دراسات وبحوث

تحليل ونقد الاصلاحية الاسلامية الحديثة (2)

ميثم الجنابيالمفارقة التاريخية لوعي الذات الإصلاحي الإسلامي (1)

إن المفارقة التاريخية التي رافقت ظهور العالم الإسلامي الحديث تقوم في ولادته كبيرا. مما حدد بالضرورة عسر تربيته وصعوبة انقياده بما في ذلك لنفسه. وذلك لأن انهيار الإمبراطورية العثمانية (التركية) كان يعني أيضا انهيار روح العظمة الزائفة واستظهار عجزها الذاتي. لقد اثبت ذلك وكشف في الوقت نفسه، عن أنها لم تكن إمبراطورية بالمعنى الدقيق للكلمة، ولم تكن قادرة على أن تكون إسلامية، لأن هويتها النهائية كانت تذوب منذ عهد بعيد في تركية عديمة المعالم. فقد كشفت عما وراء لباسها الإمبراطوري المزركش وهيئتها الانكشارية عن جسد عجوز. أما الحداد الجنائزي الذي أعدته الإمبراطوريات الأوربية المنتصرة فقد كان يكشف عن قوة وشكيمة وإصرار في التهام كل ما يمكن التهامه على انه غنيمة العصر، والثأر التاريخي الذي لازم مخيلة شعوب القارة الأوربية لقرون عديدة.

وقد فرض هذا الواقع معادلة جديدة كانت مقوماتها تامة الكمال في طرفي الصراع الشرقي ـ الإسلامي والغربي ـ النصراني. أنها أحدثت ما كان ينبغي له أن يحدث مطبقة حذافير الفكرة القائلة بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك!! وكشفت في الوقت نفسه عن أن ما جرى هو نتاج لما استقر في أطراف الصراع. وبهذا المعنى كان الضغط الأوربي وإجباره الحضاري الجديد نعمة تاريخية أيضا بمضمونها الثقافي والسياسي، لأنه كشف عن أن العالم والتاريخ نار تحترق بمقدار وتنطفئ بمقدار.

غير أن للإجبار الحضاري معناه العميق بما في ذلك في وجوده كأسلوب مؤثر في صيرورة الحضارة ذاتها. ففي الإجبار يندثر الماضي وتتمظهر في ظل قواه المتصارعة الإمكانات الجديدة في مختلف أشكالها على أنها بدائل "للانبعاث" الجديد. إلا أن هذا الاندثار هو الصيغة التاريخية التي يحددها توازن القوى وكيفية ظهورها. ذلك يعني بان الإجبار الحضاري هو في الوقت نفسه أسلوب وجود الحضارات وتعايشها وتصارعها، لأنه يتضمن في ذاته إمكانيات البدائل. وبالتالي، فانه يضع معيار الاستمرار "الموضوعي" في صراع الحضارات. وما عدا ذلك، فان لكل إجبار معناه الثقافي.

فعندما نقف على أرضية التاريخ الفعلية، فان الخطوات المتخذة لا يمكنها أن تتعدى قوة ذواتها الفاعلة. ذلك يعني، بان الإجبار الحضاري هو في الوقت نفسه الأسلوب المناسب للتعبير عن الطاقة الذاتية للصعود والهبوط. فهو يستمد مقوماته من مبادئ نشوئه الأولى. إذ ليس الصعود الحضاري سوى نمط تجلي الانفتاح المتزايد في بواطن المبادئ الكبرى. وينطبق هذا بالقدر ذاته على إمكانيات هبوطه. بصيغة أخرى، إن العمق الذاتي للثقافات الكبرى هو عمق مبادئها الأساسية، ومنطلقها الأول، وعلى كيفية انكسارها في ظل الصراعات الواقعية تتوقف أنماط "تهذيبها". إلا أن ذلك لا يعني بان التطور التاريخي للثقافات وأساليب وعيها تختبئ بصورة غائية في فعلها الأول. إن فرضية كهذه لا تفعل في الواقع إلا على تأمل ما جرى باعتباره قضاء وقدرا. ومن ثم تحول التاريخ إلى فعل ثابت، معطى مرة واحدة والى الأبد. أما في الواقع فإن "جموده" يقوم في أسلوب رؤيته. فالتاريخ لا يعرف صعودا إلا في مقابل هبوط، ولا هبوط إلا في مقابل صعود. بل انه غالبا ما يعي ذاته ومظاهره الثقافية في مقولات الصراع والتحدي. وفي هذا الوعي يمكن افتراض فرضيات لا تحصى، ولكنه ملزم مع ذلك بالوقوف أمام حقيقة كمون الحاضر في الماضي، والماضي في مبادئه الأولى أو بؤرته الثقافية.

كان الإجبار الحضاري للغرب الأوربي في مواقفه تجاه الشرق وتأثيره عليه هو إجبار في مفاهيم وقيم الخضوع والسيطرة. انه أثر من آثار القوة وموازينها، وليس نتاجا للروح الإنساني في كينونته الفاعلة. فالأخيرة ليست كيانا ما قائما بحد ذاته، أو قوة مغتربة تمتلئ في الفعل التاريخي كما لو أنها تجل لقانونية الحكمة أو حكمة القانون (الطبيعي أو التاريخي)، بقدر ما أنها الروح المّنسق للوحدة. غير أن هذه الوحدة لا تعني التجانس المطلق أو الهدوء الوديع، وذلك لأنها لا تفترض في صيرورتها حد النهاية، بل هي قوة الفعل الحية للصراع أيضا. بعبارة أخرى، إن الكينونة الفاعلة للروح الإنساني لا تفترض بالضرورة مطابقة التاريخ الفعلي مع الواجب المثالي، بل تشير إلى ما في غياب التطابق هذا من "نقص في الكمال"، باعتباره الهوة الواقعية التي تقف أمامها على الدوام مساعي الثقافات الإنسانية.

