دراسات وبحوث

تناسب العلم والعقل في التجربة العملية للغزالي

ميثم الجنابي"الإنسان إذا كان عالماً ولم يكن له عقل،

سقط جاهه ومرتبته" (الغزالي)

إن الفكر الصوفي قادر على أن يحبك في نسيج خياله اللغوي ما يواجه في واقعيته صعوبة التنفيذ، وذلك لأنه لا يواجه من حيث الجوهر سوى حقائق ذاته. وقد خلّصه ذلك لحد ما من تعقيد وإشكاليات الإضافات المفرطة للعلم والعقل، والتي يفرضها منطقهما بفعل التباين الدائم والمتغير في كمية المعارف وحجم العقول. فهو لم يواجه في مساعيه رغبات البحث عن موازنات الوعي الشرطي، بل للتخلص من قيودها من خلال نزع آهات الأنا العقلية في شكها وتبريرها. وقد أعطى ذلك لتجاربها الفردية معنى يتجاوز حدود ما تفترضه التجربة العقلية. غير أن هذا التجاوز، الذي تنهمك في صياغة عناصره شفرات الطريق الصوفي، أي كل ما يسهم في تسوية الإرادة وتهذيب المعرفة بالشكل الذي ينفي على الدوام تناقض العلم والعمل، لا يتشابه بدوره عند الجميع بفعل تباين تجاربهم الفردية. وأن الميدان الأكثر حساسية وفاعلية لهذا التباين هو ميدان الروح الأخلاقي (العملي). فالمعارف النظرية تمتلك لحد ما مقوماتها في موضوعية الحقيقة، إلا أنها تتناثر في وعي الذات الفردي، باعتبارها كيانات مرئية وغير مرئية يبنى على أساسها تأمل كل ما كان ويكون، أي أنها تشكل البؤر الضرورية لإعادة تكامل المعرفة في الذات من خلال ادراك الحقيقة في الأنا الباحثة عن يقينها. وعندما أبدعت الصوفية تحديدها للعارف (الصوفي) في فكرة "لون الماء لون إنائه" فإنها لم تقصد بذلك تذويب أرواح عارفيها في زجاج وجودها، بل لكشف وحدة حقائقها في تجاربها، أو حقيقتها في حقها أو مصيرها في وجودها.

إن هذا الإبداع الخاص لوحدة الذات العارفة متنوع بقدر تنوع مريديها، ومتباين بقدر تباين عارفيها، ومتعدد بقدر أعدادهم. بمعنى أن وراء كل صوفي تجربة خاصة. ولا تختلف الصوفية هنا أو تتمايز عما هو مميز لتجارب المفكرين النظرية والعملية ككل. فالجميع تتحمل أثقال ماضيها في أوزار حاضرها، أو بصورة أدق، أنه لا حاضر سوى الماضي، تماماً بالقدر الذي يتضمن الماضي في ذاته كل إمكانات المستقبل و«غيوبه. وإذا كانت هذه التعبيرات تتشابه في عبارات الفرق الإسلامية ومدارسها وفي ألسنة خواصها وعوامها، فلأنها كانت تتشارك في معتقداتها حدود معالمها الثقافية، وفي وحيها تجارب فرقها وطرقها ومذاهبها ومدارسها. وصنع ذلك على قدر كل منها مكونات ما يمكن دعوته بطريقها الخاص. فالصوفية تدرك معالم الوحدة المتناقضة للعلم والعمل على أنه أسلوب وجودها المتميز، لأنه في واقعيته ومثاله يتطابق مع طريقها. وقد كان هذا بالقدر ذاته يقلق همم مدارس الإسلام وفرقه، لأنه هو أيضاً أسلوب وجودها. إلا أن انهماكها في عالم الظاهر أدى إلى سيادة أولوية العلم على العمل أو إلى موازاة وجودهما وتواجدهما.

