دراسات وبحوث

الغزالي ونقد "علماء السوء" (1-2)

ميثم الجنابي"أنّى تتجلى أسرار الملكوت لقوم إلههم هواهم،

ومعبودهم سلاطينهم، وقبلتهم دراهمهم ودنانيرهم"

(الغزالي)

 الإهداء إلى  الدكتور مارفن الزايد، صديق الروح ومثقف الإخلاص التام للحق والحقيقة.

 قد يبدو من السهل اعتبار "علماء السوء" ممن يتصف بأنصاف المعرفة و"كمال" السوء، إلا أن هذه التقييمات الصارمة سرعان ما تفقد طابعها الجزمي أمام المقارنة الحية بين العلم والعمل، والفضيلة والرذيلة في ثقافات الأمم وتاريخها. وذلك لآن "علماء السوء" شأن كل وحدة متناقضة في تقييمها أو تعميم عام يوّحد في ذاته اعتبارات الفضيلة والرذيلة، كان يستند إلى تراث متعدد الجوانب. وفي حالة الإسلام، فإن فضيلة العلم كانت منذ بداية الأمر وثيقة الارتباط باتجاهه الأخلاقي. إذ ليس العلم الإسلامي الأول سوى علم الدين، أي فقهه. وقد افترض ذلك في أجنته غزل خيوط الوحدة الخفية بين العلم والعمل. حقيقة إن هذه الوحدة لم تكن ملزمة للجميع، أو بصورة أدق إنه ما كان بإمكانها أن تبتدع نفس العناصر الموحدة عند كل من أحترف العلم والعلوم، وذلك بسبب تباين قضاياها وأساليبها ومناهجها. وإن هذا التباين الضروري يتصف بطابعه النسبي الحيوي لاختصاصات العلوم وليس في غاياتها النهائية. وليس هناك تيارا في الثقافة الاسلامية من أدرك هذه الأهمية البالغة لوحدة العلوم في غاياتها النهائية أكثر وأعمق من المتصوقة. وها بدوره نتاج الالتقاء المحتوم في الفكرة الصوفية وطرقها بميدان الحقيقة. فالتصوف من حيث الجوهر هو فلسفة الحق والحقيقة. وتحتوي هذه الحالة على ما هو ملازم للحقيقة نفسها. وذلك لأن حقائق العلوم تكشف في نهاية المطاف عن وحدتها. وإذا كانت هذه الوحدة في عرف التصوف هي الحق، فإن الاتصاف به يعني تمثل حقائقه. وقد كان هذا إنجازاً عميقاً ومميزاً للروح الباحث عن معالم الوحدة الضرورية بين العلم والعمل. لهذا نظر التصوف إلى انحراف العلم عن العمل، أو ابتعاده أو مخالفته أو مجافاة ما يلزم بالعمل بنتائجه على انه رذيلة تامة!

إن هذه المفارقة التي تصنعها الحضارة، باعتبارها أيضاً أسلوب تناقضاتها الدائمة، هي الميدان الأكبر لتعميق فضائل الروح الأخلاقي. من هنا وجودها الدائم ونفيها الدائم. فبالقدر الذي يبذل العلم قواه من أجل تلافي تصدع العقل النظري، فإن الضمير يبذل روحه من أجل تلافي تصدع العقل العملي. وقد واجه الغزالي مكونات هذه المفارقة لا على أنها أجزاء من ثقافة الإسلام وتقاليده الواقعية والمثالية فحسب، بل وعلى أساس تجربته العملية نفسها. إذ لا نعثر عنده على انشغال جاد بهذه القضايا إلا في مراحل انكساره الروحي، أي منذ (ميزان العمل). إذ يظهر هنا للمرة الأولى قلق العقل النظري حول قضايا العقل العملي، واهتمام العقل العملي بإرشادات العقل النظري.

فهو يتناول "علماء السوء" في انتقاداته اللاذعة للمرة الأولى في (إحياء علوم الدين)، بينما يردد في (الإملاء على مشكل الإحياء) باختصار مكثف ما بثّه في (الإحياء). فالعلماء الذين صورت ثقافة الإسلام وتقاليده الورعة إياهم، باعتبارهم "ورثة الأنبياء" والعلم النبوي و"أدلة الطريق"، أصبحوا جزءاً من نسيج الذاكرة المثالية، أي كما لو أنهم تحولوا إلى كيان بائد لا يمكن العثور إلا على صداه.