فقد كان من الممكن النظر إلى انهيار العالم الإمبراطوري العثماني على انه نعمة أيضا، وذلك لأنه ابرز إلى الوجود تعددا إسلاميا وقوميا جديدا، مما افترض في ذاته تكون وتعمق عناصر رجوع الأمور إلى نصابها الحق. انه استثار مشاعر الرجوع للمصادر الأولى. وبالتالي تثوير الروح الإصلاحي والراديكاليات الاجتماعية والسياسية والثقافية. فقد واجه كلاهما هذا الواقع الجديد بحماس خاص تضمن في ذاته كل التناقضات المميزة للواحدة الحية. فقد سلك العالم الإسلامي هنا سلوك البدوي الذي أجاب عن سؤال عما إذا كان يعاني من البرد، وهو عار في الفلاة، بعبارة: "أن نسبي يدفئني"!! وإذا كان هذا الرد يبدو ساذجا باعتبارات الجسد، فانه عميق باعتبارات الروح. فهو يكشف عن أن للجسد دفئه الباطن فيما وراء جلده العادي، أي كل ما يربطه بمشاعر الانتماء غير المرئية.

فقد كان هذا الباطن التاريخي لقوميات "الأمة الإسلامية" يكمن في شعورها العميق بإرثها الثقافي. مما كان يهدأ في ذهنية وسلوك الإصلاحيات الإسلامية والراديكاليات السياسية ورع الضمير المضطرب ويمده في الوقت نفسه بشعور الثقة المستند إلى الفكرة القائلة بأن الحياة في حروبها دول، أي متغيرة ومتبدلة. وفيما لو أزلنا شاعرية هذه الصورة وتجريدها عن كل ما يبدو في لغة الأدب تعبيرا عن مأساوية المصير وبطولة المواقف، والنظر إليها في واقعها التاريخي، فإن المعادلة الجديدة فيما بين الغرب والشرق كانت تتمحور في كينونة التحدي الجديد بين شروق الغرب الأوربي وغروب الشرق الإسلامي، أي كل ما كان يرافق عملية الإجبار الحضاري، التي اخذ "الغرب" يفرضها على "الشرق".

لقد كان لهذا الإجبار الحضاري مقدماته الدامية في التاريخ الأوربي. فهو يظهر كما لو انه إنكار ونفي وخيانة لتلك الأجنة الكبرى في روافده المدنية، أي في تكوّن ونمو عناصر النزعة الإنسانية في عصر النهضة، ومحاربة المركزية الكنسية والدوغمائية الدينية في عصر الإصلاح، والتثوير المعرفي ـ الثقافي لعصر التنوير، وتطور العلوم التجريبية ودورها في ترسيخ العقلانية والدنيوية وما إلى ذلك. إضافة إلى قيم الليبرالية والديمقراطية البرجوازية المنتصرة. أما في الواقع فانه لم تكن هناك خيانة ولا إنكار ولا نفي. لقد سار كل شيء على انه جزء من كلّية الصيرورة الرأسمالية وتراكمها النهم، أي الملازمة لمرحلة الانتقال من الطر الديني السياسي إلى الطور السياسي الاقتصادي في التطور التاريخي الأوربي. وقد كانت هذه العملية عميقة المحتوى وبعيدة الأثر بحيث نقلت الكيان الأوربي، رغم تجزئته المتفاقمة، إلى وحدة جديدة من خلال فرض أولويات مركزيته في وعيه الذاتي. وهو ما يفسر لحد ما غياب رؤية الغير وآثارهم فيه. لهذا أصبح من الممكن أن يفترض الأوربي في تاريخه العلمي والفلسفي والأدبي تلقائية تطوره الذاتي. وهي نظرة واقعية للأنا الأوربية. إلا أن هذا الافتراض الصارم في تجاهله للغير يتضمن البقايا المقلوبة للهمّ الشرقي في الوعي التاريخي الأوربي ووجدانه. ومن الصعب توجيه اللوم إلى ظاهرة من هذا النوع، ما زال التطور الأصيل يستلزم بالضرورة النفي الدائم لمقدماته. فمن الصعب على الشجرة مثلا، أن تلتفت في نموها إلى بذرتها الأولى، ما زالت هي ذاتها تعطي في ثمارها البديل الكمي والنوعي لبذرتها الأولى. إضافة لذلك، ترتبط هذه القضية بتكامل وعي الذات. إذ حالما يحدث ذلك، فانه يؤدي بالضرورة إلى تعميق عملية الإبداع استنادا إلى قواها الخاصة. آنذاك تصبح المطالعة الخارجية جزءا من التراث الحضاري، أو جزءا من تعميق معرفة الذات ومحاولاتها الإحاطة بكل ما هو موجود. وبالتالي تساهم في أنسنة الرؤية رغم كل مثالب هذه العملية بالنسبة لأولئك الذين يصبحون موضوعا أو مادة للدراسة المتأملة. فالعقل المسلوب يمكن أن يتألم لهذه الظاهرة أو يتحسسها ومع ذلك فانه لا ينبغي أخذها على محمل الجد من وجهة نظر تعميق وعي الذات الثقافي. بل ينبغي أخذها على أنها معطيات وليست أحكاما وقيما. فهي في أفضل الأحوال مجرد فرضيات لا غير.

فقد جرى التطور الداخلي لأوربا من خلال الرجوع إلى المصادر اليونانية في الفكر، والرومانية في السياسة، والنصرانية الأولى في إيمانها الوجداني، مرورا بالوساطة العربية[1]. أما التطور الخارجي فقد ارتبط، فيما لو استعملنا عبارة القدماء، بقوى النفس الغضيبة لخيالاتها المشرقية. "فالاكتشافات" الجغرافية لم تكن في احد جوانبها، سوى نتيجة تتبع حاستي الشم والنظر الأوربيتين لبريق الجواهر الشرقية وأريج عطوره وروائح توابله المغرية.