وقد كانت هذه الحصيلة نتيجة طبيعية لتطور المعارف بفعل كميتها، واستمرارية لها بفعل استقلالها النسبي. فالمعارف لا تشكل بحد ذاتها دليلاً على ضرورتها العملية، ولا يعني إتقانها الشكلي تجوهرها في الوعي. وإن هذه الموازاة الخائبة في الوعي كانت وما تزال تشكل أسلوب إبداع الفجوات الدائمة أمام الوحدة. إلا أنها كانت وما تزال تشكل أيضاً الأسلوب الأكثر انتشاراً للمعارف في كميتها ونوعيتها. فهي تبدع أيضاً مثلها في الوجود، إلا أنها لا تتمثل إلا ما تراه مفيداً، أي أن مساعيها العملية هي في أفضل الأحوال مساعي الأنا المستقلة لا الكلّ. وكان بإمكانها أن تنتج ما لا يمكن حصره، وأن تضيّع أكثره دون أن تشعر بأسى كبير، أو كان بإمكانها أن تنظر إلى ذلك نظرتها إلى ما هو عرضة للفقدان. وبهذا تكون قد عبّرت أيضاً عن نمط الحياة في مسارها "الطبيعي"، على خلاف التصوف الذي لم يكن بإمكانه أن يعاني من شعور الفقدان، لأن الأخير هو إضافة بفعل امتلائه بما يتصوره بقاء  للباقي. وإن كل ذلك يبقى، إن أمكن القول، من إرهاصات التأمل المتعالي لما يمكنه أن يكون موضوعاً للاستقراء المنطقي الجاف. بينما في واقعيته هو التمثيل الأكثر حيوية لتناقضات المعرفة. وفي فرديته هو التجسيد الأكثر عمقاً لأصالة المعرفة. وفي ما بين تناقضات المعرفة وتحقيق أصالتها في البحث عنها تكمن قيمة التجربة الفردية لإدراك معالم الوحدة المتناقضة بين العلم والعمل كما أبدعتها ثقافة الإسلام.

فقد كانت ثقافة الإسلام في إطارها العام واحدية المنحى. مما أدى إلى أن تضع شخصياتها الكبرى بين قيمها المطلقة وشريعتها المقننة، أي أنها أعطت لتناقضات المعرفة طابعها الخاص بإدغامها في نسيج التجربة الفردية التي يبدعها هذا المفكر أو ذاك في محاولاته فهم حقائق المطلق أو في مساعيه الحثيثة  الباحثة عن الحقيقة. لقد وضعت الثقافة الاسلامية من حيث مرجعياتها الكبرى اهل العلم والمعرفة على الدوام بين محك العلم والعمل، وجعلت من كيانهم الفردي ميدان التجسيد الأمثل لتوحيد فردانية الأصالة وأصالة الفردية. أما قيمة ومحتوى هذا التجسيد، الذي يتطابق في واقعيته مع التجربة الفردية، فإنهما يستمدان أسسهما من خصوصية الثقافة الإسلامية وكيفية انكسارها في المسار المعرفي لأرباب الفكر، وفي المسار العملي لأرباب الذوق. حقيقة إن ذلك لا يعني توازيهما في التاريخ الاجتماعي والوجود الفردي. إلا أنهما صاغا، إن أمكن القول، نماذجهما المثالية في ميادين المعرفة.

فإذا كانت المعرفة العقلية قد حاولت إدراك الوجود والعدم في مقولاتها الصارمة، فإن المعرفة الذوقية (الصوفية) حاولت إدراك الوجود والعدم في أعمالها وآدابها. ولم يكن هذا الخلاف مبدئياً في غاياته، بقدر ما أنه عكس تنوع الثقافة الواحدية في مساعيها. وذلك لأن بلورة شخصية أرباب الفكر والنظر لم تكن حصيلة فعل النزعة الظاهرية أو أن ما أنتجته كان خلاصة نقية لها، وذلك لأن تأكيداً كهذا لا يعكس في الواقع سوى حدود وعيه المباشر. وهو في أفضل الأحوال لا يتجاوز رؤية السكون النسبي في حركة الأشياء. فما وراء ظاهرية الثقافة ومعالم إدراكها لتناسب العلم والعمل تكمن على الدوام صيرورة الباطن الخفية، أي أن الظاهرية تتضمنها كأجزاء فيها. وبهذا تكون قد عبّرت عن مظاهر الوجود في إيجاده. ولا يعني ذلك إهمال انتمائها العميق للمطلق، أو فقدانها لوجدانية الاندماج والتعبير. على العكس! إنها نظرت إلى هذه القضايا كأجزاء في وحدة الدقة الظاهرية، التي يفترضها منطق العقل في رؤيته للظواهر. وهو ما يبرز بجلاء في وطأة العقل النظري لمدارس الإسلام وفرقه الكلامية والفلسفية والفقهية.

