض في الواقع سوى الفجوة التي كانت تتخلل مسام وعيه العقلاني وغياب فاعلية الروح الأخلاقي، أي كل ما استثار، على خلفية وجوده التاريخي القائم آنذاك، شعور القلق الروحي الذي أبدع حوافز تذليل خلاف العقل والأخلاق. فالسخاء العقلي في منطق "الفضائح" وجفاؤه الأخلاقي كان يحوي في جوانحه على عوالم الكمون الحي لمفارقات الحقيقة العقلية الأخلاقية، أي كل ما تطاير على مسنّ التجربة العملية الأخلاقية.

 

ا. د. ميثم الجنابي

........................

[1] الغزالي: فضائح الباطنية، ص126.

[2] الغزالي: فضائح الباطنية، ص126.

[3] الغزالي: فضائح الباطنية، ص129.

[4] الغزالي: فضائح الباطنية، ص132.

[5] الغزالي: فضائح الباطنية، ص135.

[6] الغزالي: فضائح الباطنية، ص131-132.

[7] الغزالي: فضائح الباطنية، ص118.

[8] الغزالي: فضائح الباطنية، ص121.

 

في المثقف اليوم