ولا يعني ذلك الانتقاص أو التقليل من شأن هذه "الاكتشافات". فقد كانت دون شك، "اكتشافات" للوعي الأوربي وتوسيعها لمداركه. بمعنى أنها وضعت جغرافية العالم لا في جغرافيته الواقعية، بل في تصوراتها البدائية. وهو ما نعثر عليه في ثبات الوهم القائم في تسميات عديدة كهنود أميركا وما شابه ذلك. ولكن إذا كانت هذه الاكتشافات تمتلك قيمتها في مدارج الوعي الأوربي، بما في ذلك في مركزية تصوراته" العالمية"، فلأنها استجابت لمساعي إبداعه الخاص. فقد جرى تحسسها وتلمسها وإدراكها في معترك البحث الدءوب. وهي الصفة الملازمة لكل إبداع حي، تماما بالقدر الذي عادة ما تؤدي به في البداية إلى إطفاء ورع التواضع المعرفي. وبما أن الأخير كان على الدوام من هواجس الفكر الكبير، فان الاندفاع المتحمس ل"للاكتشافات" الجغرافية، لم يكن حبا للمعرفة ولا توسيعا للمدارك. انه لم يكن "تقليدا" لروح الإغريق القدماء، بقدر ما كان استجابة لسطوة الأوربية الرومانية، أو المادية الشرهة. مما عمق في آن واحد نفسية النفس وشهوة نوازعها المادية. ومن الممكن رؤية هذه الحصيلة ليس في أدب السياسة الأوربية منذ مكيافيللي، بل وفي أدبها الشعري والروائي أيضا.

أدت هذه العملية في مجراها وفي حصيلتها الأولى إلى صنع الأسطورة المثيرة عن "الشرق". مما ولد إلى جانب تهويل هالتها الظاهرة إغراء كوامن السطوة والاغتصاب واستثارة لعاب السرقة ومشاعر الارتياب تجاه من يقف بالضد منها. مما أثقل النفس الأوربية بخطاياها. واثأر فيها روح الغزو والاستيلاء. وذلك لان "اكتشافات" الوعي الأوربي الجديد للشرق استثارت فيه روح المغامرة، وتثلم معارفه الشخصية القديمة. لكنها أرست في نفس الوقت الأساس الموضوعي للاحتكاك السياسي الحضاري الجديد، الذي دفعه تطور البرجوازيات الأوربية إلى نهايته المنطقية: التوسع العسكري والنهب الاقتصادي!! وهي ظاهرة متميزة وفريدة في التاريخ العالمي سواء من حيث فعلها وغاياتها وآليتها ونتائجها.

فقد كان التاريخ العالمي في مساره العام، احتكاما أمام محرابه الذهبي. وبالتالي فلا معنى هنا لاتهام "الآخر" وتبرير النفس في أفعالهما التاريخية. فالأخيرة هي ليست معمدانا للروح الأخلاقي، بل وشمعدانا للصوص! أو على الأقل، إنهما اختلطا على الدوام بإنتاجهما نماذج الوحدة المتناقضة باعتبارها صيرورة للحضارات ومدنياتها. وبهذا المعنى كان التوسع العسكري والنهب الاقتصادي الأوربي، اللذان رافقا صيرورة البرجوازية هو نتاج طبيعي لغياب التكافؤ الاجتماعي والثقافي والعلمي في إحدى مراحل التطور التاريخي العالمي. مما أدى بالضرورة إلى أن لا تتحدد أفعاله بغاياته، ولا آليتها بنتائجها. وإذا كان هذا اللاتطابق هو بمعنى ما إحدى القوى المحركة للتطور التاريخي، فانه شكل أيضا معيارا نموذجيا أو مؤشرا متميزا في إدراك خصوصية الثقافات الكبرى.

فالغايات الكامنة في النزوع البرجوازي للأمم الأوربية لم تكن واضحة المعالم. فهي لم ترتبط بغايات متسامية. فمظهرها المباشر الذي يوحي بالعقلانية المفرطة، ما هو في الواقع سوى أثر معكوس للمادية المبتذلة وأوهامها. ولهذا كان بإمكانها أن تستعمل كل الذخيرة الهائلة للخيال الكاثوليكي والبروتستانتي من اجل البرهنة على أن ما تقوم به، بما في ذلك خارج نطاق وجودها "الطبيعي"، على انه استمرارية لمعجزة المسيح. فهي أيضا تبعث ما في قبور الموتى من كنوز وتشفي الذات من أمراضها. أنها تفترض في آلية فعلها أهدافا لا تتطابق مع غاياتها الفعلية. وعندما أعطى هيغل في وقت لاحق لهذا المسار من خلال تأمله إياه صفة العالمية، فإنه يكون قد اقترب من حقيقة الذات. ولكنه حالما يجعله مسارا للعقل فإنه يكون قد أبعده عن متاهات الادلجة الهمجية. ففي الحالة الأولى كان سبره لغور الماضي اقتحاما للمستقبل، أما في الحالة الثانية فانه يكون قد افترض عقلا لما لا عقل له. ولهذا كان مضطرا على مداعبة جنونه الذاتي بخياله، أي الرؤية المقلوبة، والاستعلاء الرزين المظهر والخاوي المعنى، والتأمل المفرط فيما لا قيمة له.