إن هذه النظرة القاسية في مظهرها تعبّر عن تجربة الغزالي الشخصية والمصاغة في لهيب التجربة الصوفية. فقد ارتبط نقدها "لعلماء السوء" بمقدمات معرفية وأخلاقية وبأسباب اجتماعية وسياسية. غير أن وقوفها ما وراء طور المصالح المباشرة واحتراب القوى السياسية، بفعل سلوك الطريق وفلسفته الخاصة، جعلها تركز على الجانب المعرفي الأخلاقي. وبهذا تكون قد استوعبت وصهرت في بوتقة تقييمها العملي ما سبق لتقاليد الورع الإسلامي وأن تتبعته على مثال عمل العلماء. لهذا اقتربت تقاليد الورع الإسلامي الأولى في انتقاداتها "لعلماء السوء" مع مثيلتها الصوفية، أو أنهما التقيا في عمق انكماش قلوبهم تجاه رذائل العلم والعلماء في كل من خضوعهم للسلطان (السلطة) واضمحلال الورع مع المعرفة. وليس مصادفة أن تجعل المتصوفة أفعال الحسن البصري وأقواله التعبير الأول عن تحسسها الأخلاقي في زهدها وورعها. فعندما يفرد أبو طالب المكي في (قوت القلوب) فصلاً خاصاً عن التفاضل بين ما أسماه "بعلماء الدنيا وعلماء الآخرة"، فإنه يضع الحسن البصري في مصاف الأستاذ الحق لعلماء الباطن والأحوال. فقد كان الحسن البصري يؤكد، كما يقول ابو طالب المكي (ت386 للهجرة)، على "أن السفهاء همّتهم الرواية، في حين أن العلماء همّتهم الرعاية"[1].  وهي الفكرة التي سيضعها رواد التصوف في صلب زهدهم العملي وأحكامهم الذوقية وتأملاتهم "النظرية. فإذا كان الفضيل بن عياض (ت-187 للهجرة) قد صنّف العلماء إلى عالم دنيا وعالم آخرة، وأن الأول علمه منشور والثاني علمه مستور، فإن تدقيقات عوالم علماء الآخرة الباطنية والظاهرية عند المحاسبي في كتابه (الرعاية لحقوق الله) قد توّجت في وحدتها المتعمقة في أذواق العقل العملي. في حين أجاب الجنيد على سؤال وجّه له:

ــ يا أبا القاسم يكون لسان بلا قلب؟

ــ كثير!

ــ فيكون قلب بلا لسان؟

ــ نعم قد يكون. ولكن لسان بلا قلب بلاء وقلب بلا لسان نعمة[2].

بينما سبق لسهل التستري (ت-283 للهجرة) أن قسّم العلماء إلى عالم بالله، وعالم لله، وعالم بحكم الله. فالأول هو العارف الموقن، والثاني هو العالم بعلم الإخلاص والأحوال والمعاملات، والثالث هو العالم بتفصيل الحلال والحرام[3]. وفي موضع آخر قسّم العلماء إلى عالم بالله لا بأمر الله ولا بأيام الله وهم المؤمنون، وعالم بأمر الله لا بأيام الله وهم المفتون في الحلال والحرام، وعالم بالله وبأيام الله وهم الصديقون[4]. والمقصود بأيام الله حسب آراء التستري هو نعمته الباطنة وعقوباته الغامضة. وعندما يعطي لمقارناته بين العلماء صيغتها "النهائية"، فإنه يسلسلها بالشكل التالي: الناس كلهم موتى إلا العلماء، والعلماء نيام إلا الخائفين، والخائفون منقطعون إلا المحبين، والمحبون أحياء شهداء[5]. وهي الدرجة القصوى في تطور الصوفي، بوصفه تحقيقا لوحدة العلم والعمل. واستند أبو طالب المكي إلى حصيلة الفكر الصوفي في وضع مقارناته البيانية بين علماء الدنيا وعلماء الآخرة[6].

