دراسات وبحوث

تحليل ونقد الإصلاحية الإسلامية الحديثة (3)

ميثم الجنابيالمفارقة التاريخية لوعي الذات الإصلاحي الإسلامي (2)

 كان الشرق مضطرا منذ اللحظات الأولى للصراع مع الغرب الأوربي الحديث إلى أن يواجه غزوا "متمدنا"، ومن ثم تحسس وأدرك منذ الوهلة الأولى روح الفضيحة القائمة فيه باعتباره شكلا يتعارض مع أسس مدنيته نفسها. وهو السر القائم وراء تشوه الغزو الأوربي في آرائه، وإشكالاته في غاياته. لقد كشفت المدنية الأوربية وتطور وعيها الذاتي في صراعها المرير من اجل الحرية والتقدم والإخاء والمساواة والديمقراطية والحق عن زيف وأنانية ظاهرية وباطنية، إضافة إلى مادية نفعية مبتذلة ولاعقلانية متغطرسة في الوقت نفسه في تعاملها مع الآخرين. فقد كانت حريتها إذلالا، وعدالتها ظلما، ومساواتها جورا، وتمدنها همجية، وديمقراطيتها استبدادا، واستقلالها عبودية. بصيغة أخرى، أنها كشفت عن أن نموذجها المتمدن هو أنانية قومية ضيقة. وبما أن هذه الصفة كانت مشتركة بين شعوب القارة كلها، فإنها ضاعفت من مركزيتها الغربية في مواجهة الشرق بالصيغة التي جعلته يبحث في ذاته عما يمكنه أن يكون بديلا لهذا الهجوم الشامل. وحصل هذا البديل على إدراك وانعكاسات نظرية وعملية متعددة. أما في عالم الإسلام فقد اتخذ صيغته الأولى بظهور مفهوم "الشرق المسلم" الذي عكس في تطور مضامينه طبيعة التحولات التي جرت في كل من العالم الأوربي والعالم الإسلامي.

فإذا كان الوعي الأوربي قد تقاسم بدرجات مختلفة منذ القرن السادس عشر الاهتمام بالشرق لاعتبارات دينية فكرية وسياسية اقتصادية، فان إحدى نتائج وإفراز هذا الاهتمام تقوم في تراكم التصورات الموضوعية عن العالم الإسلامي. ونعثر على هذه النتيجة بصورة مباشر في ظهور شخصيات علمية عديدة. بينما تتداخل في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تيارات الثقافة الغربية والاستشراقية، التي افترض وجودها وتداخلها تطور الرأسمال ومصالح القوة وتوسع الثقافة (الاكزوتيك الرومانسي والعلمي بالشرق). وقد ساهم ذلك، رغم مفارقة الظاهرة، على تعميق شقة الخلاف الشرقي الغربي. وبما أن هذا الخلاف كان مبنيا آنذاك على تباين مستويات القوة والتفوق الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي والثقافي، فانه أدى بالضرورة إلى تكوّن العناصر الجديدة لما يمكن دعوته "بالشرق الغربي". وجرى تصوير ملامح هذا الشرق في اطر وتقاليد النزعة المركزية الأوربية، أي كل ما نعثر عليه في مختلف الصور الوهمية والنمطية عن الشرق بشكل عام والإسلامي بشكل خاص. ولم تكن هذه الأوهام معزولة عن انكسار تقاليد العالم الروماني النصراني القديم ورموز وعيه الكبرى منذ الحروب الصليبية، التي كانت حصيلتها العامة تقوم في فضيلة الغرب ورذيلة الشرق، وفضيلة الغرب النصراني ورذيلة الشرق الإسلامي[1]. وكان لهذه الصورة استلابها المبطن في تاريخ الأحقاد وغفلة الذاكرة، إلا أن فعلها المباشر في عالم الإسلام أدى إلى استثارة ردود فعل مباشرة وغير مباشرة فيما يمكن دعوته بشرقية الإسلام وإسلام الشرق، بوصفها درجات متتالية في وعي الذات الروحي الثقافي والعملي السياسي.