إن هذا الانقلاب المعنوي للرؤية العقلانية عن التاريخ ومحاولة حشره فيما ترتضيه مشاعر الجرمانية المتحذلقة، كان الصيغة المناسبة للمعاناة الألمانية الباحثة عن معقولية للامعقول في واقعها آنذاك، أي للعقلانية المغلقة في قوميتها الناقصة عن الكمال. أما عقلانية المسار الواقعي لفعل التاريخ الأوربي فقد كانت متضاربة المنازع والمحتوى. مما أعطى لمظهرها همجيته المناسبة. وذلك لأنها أطفأت في ذاتها ورع القيم المتسامية. أنها أعطت للفعل قيمة الإرادة. وربطت الأخيرة بالقوة (المادية). ولهذا كانت نتائجها مطابقة لآليتها. بمعنى إنتاج الهمجية الجديدة كإحدى الصيغ الأكثر حضارة للكينونة الأوربية الحديثة. فهي همجية تختلف عن تنقلات العالم القديم وهجرات الجراد، كتلك التي مثلتها القبائل الجرمانية في أوربا والمغول في آسيا. غير انه في كلتا الحالتين، جرى تعمق الخمول التدريجي لقواهم "البهيمية" من خلال اندماجهم الشامل في امتحان الثقافة والتمدن. فهي العملية التي حورت غريزة الاجتياح الجماعي (القطيعي) صوب سهول العمران ودروبه. مما ألزم الروح بواعثها في البحث عن مصادر الجمال فيما وراء القوة الجسدية. ونعثر على هذه النتيجة في تنّصر القبائل الجرمانية واندماجها في هياكل "دولها المقدسة"، وأسلمة المغول واندماجهم في صروح الإمبراطوريات الهندية ـ الأسيوية. وكلاهما اندثرا وذابا في سيلان الثقافة القديمة. وقد كانت تلك نتيجة طبيعية، بفعل افتقادهما إلى مبادئ موجهة كبرى. ولهذا كانوا ملزمين في استمدادها من نماذج الثقافة "المقهورة". أما الاكتساح الأوربي الحديث، فانه كان في جوهره انقطاعا ونفيا كبيرا لما سبق، لأنه لم يستند إلى غريزة "الخروج" الهمجية، بل إلى كبحها الذاتي. وذلك لأنها استندت أساسا إلى تثوير وعيها الذاتي، أو أنها العملية التي ألهمتها مهمة الرجوع الدائم للنفس من خلال نفيه المستمر كأسلوب يقيني في معرفة الذات. وبما أن هذه الأخيرة قد جرت من خلال تهشم وحدة الكنيسة ودعامتها العقائدية، فقد أدى ذلك بالضرورة إلى إحلال بدائل الأوربية القومية اللادينية. مما أعطى لتطورها نزوعه القومي الدنيوي (العلماني) البرجوازي. ومن ثم حدد بدوره أيضا نزوعها الخارجي نحو السطوة والاستغلال والسرقة.

فالسيطرة "المدنية" الجديدة لم تعد استعمارا بالطريقة الإغريقية ولا بالطريقة الرومانية ولا بالطريقة العربيةـ الإسلامية[2]. لقد كان غزوا اقرب إلى الهمجية المحصنة بوعيها الذاتي الضيق. وذلك لأن حوافزها وأفعالها كانت محددة بآلية الأخذ والاغتصاب والسرقة والنهب. فهي لم تعرف العطاء ولا البذل الروحي. ولهذا لم تشرك في فلك إبداعها "الغرباء" لأنها لم تنوي ذلك، ولم تلهب هواجسها وحدانية الفكر ولا توحيدية القناعة، ولا شعور الواحدية الإنسانية. ولهذا لم يكن "استعمارها" سوى تخريب المكان وتوسيع زمان الصحراء الثقافية للآخرين. وبهذا المعنى لم تختلف الصيرورة الأوربية الجديدة في الكثير من مظاهرها، عما هو مميز للتاريخ البشري المنصرم في حضاراته ككل. بمعنى استعمال القوة الداخلية وامتدادها الخارجي في شكل غزو واحتلال. إلا أن ما يميز هذه العملية الجديدة هو محوريتها المركزية في السيطرة، أي محاولة صنع العالم وصهره من جديد على مثالها.

وقد كان لهذه العملية منطقها الخاص في الثقافة الأوربية وواقع تطورها البرجوازي. أنها استندت إلى ما استقر فيها من نماذج عليا، وذلك من خلال نفيها في مجرى التطور الاجتماعي والاقتصادي والفكري والروحي والعملي التجريبي. بحيث استطاعت أن تستعيد في مجرى تطورها وحدة صراعاتها الأولى، أو نماذج وحدتها وتجزئتها. وبهذا المعنى كانت تتمثل مساعي الرأسمال في عالميته، وحب السيطرة في قوميتها. أو أنها ذاتها الصيغة الجديدة لوحدة وصراع عالمية الكاثوليكية وقومية البروتستانتية. غير أن ذلك لا يستلزم القول بتطابق هذه الصيغ من حيث فاعليتها التاريخية. أنها تشير إلى ما في نماذجها " المتسامية" عما هو قائم فعلا في صيرورة الوعي الأوربي المعاصر ووحدة انتمائه وصراعاته فيها. فقد كانت البروتستانتية، أو بصورة أدق نماذج الإصلاح الديني في واقعيتها شكلا من أشكال الوعي القومي ونزوعه نحو التحرر من عالمية الكاثوليكية أو سيطرتها الكهنوتية الشاملة. مما أدى بالضرورة إلى بزوغ الورع القومي على انه نموذج حي لاستعادة الانبعاث المسيحي. حيث جرى فيه البحث عن الخلاص الحق من الشرعية المزيفة التي حاكت الكنيسة الموحدة في غضون قرون عديدة، ثوبه الميلادي وكفنه الجنائزي. وهو ما يفسر لحد ما سرّ المواجهة التي خاضت أوربا بها صراعها ضد الشرق باسم المسيح. لقد استمدت من حوافز الكاثوليكية العالمية نزوعها الوحدوي الملكي (الإمبراطوري). إلا أن تجسيدها السلطوي كان لا بد وأن يجري من خلال تنافس قومياتها الآخذ في النفور والفرقة. فقد كانت النزعة العالمية تشكل الخلفية الموضوعية لوجود الأمم الأوربية وصراعها. أما القومية الصاعدة فقد كانت الأسلوب المناسب لفعل هذه النزعة العالمية وعملها. وساهم كل ذلك في تشكيل الخلفية المتصارعة والمتناقضة في الوقت نفسه "لأرواح" الأمم الأوربية و"ذهنياتها". وبالتالي خلفية وأسلوب مواقفها وأحكامها وتقييمها للحضارات الأخرى وثقافتها القديمة والمعاصرة. وبما انه لكل تعميم مثالبه الخاصة، لهذا تجدر الإشارة هنا إلى نسبية الحكم المتعلق بالتشابه والتجانس الكاملين في آراء الأوربيين ومواقفهم وأحكامهم للثقافات الأخرى. إذ كشف تاريخ الوعي الأوربي ومدارسه وما يزال، عن تعارض وتضاد يصل أحيانا حد القطيعة فيما بين اتجاهاته بصدد تقييم ثقافته نفسها وثقافات الآخرين. غير أن هذه العملية ما زالت في تناقض لم يحسم نهائيا بعد لصالح التعددية الثقافية. فقد أثار القرن التاسع عشر مسألة ما إذا كان "الغرب" مدينا في ثقافته الفلسفية الإغريقية "للشرق" أم لا. لكنه حسم الإجابة لاحقا لصالح "الغرب الأوربي". وهي إجابة عميقة المحتوى ودقيقة من حيث مكوناتها وفاعليتها الواقعية. ولكنها عوضا عن أن تثبت دعائم التعددية الثقافية، انهمكت في نسج خيالها الثقيل عن عالميتها. ولم تكن هذه الضحية المأسوية للعقل والضمير معزولة عن مكونات الوعي السياسي الأوربية وروح الميكيافلية العميقة فيه. الأمر الذي ساهم ويساهم في رفع عناصر القوة والتفوق والسيطرة إلى مصاف المطلق السياسي والفضيلة العملية.