ذلك يعني بأن لمواقف الغزالي النقدية تقاليدها العريقة في الفكر الصوفي، أي أن انتقاده استند إلى ما جمّعته "ثقافة الإخلاص". غير أنه استمد مادته من حيث مضمونها وغاياتها العملية المباشرة من واقع القرن السادس الهجري ومعالم انهيار الخلافة السياسي والروحي، وطبيعة تجربته المعرفية الشخصية. فعندما واجه "علماء السوء"، فإن انتقاداته اللاذعة إياهم لم تكن نفياً ذاتياً لممارسته بقدر ما أنها كانت من حيث موضوعيتها إعادة نظر أخلاقية بالفكر السالف، وإعادة نظر نقدية بالموقع الأخلاقي للنظم الفكرية، وعلاقة الحقيقة بالسلطة. وعبّر عن موقفه هذا في ما كان يدعوه تهكماً بعبارة "المترسمين بالعلم"، أي أولئك "الذين استحوذ على أكثرهم الشيطان، وأغواهم الطغيان، وأصبح كل واحد يعاجل حظه مشغوفاً. فصار يرى المعروف منكراً والمنكر معروفاً حتى ظل علم الدين منهم مندرساً. ولقد خيلوا إلى الخلق أن لا علم إلا فتوى حكومة تستعين به القضاة على فصل الخصام عند تهاوش الطغام، أو جدل يتدرع به طالب المباهاة إلى الغلبة والإفحام، أو سجع مزخرف"[7]. وسوف يرتقي بهذه النزعة النقدية بعد صياغة مبادئها العامة إلى مستوى المواجهة، التي وضعته أمام معضلات المعرفة الفاقدة لروح الأخلاق وجهل الروح. ولم يستغرب الغزالي هذه الظاهرة وذلك بفعل رؤيته لواقع انتشار وسيادة من أسماهم بأهل الزور والفسوق، المتشبثين بالدعاوى الكاذبة والمتصفين بالحكايات الموضوعة، المترنمين بصفات منمقة والمتظاهرين بظواهر من العلم فاسدة، والمتعاطين لحجج غير صادقة. كل ذلك طلبا للجاه أو محبة الثناء.

