دراسات وبحوث

تحليل ونقد الفكرة الاصلاحية الاسلامية الحديثة (1)

ميثم الجنابيالمضمون الإصلاحي لفكرة الجهاد والاجتهاد الإسلامية 

"ما ظهر على الإنسان  إلا ما استقر في باطنه.

فما أثر فيه سواه"  (ابن عربي)  

إن الحدس الكامن في وحدة الجهاد والاجتهاد، الذي تبلور في مجرى صيرورة الحضارة الإسلامية وعلومها، لم يكن نتاجا لبيان اللغة وبلاغتها. إذ لكلمات الجهاد والاجتهاد جذورها التاريخية والمعنوية العريقة في لغة العرب. وهي جذور لها جذوتها في العقل والضمير، أي لكل ما كان يتراكم في الوعي التاريخي وفكرة البدائل.

فالأمم لا تنتج إلا ما يقع ضمن استطاعتها. واستطاعتها هي المكونات الواقعية المتجمعة في مجرى تجاربها الخاصة. وبالتالي فهي المكونات الوحيدة القادرة على رفع معاناة البحث عن الحق والحقيقة إلى مصاف المرجعيات العلمية والعملية للأفراد والجماعات والأمة في مساعيهم من اجل الأفضل والأصلح.

فالتجارب الواقعية للأمم هي معاناة البحث عن البدائل. ومن ثم هي النقيض الدائم للتقليد. إذ لا شيء أكثر عبثا وتخريبا لذاكرة الأمم من التقليد أيا كان نوعه وحجمه ومحتواه. من هنا قيمة الإصلاح بوصفه اجتهادا، وتحقيقه بوصفه جهادا. إذ لا معنى حقيقيا بالنسبة لوحدة الجهاد والاجتهاد غير الإصلاح، فهو ميدان تحقيقهما، وأسلوب تهذيبهما الدائم. الأمر الذي جعل الاجتهاد المتخطي لقيم التقليد ومفاهيمه جهادا فعليا، تماما بالقدر الذي جعل من الجهاد من اجل الإصلاح الفعلي (المنظومي) اجتهادا أصيلا وحرا. بعبارة أخرى، إن وحدة الجهاد والاجتهاد في الإصلاح هي فكرة الإرادة المحكومة بقيم عليا.

للإصلاحية جذرها المعنوي العميق في أحد اكبر كوامن العربية أخلاقا وسموا. فإذا كان الوعي العادي نادرا ما يسترق السمع لما في الآذان من تحية للصلاح ودعوة إليه، فإن الوعي الثقافي يجهل في حالات عديدة معاناة الصلاح والأصلح المميزة لصراعات علم الكلام اللاحقة في مدارسه المختلفة. ويشير ذلك في بعض جوانبه إلى عدم تعلّمه بعد إصلاح النفس بالاعتماد عليها أولا وقبل كل شيء. أما نقد الذات المتحزب وبالأخص بمعايير السياسة المبتذلة، فإنه لا يفلح حتى في تجاوز أوهامه المصطنعة لما هو مألوف ومسموح به. بمعنى انه لن يفلح في صنع مقومات الإصلاح الذاتي. مما أدى بالتالي إلى إضعاف همّة الفكر في بحثه عن الاحتمال والإمكان. بينما كانا هما على الدوام الميدان الذي يمكن أن نرمي فيه كل ما هو عصي على الفهم والبرهان. وهو سبب إفقار ملامح الرؤية الواقعية للصلاح والأصلح، باعتبارها قيما وأساليب ومعايير علمية وعملية تندرج في فكرة الإصلاح نفسه.

ومع ذلك ساهم هذا الواقع وما يزال في استثارة البحث عن البدائل في أجنة الكينونة المعاصرة للعالم العربي. وهو أمر يضعنا أمام جوهرية الإشكاليات الحية التي أبدعت مختلف المنهجيات والحلول لقضايا الممكن والواجب في مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية، منذ أن اتخذ وعي الذات الثقافي موقعه المناسب في هرم المدنية الإسلامية.