وقد كانت النتيجة النهائية لهذا الواقع تقوم في صهر الوعي الثقافي الذاتي في بوتقة الانتصارات العسكرية والتكنولوجية وتطويعها النظري والعملي في المواقف. فقد كانت تلك الانتصارات التجسيد المتعاظم والآلي للروح الثقافي. مما أغرى آلية التفكير، بفعل استقامة الميكانيك والآلة، إلى جعل القوة المادية أسلوب وبرهان القوة الروحية والحق. وإذا كانت هذه العملية المتناقضة قد أسهمت في تعميق عناصر العقلانية والموضوعية في الفكر وحريته، فأنها أدت أيضا إلى تثلم وحدة الحقيقة والأخلاق. إذ أخذت تنهمك في تأمل ذاتها ووعي جهودها على انه النموذج الوحيد الموجود. وفي سلوكها هذا كانت اقرب إلى حالة اختزال العقلانية الديكارتية إلى ديكارتية ثقافية متأوربة. وبما أن المادة الموضوعية لتفكيرها هو وجودها الذاتي، من هنا رفعه إلى مصاف الوجود الحق والمعيار النهائي للمكتشفات القديمة والمعاصرة.

وكمنت في هذه العملية المتجذرة للثقافة الأوربية وعي خصوصيتها الفريدة. وهو انجاز عميق المحتوى، بما في ذلك في إنسانيته. لكنه يبدأ بالفساد حالما يحاول تخطي ذاته، أي حالما يحاول فرض مقاييسه الثقافية على أنها نماذج عالمية مطلقة. ومن الممكن ملاحظة ذلك في فرضياته التاريخية العديدة، التي جعل منها منطقا شاملا. بحيث لم يعد تاريخ الأمم الأخرى أكثر من أشياء متبعّضة وعينات جزئية في سلسلة البراهين "العقلانية" على ما في الثقافة الأوربية من شمولية في أحكامها. بينما كان اغلب هذه الفرضيات وأحكامها أوهاما رصينة. لكنها استطاعت في هذه الأوهام أن تصنع وشائج الوعي الراديكالي وعناصر رؤيته للكلّ الإنساني من خلال التركيز على ما في عينات الثقافات والحضارات السابقة من صور "الأنا القديمة" و"الطفولية" للوجود الإنساني.

نعثر في هذا الترّفع والاستعلاء عن قوة ضاغطة نحو إدراك حفريات الوجود الإنساني. واشترك في مهمة تأطيرها الفكري مختلف التيارات التي اتسمت لحد ما بالنزعة الإنسانية. لكنه اشتراك ثقافي الصورة والمضمون. بمعنى امتلاكه خصوصية التعامل مع وجوده الذاتي في التاريخ. أما بالنسبة للثقافة الأوربية فقد كان من الصعب عليها في بادئ الأمر أن تقرن رؤيتها للغير بمعايير الشمول الإنساني[3]. لهذا كانت مضطرة أيضا إلى أن تزاول رؤيتها "العالمية" تجاه معاييرها، وأن تعطي للأخيرة صفة العالمية. وبالتالي مزاولة وهم التدجين الثقافي. بينما لا تفعل هذه الجهود في نهاية المطاف إلا على اجترار بديهيات الثقافة لا إبداعها الحر. وذلك لان تأسيس المواقف والأحكام يجري خارج كينونتها التلقائية. بمعنى نقلها إلى واقع آخر لم يتحسس معاناة الفعل التاريخي (للقيم والمواقف). وهو أسلوب يمتلك معناه وجذوره الموضوعية في الشرطية الثقافية للمقارنة وانعكاسها المعرفي.

فقد كانت بديهيات الثقافة الأوربية تكمن في إبداعها الحر. مما حدد بدوره طبيعة العلاقة بينهما باعتبارها علاقة الأنا بذاتها. أما الصعوبة التي يمكن أن تولدها ضرورة تحديد العلاقة فيما بين البديهية في الثقافة والإبداع الحر، فأنها تزول حالما يجري النظر إليها في إطار الاستمرار والانقطاع التاريخيين، أي في عملية النفي الدائم للذات. ففي هذه الأخيرة (عملية نفي الذات) تتمركز الثوابت المتغيرة للانتماء الثقافي، والتي يشكل كل من الروح الإغريقي ـ الرومي والنصراني، والعلمي ـ التجريبي قواها التاريخية الكبرى، أي كل ما أسهم في صنع وعي الانتماء الأوربي للنفس. وبالتالي إدراك الأنا الأوربية كقوة قائمة بحد ذاتها.