إن لهذه الوطأة العقلية أسسها الروحية أيضاً. وهو ما يقابله في عالم الإيمان من معتقدات وإفرازها في خلجات الضمير. وفي هذا التواجد الحي لوطأة العقل والضمير تتبلور وتتداخل وتتصادم وتتناقض عناصر العلم والعمل. وفي مجرى ذلك تتكون شخصية المفكر وتجربته الفردية، أي أنها تعكس في صيرورتها طبيعة التداخل والتحول بين مكونات المعرفة الثقافية والعلم الأخلاقي، باعتبارها المكونات الجوهرية في ثقافة الإسلام آنذاك. إذ لم تتعد تجربة المفكرين في مكوناتها الأساسية حدود المعالم الأساسية التي افترضتها ثقافة الإسلام الواحدية. ولكنها أبدعت ضمن هذه الحدود كل ما تراه ضرورياً، أو أنها على الأقل فسحت المجال أمام تثوير ذاتها لأنها لم تحصر ذاتها في ذاتها، بل في طوفانها بين واجب الوجود والوجود، وبين الأول والآخر، وبين الأزل والأبد، وبين الحلال والحرام، وبين المباح وغير المباح، أي أنها حصرت ذاتها الواعية في قيم مبادئها الكبرى.

حقيقة إن هذا الحصر لم يكن فعلاً إرادياً خالصا بقدر ما أنه ارتبط وتحدد بالصيغة التي نشأ بها إسلام الخلافة وسلطته. ومع ذلك لم يكن الأساس المادي لصرحها السياسي الدولي حاسماً في يوم ما على كمّ أفواه الفكر بلجام قوته. لقد أعطى للفكر حوافز استقلاله النسبي، وقيّده في الوقت نفسه بمتطلبات التطور والتغير. وقد استجاب كل علم في إطار حدوده إلى هذه التحولات على أنها قدره الخاص. واشتركت جميعها في الوقت نفسه بعدم تجاوز ذاتها، أو أنها لم تضع أمام نفسها مهمة اختراق ذاتها، لأنها لم تجد في ذلك أسلوب تعميق معناها. وقد كمنت في ذلك عناصر الإبداع والتقليد.

ففي الوقت الذي أسست فيه لإعادة إنتاج ما هو قائم على أنه مثال حي بفعل حصرها قيمة الوجود فيما بدا لها مطلقاً في "شريعتها"، فإنها أدت أيضاً كنتيجة لهذا الحصر إلى اختمار الروح الدائم. وقد جعلها ذلك ضيقة من وجهة نظر التاريخ السياسي والدولتي والعسكري والحرفي (العلمي والصناعي)، ولانهائية في الوقت نفسه من وجهة نظر التاريخ الروحي والمعنوي. فما كان يقلقها ليس كمية المعارف ومداها بل القيمة والمعنى. لهذا أبدعت فكرة الارتباط ووضعتها في جوهر مساعيها. وبما أن الارتباط هو إما علم أو عمل، فإن الثقافة الظاهرية حاولت تجسيده في العلم (المنطق) والكلمة والبرهان، بينما جسدته ثقافة الباطن في العمل (الأخلاق ومساعي الروح).

وقد كان ذلك خلقاً دائماً لحدود الحرية، التي تكتنز في أعماقها ثروة الرزانة والسكينة، بفعل شعورية انتمائها للمطلق، وفورانها وتمردها بفعل وجدانيتها المتحسسة للعدل والظلم. وقد استمدت تجارب المفكرين، بما في ذلك عند الغزالي، حدودها من حدود الثقافة الإسلامية ذاتها. إنها تحسست وأدركت وتذوقت حقيقة التحرر باعتباره قيوداً إضافية. لهذا فإن مطالبتها بالمزيد كان لابد وأن يؤدي إما إلى استثارة القناعة المفرطة بتقليديتها، وإما إلى شكوك المعرفة الحية، وإما إلى يقين الذوق الفردي. واحتوت هذه الاتجاهات الكبرى على نماذج لا تحصى، أو بصورة أدق على عدد أصحابها. وإذا كانت الثقافة الإسلامية في ممهدات تكونها أكثر اقتراباً من أرضية الوجود التاريخي الفعلي، فليس لكونها استندت إلى ما هو "عقلي" في قرآنها وسنّتها، بل لكونها نشأت كتلقائية صارمة في استجابتها لوحدانيتها. وقد أعطى ذلك لها إمكانية الشكر الدائم لنِعَم أفعالها، أو التوبة لذنوبها، أو الاستغفار لأخطائها.