وقبل أن تصل المدنية الإسلامية إلى إدراك معنى وقيمة الهرمية في نظرياتها وأحكامها عن المرجعيات المتسامية، باعتبارها منابع للإصلاح أيضا، كان لابد لها من التيقن بان طرقها الوعرة معبدة بوطء أقدامها الخاصة. غير أن هذه الذروة التي يمكن أن يبلغها وعي الذات الثقافي بوصفها الغاية المتسامية للمبادئ الأولى والفضيلة العليا في تجليها الواقعي، سرعان ما يأخذ بريقها المتلألئ بالتلاشي والخفوت كما لو انه اثر في الخيال. بعبارة أخرى، إن وعي الذات الثقافي يصارع نفسه على الدوام بسبب مجاراته الصميمية للتنوع والتبدل والتغير. وإذا كان هذا التناقض العميق هو أيضا النتيجة الملازمة للمدنية نفسها، فإن ذلك يعني أن له "منطقه" الخاص فيما يمكن دعوته بسرّ الوجود التاريخي للأمم.

فللأمم أيضا محاكاتها "التاريخية" في الولادة والموت والانبعاث. وهي لا تفتعل هذه الدورة الخالدة لوجودها، بقدر ما أنها تلازم ما استقر فيها. وفي هذه العملية يجري ابتداع عناصر استمرارها على انه التجلي الخاص لاجتهادها وإصلاحها الدائم. والمهمة الآن لا تقوم في تطويع معالم الإصلاح التاريخي في تياراته المتنوعة، بقدر ما أن يجري صياغة قيم التفاؤل العقلانية بإمكانية الإصلاح الدائم من خلال رؤية مقوماته الثقافية، بوصفها مرجعيات متسامية. الأمر الذي يحدد ضرورة اقتران إدراكنا عن "سر الوجود التاريخي" للعرب بالإسلام، لأنه مصدر وبداية الوجود التاريخي العالمي لهم.

فهي البداية التي تجبر الوعي التاريخي والسياسي والحضاري على الرجوع إليه سواء جرى ذلك من خلال التفي أو الإثبات. بعبارة أخرى، إن إدراك السر التاريخي لظهور العرب بهيئة أمة تاريخية عالمية ثقافية يفترض بالضرورة الرجوع إلى مصادر وجودهم المعقولة والمطلقة وتجليها التاريخي. وبما أن المطلق التاريخي هو "البداية" المعقولة، فإنها تؤدي في حالة تأملها الفعلي إلى البحث عن "نهاية مثالية". أي لا بد لها من أن تدغدغ المشاعر وتثير الخيال وتجهد العقل على رؤية "سدرة المنتهى" في أحد نماذجها الأكثر رفعة، بوصفه الرونق اللامع في التقاء "البداية" و"النهاية". فهي الحركة التي يستمد منها الوعي الاجتماعي رؤيته بالنسبة لتركيب سلسلة الوحدة الخفية للانتماء الوجداني والعقلي إلى مصدر المطلق التاريخي. بمعنى بلوغه إدراك الحقيقة القائلة، بأن نقطة البداية هي نقطة النهاية. ويجد هذا الإدراك انعكاسه وفاعليته في مرجعية الفكرة القائلة بالقيمة الجوهرية في العودة إلى المصادر الأولى. لهذا كانت وما تزال وسوف تبقى "آلية" هذه العودة إلى المصادر الديمومة المحركة لكل فكرة إصلاحية عميقة المحتوى. وذلك لأنها تؤدي تاريخيا إلى تعميق عناصر وعي الذات، وروحيا إلى تقوية خصال اليقين، وفكريا إلى تقويم معالم البصيرة، وعمليا إلى تأسيس البدائل المتنوعة.

إن القول، بأن الرجوع إلى المصادر الأولى يؤدي إلى تعميق عناصر وعي الذات، وتقوية خصال اليقين، وتقويم معالم البصيرة، وإمكانية وتأسيس البدائل المتنوعة، لا يعني تطابق الإصلاح مع الرجوع إلى الماضي، بقدر ما يشير إلى تلازمهما الضروري. إذ ليس ارتباط الإصلاح بالرجوع للماضي سوى أسلوب التأسيس الواقعي المتين للاستمرار الثقافي، باعتباره أحد الشروط الجوهرية لترسيخ الوعي الإصلاحي. وذلك لاحتواء هذا الرجوع من الناحية التاريخية على عناصر ترسيخ وتعميق وعي الذات، ومن الناحية الروحية على خصال تقوية اليقين، ومن الناحية الفكرية على معالم تقويم البصيرة، ومن الناحية العملية على إمكانيات البدائل المتنوعة.