فقد كان هذا الانتماء جليا في التاريخ الأوربي منذ مراحل زمنية مبكرة. واستند هذا الانتماء إلى روابط فعلية ومؤثرة في صيرورة الوعي الثقافي الأوربي. حقيقة، إن الإشكالية الوحيدة هنا هي "بديهة" الانتماء الإغريقي لأوربا. فقد كان هذا الانتماء نتاجا للاستئثار الذاتي الأوربي. إذ ليس للوجود التاريخي والثقافي الإغريقي صلة جوهرية بالنزعة الأوربية المعاصرة. فالأخيرة تبلورت تاريخيا ونفسيا وثقافيا كوحدة متفاعلة للعناصر الرومية ـ النصرانية. والإغريق القدماء لم ينهمكوا في إنشاء وحدة أوربية على مثالهم ونموذجهم. بل انهمكوا في تهذيبهم الذاتي المتوافق مع قوانين الفكر والجمال الإغريقين (الشرق أوسطي)، بينما افلح الروم في التوحيد الأوربي والبحر المتوسطي. إنهم حاولوا صنع وحدة ثقافية عالمية. ووجد ذلك انكساره الخاص في ظاهرة تغلغل النصرانية الشرقية. أما تمركزها اللاحق في "الغرب" فقد أدى إلى صيرورة النزعة الأوربية المتسامية باعتبارها وحدة ثقافية مستقلة، ظهرت ملامحها الأولية الكبرى في الحروب الصليبية ضد العالم الإسلامي، وآخرها في خروجها الحديث عن عزلتها الذاتية. لهذا فان خروج أوربا من "غربتها" الخاصة قد وضعها بالضرورة أمام الشرق. ومن ثم لم يكن بإمكانها أن ترى آنذاك شيئا سواه، مما عمّق وأثار أنانيتها (من الأنا) "الغربية".

وقد كان لهذه العملية آثارها المزدوجة في تعميق شدة الخلاف والمقارنة. بمعنى إفساد الرؤية وشحذ قوتها النقدية. وليس المقصود بإفساد الرؤية التاريخية هنا سوى انبهارها المفاجئ بظواهر العالم الشرقي. فالنفس المنغلقة والمتطورة ثقافيا في ذاتها لا يمكنها أن ترى بغير مقاييسها المعتادة. من هنا كان لا بد للانطباعات الأولى أن تتسم بطابع شرطي من حيث الشكل والمحتوى. وذلك لان اصطدام الغرب الأوربي بالشرق لم يكن بالإمكان إدراكه بصيغ غير صيغ الانبهار والتعجب، والاستخفاف والاستنكار، والرفض الكلي أو التقبل الوجداني. وبالتالي لم يكن بالإمكان آنذاك بناءه على أسس غير أسس رد الفعل النفسي والوجداني. من هنا تناقض نتائج هذه الحالة. ففي الوقت الذي افسد على الرؤية التاريخية مصادر ورموز استيعابها الواقعي للشرق، فانه استثار في الانطباعات الشرطية مزاج الروح النقدي، وخيال التجول في دنيا العجائب. وقد كان هذا نوعا من إغراء الذات بالذات. لكنه كان في الوقت نفسه شكلا من أشكال الاكتشاف. لأنه كان من حيث محاكاته الثقافية بالنسبة للوعي الأوربي شبيها "باكتشاف" أميركا. أما في واقعيته فقد أثر في صيرورة الوحدة والخلاف بين الشرق والغرب. انه ساهم في تكوين الملامح الأولية للرؤية المتبادلة. وبغض النظر عن التقاليد العريقة لهذه الملامح، إلا أنها أفرغت رؤية الآخر من محتواها المتفرس بفعل الانعزال النسبي للحضارات القديمة، وبفعل بناء روحها الثقافي على أسس ومبادئ القومية. فهو لم يعط لها، حتى في حالات الغزو، بعدا اكبر من مجرد شعور السيطرة والخضوع. وهي صفة لم يخلو منها عالم الشرق والغرب على السواء في مواجهتهما الحديثة. وبهذا المعنى كانت الوحدة أيضا الوجه الآخر لرؤية الأبعاد التاريخية في الأنا والآخر. إلا أنها وحدة لها حساسيتها الجديدة، وذلك بفعل دفعها للخلافات إلى مداها الأقصى. وذلك لأنها أبرزت محورية التباين في صيغ الخلافات المدركة لذاتها، والمتمركزة أيضا في منظومات القيم والمفاهيم والأفعال الاستعلائية، كما هو جلي في كيفية ونوعية النوازع التي لازمت نظريات وأفعال المركزية الأوربية. ولم يكن لهذه الصفات وجود فاعل في الحضارات القديمة.

فقد كانت الحضارات القديمة محورية ثقافية أو دينية عالمية. أنها لم تكن قارية جغرافية. أما الخلاف الجديد فقد جرى إدراكه على أساس دمج مكونات تفتقد للتجانس فيما بينها، بالشكل الذي أعطى لها صفة النقيض المستعلي على ما هو حوله، أي وحدة الجغرافي القومي الثقافي. وان هذه الوحدة المتشكلة تاريخيا في غضون فترة طويلة قد بلغت ذروتها في القارة الأوربية "مركزيتها" الأيديولوجية. ومن الممكن أن نعثر على مثالها الأول في وحدة الثقافة الرومانية النصرانية. فقد كان لهذه الوحدة أثرها في إبداع مكونات الانتماء المشترك للشعوب الأوربية. إضافة لذلك أنها صنعت المزاج المشترك في تصورات وأحكام ورموز الشعوب الأوربية نفسها، أي أنها شكلت، بفعل عضوية اندماجها في الأنا الأوربية الحديثة إحدى مقدمات تعارض الشرق والغرب.

