دراسات وبحوث

وعي تجربة الانتقال إلى التصوف عند الغزالي (1-2)

ميثم الجنابيلأنوار نور النور في الخلق أنوار

وللسرّ في سرّ المسرّين أسرار

(الحلاج)

إن اتخاذ الغزالي قرار الخلوة والاعتزال لم يكن بالنسبة له مجرد سلوة الشيخوخة وراحة للنفس المتأملة، بل هو رمز الانقلاب الذي غيرّ مجرى حياته. وساهم بالتالي مساهمة جوهرية في إبداع منظومته الفكرية الخاصة.

إذ يعكس انتقاله إلى التصوف، في الاطار العام، الصيغة المميزة لتقاليد "السير في طريق الله"، أي حالة "الانكسار" التي تدفع مهمة التوبة إلى الأمام باعتبارها عتبة الطريق الروحي. وقد صورته المتصوفة بعبارة "انتباه القلب من رقدة الغفلة"، بوصفها مقدمة سلوك الطريق. وبما أن السلوك الصوفي في جوهره هو سلوك الاختيار الفردي الطوعي، فإن "الانكسار" هنا لا يعني رديفاً للهزيمة. فاللغة الصوفية لا تعرف الهزيمة. إذ لا معنى لها في منازلها وأحوالها ومسالكها ومقاماتها. وذلك لأن ملامح القوة والضعف في الوجود التاريخي الفردي والعام ما هو في نهاية المطاف بالنسبة لها سوى انعكاس لسيطرة مقولات ونفسية الغطرسة وليس الروح الاخلاقي والمعرفي الحق. وبالتالي ليس الانخراط في "طريق الله"، الذي تتطابق صفاته الخارجية في الوعي العادي مع حالة ومفهوم الانكسار، سوى نتاج الوهم الاجتماعي النفسي المصطنع وليس حقيقة الطوعية الواعية في مسار الزهد والفقر (الصوفي). وبهذا لا يعني "الانكسار" هنا سوى انكسار القيم، إى إعادة التقييم الشاملة لنمط الحياة والتفكير. وإن هذه الظاهرة نفسها لا تمتلك نمطيتها الخاصة إلا في التجارب الفردية المتباينة، التي اتخذت في الوعي الصوفي وتقاليده صيغة ومفهوم "السرّ" غير المتناهي. وبهذا يكف التحول في وعيها عن أن يكون مجرد مصادفة عابرة أو مصير محتوم. انه يصبح حركة لا متناهية في فعاليتها وتأثيرها لا يمكن فهم حيثياتها ما لم يجر تذوّق ما لم يذاق بعد، وما لم يصبح المطلق (الأخلاقي والمعرفي) الغاية المرجوة. لهذا اكتفى الفكر الصوفي في معرض اشارته لعملية انتقال "ذوي الإرادة" إلى التصوف بإبراز رمزية الظاهرة وطابعها التعليمي النصائحي لا أسبابها الفعلية. فالأسباب في عالم الروح أسرار. وإذا اخذنا ما اورده الغزالي في (المنقذ من الضلال) من عبارات الاطباء عن مرضه كما هي، فانه يكون قد تحسس معاملتهم بصيغة أوحت اليه، بعد مرور عشر سنوات، أن يضع عباراتهم المعبّرة عن أسباب مرضه ووسائل علاجه بضرورة "أن يترّوح السرّ عن الهمّ الملم" الذي اخذ بخناقه. ولم تسع المتصوفة من وراء ذلك مطابقة السبب مع السرّ، ولا العكس. ولا جعلهما مختلفين، ولا رفض الخلاف، ولا تجعلهما متوازيين ولا أن تقاطعهما. بل نظرت إلى هذه العلاقة كما لو أنها تجلّ للباطن والظاهر في حركتهما الدائمة. لهذا لم تجد ضرورة في أن تضع أسساً "منطقية" صارمة للتحليل، ولا أن تختزل عمليات الروح المعرفي والأخلاقي بقواعد المنطق الشكلي، ولا أن تجد ضرورة في اخضاع كل ذلك إلى تحليل الأدوات المعرفية القائمة باعتبارها الحصيلة النسبية للحقيقة، والجزئية للكلّ المعرفي. إنها حاولت بالقدر الذي يمكن للغة صياغته في رموزها وأدواتها أن توحي بأن قوانين الروح لا يمكن إدراكها إلا بروح القوانين. وهي لم تبحث في كل ذلك عن ولع المفارقات اللغوية كما لو أنها عروة وثقى، بقدر ما سعت إلى كشف الحقيقة القائلة، بأنه لا يمكن معاينة ومشاهدة وإدراك روح القوانين خارج رمزية الصياغة. فالرمز هو الوحيد القادر على تحويل الدائم إلى لحظة عابرة، والعابر إلى كيان دائم. لهذا أصبح من الممكن، في العرف الصوفي، أن يجري النظر إلى انتقال الغزالي إلى التصوف باعتباره فعلاً تناغم مع الموسيقية السريّة لآلية ووقع الانكسار في حيثيات الوجود كما عبّر عنها البيت الشعري:

أيا حجر الشحر إلى متى     تسنّ الحديد ولــم تُقْــطَعِ

ولكن إذا كان التعبير الصوفي قد وجد ضالته في إحدى الحالات والعبارات بتصويرها الرمزي لسبب الانتقال، فإن هذا السبب استظهر في أسلوب الوعي الفردي لتجربة الانتقال باطنها الموسيقى ليس في تناغم الفعل والحركة، بل في ذوبان الوعي في الإرادة. وهي العملية الجديدة لانصهار و«انكسار تجارب الوعي النظري والعملي (الاخلاقي) التي كشفت في الابحاث السابقة عن اتجاهاتها العامة.

وقد ابدع الخيال الصوفي لهذه العملية نادرتها الخاصة، التي تقول على لسان احد العلماء:"رأيت الغزالي في البرية وعليه مرقعة وبيده عكاز وركوة، فقلت له:

يا إمام! أليس التدريس ببغداد أفضل من هذا؟ فنظر اليّ شزراً وقال:

لما بزغ بدر السعادة في فلك الإرادة وظهرت شموس الوصل

تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل     وعــدت إلى مصـحوب أول مـــنزل

ونادتني الأشواق مهلا فــهــــذه      مـنازل مـن تهوى رويـدك فانـزل!

وبغض النظر عما إذا كانت هذه النادرة حقيقة أم لا، فإنها تسجّل بصيغة الحكايات الصوفية الجميلة واقع تطور الغزالي الفكري والذي صاغ ملامحه العامة في (المنقذ من الضلال)[1]. انه خط المسار من غمار العلاقات الدنيوية إلى ما دعته المتصوفة بصاحب الكل. ومهما يكن من مستوى الدقة في هذه العبارة بأثر التناقض والضعف القائم والمحتمل في اللغة وقدرتها عن التعبير احيانا، إلا انها تمثّل التباين الفعلي بين الفكرة المجردة والواقع، والذي يتلوع اثناءه الروح الباحث عن سكونه القلق، أو ما دعته المتصوفة بالحيرة. انه بزوغ البدر الذي لا يدرك سعادته ويتحسسها سوى اولئك السابحون في دوران فلكه. وهو أيضا الفناء والبقاء، والغياب والتجلي، بفعل حركته مقابل "الشمس الإلهية". إنها العتمة الحياتية (الدنيوية) التي لفت الغزالي بأذيالها طوال حياته المنصرمة إلى أن واجهت إرادته "إرادة الميتافيزيقيا" السحرية، التي شلّت حركته لتجعله يرقص طرباً في البحث عن موته الحياتي من اجل ان ينهض مستيقظاً.

فالإحياء نيام فإن ماتوا انتبهوا، كما تحبذ المتصوفة القول. والغزالي شأن المتصوفة الكبار حاول ان يبدأ ويتلمس ويتحسس ويمارس ويدرك ويذلل هذه العملية في الحياة. بمعنى إماتة الموت الحياتي (الدنيوي) ببعث الروح الخالد. وليس هذا بدوره سوى التعبير الرمزي الدقيق والمجرد والمتصوف عن التجربة الحياتية التي عادة ما ترافق وتميز انتقال الشخصية المفكرة إلى عالم الصوفية.