ولا يغير من هذه الحقيقة حتى واقع عدم إدراك الحركة الإصلاحية لهذه الإشكاليات. مع أنها من صلب الحركة الإصلاحية الفعلية نفسها. وذلك لأنها عادة ما تبدع نموذجها الجديد حتى في حال يقينها أنها لا تفعل إلا على إعادة  بناء "القيم المثلى" للماضي. الأمر الذي يفسر سرّ تعثرها في خطواتها المستقيمة. إلا أن هذا التعثر عادة ما يجبر الفكر على تأمل خطواته من اجل تجاوز "التناقضات البليدة" في العلم والعمل، ومن ثم يساهم في تعميق وترسيخ قيم وعي الذات. وبما أن التاريخ هو الروح في ميدان اليقين، لهذا عادة ما يصبح البحث عن "منهجية" المطلق أحد إشكالاته الكبرى. وبما أن المطلق هو الصيغة الأكثر تجردا للثقافة، من هنا تصبح صورته التاريخية المثلى وعاء الخصال الفاعلة على تقوية اليقين. وبما أن التجلي الواقعي لخصال اليقين لا يمكنه أن يتجاوز الصراع الفعلي في ميادين العلم والعمل، لهذا عادة ما يتحول الصراع إلى مصدر لا ينضب لإشكاليات الفكر وحلوله. وقد حدد ذلك بدوره ضرورة الرجوع إلى الماضي، باعتباره امتحانا للذاكرة واحتكاما لها أما البصيرة، أي تقويمها.

ومع ذلك لا ينبغي اعتبار الرجوع إلى الماضي قدرا لا بد منه أو حتما قاهرا يجرف بذراعيه الباردتين ضمائر المخلصين وسذاجة العوام وحماقات الأدعياء، بقدر ما أنه سنّة البحث الإصلاحي بحد ذاته. وبما أن الماضي هو التيار الجارف في الوعي العابر، لهذا ليس من الضروري أن نلبس هذه الفكرة لباس المطلق من اجل أن تظهر بزي الشمول التاريخي، كما انه ليس من الضروري انتزاع معناها التاريخي من اجل أن تكون مقبولة بالنسبة لعالم البدائل السياسية. لاسيما وأن البدائل السياسية نفسها ما هي إلا التاريخ المتحرك في تيار المصالح والمفاهيم، والانتصار والهزيمة، والإقدام والتراجع، والاستعداد للتضحية وتأمل مآثرها، ومدح النفس وانتقادها النسبي. من هنا استحالة تجاهل قيمة وأهمية الارتباط بالماضي بالنسبة لكل حركة اجتماعية سياسية ثقافية تسعى لاحتلال موقعها الكبير في التاريخ الفعلي للأمم.

وفي ذلك تكمن المقدمات الأساسية للحركة الإصلاحية. وبالتالي لا يفترض ظهورها وتشكلها وارتقاءها حتمية المواجهة، لكنه يفترض تقديمها للحلول المقنعة والهادئة حتى لأولئك الذين تعودا على صيغ العنف في القول والعبارة والعمل والإشارة. ذلك يعني أن المحتوم في الحركة الإصلاحية هو إمكانية مواجهتها المتنوعة لمختلف مظاهر ردود الفعل العاتية منها واللاهية، المرنة والقاسية.

فالحركة الإصلاحية، بوصفها حركة عملية لا تظهر إلا عندما تبلغ مفارقات الواقع والتاريخ درجة تستحث الأفراد والجماعات على الفعل، أي حالما يصبح النظر إلى الواقع انحرافا عن "المسار الطبيعي" و"مثال الأسلاف" وغيرها من النماذج المعقولة. من هنا يصبح إعلان الرجوع للماضي فعلا ضروريا وقيمة عليا. وفي مجرى تعمق هذا "النظر" عادة ما تتبلور ملامح الرؤية الإصلاحية. وعلى كيفية تعمق هذه الرؤية يتوقف مسار الحركة الإصلاحية في العلم والعمل. بمعنى أما السير في اتجاه تحولها إلى حركة اجتماعية سياسية ثقافية لها ثقلها المباشر بالنسبة لتاريخ الأمم ومصائرها، أو تحولها إلى قيمة مجردة بوصفها نموذجا امثل للمحاكاة.

غير أن إشكالية التنوع والخلاف الواقعي والمحتمل بين الصيغة النظرية المجردة والصيغة العملية هي على الدوام إشكالية التاريخ الملموس. وعادة ما تتنوع هذه الإشكالية في الصور والوعي على السواء. وسواء أطلق عليها اسم "تقدير الأزل" أو "ثقل الضرورة" أو "سنّة الوجود"، فإنها تعبر جميعا في تقاليد الرؤية الإسلامية عن إدراك خاص وحدس معقول لعلاقة المتناهي باللامتناهي، أو الخلق بالحق. وهي رؤية تستند إلى يقين الإيمان أكثر منها إلى عروة القناعة العملية.