إن مرور الغزالي بدهاليز "العلم السيء" قد أعطى له إمكانية تحديد هوية الوجود الشخصي في حدّه وحقيقته. وفي الوقت نفسه عمّق حساسية الرؤية النقدية. فالأخيرة لم تعد من ردود الفعل الإرادية ولا من انعكاسات التأمل البارد، بل من وهج التقييم الذوقي، الذي يرى كمال العالم في وجوده بما في ذلك نواقصه. ولكن إذا كانت النواقص فنوناً وأصنافاً، فإن كسادها في العلم هو تعجرف علمائه، أي كل ما يعطي لجهلهم قوته الهجومية ولرذيلتهم طعم الانتقام. لهذا رد عليهم في (فيصل التفرقة) بقوة شديدة، عندما تعرض إلى من حاول تكفيره والتشهير به. ومع ذلك لم يجعل من هذه الظاهرة مسألة شخصية ولا أن يحصرها في إطار الرد والانتقام، بل ليظهر من خلالها بديل التكفير وافتقاد معلنيه لأخلاقية القول والعمل به. لهذا شدد على أن "حق القول به يعطى لأولئك الذين انجلت قلوبهم من الدنس وتطهرت عن وسخ أضرار الدنيا، أولئك الذين ارتقوا بفعل الرياضة والذكر والفكر والتمسك بحدود الشرع إلى المراتب التي تفيض عليها فيها أنوار مشكاة النبوة". وإلا فكيف "يتجلى إسرار الملكوت لقوم إلههم هواهم، ومعبودهم سلاطينهم، وقبلتهم دراهمهم ودنانيرهم، وعبادتهم خدمة أغنيائهم، وذِكرهم وساوسهم، وفكرهم استنباط الحيل لما تقتضيه حشمتهم. فهؤلاء من أين تتميز لهم ظلمة الكفر من نور الإيمان؟ بإلهام إلهي ولم يفرغوا القلوب عن كدورات الدنيا لقبولها؟ أم بكمال علمي وإنما بضاعتهم في العلم مسألة النجاسة وماء الزعفران؟"[8]. وسوف يدفع هذا الانتقاد إلى إحدى درجاته القصوى عندما شدد في (الإملاء على مشكل الإحياء) على أنه "لا برّ يجمعهم بل اجتمعوا على الكفر. وأن قلوبهم تصفو على الخديعة والمكر". فهم "الجهال في علمهم، الفقراء في طولهم، البخلاء من الله بأنفسهم. لا يفلحون ولا ينجح تابعهم. لذلك لا تظهر عليهم مواريث الصدق، ولا تسطع حولهم أنوار الولاية، ولا تخفق لديهم أعلام المعرفة، ولا يستر عوراتهم لباس الخشية لأنهم لم ينالوا أحوال النقباء ومراتب النجباء وخصوصية البدلاء وكرامة الأوتاد وفوائد الأقطاب"[9]. وحالما قسّم العلماء إلى الحجة والحجاج والمحجوج (توالياً)، فإنه جعل من الصنف الأخير نموذجاً لعلماء عصره. فالمحجوج هو العالم الذي يضع نفسه في وسيلة وغاية مقالاته وبراهينه. بمعنى أن باعثه المحرك ليس العلم والحقيقة بل العلو والجاه. فهو يبدو كأحد الخدم في لباس العلماء. إضافة لذلك إنه مفتون بعلمه مغتر بمعرفته مخذول بنصرته. أما فخره فبلقاء أميره وصلة سلطانه وطاعة القاضي والوزير والحاجب"[10]. فهو شبيه بمن أهلك نفسه لأنه لا ينتفع بعلمه. وإذا أعطي رضى بالعطية ومدح، وإن منع منها شتم وذم وعربد[11]. وعندما التفت الغزالي إلى ما هو حوله من علماء عصره، فإنه لم يجد سوى "أهل سخافة ودعوى وحماقة واجتراء وعجب بغير فضيلة ورياء يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"[12]. وربط هذه النتائج المزرية لحالة العلماء المعاصرين له بالجهل بالنفس. فهو المبدأ الروحي الضروري للذات المفكرة الحقيقية. إذ لا يمكن بلوغ حقيقة السعادة والحقيقة، حسب نظره، خارج وعي الذات أو بمعزل عنها. فهي مقدمة إدراك حقيقة الحق. آنذاك فقط سيكون بإمكانه معرفة علة أهل الباطل ودواء أهل الضعف وأهل القوة معاً. وإن غياب هذه المعرفة هو السرّ القائم وراء احتجاب "علماء السوء" بالجهل وسخافاته، والإصرار وتهاونه، ومحبة الدنيا وتطويل الغفلة، وإظهار الدعوى وكبرها ورياءها[13]، أي كل حالة الزيف الديني (الأخلاقي) التي أفرد لها مقاطع واسعة في كتاباته من أجل إماطة اللثام عن واقعيته وفاعليته وصوره في ظاهر علماء السوء وباطنهم، أي كل ما شكل في حصيلته النتاج الملازم لانفصام وحدة العلم والعمل.