لقد كانت "شرقية الإسلام" الغربية تركيبة مغرية، مّثلت في سلبيتها رد فعل الانتماء الأوربي النصراني. إلا أنها كانت ممتلئة بمعاني الاستقلالية العريقة بالنسبة للعالم الإسلامي. وليس مصادفة أن تصبح هذه التركيبة شعارا لوعي الذات الإسلامي الجديد. وحالما دخلت دهاليز الكينونة الجديدة للعالم الإسلامي، فانه كان لا بد لها من أن تخضع لنفس الآلية التي خضعت لها صيرورة "الشرق الغربي"، وإن بصورة معاكسة. بمعنى أنها استثارت في الشرق حمية الشرقية. وهنا ظهرت الملامح الأولى للأنا الشرقية الواعية لذاتها بوصفها كيانا مستقلا ومواجها للغرب.

وإذا كانت هذه المواجهة تتمحور حول ما يمكن دعوته بالشرقية السالبة، فانه لا ينبغي مع ذلك النظر إليها كسلبية في محتواها التاريخي. فهي ليست فقط الدرجة المناسبة لأسلوب المواجهة الذي فرضته إحدى مراحل التاريخ العالمي بين الشرق والغرب، بل ولأن صراع الشرق والغرب قد تحول إلى أسلوب جديد في مخاض الصيرورة العالمية الحديثة. لقد كان لا بد لها من أن تمر في مخاض التجربة القاسية للاتهام والاتهام المتبادل، للصراع والعداء باعتبارها دروبا في وعي الذات. وهو ما يمكننا العثور عليه في آراء رواد الفكر الإسلامي (الإصلاحي) ككل. حيث تظهر بجلاء ملامح الصراع المتزايد بين الشرقية والغربية. فقد كان الأفغاني في كتاباته الأولى، على سبيل المثال، ممثلا للجامعة الشرقية أكثر منه ممثلا للجامعة الإسلامية. وهو ما يفسر لحد ما سبب بقائها في آرائه ومواقفه حتى آخر مؤلفاته. رغم أنها أخذت تتلاشى إلى الدرجة التي يصعب فرزها بمنظومة أو مفاهيم مستقلة قائمة بحد ذاتها. ولم يكن ذلك سوى الانعكاس المتناسب مع طبيعة التحولات التي تعرضت لها فكرة الشرقية والإسلامية في منظومة الإصلاحية (الإسلامية) وممارساتها السياسية ومشروعها النهضوي. فعندما يناقش الأفغاني قضايا الأصالة والتقاليد، فانه عادة ما يردد الفكرة القائلة بان الوطأة الأشد على الشرق تقوم في تقليده للغرب. ولهذا شدد على أن الأمم الشرقية في حاجة إلى تقوية المناعة الذاتية أمام الهجوم الغربي.

لقد كانت مواقف الأفغاني هذه نتاجا لاستيعابه واقع "المسألة الشرقية" آنذاك. فهو  لم ينظر إلى هذه المسألة، حالما تطرق إليها، نظرته إلى قضية سياسية أو عسكرية خالصة، ولم ينظر إليها باعتبارات تتعدى حوافز القوى القائمة في عصره. فقد كان أدرى بعدم التكافؤ. لهذا لم يتحدث في هذا المجال عن مقارنة بين الرجل المريض والرجل السليم، ولا عن العثمانية المتدهورة والأوربية الصاعدة، بل حاول اختصارها فيما اسماه "بمعترك الغربي بالشرقي". فإذا كان الغرب قد تذرع بالنصرانية، فان ذلك لم يكن في الواقع سوى ذريعة وواجهة لا غير. وبالتالي، فان المسألة الشرقية، كما فهمها الأفغاني، هي مسألة الضعف والقوة. أما مهمة وأسلوب حلها الأمثل فقد وجده في الإسلام. وفي هذا نستطيع رؤية تحول المفاهيم والأحكام والمواقف عن عموم الشرق إلى خصوصه، أي من شرقية الشرق إلى شرقية الإسلام، ثم إلى إسلام الشرق.

لقد عكست هذه الثلاثية في صيغتها المجردة التطور التاريخي والواقعي لوعي الذات الشرقي الإسلامي. فقد كانت شرقية الشرق الرد المباشر على غربية الغرب. ونعثر على هذه الصيغة بهذا القدر أو ذاك من الوضوح، عند المفكرين المسلمين للقرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. إذ نعثر في تحديد الأفغاني لصفات الغرب على إدراك جلي لغايات الغرب الأنانية تجاه الشرق من جهة، وعدم تكافؤ القوى فيما بين الطرفين من جهة أخرى. فهو يشير إلى أن الغرب لا يقدم للشرق إصلاح سير وسيرة. على العكس!! انه يشجع التخلف والجمود. بل لا تطرق دولة غربية دولة شرقية إلا وتكون حجتها حفظ حقوق السلطان وإخماد فتنة أو حماية المسيحيين والأقليات أو حقوق الأجانب أو حرية الشعب وتعليمه أصول الاستقلال