وإذا كان ترابط الإيمان والعمل في الإسلام هو الصيغة التي تبلورت من خلالها معالم الإسلام الأول بوصفه فعلا توحيديا جديدا في أفق الثقافة الجاهلية، فانه يكون بذلك قد وحّد تاريخيا في ذاته معاقل اليقين ومعالم الفكر. إلا أن هذه الجوانب لم تظهر دفعة واحدة. إضافة لذلك أنها لم تكن قادرة آنذاك بعد على الظهور بهيئة تتجاوز ما تضمنته الوحدانية الإسلامية في بساطتها القائلة، بأنه لا اله إلا الله!

بهذا يكون الإسلام قد أدخل فكرة المطلق إلى عالم الثقافة العربية الجاهلية. وهو مطلق لم يتعد في ملامحه الظاهرية ومضمونه الواعي ما احتوت عليه معاقل الذهنية العربية. وهو حال ضروري بالنسبة للمسار الذي تقطعه الفكرة الإصلاحية في مجانستها لحوافز الفعل وغاية الأفكار. 

فقد كان المطلق الإسلامي الأول من الناحية التاريخية بداية المطلق الثقافي الحر. الأمر الذي رافق منذ البدء حقيقة التوحيد الإسلامي باعتباره حركة إصلاحية شاملة. بعبارة أخرى، انه تضمن في ذاته إمكانية البؤرة الثقافية، التي كانت تعني بالنسبة للإصلاح وتقاليده الروحية وحدة الحركة الفاعلة والوحدانية المتسامية، الذي سيكشف عن نفسه في ثنائياته الكبرى، بوصفها مرجعيات متسامية ومنحلّة في حدوده الوسطى.

فقد كان التاريخ الوحداني الإسلامي في مصادره الأولى هو تاريخ الكلّ القرآني، كما نعثر عليه في نتائجه. إذ كشفت هذه النتائج عما في هذه الوحدة من إمكانيات هائلة بالنسبة لتأسيس البنية الثقافية اللاحقة. فالكلّ القرآني هو ليس مجرد النص العثماني، وليس اختلافات المتكلمين عن الحد والحقيقة، وفقه الفقهاء واجتهادات اللغويين عن الإعجاز والبيان والغريب والمشكل والقراءات والحروف والعلوم والمعاني. وذلك لأنه في حصيلته كان السريان الخفي في جذور الثقافة وثمارها.

ولم يعن ذلك غائية الأحداث ومجاريها، كما لم تكن حتما منذ الأزل وقدرا لابد منه، بقدر ما أنها كانت النتيجة "الطبيعية" لتفتح المبادئ الكبرى والقيم الجوهرية التي وضع الإسلام منظومتها العلمية والعملية على شكل أركان وقواعد وحدود. ولعل أركان الإسلام المتجسدة في العقائد الإسلامية وشروط العبادات وآداب العادات وقواعد السلوك وماهية الإيمان وغيرها من الجوانب هي دليلها ومظهرها. ولم تظهر هذه الوحدة المتكاملة دون وجود ما أسميته بالكلّ القرآني. وذلك لأنها العملية التي احتوت في أعماقها وكشفت في نتائجها عن حقيقة التحول الذي ادخله الإسلام على عالم الجاهلية العربية، بحيث أعاد صنعها على أسس جديدة. وبالتالي تحول الإسلام إلى منبع الكينونة العربية المستقلة.

أما حد وحقيقة هذه الكينونة فيقوم في مبادئها الأولية، التي تحولت لاحقا إلى عقائد كبرى ومرجعيات متسامية، ليست هي سوى التعبير المناسب عما في التوحيد الإسلامي نفسه من حدود للفعل الإصلاحي. ولعل فكرة العلم والعمل هو الصيغة الأكثر وضوحا لها وجوهرية. إذ ليست هذه الفكرة في الواقع سوى الصيرورة في الكينونة. بعبارة أخرى، إن تحول الإسلام في صيرورته التاريخية والثقافية إلى منبع ومصدر وأصل ومرجع الكينونة الفعلية للكلّ العربي كان مرتبطا ارتباطا صميميا بتمثله وتمثيله لقيمة ومعنى وآفاق الإصلاح الشامل. إذ تمّثل الإسلام وقدّم في نموذجه الإصلاحي فكرة الحدود، التي مّدت بقوتها جسد الكينونة العربية وروحها، ولسانها وجنانها، وأركانها وأصولها.