إنها قيّدت مساعيها بالطريقة التي جعلت من ارتباطاتها بمطلقها الروحي وشريعتها المتغيرة الأسلوب الواقعي لتعديل مسارها المقيد في دروب الحرية. ومن هنا استمرارها الرصين وابتعادها عن مغامرات النفس. وقد كانت هذه القيود العامة في واقعيتها شبيهة بسواحل البحر، أي أنها تمتلك قيمة الثبات وعروة النجاة ومعنى الأمان والاطمئنان فقط في حالة محاذاتها لأمواجه! وبالتالي لا تمتلك حدّها وحقيقتها وجمالها وجلالها بمعزل عنها. إنها أبقت في محيطها كل المكونات الضرورية للحياة وصخبها المخيف وأعطت لكل ذلك معناه الهادئ بفعل نجاحها في تحويل مغامرات الجسد إلى عالم الروح. بينما سلك كل مفكر بطريقته الخاصة هذه المغامرة الثقافية للجسد. لهذا كان لابد له من أن يصطدم بالضرورة بثنائية العلم والعمل في مستوياتها العديدة، أما بمستواها العقلي (العلم والعقل) أو الوجودي (المادي الروحي) أو الأخلاقي، أو بهم جميعاً كما هو الحال عند الغزالي.

إن التحول العميق في مخاض وحدة العلم والعمل لم يشترط بالضرورة مروره بهذه الثلاثية، أو على الأقل أنه لا يفترض وجودها كسلسلة لابد منها. وإذا كانت هذه السلسلة قد ميزت انقلاب الغزالي إلى عالم التصوف، فلأنها تطابقت في واقعيتها مع مراحل تطوره العقلي في عوالم الفقه والكلام والفلسفة. فهي التجربة التي كشفت في مجراها عن محدودية العقل اللاهوتي والفلسفي، وأفرزت في الوقت نفسه قيمة الغائب الأخلاقي الروحي. لهذا شدد لاحقاً على مبدأ ضرورة أن يبني المرء أحكامه على ما يعلم لا على ما يجهل. ولم يعن هذا المبدأ أسلوباً لمنهجية المحاجة العقلية، بل وتعبيراً عن ضرورة وضع الحدود الصارمة للعلاقة بين الأحكام المبنية على المعرفة الذوقية بالأمور وبين تلك التي تضع في أساس حكمها التقييمي جهلها بها.

لقد كان هذا المبدأ حصيلة المعرفة العيانية بالجدل الفكري وأحكامه الجازمة والجائرة، التي عادة ما كانت تبني تصوراتها على ما تجهله حقيقة. لهذا شدد على رفض السلوك الذي يجعل من الغائب وغير الموجود أساسا للحكم ومقولاته. وإذا كان يسعى من وراء ذلك للبرهنة على أهمية الذوق الصوفي، فإنه كان لابد له في مواجهة إمكانية القبول والرفض من أن تبنيها على أساس خاص بها، هو أساس المعرفة المستندة إلى المعلوم والموجود لا إلى الغائب والمجهول.

وفيما لو حاولنا تطبيق هذه الصيغة على شخصية الغزالي ووعيه العملي، أي على تلك العناصر التي ترتبت بأثر نموه الفكري في مجرى وصراعات الفرق الإسلامية ومذاهبها وانكسارها في التجربة العملية، فإن الفقه احتل موقع الميدان الأكثر سعة وحساسية، ليس فقط في تقييد الفكر المجرد وإجباره على التقولب ضمن إطار الأحكام الصارمة بل وفي ذلك القدر الضئيل من حرية الروح الأخلاقي، الذي يعاني من وطأة "الإستقامة الحقوقية". فالآلية الداخلية للفقه الإسلامي، التي تمثلت في مجرى تطورها نتاج الثقافة القائمة عانت في حالات عديدة من "تخمة" الإفراط المعلوماتي، مما جعله كلي القدرة قاسي القلب. فقد أتقن الفقه حنكة المراوغة للدرجة التي استطاع بها قهر كثرة من عمالقة الفكر الإسلامي أمام محاكم السلطة، واستفحلت فيه نتيجة لذلك غريزة الانتقام وداء التشفي ومكر الذات المخدوع. وعمق ذلك فيه نزعات السيطرة وادعاء الشمولية واحتكار الحقيقة، التي أفقدته مع مرور الزمن صفاته العملية الأولية المميزة لمبادئه وبداياته، أي كل ما كان يتطابق في الوعي الأخلاقي مع الورع والتواضع والصلاح والإصلاح والمبدئية والحقيقة. ولعل تجربة الغزالي الفقهية هي أحد النماذج النادرة في الثقافة الإسلامية التي حاولت أن تضع حداً لتبجّح الفقه المعرفي (المعلوماتي) من خلال كشف محدودية وظيفته وسطحية حقيقته، وضيق مضمونه وصخب طنينه، وعابرية أحكامه وقوة أوهامه. فهو من بين الفقهاء الأكثر رفعة. وهو الذي تمرّس في تمارين الفقه للدرجة التي لم يتجرأ أي من معاصريه على مواجهته وجهاً لوجه، بل وتجاوز ذلك الحد الذي كسر بها نفسه بنفسه. وإذا كانت هذه النتيجة قد استثارت حفيظة البعض وتعظيم البعض الآخر، فإنها لم تعط مع ذلك لمشاعر الاتهام الخفية إمكانية القول عنه بأن علمه كان أكثر من عقله، أو أن عقله أكثر من علمه1 .