[2]. أما الغربي فانه حالما يرى بلدان الشرق، فانه يفكر بالشكل التالي: شعب جاهل وأراضي خصبة ومعادن كثيرة ومشاريع كبيرة وهواء معتدل، إذن نحن أولى به![3] ولم يبن الأفغاني هذه الأحكام على أنها فرضيات ممكنة بقدر ما انه نظر إليها كواقع فعلي. فقد عايش هو حيثيات ووقائع الصيغ الأولى للشرقية الإسلامية التي ساهم في رسم ملامحها العملية والنظرية الفعالة. إذ ضمّنها طرفي الهجوم والدفاع، والسلب والإيجاب المستندين إلى محاولات فهم الواقع الجديد. فالأفغاني كان ابعد من أن يصاب بشعور الخيبة أمام حاضره، وأعلى من أن ينحدر إلى درك الرومانسية المبتذلة بتمجيد الماضي. وقد أنقذ ذلك ذوقه النقدي من فساد تعلقه بالماضي. إذ لم يعم الماضي رؤيته الواقعية للأمور. على العكس! لهذا أسهم أيضا في شحذ رؤيته وأحكامه المكونة للشرقية الإسلامية. ففي تقييماته للغرب لا نعثر على غبنه إياه بفعل عدوانه وسطوته ونهبه للشرق. بل يمكن القول، بان كتابات الأفغاني تتضمن في اغلب عناصرها النقدية احتراما عميقا لانجازات الغرب العلمية والعملية. لهذا طالب بالتعلم منه والاستفادة منها. إلا انه وضع هذا التعلم في شروط الإفادة لا التقليد. بمعنى انه طالب بالبقاء في حيز الأصالة باعتبارها الشرط الجوهري لكل تطور حقيقي.