وتضمن ذلك في أعماقه، من الناحية التاريخية، بلورة مبدأ البداية ويقين النهاية. أما من الناحية الفكرية فقد بلور تأسيس الارتباط بالمطلق، ومن الناحية العملية إسناد الفعل بمبادئ الخير. فقد كانت الرؤية القرآنية وتطورها تعبيرا عن تعمق الارتباط بالبداية المطلقة. وإذا كانت هذه البداية أكثر إبهاما من المطلق، فلأنها كانت تشكل الصيغة المتسامية لتأسيس قيمة الفعل المستند بدوره إلى عروة وثقى. وهو ارتباط هّشم مرتكزات الدهر الجاهلي. إذ لم يعد الدهر الجاهلي مصدر ومنبع وأسلوب هلاك كل وجود وموجود، وذلك لتحوله إلى جزء من النهاية ولحظة فيها. وبالتالي لا قيمة له ولا وزن بحد ذاته. أما اليقين فيه فيقوم فقط في تقطّعه نفسه إلى أجزاء متناهية بوصفها أفعالا للإرادة الإلهية المطلقة. وهي الفكرة التي وضعها القرآن في آياته الكثيرة عن مشيئة الله الدائمة في الأشياء والأفعال. فالله هو ملك السماوات والأرض وما بينها، يخلق ما يشاء، وهو على كل شيء قدير [1]، وهو الذي يفعل ما يريد[2]، وهو الذي يحي ويميت، فإذا قضى أمرا فانه يقول له كن فيكون[3].

وقد ذلل هذا الاحتواء التام والكامل للقدرة الإلهية، عبث الأحداث ومجهولها. ولم تعد الذات الإنسانية من حيث وجودها صدفة عابرة، ولم تعد من حيث كيانها أسيرة الدهر، كما لم يعد معنى وجودها وغايتها ألعوبة القدر. فعندما يصور القرآن "الحياة الدنيا" باللهو واللعب، فانه لم يقصد بذلك انتقاص معناها ولا التقليل من شأنها، بقدر ما انه كان يناهض ديمومة الدهر الجاهلي وصلافته المتعنتة برؤية الآفاق المغلقة للأفعال وخلو معانيها من تذوق واندهاش الالتقاء المثير للبداية بالنهاية. لهذا استخف القرآن بزمن الجاهلية عندما أعتبر  اليوم عند الله كألف سنة مما يعدون. ونعثر على ذلك في مختلف صيغ الإدانة المستترة لما هو عابر وجاهلي.

فقد حولت الجاهلية انسياب الزمن إلى قوة قائمة بحد ذاتها، وقلدّته "مفاتيح الغيب" في تجديد وتمويت وإحياء وإفناء كل موجود. بينما استبق القرآن بداية الزمن ونهايته في غاية الوجود الإنساني، عندما شدد على استقلالية الموت والزمن. فالموت يتعلق بالروح في إحدى أطوارها، بينما الزمن مع الجسد. والموت لا يعطي للزمن قوة الدهر الخالد بالمعايير الجاهلية، بل يسلبه إياها، باعتباره سنوات وأشهرا وأياما وليال. وهو تصوير وتقرير نعثر عليه في الكثير من آيات القرآن مثل "كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا ساعة من نهار". غير أن هذه الرؤية الخاطفة لا تسلب من الجميع شيئا غير غشاوة الوهم القائل بخلود الزمن. فتحول الزمن إلى ساعات وليال، يعني أيضا انقطاعه بالموت (الجسدي) واستمراره بالروح (الأخلاقي). وهي الحالة التي تعبر عنها الفكرة القرآنية عن "يوم الفصل"، الذي هو "يوم ميقاتهم أجمعين"، أو هي نفسها وحدة البداية والنهاية، باعتبارها مصرع الزمن العابر في خلود الإرادة. وبهذا يكون الإسلام قد قدّم أسلوبا جديدا في تحطيم أسس الأوهام الجاهلية عن خلود الزمن (الدهر) من خلال إدراجه إياه كلحظة أو آن في أفعال الإرادة الإلهية. وليست هذه الإرادة في نهاية المطاف سوى النفي الخالد للدهر الخالد. وبهذا لم يعد الخلود قوة منطوية في الوجود نفسه أو في قواه الطبيعية والإنسانية، بل في الإرادة الإلهية المتجلية في التاريخ بهيئة ابتلاء للإنسان في أفعاله كما أنها غيب من غيوب الله، انطلاقا من "انه لا يسأل عما يفعل".