إن مشاعر الخلاف هذه لم تكن نتاجا لاستحواذ المركزية الأوربية على عقول الأوربيين فقط، بل وتمتلك مقدماتها وبواعثها في الشرق أيضا. حقيقة انه لم تجر مواجهة المركزية الأوربية بمركزية شرقية (آسيوية)، لأنها لم تمتلك مقدماتها المندمجة في كلّ آسيوي كما هو الحال بالنسبة لأوربا. ومع ذلك كانت "الشرقية" في اتجاهاتها المختلفة هي الإطار والتيار الذي بلورته لغة الأوربيات الصاعدة. وعندما تغنى ردوارد كيبلنغ في أنشودته الشهيرة عن أن الشرق هو الشرق والغرب هو الغرب وسوف لن يلتقيا، فانه كان يعبر في حدسه الشاعري عن افتراق المصير أكثر مما يعبر عن وحدة الضمير الكامنة في صيرورة الحداثة الجديدة للشعوب والأمم. لقد قال هو كلمة حق أريد بها باطل!! وانشد وتغنى بما لا معنى للتغني به. ولكنه عبرّ عن وهم العصر الكبير في فاعليته الكبيرة.

فعندما افترض الغرب الأوربي في وجوده ومثله قيما مطلقة للكلّ الإنساني، فانه لم يفهم الآخرين بمعاييرهم، بل بمعايير وعيه الثقافي الذاتي. ولهذا بدا الشرق في نظره غريبا ومتشائما، لا معقولا وشاذا، لأنه تحسس فيه منذ اللحظات الأولى طاقة المعارضة الخفية كقوة كامنة. فقد كان الغرب اقرب إلى إدراك حقيقة الشرق في أصالته. ولكنه كان من الصعب عليه أن يتقبلها كما هي. وهو أمر طبيعي. وينطبق هذا بالقدر ذاته على كوامن التحدي الشرقي. فقد كان للتحدي الشرقي ذراته الكامنة، ولكنها لم تع نفسها كذرات في مواجهة وتحد شامل. أنها لم تتشبع بروح المركزية الذاتية. وهي صفة كان من الصعب تبلورها آنذاك بفعل روح العالمية الثقافية أو الدينية السائدة فيه (الشرق)، إضافة إلى تنوعه الجوهري وبقائه ضمن إطار ومقومات المرحلة الدينية السياسية في الوجود التاريخي. لهذا كانت مواجهته للغرب الأوربي تفتقد إلى دقة السلاح وسلاح الدقة. لكنه اخذ يدرك ذاته في هذه المواجهة كقوى دينية وقومية وسياسية. مما أدى إلى تجمع الذرات المتناثرة في الوعي "الشرقي" آنذاك في تركيبات جديدة متنوعة ومختلفة أيضا. بمعنى أن الشرق اخذ يكتشف في هذه المواجهة ليس الآخر فحسب بل وذاته الجديدة، التي أنتجها عالم المواجهة والصراع والتحدي، أكثر مما كان ذلك مرتبطا بتطوره التلقائي. (يتبع...)

 

ا. د. ميثم الجنابي

....................

[1] ليست الوساطة هنا شيئا ما عرضيا أو إضافيا، بقدر ما أنها شكلت في واقعيتها التاريخية جزءا مهما في وحدة العناصر المكونة لأسلوب وعي الذات الثقافي وأنماطه الكبرى. فقد كانت الوساطة العربية إحدى المقدمات الضرورية للانبعاث الأوربي. فالوعي الأوربي الفلسفي لم يع أهمية مصادره العقلانية والنقدية من خلال منظومات الفكر الفلسفي الأرسطي العربي (بمختلف تياراته) فحسب، بل وفي تحويلها إلى مصادره النظرية. وبغض النظر عن الجوانب المتناقضة لهذه القضية، إلا أن ما هو جدير بالاهتمام هنا هو الإشارة إلى أن أوربة الثقافة الهيلينية هو نتاج تفاعل النصرانية الكاثوليكية والرومانية، ونفيهما في عصر النهضة والإصلاح. الأمر الذي أدى إلى أن تتخذ الثقافة الهيلينية صيغة المرجعية المناسبة للانبعاث (الأوربي) ومن هنا تكون الوساطة العربية قد تحولت في الوقت نفسه إلى عامل استثارة ومواجهة، اضمحل لاحقا في عملية النهضة نفسها. وهي المقدمة التي لم تعد فرضية قابلة للجدل إلا في مقاييس الوعي الأوربي العادي. وإلا فإنها كانت على الدوام استنتاجا وتأكيدا للدراسات الأوربية الرصينة نفسها. فإذا كانت الثقافة الأوربية في صعودها مرتبطة وثيق الارتباط بالفلسفة العربية الإسلامية، بما في ذلك في اشد حالات الجدل الفكري للاكوينية ومعارضيها، فإن أثر الأدب العربي لم يعد هو الآخر فرضية خاضعة للأخذ والرد. فمنذ آسين بلاثيوس لم تعد الكوميديا الإلهية سوى اثر قوي من مآثر الثقافة العربية الإسلامية، وينطبق هذا بالقدر ذاته على أشعار بترارك والغزل الفروسي. وإذا كان علم التاريخ المعاصر لا يدرجها في صلب مقدماته الواقعية الأولى، فلأنه يعاني في آن واحد من ثقل "الخجل" التاريخي للابتعاد عن الحقيقة كما هي ومن ثقل القيود القومية في استحواذها على الوعي الاجتماعي، أي كل ما يلازم الرؤية القومية الضيقة. لاسيما وأن التاريخ الأوربي في قرونه الثلاثة الأخيرة قد جرى ضمن مشروع وسيكولوجية الأنا القومية. مما أعطى للحقيقة بما في ذلك التاريخية لباسها الخاص. انه أفرغها من منطقيتها وموضوعيتها. وذلك بفعل صعوبة توظيفها في بنية الروح القومي ومطامحه السياسية والحضارية. وهي ظاهرة لها مثيلها أيضا في الثقافة العربية الإسلامية (القديمة والمعاصرة) عند أولئك الذين نفوا، على سبيل المثال، أن يكون علم البيان (العربي) قد تأثر بأرسطو والهيلينية، انطلاقا من انه عربي خالص، وكذلك من جانب أولئك الذين تناسوا مخاض الصدمة الأولى بالعالم الأوربي في نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين. 