وقدم الأفغاني مثال اليابان آنذاك على انه نموذج يمكن من خلاله شحذ همة المسلمين. لقد أراد القول، بأن الشرق يمكنه، رغم تخلفه المعاصر، أن ينافس ويتفوق على الغرب في مجال الانجازات العلمية. ومن الممكن القول بان مثال الأفغاني يبدو الآن أكثر وضوحا وجلاء منه قبل قرن من الزمن. بمعنى دقة حكمه على ضرورة التعلم وإمكانية التفوق. أما أصالة فكرته العميقة فإنها تقوم في محاولته التركيز على مثال اليابان على فكرة الأصالة الثقافية والتطور العلمي التكنولوجي. وقد شكل مثال اليابان بالنسبة له مرحلة انتقالية من شرقية الشرق إلى الشرقية الإسلامية. وذلك لان الأفغاني أدرى من غيره آنذاك بخصوصية الأصالة الثقافية للعالم الإسلامي. إذ كان شديد الإدراك للأثر الثقافي الكبير الذي تركه المسلمون على تطور الحياة والنهضة الكبرى في أوربا قبل قرون مضت. وبالتالي، فان استعادة هذه النهضة بالنسبة للعالم الإسلامي ممكن ولكن من خلال إتقان أساليب التطور الحديث. فالتطور لا يرتبط بدين دون أخر، ولا بشعب دون آخر. وان مثال اليابان يبرهن ليس فقط على إمكانية منافسة الغرب من جانب الشرق، بل وإمكانية التفوق عليه دون التدين بدين ما أيضا. وان الشرط الوحيد لذلك، حسب نظره، هو شرط الأصالة الثقافية. لهذا أكد على أن اليابان استطاعت أن تبز أقرانها حتى في عدم تدينها، لأنها بقت أصيلة. وبغض النظر عن الملابسات الكثيرة المتعلقة بتدين أو عدم تدين اليابان، فان ما هو جوهري في آراء الأفغاني بالنسبة للعالم الإسلامي آنذاك يقوم في وضعه مهمة تعلمه من الآخرين ورفعها إلى مصاف الضرورة، مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بالهوية الثقافية. وبما أن هذه الهوية لم تكن معزولة ولا يمكن عزلها عن الإسلام، فانه حاول أن يجد في هذه الشرقية الإسلامية القوة التي يمكنها أن تشكل روح الاندفاع الجديد للتقدم. وبهذا المنحى ينبغي النظر إلى مقارناته العديدة التي يقدمها عن الإنسان الشرقي والإنسان الغربي، وعن الغربي النصراني والشرقي المسلم. فعندما يقارن على سبيل المثال، الانجليزي بالعربي، فانه يعتبر الانجليزي قليل الذكاء عظيم الثبات، كثير الطمع، عنودا وجسورا ومتكبرا، أما العربي فانه يتصف بما يقابلها من الصفات، أي كثير الذكاء، عديم الثبات، قنوع وجزوع وقليل الصبر ومتواضع. وبغض النظر عما في هذه المقارنة من خلل يصعب تلافيه، إلا أنها تتضمن إشارات واقعية وحوافز للبدائل العملية. لهذا السبب ركز على الصفات العملية الفعلية في مقارناته كالثبات والطمع والصبر وما يقابلها من الصفات. فالأفغاني يدرك الطابع المكتسب لهذه الصفات، أي انه يدرك الخلل الممكن في هذه المقارنة في حالة أخذها كما هي بصورة مستقلة عن طابعها التاريخي الملموس وغاياتها النهائية. وذلك لان صفات الأمم عرضة للتغير والتبدل، شأن كل ما فيها. وإذا كان من الممكن الحديث عن صفات أخلاقية نفسية قومية، فان ذلك لا يتعدى حدود شروطها الاجتماعية الثقافية التاريخية باعتبارها قيما سائدة. وقد أصاب الأفغاني في مقارنته هذه وفي محاولته تأسيسها النظري التاريخي عندما رجع إلى القرآن للبرهنة على أن تشديد القرآن على الصبر وضرورة الصبر (وان الصبر هو مفتاح الأمور العسيرة، وان الفوز للصابرين) ليس إلا رد فعل على عدم تميز العرب الجاهليين بالصبر. وهي ملاحظة دقيقة من حيث قيمتها الاجتماعية السياسية. بمعنى أن الأفغاني أراد أن يثير من خلال ذلك حفيظة الفعالية الكامنة في الذات العربية الإسلامية. انه أراد التعبير عما يمكن دعوته بالهمّة الشرقية واستثارتها في مواجهة الغرب المعتدى، باعتبار أن ما يميز الأخير ليس سوى صفات يمكن اكتسابها. من هنا ضرورة الصفات العملية المستندة إلى الفعل الدءوب والصبور. ولكن إذا كانت هذه المقارنة وأشباهها تستند على تمحيص مكونات القوى القائمة وراء "المسألة الشرقية" من اجل استثارة الهمة الشرقية، فان مقارنة الغرب النصراني بالشرق المسلم، أدت في نتائجها إلى صياغة الأسس الجديدة لما يمكن دعوته بإسلام الشرق.

ففي معرض مقارنته النصارى بالمسلمين، يشير الأفغاني إلى أن القائمون بالنصرانية يسخرّون الدين لأجل الدنيا، بينما العاملون بالإسلامية يسخرون الدنيا لأجل الدين. والنصارى يحسنون أمر دنياهم وما تتطلبه مظاهر الحياة بينما لا يعمل المسلمون بأحكام الإسلام فيخسرون الدين والدنيا. والنصرانية تدعو للمسالمة وعدم التدخل بالسياسة وترك أموال قيصر لقيصر وترك المنازعات الشخصية والقومية والدينية، إلا أن أعمالهم عكس ذلك. بمعنى عدم أو ضعف خضوعها لمبادئ النصرانية وتعاليمها والتمسك بها. بينما من يقرأ القرآن ويعرف تاريخه يدرك حقيقة دعوته لاستعمال القوة في الحق والجهاد. بينما نرى أعمال المسلمين على عكس ما يدعو القرآن إليه، خاملة خنوعة غير متمسكة بما يدعو القرآن إليه من القول والعمل. فالنصارى تبدو هنا، كما يقول الأفغاني، كما لو أنها تأخذ بالعهد القديم، بينما المسلمون كما لو أنهم يأخذون بالعهد الجديد.