فالغزالي لم يعانِ من تناقض زيادة أو نقصان العلم والعقل وتناسبهما فيه وعنده. وهو ليس من الشخصيات التي كان بإمكان المؤرخين المسلمين أن يطلقوا عليه، كما تجرءوا بالقول على ابن المقفع (ت- 141 للهجرة)، وابن الريوندي (ت-245-250 للهجرة) وفيما بعد السهروردي المقتول (ت- 586  للهجرة) وغيرهم من أن علومهم أكثر من عقولهم2، أو على الفراهيدي (ت- 170 للهجرة) من أن عقله أكثر من علمه.

إن علوم الغزالي لم تكن أكثر من عقله ولا عقله أكثر من علومه. وقد أظهر ذلك أيضاً في إدراكه الدقيق لهذه العلاقة المتناقضة والضرورية في الوقت نفسه في الوعي والممارسة، مازالت هي القوة الفعلية وراء تطور الذات المفكرة. فتطوره الفكري الروحي ما قبل التصوف هو مثال الحركية الدائمة لزيادة ونقصان العقل والعلم في تناسبهما. وفي مرحلته الصوفية فقط وعى خطورة هذه العلاقة ليس بوصفها قضية فكرية، بل وعملية أخلاقية. لهذا نراه يشدد لاحقا في (نصيحة الملوك)  على أن "الإنسان إذا كان عالماً ولم يكن له عقل سقط جاهه ومرتبته"3. ولم يكن حكمه هذا نابعاً من معاينة ودراسة تجربة الصراعات الفكرية على مثال شخصياتها، بل وأساساً في إعادة تقيم تجربته الشخصية العملية، وخصوصاً في ميدان الفقه.

إن معادلة نقصان وزيادة العقل على العلم والعكس، التي أبدعها الخيال الأدبي في بادئ الأمر، لتتخذ في مواقف الكلام صيغة الاتهام العقائدي، تحولت في أيدي الفقهاء إلى وسيلة قمع "المتهورين" وتبرير النفس. فقد كان الفقهاء في العلم فحولاً لكنهم صغار العقول. لهذا تحسسوا قوة الاتهام الفعالة لمعارضيهم في فكرة زيادة العلم على العقل، وبالتالي إبراز أنفسهم كممثلين حقيقيين لوحدة العلم والعقل. ولم تكن هذه المفارقة الحصيلة الضرورية للفقه، بقدر ما أنها كانت النتاج الطبيعي للتناقضات القائمة في البحث الدائم عن الحقيقة، أي تلك الصراعات الناشئة في مرحلة انحطاط القيم وتضخم المعارف، التي وجدت تعبيرها وتجليها الحاد في تناقض العقل والأخلاق.

فقد وقف الغزالي أمام هذه المفارقة الدائمة المميزة للوجود الإنساني ما لم يبلغ درجة وحدة الحقيقة وحقيقة الوحدة. فالعقل يمكنه أن يكون كونياً، ويمكنه أن يتصور ذاته أو يتضاءل أمام بصيرته، أما في مساعيه وحركته وقوة إبداعه وفي فضائله أو رذائله الطبيعية والاصطناعية، فإنه لا يعاني إلا من عزلته في الصراع مع النفس. وقد وقف الغزالي أمام هذه المفارقة محاولاً إدراك رموزها العامة وحل معضلاتها الخاصة. وإذا كان ذلك مرتبطاً في جانبه الفكري بتجربته النظرية في علوم الكلام والفلسفة، وجانبها السياسي الأخلاقي في صراعه مع الباطنية التعليمية، فإن حساسيتها الأخلاقية الروحية تبلورت أساسا في دهاليز الفقه العقلاني ومكره العملي.