إن الصورة الباهتة الفاقعة التي يقدمها الغزالي عن "علماء السوء" تظهر بكامل صورتها المضحكة المبكية على خلفية أولئك الذين إذا ما حدّثوا صدقوا، أي أولئك الذين ظنهم كيقين إن هموا حدسوا! مما دفعه إلى تصوير تجلياتها الممكنة على أنها نتاج لابد منه لإظهار ازدواجية "علماء السوء" وفراغهم الروحي. فعندما يتطرق إلى آفة الرياء، فإنه يفرق بين ما يدعوه بالرياء في الأعمال التي هي ليست من الطاعات، وأعمال الرياء بالطاعات، بحيث يضع الرياء الأول في حالة أهون من الثانية. ولم يقصد الغزالي بذلك سوى الكشف عن واقع الرياء الديني السائد وسط العلماء أولاً وبين البسطاء ثانياً. وتتبع مظاهر الرياء ودقائقه في أوساط "علماء السوء" في مظاهرهم وبواطنهم. ففي مظاهرهم يتصنّع واحدهم "الخمول والصفار ليوهم بذلك شدة الاجتهاد وعظم الحزن على أمر الدين، وغلبة الخوف من الآخرة، وليدل بالخمول على قلة الأكل وبالصفار على سهر الليل وكثرة الاجتهاد وعظم الحزن على الدين"[14]. ولا يقف أحدهم عند هذا الحد، بل يتعداه إلى الظهور متشعث الشعر ليدل به على استغراق الهمّ ويتصنع "خفض الصوت وإغارة العينين وذبول الشفتين ليستدل بذلك على أنه مواظب على الصوم، وأن وقار الشرع هو الذي خفّض صوته"[15]. ويجهد أحدهم نفسه في أن "يحلق الشارب ويطرق الرأس في المشية والهدوء في الحركة وإبقاء أثر السجود على الوجه وغلظ الثياب ولبس الصوف وتشميرها إلى قريب من الساق وتقصير الأكمام وترك تنظيف الثوب وتركه مخرقاً. ومن ذلك لبس المرقعة والصلاة على السجادة ولبس الثياب الزرق تشبهاً بالصوفية مع الإفلاس عن حقائق التصوف في الباطن"[16]. وفي مجال القول، فإن رياءهم يظهر في "الوعظ والتذكير والنطق بالحكمة وحفظ الأخبار والآثار لأجل الاستعمال في المحاورة وإظهاراً لغزارة العلم ودلالة على شدة العناية بأحوال السلف الصالحين، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمشهد الخلق، وإظهار الغضب للمنكرات وإظهار الأسف على مقارفة الناس للمعاصي، وتضعيف الصوت في الكلام وترقيق الصوت بقراءة القرآن ليدل بذلك على الخوف والحزن"[17]. ولا يقف الرياء الديني عند حدود الكيان المادي للإنسان ومظاهره الاجتماعية، بل وفي مظاهر العبادة، مثل الظهور بمظهر من يطيل القيام ويمد الظهر ويطيل السجود والركوع وإطراق الرأس وترك الالتفات وإظهار الهدوء وتسوية القدمين واليدين وكذلك بالصوم والغزو والحج والصدقة وغيرها[18]. ويقدم الغزالي كثرة من الأمثلة الواقعية، التي تكشف عن تهكمه العميق وانتقاده المرير لمظاهر الرياء الديني السائد، حيث يبرهن فيه على أنه حالما يتحول الرياء الديني إلى أسلوب الممارسة الواقعية والمثالية المزيفة، فإنه لابد وأن يودي إلى تكليس الوجود الأخلاقي وذلك لأنه لا يضع في اعتباراته سوى الأخذ بمظاهر الوجود العابرة. بمعنى أنه يتعامل مع مثل الأخلاق وعالمها الباطني بمفاهيم ومعايير وقيم الظاهر، مما يؤدي بدوره إلى استيطان قيم الظاهر المزينة بحراشف المغامرة  الغبية للمصالح. مما يؤدي في نهايته إلى تهميش المعنى وتهشيم الحقيقة بتحويل كل ما هو ضروري إلى مفتعل، وكل ما هو مفتعل إلى ضروري.

ولم يقف في انتقاداته الشاملة للزيف بشكل عام وزيف "علماء السوء" بشكل خاص، أي أولئك الذين همهم خدمة السلطان (السلطة) والمناصب، بل وتعداه إلى كافة ممثلي النخبة المفكرة، بما في ذلك متصوفة زمانه. غير أن انتقاداته للمتصوفة تستمد مقوماتها من تقاليد التصوف ذاته في علمه وعمله، أي في إرثه الفكري وفي طريقته نفسها على أساس نقد النفس (المحاسبة والمراقبة الذاتية). إذ من الصعب العثور على شيخ صوفي لم تلازم أقواله وأحواله انتقادات لاذعة لمتصوفة عصره. بصيغة أخرى، إن لهذه الظاهرة جذورها المعرفية والعملية، وبالتالي لها مبادئها الأساسية وتراثها التجريبي.