إن هذه المقارنة التي يوردها الأفغاني تصب في إطار إبراز طبيعة الخلاف والتباين بين العالم الغربي النصراني والشرقي الإسلامي، من اجل استنهاض همة المسلمين تجاه هذا التحدي الجديد. إلا انه لا يضع هذه القضية في إطار المواجهة المباشرة بقدر ما انه أراد الكشف من خلالها واقع التخلف الشرقي الإسلامي وعوامل نهضته الممكنة. فقد كانت نظراته في أعماقها مواجهة تاريخية فكرية سياسية ثقافية للنفس أكثر مما هي مقارنة غربية شرقية أو نصرانية إسلامية. لكنها مهدت الطريق أمام صياغة جديدة للشرقية الإسلامية في مواجهة ذاتها أكثر مما في مواجهة الغرب. ومن هنا مأثرتها الفكرية العميقة.

لقد أراد الأفغاني البحث عن سبب تطور الغرب الأوربي فوجده في خروجه عن نصرانيته. لكنه لم يبحث في ذلك عن نقص في النصرانية، بقدر ما انه صوّر الواقع بما في ذلك في نتائجه، التي يمكن أن تعارض منطلقاته الإسلامية ذاتها. فهو يؤكد على أن تطور الغرب ونهوضه ليس نتاجا لالتزامه بالنصرانية والدين. على العكس! ولم ير في الخروج على الدين فضيلة بقدر ما انه وجد في نموذجه الأوربي شيئا ما طبيعيا ولحد ما ضروريا باعتباره رجوعا للذات ومصادرها الأولى. ولهذا اعتقد بان سبب صعود النصارى الأوربيين يقوم في استعادتهم لتقاليدهم القديمة، أي تقاليد ما قبل النصرانية (اليونانية الرومانية). إذ لم تكن النصرانية بالنسبة لهم، حسب تصور الأفغاني، إلا كالوشي والطراز على الظاهر. بمعنى أن رجوعهم إلى مصادرهم الذاتية (اليونانية الرومانية) هو الذي أدى إلى نجاحهم. ومن هذه المقدمة حاول بناء استنتاجه المماثل والقائل بان الرجوع إلى مصادر المسلمين الأولى، هو الذي يشكل أساس نهضتهم الحية. وان مصادر قوة المسلمين وتقدمهم وازدهارهم هو الإسلام لأنه لا تاريخ لديهم سواه.

وإذا كانت هذه الفكرة هي النتيجة التي يفترضها تطور منطق الموازاة بين الشرق والغرب، والنصرانية والإسلام، فان أساسها الذاتي يقوم في الكيفية التي انكسر بها وعي ضرورة النهوض في مواجهة الغرب بالاستناد إلى الأصالة والارتباط الوجداني العميق بالتراث الخاص. أنها تستند إلى إدراك عميق بأنه لا يمكن للثقافة والحضارة أن يتطورا بسلامة دون الاستناد إلى قواهما الخاصة. فهما يشبهان الكائن الحي. بمعنى أن وضعهما في قالب غريب سوف يؤدي بالضرورة أما إلى تشويههما أو موتهما الطبيعي. فإذا كان التطور الأوربي يستند في إحدى مقدماته الأولية الكبرى إلى حركة النهضة وإعادة الاهتمام بالقضايا الدنيوية عند شعرائه الكبار أمثال دانتي وبوكاشيو وبترارك، فان الثقافة الإسلامية مليئة بمئات الشعراء العظام الدنيويون. وإذا كانت النزعة الإنسانية تمثل إعادة الاعتبار للإنسان من خلال انتزاعه من سيطرة الكنيسة، فان العالم الإسلامي لم يعان من عقدة مؤسسة كهذه. أما الإصلاح الديني فلم يكن بإمكانه أن يكون لوثريا أو كالفنيا. والقضية هنا ليست فقط في أن الإسلام لا يعرف كنيسة أو كيانا ما مقدسا وسيطا بين الله والإنسان، بل ولأنه امتلك تقاليده العريقة في تباين فرقه ومذاهبه وحق الاجتهاد فيه. ولهذا فان الإصلاح كان يستلزم أولا وقبل كل شيء إزاحة ثقل الانحطاط الثقافي والاستبدادية الشرقية (التركية العثمانية) الجاثمة على عقل وضمير العالم الإسلامي من خلال الرجوع إلى ما دعاه الأفغاني بإسلام الحق والحقيقة.