***

ا. د. ميثم الجنابي

....................

1- لهذه الفكرة تقاليدها. وقد بنيت في شقيها على رد فعل الصراعات الفكرية. كما كانت تحتوي على وحدة المتناقضات في الوعي التقييمي. فابن النديم يورد، على سبيل المثال، الكلمات التي قيلت عن أولئك الذين زادت عقولهم على علومهم. وأولئك الذين زادت علومهم على عقولهم. واحتوت هذه المقارنة المفارقة على فكرة عميقة من حيث تحديدها للعلاقة بين العقل والمعرفة بمختلف اصنافها. كما تتضمن هذه العبارة على معنى سبق وإن ابدعته الثقافة الإغريقية الفلسفية عن "أن كثرة العلوم (المعارف) لا تصنع عقلا". غير إن عبارة "علمه أكثر من  عقله" كانت تتضمن في الأغلب إشارة إلى التهور العقلي والجرأة المتشددة. أما الصيغة المعاكسة فقد كانت تحتوي على صيغة الاحترام الظاهري المشبوب بقلق داخلي، والذي لا يخلو بدوره من صدق الانتفاض المبطن. غير إن هذا التقييم بصنفيه اتخذ في تقاليد الصراع والاحتراب الفكري والعقائدي طابعا آخر اتسم في أغلبه بالتكفير والتجريم والاتهام والتبديع وما شابه ذلك، كما كان الحال في الموقف من ابن الريوندي والسهروردي المقتول وغيرهم.   

2- إن لهذا الاتهام أو التقييم لكل من هؤلاء الثلاثة (ابن المقفع وابن الريوندي والسهروردي المقتول) مقدماته الفكرية والسياسية ومضمونه الخاص في ظروف كل منهم. بمعنى إن لكل ترديد لعبارة "إن علمه أكثر من عقله" قيمتها ومضمونها ووظيفتها الخاصة. ففي حالة ابن المقفع لم يكن ذلك معزولا عن الصراعات السياسية والثقافية الضيقة، بينما كان الأمر أكثر تعقيدا في حالة ابن الريوندي بسبب تعّقد وتوّسع وتعمّق كل من العلم والعقل الإسلاميين في ميادينهما المختلفة، وبالأخص في ميدان صراع المذاهب والفِرق الكلامية. فالتقييم أو الاتهام المذكور والمنسوب إلى ابي القاسم البلخي (ت- 317 للهجرة) والذي سيدخل تيار الأحكام القاسية للاعتزال كما هو جلي في كتاب (الانتصار) لابي الحسين الخياط. ففيه نعثر على نقد "تهور" ابن الريوندي و"فظاعة" عقله الجدلي. ولم يكن هذا النقد اعتباطا في الفكر المعتزلي. فقد دافع المعتزلة عن العقل واعتبروا أنفسهم القوة الرائدة في هذا المجال. وبالتالي اعتبروا معارضة أحكامهم العقلية واستنتاجاتهم في أفضل الأحوال خروج على العقل. غير أن ما لم يكن بإمكانهم الاقرار به ذهنيا لم يستطيعوا تطبيقه عمليا، أي انهم فسحوا المجال بمواقفهم هذه "لاقتراف الذنوب العقلية" كما هو الحال في موقفهم من ابن الريوندي. إذ لم يكتفوا بذلك بل ونظروا إلى خاتمة حياته البائسة بنفسية التشفي كما هو جلي في مخاطبة الخياط له بعبارة "فهذا مذهبك وهو قولك القائل بقدم العالم والزمان والاستهزاء بالأديان والأنبياء. ومن اجله نفتك المعتزلة وطردتك من مجالسها وباعدتك عن انفسها حتى حملك الغيظ عليها على ان صرت تنبح كالكلب بإزائها وتكذب على أشياخها. وما ضررت بذلك غير نفسك"(الخياط: كتاب الانتصار، بيروت، 1957، ص123). أما في الواقع فإن لهذه الظاهرة مفارقاتها الخاصة، وفي كلّها شكلت المادة الغنية لثقافة الغزالي الفكرية وحساسيتها الأخلاقية اللاحقة (بعد انتقاله إلى التصوف) في موقفه من الجدل. 

3- الغزالي: التبرك المسبوك في نصيحة الملوك، القاهرة، 1900، ص119.

 

 

في المثقف اليوم