فالمتصوفة هم الذين وضعوا في ثقافة الإسلام مهمة السمو الروحي للإنسان باعتباره غاية وهدف وجوده الذاتي. وهم الذين وضعوا مهمة الحركة المستمرة في عالم الروح نحو المطلق. وليست هذه الحركة سوى المراقبة الداخلية للنفس وتأديبها المستمر بما يتطابق مع الفكرة المثال للمطلق الصوفي، أي الفكرة التي تعمّق في ذاتها وتتعمق بدورها مع سيره في قطع "منازل السائرين ومقامات الموحدين"، أو هو نفسه مساره في الطريق الذي يوصله إلى حالة تحول جدل العالم وصراعاته إلى أجزاء من صوته الداخلي. فهو يسأل ويجيب، وينتقد ويؤنب، أي كل تلك المتناقضات الحياتية الممكنة التي يتطور فيها الصوفي، باعتبارها أسلوب صيرورة كيانه الروحي وواضعة لبنات صرحه وجوده الفردي. فهو لا يقف عند حد لأن هدفه المطلق. وبغض النظر عن إدراكه لمحدودية وجوده المادي، فإنه يتحسسه في الوقت نفسه على أنه شعاع يستحق التنوير، أي أنه يبقي للموت قيمة الوجود الحق باعتباره بداية الملكوت. فالمراقبة الدائمة للنفس تفعل فعلها في تمحور الذات الصوفية حول المطلق و«أوساطه "من خلال تسوية الإرادة في مساعيها الواقعية للاستغراق في عالم الكمال والمثال". وهي الممارسة التي ترمي بكل ما هو ثانوي وعابر في رحى التلاشي على أنها ضرورة. كما أنها الممارسة التي تقوِّم تعرجات الحياة بالإبقاء على الحياة كقيمة أخلاقية من خلال ربطها بالمطلق، تماماً كما فعل النبي محمد مرة عندما رمى بخاتمه الذهبي، الذي ألهاه باقتسام نظراته: "نظرة إليه وأخرى إلى الناس"! وليس ذلك سوى رمز للتوجه نحو وحدانية الحق في  العمل. والصوفي يسعى لتطبيق هذا المبدأ البسيط في مظهره، الشديد التعقيد في باطنه. فهو يحاول سد طريق الانحراف في ذاته تجاه كل ما يخرجه عن عالم الوحدة سواء كان ذلك بالمعاصي أو الطاعات، باللين أو الشدة، بالشك أو اليقين، مما جعل من انتقاده للنفس نمط وجوده الحق وأسلوب نفيه الدائم. وهو في الوقت نفسه أحد العناصر الجوهرية في العلم الصوفي وفعله. ويمكن القول، بأن لغة الصوفية ذاتها هي لغة البحث عن النفي الدائم في مساعيها اكتشاف "خلل" التعبير عن المطلق. وبالتالي العمل من أجل تشذيبه مازالت التجربة الفردية هي وسيلته، أي كل ما ينبغي للصوفي أن يمثله في فردية جهاده الأكبر (جهاد النفس). فهي المقدمة الأساسية للتصوف بسبب كونها مقدمة تنقية النفس وصقل القلب من أجل اكتشاف حقيقة المطلق فيه على أنه مثاله أيضاً.

فالصوفية تدرك تعقيد العملية الواقعية لتنقية النفس. فهي تدرك بأن الإنسان مازال موجوداً، فإنه لا يمكنه تخطي حدوده الواقعية إلا بأساليب واقعية، ولكن من خلال دفعها إلى نهايتها، أو إلى ما يمكن أن يتخذ في تجليه الظاهري هيئة المذهل المعجز والمحيّر المفجع في تناقضاته، أي أنها تدرك قيمة التناقض كأسلوب لوجود الأشياء. وهي على خلاف الأشياء، تنحو منحاها الإرادي لتذليله في ذاتها، ومن ثم تذليل الإرادة في تسويتها من أجل إفقادها وجودها المستقل. وقد عبّر يحيى بن معاذ (ت-258 للهجرة) عن هذه الفكرة بصورة نموذجية عندما أكد على أن جهاد النفس يقوم في رياضتها. وهو على أربعة أوجه وهي القوت من الطعام، والغمض من المنام، والحاجة من الكلام، وحمل الأذى من جميع الأنام، أي كل ما يؤدي بحصيلته إلى موت الشهوات وصفو الإرادات والسلامة من الآفات وبلوغ الغايات. وهي العملية المترابطة في إخماد الذات النفسية بالخمول الجسدي وقلة الكلام، مما يؤدي إلى إبراز عظمة الحلم وانقطاع النفس عن الظلم والانتقام، أي عندما يكون الوجود بكل تناقضاته مندرجاً في ذاته متحولاً إلى كيان "نظيف ونوري وخفيف وروحاني".  آنذاك ستجول النفس "في ميدان الخيرات وتسير في مسالك الطاعات كالفرس الفارة في الميدان وكالملك المتنزه في البستان"[19].