حددت هذه الرؤية مضمون الفكرة الإسلامية الأولى ومبادئها الكبرى القائلة، بان الإرادة هي مصدر الفعل، وأنها إرادة الأصلح والأفضل والأسمى[4]. وإذا كان الوجود في مختلف حيثياته بوصفه خلقا، هو التجلي الملموس لهذه الإرادة، فان نموذجها المعقول يقوم في استمرار الوحدانية ومثالها الإصلاحي. الأمر الذي نراه في جوهرية عناصر الرجوع والاستمرار في الفكرة القرآنية نفسها[5]. ونلاحظ ذلك أيضا في التشديد على طابعها الإسلامي، كما في الآية "قل إني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين"، و"من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سّفه نفسه"، و"قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا".

إن الرجوع إلى حقيقة الوحدانية ما هو إلا "الصراط المستقيم"، بوصفه الهداية الحقيقية للحق. إذ ليس الصراط المستقيم سوى الطريق الذي تشير علاماته إلى معاني الحق والحقيقة. وليست الهداية سوى عدم تسفيه النفس، وهو أسلوب السير في الصراط المستقيم. ومن ثم ليس الإتباع والاستقامة سوى المكونات المندرجة في معالم الإصلاح باعتباره هداية. وبالتالي ليست الهداية سوى هداية الأصلح المبنية على أساس رؤية الحق والحقيقة في أطوارها المتجددة. من هنا تشديد القرآن على الفكرة القائلة، بان اليهود والنصارى لن ترضى ما لم تتبع ملتهم، والرد عليها بالبديل الأكثر تساميا المستند إلى فكرة "قل إن هدى الله هو الهدى". ولا يتعارض ذلك مع ما في القرآن من توكيد دائم على انه لا تعارض بين ما يقوله القرآن وما في "الصحف الأولى"، وان ما في القرآن هو تصديق لما سبقه. وهي فكرة مبنية على أساس الإقرار بمرجعية الوحدانية المتسامية فقط، باعتبارها مصدر الخير المطلق. وظلت هذه الفكرة تتحكم بهواجس الإصلاح العميق في القرآن حتى آخر آياته. بما في ذلك في تلك التي تقول، "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق. لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا. ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلونكم في ما أتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون". وهي الفكرة التي تعبر عن انكسار الوحدانية المتسامية في موشور الصراط المستقيم، بمعنى تجددها وإصلاحها. كما أنها فكرة أشار لها القرآن مرارا بعباراته المتعلقة بالعبرة من تجارب وتواريخ الأمم والشعوب والأقوام مثل اعتباره قصص الأوائل "عبرة لأولي الألباب"، أو تأمله لتجارب الشرائع السابقة مثل قوله "قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كانت عاقبة المكذبين".

وقد تضمنت الدعوة الإسلامية لمرجعية الحق على مبدأ إلغاء التقليد. وهو المبدأ الذي يتمثل من حيث الجوهر فكرة الإصلاح بحد ذاتها. فإدراك حقيقة الحق في الوحدانية كما هي يتطابق في التصور القرآني عن فكرة الصراط المستقيم. وهذه بدورها ليست إلا الهداية المتجددة بوصفها رجوعا إلى المنابع الأولى عبر تأمل تجارب مختلف الأقوام والأمم في حياتهم وسننهم. بمعنى إعادة النظر النقدية بالمبادئ الكبرى للصراط المستقيم، ومن ثم بالمقومات الجوهرية للمثال الواجب وإعادة دمجها في وحدة العلم والعمل. وهو موقف يستلزم من وجهة نظر الإسلام "إصلاح النفس"، باعتبارها المقدمة الأولية والضرورية والفعلية للإصلاح الحق. ولم تكن وحدة العلم والعمل، بوصفها أسلوبا الصلاح النفس فعلا فرديا بل واجتماعيا أيضا. وذلك لان تمثل صراط الوحدانية المستقيم كان يتضمن في ذاته وحدة الرجوع للمصادر (الماضي) وامتحانه الدائم في الفعل الحاضر بوصفه إصلاحا. وبالتالي، فان كل العلائق الممكنة بين الإنسان والله كانت تتضمن في مبادئها وغاياتها أثرا اجتماعيا مباشرا. من هنا جوهرية الشريعة الجديدة وتجددها الدائم في الصراط المستقيم للوحدانية المتسامية. ومن هنا أيضا فكرة "الأمة الجديدة" بوصفها تجسيدا للشريعة الجديدة، أي للإصلاح الدائم بوصفه بديلا لما أفسدته الأمم السابقة من انحراف عن جادة الحق ومبادئه.