فتاريخ التصوف الإسلامي يقدم صوراً غاية في التباين عن نماذج "التوبة" الفردية والانخراط في طريق الصوفية. فالتوبة التي تشكل في طريق الصوفية "أول منازل السالكين وأول مقامات الطالبين" تستلزم كممارسة أولية الندم على ما عمل من المخالفات، وترك الزلة في الحال، والعزم على أن لا يعود إلى مثل ما عمل من المعاصي. فهي الممارسة المدعوة لاستثارة ما اسمته المتصوفة "بانتباه القلب عن رقدة الغفلة ورؤية العبد ما هو عليه من سوء الحالة"، أي استثارة تلك العملية التي تصنع وتعمق في النفس "واعظ الله"، بوصفها الاستثارة الدائمة لإرادة التوبة. كما أنها في الوقت نفسه العملية التي بنت حولها المتصوفة أفكارها وأحكامها العديدة، التي لا تشكل بحد ذاتها شروطاً لها بقدر ما أنها عمقت هذه الممارسة الفعلية القائمة بتحويلها إلى نمط خاص. وما هو مهم بالنسبة لنا الآن هو الاشارة إلى أن "قانون التوبة الصوفية" رغم خطوطه العامة ظل على الدوام فرداني التطبيق والتحقيق. إذ لا يعرف تاريخ التصوف الإسلامي حالات متشابهة في "دخول الطريق". فإبراهيم بن أدهم (ت- 161 للهجرة) أحد ابناء الأمراء خرج يوماً متصيداً فأثار ثعلباً أو ارنباً وهو في طلبه فهتف به هاتف "يا ابراهيم ألهذا خلقت أم بهذا أمرت؟ ثم هتف به أيضاً من قربوس سرجه "والله ما لهذا خلقت ولا بهذا امرت". فنزل عن دابته وصادف راعياً لأبيه فأخذ جبة الراعي من الصوف ولبسها وأعطاه فرسه وما معه ثم دخل البادية[2]. في حين مثّل الفضيل بن عياض (ت-187 للهجرة)  صيغة أخرى للتوبة. لقد كان شطارا يقطع الطريق بين ابيورد وسرخس. وكان سبب توبته انه عشق جارية فبينما هو يرتقي الجدران إليها سمع تال يتلو "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله"، فقال "يارب قد آن". فرجع ثم آواه الليل ثم هجر مجاوراً الحرم (مكة)[3]. بينما انتقل معروف الكرخي (ت-200 للهجرة) النصراني الأبوين، بعد هروب طويل من البيت الأبوي بسبب تعرضه للضرب في طفولته، حيث كانوا يلقونه عبارة "قل ثالث ثلاثة"، فيقول "بل هو واحد"[4]. في حين انتقل السري السقطي (ت-257 للهجرة) إلى التصوف بفعل تأثير كلمات معروف الكرخي، الذي اتاه يوما بيتيم ليكسيه السريّ السقطي وعندما اعطاه ما اراد قال الكرخي له "بغّض الله اليك الدنيا وأراحك مما انت فيه". آنذاك ترك السقطي الحانوت ولم يكن له شيئ أبغض منه، بل لم ير مضطجعاً في عمر جاوز الثمان والتسعين سنة إلا في موته[5]. في حين أبو سليمان الداراني (ت-215 للهجرة) بعد تردده الكثير على مجلس القصاص. لكنه كان على الدوام ينسى ما يسمعه من الكلام، مما اضطره لاحقاً الى ان يدخل "طريق الذكر الدائم"،بحيث جعل يحيى بن معاذ (ت-258 للهجرة) يعلق على ذلك قائلاً "عصفور اصطاد كركياً". كل ذلك يعكس تعددية وتنوع نماذج دخول الطريق الصوفي. ولم يشذّ الغزالي عن هذه القاعدة، بمعنى فردانية الدخول وطريقه الخاص.

فالمتصوفة لا تضع قيوداً على تنوع دخول الطريق. على العكس! انها تجد في هذا التنوع عدم تناهي طرق وأساليب بلوغ حقائقها، أو حقائق الوجود من خلال مبادئها الفكرية وقيمها الأخلاقية. وتوبة الغزالي في خصوصيتها هي توبة فكرية أخلاقية، رغم تجانسها مع مسار التوبة الصوفية. لكنها كانت نتاج ازمة الوعي العقلي والأخلاق، التي كشفنا عن اتجاهيتها العامة في موقفه من الاتجاهات الفكرية الكبرى في كل من العلم والعمل (النظرية والممارسة)، التي طورت شخصيته المعرفية ووضعته في الوقت نفسه أمام مفترق الطرق. إذ نعثر على كل ذلك فيما صاغه هو نفسه في العبارات الوجيزة البليغة المعبرة عن ازمته الروحية التي اغلقت عليه في حينها إمكانية النطق والعيش.

غير أن تطوره "المختصر" كما وضعه في (المنقذ من الضلال) والذي حاول من خلاله الكشف عن مستوى تطور العقل بمروره من الاحساس إلى العقل  ومن إلى ما وراء العقل (طور الولاية) حتى اللحظة التي أصبح من الممكن أن يردد "فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد"[6]. غير ان هذه الصيغة لا تعني خروجه عن اطر العقل والعقلانية أو محاربتهما. إذ ليست تلك الأحكام التي توحي بظاهرها محاربة العقل والعقلانية سوى التعبير الذاتي عن تجربة الغزالي في اكتشاف ضيق ومأزق التفكير العقلي اللاهوتي المعاصر له، الذي بسبب ضيق أسلوبه ظل عاجزاً عن رؤية وتحليل العلاقة القائمه بين الظواهر. فهو لم يرفض من حيث الجوهر سوى العقل اللاهوتي، الذي رتبت براهينه على أساس الحصيلة المعرفية واللغوية. مما وضعه على الدوام أمام إمكانية المأزق. بينما لم يجد الغزالي في العقل بحد ذاته مأزقاً، رغم انه يصنع هذا المأزق في حالة الاعتماد على ادواته الخاصة فقط في تتبع ما يمكنه أن يؤدي به في نهاية المطاف إلى الحيرة والقلق. مما يؤدي به الى الرجوع الى البداية او النقيض.