وعند هذا الحد يكون الأفغاني قد تمثل الحركة الواقعية في انتقال عناصر "الشرقية الإسلامية" إلى صياغة المبادئ الجديدة لإسلام الشرق، أو إسلام الدعوة الجديدة، أو الإسلام العملي. وليس مصادفة أن يوجه المفكرون الكبار للحركة الإسلامية الإصلاحية جل اهتمامهم للبديل السياسي باعتباره المقدمة الضرورية للتطور الثقافي. فقد كان نشاط الأفغاني الناضج هو نشاطا سياسيا. وكتابات الكواكبي في جوهرها وغاياتها هي مناهضة للاستبداد السياسي وتأسيسا لبديله العقلاني الإسلامي. ولهذا السبب غابت مقارنة الشرق بالغرب أو معارضتهما عند محمد عبده وظهرت عند الكواكبي. بمعنى أن الفاعلية السياسية في إصلاحية الكواكبي الإسلامية قد وضعته بالضرورة أمام تناول حيثياتها الواقعية سواء في عالم الاستبداد العثماني أو في ضغطها المزدوج على استمرارية التخلف في ظل النزوع الغربي للسيطرة السياسية على العالم الإسلامي. لهذا السبب اقتربت آراؤه وأحكامه بهذا الصدد من الأفغاني. إلا أنها تجاوزتها من حيث اندماجها في منظومة أكثر تماسكا في رؤيتها لواقع الشرق بشكل عام والعربي منه بشكل خاص.

فقد وجه الكواكبي خطابه المناهض للاستبداد للشرق عموما. وهي صيغة كانت تتمثل في نفسيتها بقايا الانتماء الإسلامي. بمعنى مطابقتها النقدية للشرق العام مع الشرق الإسلامي. لهذا أكد في (طبائع الاستبداد) أن على الشرقيين أن يعرفوا أنهم "المتسببون لما هم فيه فلا يعتبون على الاغيار ولا على الأقدار"[4]. وهي صيغة ملائمة لما يمكن دعوته بنقد الذات الشرقي باعتبارها المقدمة الضرورية لتثوير الروح الإصلاحي. فهو يكرر في أكثر من موضع على انه ما "أحوج الشرقيين أجمعين من بوذيين ومسلمين ومسيحيين وإسرائيليين وغيرهم إلى حكماء لا يبالون بغوغاء "العلماء" الغفل الأغبياء، والرؤساء القساة الجهلة. يجددون النظر في الدين… يحتاجون إلى أصله المبين من حيث تمليك الإرادة والسعادة في الحياة"[5]. أما "تجاوز" الديانة هنا فهو تجاوز تخلفها الاستبدادي. لهذا طالب الجميع بحاجتهم إلى علماء مجددين في الدين يضعون بإرادتهم الحرة (تمليك الإرادة)، أي إزالة الاستبداد السلطوي (الرؤساء القساة) والاستبداد الروحي الديني (العلماء الغفل) في أولويات مهماته. وهو الانبعاث المطابق للوعي التاريخي الجديد في إصلاحيته الدينية السياسية. إذ لا يعني إشراك المسلمين والبوذيين والنصارى والإسرائيليين في إصلاحية فعالة سوى اشتراك الشرق في موضوعاته الاجتماعية السياسية وتخلفه الحضاري عند تخوم القرنين التاسع عشر العشرين. مما يعكس أولوية الموضوعات الاجتماعية السياسية وثانوية الدينية في توجهه العملي، وأولوية الإصلاح الديني وثانوية التطبيق العملي لموضوعات الاجتماع والسياسة في أفكاره النظرية. وقد فرض هذه المعادلة منطق الإصلاح العقلاني التنويري، الذي يقترب في تجرده من تاريخ الارتقاء الطبيعي للحضارة ومستلزماته الضرورية. وأدى هذا الإدراك بفعل طابعه النقدي واصلاحيته العميقة إلى مواجهة عقدة الغرب والشرق باعتبارهما أقطاب الوجود التاريخي آنذاك.