[2] يختلف الاستعمار العربي الإسلامي عن غيره في كونه فعلا تاريخيا تضمن في ذاته معنى العمران الروحي الدولتي. حقيقة أن هذه الإمكانية لم تكن واضحة للعيان آنذاك حتى بالنسبة لأولئك الذين قادوا ونفذوا عملية الغزو. بمعنى أنها كانت تنطوي فيما وراء الإرادة الإسلامية في استخلافها للنبي. فقد مثل الأخير في إرادته قوانين المطلق التاريخي. ولهذا افرغ فعله من إرادته الأنانية، أي أن فعله كان يتطابق في حوافزه وغاياته مع الروح الإسلامي في وحدانيته. وهي الحوافز والغايات التي ظلت تحرك العرب المسلمين في غزوهم. فالأخير هو السيطرة والاحتلال. لكن للغزو معنى في جاهليته تستحله قواعد المعارك والأخلاق. وبهذا كان الغزو الإسلامي يمتلك شرعيته بما في ذلك في نفوس معتنقيه لا على انه ثأر أو انتقام أو سلب لقوى ما أخرى، بقدر ما انه تحول من محتوى السرقة الخاطفة إلى مصاف "السرقة التاريخية"، التي تضع الجميع أمام مهمة اقتسامها بالحق. فقد نقل الإسلام سرقة الغير وسلبه إلى عالم الوحدانية وقيودها. ومن ثم أعطى لها مبرر الشرعية الأخلاقية من خلال إدراجها في قواعد الحقوق المدنية الإسلامية، أي حقوق المسلم والأمة. مما افرغ السيطرة من محتواها القبلي والقومي والعرقي. ولهذا كان الغزو العربي الأول غزوا إسلاميا. ومن ثم يتطابق مع ما اصطلح عليه المؤرخون المسلمون عبارة "الفتح الإسلامي"، أي أن الله "فتح" على أيديهم البلدان لأنها ملك له. إن هذه الخلفية الروحية الأخلاقية القانونية أفرغت الغزو من محتواه التقليدي باعتباره سيطرة تختزل في ذاتها مدارج البداوة في قطعها لأشواط المدنية، أو هجرة المجاعة للثراء، ولا حتى المؤازرة الملازمة لآلية الدولة الآخذة في النمو والتوسع. فقد كانت هذه العناصر موجودة كروائح وراء الغنيمة، وكاستمرارية موضوعية لتكون الدولة (العربية الإسلامية). إلا أن صيرورتها العمرانية كانت منطوية في هيكلية الخلافة، مما أعطى لأفعالها معنى مندرجا في صلب الوحدانية المتشخصة في الخلافة وبعديها الروحي والقانوني. 

[3] تجدر الإشارة هنا إلى انه لم يجر بعد بلوغ هذه الدرجة من قبل أي من الثقافات القائمة. ولعل الاستثناء الوحيد في التاريخ ككل هو ما حاولت تقديمه تجارب الاشتراكية السوفيتية ونماذجها المتعددة في أوربا (وآسيا). بمعنى تقديم صيغ جديدة للشمولية الإنسانية في تعاملها مع النفس والغير. إلا أنها لم توفق بفعل انهيارها السياسي وانحلال نماذجها العملية. فقد كانت في حوافزها وغاياتها البديل الأوربي الأعمق لأوربا. وليس مصادفة أن تتخذ في جغرافيتها ومضمونها صيغة "أوربا الشرقية" في مقابل "أوربا الغربية". لقد أفلحت في محاولتها استثارة قيمة الشرقي في الأوربي. حقيقة أن هذه المعادلة لها إشكالاتها في الثقافة الأوربية ووعيها السياسي. إلا أن ما هو جوهري في الحالة المعنية واقعية البديل العملي والحضاري للمركزية الأوربية، والتي يفترضها منطق التطور الاجتماعي. ولا يغير من ذلك شيئا سقوط التجارب الاشتراكية الأوربية. فهي تقدم في أسباب انهيارها أيضا، قيمة البديل الحقيقي للشمولية الإنسانية. وذلك لأن التجارب السوفيتية الاشتراكية في موقفها الثقافي كانت تعاني من افتقار كبير للكلية الإنسانية. فقد أغرقت نفسها في شمولية السياسة والأيديولوجيا، مما افزع كلها الثقافي من محتواه الفاعل، باعتباره بديلا ثقافيا. مما أثر بدوره على تضييق الروح الديمقراطي والاجتماعي فيها. فهي لم تنف الغرب من خلال دفاعها عن البدائل الإنسانية المتعددة، بل من خلال رفع شأنها الشخصي المؤدلج إلى مصاف المطلق، واعتباره النظام الوحيد الحق وما عداه ظل وضلال زائل. بمعنى أنها سارت في مسار المعارضة السلبية للضيق الأوربي الغربي. وعوضا عن المركزية الأوربية المتحزبة قدمت توتاليتارية متحزبة.

ان الشمولية الإنسانية هي النتاج المحتمل والملازم بالضرورة لتجاوز المرحلة السياسية الاقتصادية في تطور الأمم إلى المرحلة الاقتصادية الحقوقية. ولا يمكن بلوغها الفعلي إلا على النطاق العالمي بهيئة وحدات مركزية ثقافية كبرى.

 

في المثقف اليوم