وفي هذا تكمن حكمة استبدال الأمم، بمعنى اندثار البعض وظهور البعض الآخر. ومن ثم ليس الانحراف عن الصراط المستقيم سوى الصيغة المجردة لاستمرار تقاليد الإصلاح والحق. من هنا عبارات القرآن مثل "تلك أمة خلت لها ما كسبت". وبالتالي ليس اندثارها سوى النتاج المباشر وغير المباشر لعمي بصيرتها عن إدراك حقيقة الحق. لهذا "إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون". بينما لا أحد يعرف حقيقة المفسد من المصلح غير الله. ولا يعني ذلك سوى حكم الحقيقة (والتاريخ) وتحقيقهما في مبادئ المطلق الإسلامي، باعتباره مثالا جديدا وشريعة متممة واستقامة متجددة في الصراط الوحداني. من هنا مطالبة القرآن الدائمة بالا "يفسدوا في الأرض بعد إصلاحها"، وذلك لان الله لا يهلك "القرى بظلم وأهلها مصلحون".

وليس هذا الاندفاع الجديد للوحدانية في مبادئ الإسلام سوى استظهارها الفعلي المتجدد. من هنا مثال الأمة الحقيقي (المسلمة) وتجسيدها التاريخي في أمة العرب. ومن هنا أيضا الدعوة "لأمة الخير" من جهة، وإدانة الجاهلية العربية من جهة أخرى، كما في الآية الداعية لان يكونوا "أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر". وانتقاد صلف الجاهلية وتعنتها التقليدي، كما في الآية التي تقرر ردهم على مطالبة القرآن إياهم بان يتبعوا ما انزل من الله، "بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون".  وهو موقف يعبر عن مساعي حثيثة وشاملة لتهشيم عادات الجاهلية وعباداتها، قيمها وأحكامها، أعرافها وتقاليدها. وإذا كان هذا الموقف في ظاهره يبدو استنطاقا للفكرة الوحدانية، فان تجسيده في سلوك "الصراط المستقيم" كان يتضمن تعريض كل جزئيات الكينونة الجاهلية العربية على لهيب "الإصلاح الإلهي" و"حسابه العسير". وبهذا يكون قد وضع الإصلاح الفعلي ضمن معايير وقيم المطلق الإلهي، بوصفها الصيغة المجردة والمافوق تاريخية للإصلاح التاريخي الواقعي.

ليس المقصود بالمطلق الإلهي (الإسلامي) سوى الكلّ المتسامي في مجرى الإبداع الثقافي، والمرجعية الروحية التي يستمد الجميع منها شعاع الأمل وبريق الرؤية وقواعد المنطق وحجج الجدل ورموز التأمل وصور التفكر والرغبة في الامتثال له وتمثله. وتغلغلت هذه الحصيلة بصورة واعية وغير واعية في صرح البنية التاريخية للخلافة وكيانها الروحي. فقد تمثل الإسلام في فكرته الإصلاحية حصيلة التاريخ الجاهلي. ومن ثم استطاع أن يذلل في ذاته التطور "الطبيعي" للجاهلية، ومن ثم قطع احتمالاته المتنوعة، ناقلا إياها من تيار الزمن إلى تاريخ "الصراط المستقيم". وهو سبب تحول الإسلام إلى بداية التاريخ العربي ووعيه الذاتي.

إن القطع الحاد الذي مارسه الإسلام على مجرى التطور "الطبيعي" كان الصيغة المناسبة لتدخل الفكرة الروحية في جسد التاريخ الهامد. وفي هذه العملية جرى صنع الكيان العربي الإسلامي، عبر نقل العرب من زمن ما قبل الدولة إلى تاريخ الدولة والمدنية. مما أدى إلى أن يكون التاريخ العربي الجديد حلقة في سلسلة "الصراط المستقيم". وقد حدد هذا بدوره صيرورة المرجعيات الجديدة للوحدة الجديدة (الأمة). وبهذا يكون الإسلام قد صاغ في إصلاحيته الواعية وأسس لفكرة تمثل حقيقة الوحدانية لمعالم الصراط المستقيم، باعتبارها مرجعيات متسامية دون أن يحدها بقواعد صارمة. الأمر الذي بلور إمكانية نشوء مختلف البدائل ضمن ما يمكن دعوته ببدائل المطلق الإلهي.