وبغض النظر عن أن الصوفية لا تضع مفهوم الذات ككيان ما مطلق خاضع لمعاملاتها الخاصة، إلا أنها تنطلق من شموليته المطلقة باعتباره التجلي الإنساني للإلهي في حيثياته الوحدانية. وعلى الرغم من تنوع الله الصوفي، إلا أنه هو هو بالدرجة التي تستوعبها عملية وعي الذات الصوفية الفردانية. إذ ليس وعي الذات الصوفي سوى نفي الذات الفردية (الواقعية) بالذات المثالية المطلقة، أي مساعي تحويل فروض العين المطلقة إلى "تقليد" حياتي يومي. مع ما يترتب عليه من مواقف مفارقة موحدة تجاه الطبيعة وما وراءها، والتاريخي والمافوق تاريخي، والوجودي والميتافيزيقي، والواقعي والخيالي. فالنفس الإنسانية تظل فردية في تشخصها رغم بقاء التعامل الصوفي العام معها في المعرفة. وإن هذا الالتقاء بين العام والخاص في الممارسة يظهر بمظهر التهذيب الأخلاقي الدائم للعالم الباطني في مواقفه وأفعاله ونياته وأهدافه. فالتذويت الفرداني لله الصوفي يتجلى بمقدار سريان الله في التذويت أو بمقدار تجلي القيم المطلقة عن فروض الواجب، كما صاغتها تقاليد التصوف. آنذاك تظهر معرفة الذات الصوفية بهيئة عمل أخلاقي خالص، مما يجعل من وسيلة الوجود الحق نفي التناقض.

ويرتبط بهذه الحصيلة خصوصية انتقاد المتصوفة لنفسها في كل من تراثها النظري والعملي. إذ تجد المتصوفة في شيوخها الأوائل مصدر سموها الدائم وعلائم رفعتها المقوِّمة، بفعل ربطها سلسلة وجودهم بالوجود الحق من خلال المسيرة الإنسانية في أوليائها وأنبيائها وملائكتها، أي في كل الوسائط المادية والمعنوية، التي أبدعها خيال الروح وجموح العقل. أما في واقعها التاريخي فإنها وجدت في انتقاداتها اللاذعة للنفس وسيلة تنقيتها الدائمة. رغم أن هذه الممارسة لم تكن على الدوام متشابهة في حدتها وفاعليتها. وإذا كان هذا الانتقاد في الأوساط الصوفية ملازماً لوجودها منذ  البداية، فإن تجليه الحاد عند شيوخها الأوائل لم يظهر بهيئة منظومة عامة إلا بوصفه أسلوب التجديد الحق للحق في تصوفه. فعندما يضع القشيري رسالته الشهيرة في ثلاثينيات القرن الخامس الهجري (437 للهجرة)  من أجل تكوين الصورة الحية الناصعة عن شيوخ التصوف، باعتبارهم المثال الحق، فإنه ينظر إليهم نظرته إلى "صفوة الأولياء الذين تحوي قلوبهم معادن أسرار الوجود والله، والمختصين من بين الأمة بكونهم غياث الخلق الدائرون في عموم أحوالهم مع الحق بالحق. الذين تصفّوا من كدورات البشرية ورقوا إلى محال المشاهدات بما يتجلى لهم من حقائق الأحدية، الذين توفقوا إلى القيام بآداب العبودية له وأشهدهم بمجاري أحكام الربوبية"، أولئك الذين لم يبق منهم سوى ذكرهم ومثالهم. فهم الطائفة التي انقرض أكثرها ولم يبق منهم، كما يقول القشيري، إلا أثرهم، كما قيل شعراً:

أما الخيام فإنها كخيامهم     وأرى نساء الحي غير نسائها[20]