فالمسار غير المتناهي الكامن في الإمكانية المحددة للعقل لا يعني في الواقع سوى الاستمرار غير المتناهي للجهل. إذ ليس توسع المعرفة سوى اكتشاف الجهل غير المتناهي. غير إن العقل يمكنه أن يكون وسيلة فعالة عندما يدرك ذاته بوصفه جزء من الكشف الذوقي المستند الى وحدة الكل باعتباره تجليَ لله. حينذاك تصبح اللانهاية نهاية بين يدي الله. وهذا بدوره ليس إلا أسلوب بلوغ اليقين الذاتي، الذي يجعل للحقيقة معنى ملموساً وذوقاً خاصاً. من هنا دعوة الغزالي للمريد قائلا:"إن كنت راغباً في استقحام الطريق إلى المقصد، فألق سمعك وأنت شهيد".

إلا أن "استقحام الطريق" بالنسبة له لم تكن عملية بسيطة. وهو ما حاول البرهنة عليه دوما. وبغض النظر عن العبارات العديدة والتسميات المتباينة التي يطلقها على بداية "التوبة الصوفية" مثل "القذف النوراني" أو "الجود الإلهي" أو "نور الرحمة"، فإن ذلك ليس إلا تعبيراً عن الوعي الذاتي لتجربة انتقاله الشخصية إلى عالم الصوفية. وهذه بدورها لم تكن فعلاً معطى  مرة واحدة وإلى الأبد. ويكمن سبب ذلك في مبادئ الممارسة الصوفية ذاتها، التي لا تقرّ بالنهائي في الوجود والمعرفة، مع اقرارها بضرورة اليقين وإمكانية وضوحه المتزايد لا تزايده بحد ذاته كما هو الحال في العبارة القائلة "لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً". غير أن هذه الصيغة هي حصيلة المعراج المعرفي الصوفي وإحدى درجاته. بينما ظل دخول الغزالي طريق الصوفية في أعمق أعماقه وهواجسه وبواعثه هو دخول الباحث عن الحقيقة، التي لم يحصل على صيغتها اليقينية في اتجاهات الكلام والفلسفة والباطنية. بينما أكتشفها في عالم الصوفية بعد تجربة طويلة. فهو لم ينظر إلى الصوفية في بداية الأمر، كما هو واضح في (المنقذ من الضلال) إلا باعتبارها إحدى الفرق التي في حالة "شذ الحق عنهم فلا يبقى في درك الحق مطمع"[7]. (يتبع)

  

 ا. د. ميثم الجنابي

....................

[1] لقد وردت هذه الحكاية بصيغ عديدة. وقد اوردها علاء الدين الصيرفي في كتابه (زاد السالكين لطريق الله) عن ان القاضي ابو بكر ابن العربي هو القائل "رأيت الإمام الغزالي في البرية وعليه مرقعة وعلى عاتقه ركوة وكنت قد رأيته ببغداد يحضر درسه أربعمائة عمامة من أكابر الناس وأفاضلهم يأخذون منه العلم". ثم قال فدنوت منه وسلمت عليه وقلت له "يا إمام! أليس تدريس العلم ببغداد خير لك من هذا؟". حينها نظر إليّ شزرا وقال :"لما طلع بدر السعادة في فلك الإرادة وجنحت شموس الوصال في مغارب الأصول

تركت هوى ليلى وسعدى بمنزل    وعدت الى صاحب اول منزل

ونادت بي الاشواق: مهلا فهذه      مـــــــنازل من تهوي فإنزل

تصطدم هذه الحكاية باعتراضاتى جدية. منها إن القاضي ابو بكر ابن العربي لم يتصل بالغزالي إلا في بغداد وليس في البرية. ولم يجر الحديث فيما بينهما بما يمكنه أن يوحي بشماتة ابن العربي المبطنة ورد لغزالي المتشنج! إضافة لكل ذلك أن صياغتها اللغوية وأسلوب تعبيرها ملفوف بالأسطورية والخيال الرمزي الصوفي.  

[2] القشيري: الرسالة القيشيرية في التصوف، ص8.

[3] القشيري: الرسالة القيشيرية في التصوف، ص9.

[4] القشيري: الرسالة القيشيرية في التصوف، ص9.

[5] القشيري: الرسالة القيشيرية في التصوف، ص10.

[6] القرآن: سورق (ق) الاية 22.

[7] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص89.

 

في المثقف اليوم