فقد تعامل الكواكبي مع خصوصية الشرق والغرب بمعايير الواقعية. وانطلق منها في الوقت نفسه، باعتبارها المقدمة النقدية لوعي الذات السياسي والثقافي. فهو لم ينظر إلى تعارض الشرق والغرب بمقولات النفسية الأخلاقية، بل وضعها ضمن إطار النظرة النقدية لواقع الاختلاف بين الشرق والغرب في النظم والآراء والرؤية. بحيث جعله ذلك يتكلم عن استبداد غربي وآخر شرقي. فإذا كان الأول يتميز بخوفه من العلم، وان يعرف الناس حقيقة أن الحرية أفضل من الحياة، وماهية الحقوق وكيفية الحفاظ عليها، وما هي إنسانية المرء ووظائفها؛ فان أخوف ما يخافه المستبدون الشرقيون هو العلم. فالمستبدون يرتجفون من صولة العلم، وكأن أجسامهم من بارود والعلم نار[6]. وان الاستبداد الغربي احكم وارسخ ولكن مع اللين، بينما الاستبداد الشرقي مقلق سريع الزوال ولكنه مزعج. وانه إذا زال الاستبداد الغربي فانه يتبدل بحكومة عادلة تنجز ما يمكنها انجازه حسب ظروفها وإمكاناتها الملموسة، بينما يخلّف زوال الاستبداد الشرقي استبداد شر منه. وذلك لان الشرقيين لا يفكرون بالمستقبل[7]. تحتوي هذه الرؤية المقارنة على انتقاد عميق للاستبداد ومحاولة كشف خصوصيته. فالكواكبي يدرك أن الاستبداد واحد. وان تباين أشكاله لا يعطي لأي منه امتيازا وأفضلية. غير أن واقعية أحكامه تستند إلى واقعية رؤيته للأولويات في الفكر والسياسة. بعبارة أخرى، أن تقييمه جرى من خلال رؤية نقدية عميقة لتاريخ التطور السياسي للغرب وصعود قضاياه السياسية والحقوقية إلى صدارة وعيه الاجتماعي (الحرية والحقوق والإنسانية)، أي كل ما يفتقده الشرق بشكل عام والإسلامي بشكل خاص.

لم يقصد الكواكبي من كلامه السابق استبدال الاستبداد الشرقي بآخر أجحف منه، بقدر ما انه ربط هذه القضية بافتقاد أو ضعف الرؤية المستقبلية. وهذه بدورها ليست إلا الصيغة السياسية لأهمية وعي الذات التاريخي والعملي. ومن ثم فإنها تحتوي على ما يمكن دعوته بمهمة صياغة مقومات الوعي الذاتي بما يتطابق مع خصائص الوجود الفعلي. ولعل في مقارناته عما اسماه باختلاف الإنسان الغربي عن الشرقي نموذجا لذلك. فالأول يعني بكسب المال بينما لا يفكر الشرقي بذلك[8]. وان الإنسان الغربي مادي الحياة، قوي النفس، شديد المعاملة، حريص على الانتقام. أما الإنسان الشرقي فهو أدبي، يغلب عليه ضعف القلب وسلطان الحياء، ويصغي إلى الوجدان والرحمة والعطف ولو مع الخصم. متميز بالفتوة والقناعة والتهاون بالمستقبل. وهي صفات لها مقوماتها الواقعية في عصره[9]. وبغض النظر عن طابعها الجزئي ولحد ما طابعها الأيديولوجي، إلا أنها تعكس كما هو الحال عند الأفغاني، معالم التفاؤل المعنوي في إمكانية استنهاض الروح السياسي الإسلامي. فهو لا يتكلم من حيث الجوهر عن اتهام أخلاقي أو سياسي لطرف ما، بقدر ما انه يحاول من خلالها (الصفات) الحديث عن ظاهرة اجتماعية سياسية وثقافية كبرى. فعندما يتكلم الكواكبي عن الاستبداد الشرقي والغربي فانه "رفع" الثاني مقارنة بالأول. بل نراه يكيل المديح للغرب في مختلف جوانب إبداعه العلمي والاجتماعي. ومن خلال ذلك حاول البرهنة على أن الاستبداد يخلق على مثاله مجتمعه وأناسه. ومن هنا حاول إبراز رذائل الشرق في مختلف مكوناته المادية والروحية. مما يعني بان مقارنته المذكورة أعلاه كانت تهدف إلى تعميق وعي الذات الإسلامي. إذ لم يعن الشرق عنده هنا سوى الشرق الإسلامي. كما انه سعى لتعميق هذه الرؤية استنادا إلى مكونات الوجود الإسلامي نفسه. فعندما عارض الإنسان الشرقي بالغربي في موقفه من موقع وعلاقة الغاية بالوسيلة، وتبرير الغربي لكل وسيلة من اجل بلوغ غاياته، فانه أكد على أن "الحكيم الشرقي" لا يبيحها لما بين أبناء الشرق والغرب من التباين في الغرائز والأخلاق[10]. ذلك يعني انه يقر بإمكانية وجودها في عوام الشرق واستحالتها في حكمائه. مما يعني إدراكه لإمكانية قول "حكماء" الغرب بها. وهي الخاصية التي تجد انعكاسها غير المباشر في تباين الرؤية والغايات في الشرق الإسلامي عن الغرب. بحيث نراه يسعى للكشف عنه على مثال الموقف من المجد. فهو يشير إلى أن "المجد لا ينال إلا بنوع من البذل في سبيل الجماعة"[11]. وهو الذي يعبر عنه الشرقيون بعبارة "في سبيل الله، أو سبيل الدين". بينما يعبر عنه الغربيون بعبارة "في سبيل الإنسانية، أو سبيل الوطنية"[12].