لكن إذا كان انتقاد القشيري لظواهر الزيف والرياء "الصوفي" يتضمن صياغة البديل الفكري الواقعي للتصوف المعاصر له على مثال شيوخ الصوفية الكبار، فإن الغزالي لم يقدم تصوراته وأحكامه إلا باعتبارها جزء من معتركه الفكري مع الاتجاهات الأخرى، من أجل صياغة الأطر العامة والعناصر المكونة لتآلفه الفكري البديل. فهو شأن مؤرخي المتصوفة والصوفية أنفسهم، نظر إلى شيوخها على أنهم ممثلو الحق الإسلامي والإرث النبوي المحمدي[21]. وأنه لا ينال السعادة الحقيقية سواهم بفعل إدراكهم حق اليقين بمشاهداتهم الباطنة، التي هي أقوى وأجلى من مشاهدة الأبصار، وهم لا يموتون لأن الموت لا يأخذ منهم سوى أجسادهم وهم أحرار عنها. ذلك يعني أنه أراد القول بأن المتصوفة هم العلماء الحق بالله، أو إنهم البديل الفعلي "لعلماء السوء". ولم يضع في مفهوم العلماء بالله وورثة الأنبياء ما هو سائد في أوساط الفقهاء والمتكلمين، ولا حتى في ما هو شائع في أوساط المتصوفة العادية. فالغزالي يشدد على تمايز الصوفية عن العلماء الآخرين بما في ذلك عن أشدهم ورعاً وتقوى.  فعندما يقارن على سبيل المثال بين أحمد بن حنبل والمحاسبي، فإنه يشبه الأول بنهر دجلة يغترف منه الجميع، بينما شبّه الثاني ببئر عذبة لا يقصدها إلا واحد بعد واحد[22]. وإذا كان لهذه المقارنة جذورها في فكرة العوام والخواص الصوفية، فإنها تعكس في موقفه وبديله العام جوهرية الممارسة الشخصية وسموها الروحي في عالم التصوف مقارنة بعوام "علماء السوء"، أي أنه لم يسع لوضع تعارض لا يمكن تذليله، وذلك بفعل تناوله هذا الخلاف الجوهري في ميدان ومقولات ومتطلبات الروح الأخلاقي المعرفي. فهو ليس تعارضاً بالمعنى الدقيق للكلمة، بقدر ما أنه تمثيل لدرجات القرب والبعد عن الحق والحقيقة.

بصيغة أخرى، إنه أراد إظهار ما في المتصوفة من قوة بديلة تظهر في جمعيتها العملية والعلمية كنقيض "لعلماء السوء".  فعندما صور كيان المتصوفة باعتبارهم البديل العملي (الأخلاقي) "لعلماء السوء"، فإنه يجعل منهم تجسيداً للخشية والخشوع والتواضع وحسن الخلق والزهد[23]. فالغزالي يدرك نقص حصر "مديح" المتصوفة بهذه الصفات، إلا أنها تكفي بحد ذاتها لرفع كفتها مقارنة "بعلماء السوء" إلى أقصى درجاتها، أي أنه أراد كشف كيانها العملي الأخلاقي كمثال لما هو موجود. وهو شأن شيوخ المتصوفة لم يكن بإمكانه تجاهل رؤية "الانحرافات" المتناثرة في الأوساط الصوفية. غير أن انتقاده للمتصوفة ليس انتقاداً منظومياً، بل كان جزءا من انتقاده لمظاهر الرياء باعتباره انعكاساً للانحلال الأخلاقي[24]....(يتبع).

 

ا. د. ميثم الجنابي

.......................

[1] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص133.

[2] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص142.

[3] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص140.

[4] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص140.

[5] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص140.

[6] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص129-162.

[7] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص2.

[8] الغزالي: فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ص35-37.

[9] الغزالي: الإملاء على مشكل الإحياء، ص13.

[10] الغزالي: الإملاء على مشكل الإحياء، ص19.

[11] الغزالي: الإملاء على مشكل الإحياء، ص19.

[12] الغزالي: الإملاء على مشكل الإحياء، ص19.

[13] الغزالي: الإملاء على مشكل الإحياء، ص13.

[14] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص297.

[15] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص297.

[16] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص297-298.

[17] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص298.

[18] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص298-299.

[19] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص66.

[20] القشيري: الرسالة القشيرية، ص2.

[21] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص52.

[22] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص70.

[23] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص77.

[24] سوف اتناول هذا الجانب في موضعه حال الحديث عن تصوف الغزالي وخصوصيته.     

 

في المثقف اليوم