ولعل مفارقة الظاهرة تقوم في أن هذا التنوع المحتمل هو النتيجة المنطقية لغياب المنطق، والنتيجة الملازمة لتلقائية الوحي، التي لم تكن بدورها فعلا سائبا بقدر ما كانت تعكس في ذاتها نظام الوحدانية. لقد تضمنت المنطق كنظام للإيمان والعمل، والغاية والوسيلة دون أن تحوله إلى نظام ثابت. وهي تلقائية كانت تحتوي بذاتها على عناصر الرسالة الإصلاحية بوصفها نظاما روحيا موجها للمساعي العملية. مما ساهم بدوره في إبداع نظام الوجود لاجتماعي وعرضه الدائم على محك المثال المطلق. ولا تتعارض هذه الظاهرة مع دراما الاحتمال في التاريخ. إذ ليست دراما التاريخ واحتمالاته المتنوعة سوى التمظهر الدائم للروح الثقافي بوصفه عقلا عمليا وعقلا نظريا ووجدانا معرفيا للأمة، وللجسد الثقافي بوصفه سلطة حكومية وشريعة فقهية وحركات سياسية للجماعة. وهي مكونات وضعها الإسلام فيما يمكن دعوته بالروح الوحداني في العقيدة، والروح المتسامي في القيم، والروح الوحدوي في الأمة.

بهذا يكون الإسلام قد أعطى للماضي بعدا يتجاوز تجاربه العابرة عند الأفراد والجماعات، وللمستقبل بعدا يجذب نحو مرجعياته المتسامية حركات الإصلاح، بينما يبث في حركته المبدعة روح الإصلاح في جسد الأمة الناشئة معطيا لها هوية الجماعة. وبهذه الطريقة أعطى للقرآن والسنّة مرجعية الروح، وللأمة والجماعة مرجعية الجسد. وهي ثنائية لا تقل إشكالاتها التاريخية تعقيدا عن إشكالاتها المعرفية، وذلك بسبب تمحور نشاط القوى الاجتماعية بين أصول الدين الثابتة ومبادئ السياسة المتغيرة. ذلك يعني أن ميدان هذه الثنائية هو نفس ميدان الوجود التاريخي للأمم والحضارات، أي ميدان صراع المصالح والسلطة والعقائد والأيديولوجية.

فأصول الدين الكبرى تتصف بالثبات من حيث رمزيتها بالنسبة للوعي التاريخي، ومصدريتها بالنسبة للتأويل. بمعنى جوهريتها في العلم (المعرفة). أما مبادئ السياسة المتغيرة، فإنها متغيرة من حيث أثرها المباشر في الوجود التاريخي للدولة. بمعنى جوهريتها بالنسبة لكينونة الجماعة والأمة. من هنا تجليات الثنائية الإسلامية للروح والجسد في مرجعيات الدين والدنيا، التي استندت، شأن غيرها من المرجعيات، إلى مصادر الإسلام الأولى أو مرجعياته الأولى مثل مرجعية الله في القرآن (الدين) ومرجعية النبي في الدنيا ( السياسة) وتحورهما اللاحق في أولوية القرآن والسنّة بالنسبة للاجتهاد، وتمظهرهما الثقافي في الإجماع والاجتهاد، بحيث احتل الإجماع موقع القرآن في اليقين، والاجتهاد موقع السنّة في العمل. ومنهما نشأت مرجعية العلم والعمل.

كانت هذه المرجعيات الثقافية نتاجا للاجتهاد التاريخي للمسلمين. فقد احتوى الإسلام على روح الإصلاح كما احتوى روح الإصلاح على مرجعياته الأولى، التي شكلت مقدمة ما يمكن دعوته بفلسفة الحدود الوحدانية والاعتدال. وفي هذا كانت تكمن الاحتمالات المتنوعة في الواحدية الثقافية للخلافة.

 

ا. د. ميثم الجنابي

.......................

[1] القرآن: المائدة، الاية 17.

[2] القرأن: البقرة، الاية 253.

[3] القرآن: غافر، الاية 68.

[4] وهي جوانب سوف تتكشف لاحقا في توتير الأعصاب الإسلامية حول قضايا القضاء والقدر والاستطاعة والكسب والجبر والاختيار وغيرها من المسائل المختلف عليها، أي كل ما كان يعبر من الناحية المجردة عن فاعلية الوحدانية القرآنية في العلم والعمل، وبالتالي في تفعيل جذور الإصلاح نفسه.

[5] من الصعب حصر هذا الرجوع بمعايير ومعالم العقلانية العملية، لا سيما وأنها عادة ما تتعلق بميدان العلاقات السياسية والمصالح.

 

في المثقف اليوم