أن هذا التعارض البليغ في اللسان والجنان هو النتاج الطبيعي لاختلاف الثقافة وأوزانها الداخلية. لكنه اختلاف لم يسع رجال الإصلاحية الإسلامية إلى دفعه صوب وديان الخلاف، بل وجهوه صوب تعميق الوعي الاجتماعي الإسلامي بالصيغة التي يمكنه تثوير وجوده السياسي والثقافي. وقد أدت هذه النتيجة في حصيلتها إلى تشكيل أسس ومنطلقات البناء اللاحق "لإسلام الشرق" بمختلف مظاهره. ولم يعن ذلك من الناحية التاريخية سوى ظهور الإسلام كقوة سياسية ثقافية مستقلة تأخذ على عاتقها مهمة بناء الكيان الشرقي على أسس إصلاحية عقلانية.

***

 ا. د. ميثم الجنابي 

 ....................

[1] إن الصيغ الأيديولوجية لهذا التفوق تندرج في سطحية الأحكام الأوربية عن العالم الإسلامي. وإذا كان تطور معارف الغرب عن علوم الإسلام قد ذلل في نهاية المطاف هذا الوهم المتعجرف برفعه إلى مصاف الإدراك الموضوعي لحقائق التاريخ والأشياء، فان ذلك لا يعني إزالته كليا. على العكس!! إن سيطرة الأوهام الأيديولوجية والأساطير السياسية الثقافية ما زالت سائدة في الوعي العادي (الجماهيري). وهو ما نعثر عليه في سيادة التعبير السلبي عن رمزية الراية الخضراء والهلال والجهاد، إضافة إلى انعكاس صور الإسلام في وهم الأوربي العادي عن التخلف والجهل وتعدد الزوجات والحجاب والعنف والإرهاب والتطرف. وهي فكرة يمكن العثور على احد نماذجها الكلاسيكية في تلك العبارة المبتلاة بغبائها، والتي أطلقها في يوم ما احد رجال البرلمان البريطاني صارخا: "إن القرآن اصل البلايا في هذا العالم"!!

[2] الأفغاني: الأعمال الكاملة، المؤسسة المصرية للتأليف والنشر، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1966، ص454.

[3] المصدر السابق، ص455.

[4] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ، المؤسسة المصرية للتأليف والنشر، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1970، ج2، ص33.

[5] المصدر السابق، ج2، ص396.

[6] المصدر السابق، ج2، ص360.

[7] المصدر السابق، ج2، ص384.

[8] المصدر السابق، ج2، 384.

[9]إن هذه التقييمات ومثيلاتها عند الأفغاني وغيره من رجال المرحلة تعمم الملاحظات الدقيقة لخصائص التطور الروحي والثقافي للغرب والشرق وبالأخص في مواجهتهما المباشرة في القرن التاسع عشر. حيث تبدت بجلاء علامات حب المال والنزوع نحو السيطرة والقوة وسيادة مبدأ الغاية تبرر الوسيلة عند الإنسان الغربي (الأوربي). بمعنى أنها ليست صفات مطلقة بقدر ما أنها مثلت في واقعيتها الرصد المناسب لما هو عام وجوهري في إحدى المراحل التاريخية (السياسية الاقتصادية). فالشرق ذاته لا يخلو ممن يتصف بصفات الإنسان الغربي المذكورة أعلاه. ولكنها تبقى مجرد صفات جزئية. أي لم تتأطر في منظومة من القيم مؤسس لها في الفكر السياسي والاجتماعي والأخلاقي.

[10] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج2، 395.

[11] المصدر السابق، ج2، ص362

[12] المصدر السابق، ج2، ص362.

 

 

في المثقف اليوم