دراسات وبحوث

تحليل ونقد الفكرة الإصلاحية الإسلامية الحديثة (7)

ميثم الجنابيفكرة الأنا الثقافية الحرة (1) 

إن التناقضات الملازمة لمحدودية المنظومات الفكرية هي في الوقت نفسه احد الشروط الضرورية لنمو وتراكم الروح النقدي الثقافي. وذلك لأن مساعي الفكر في محاولاته تنظيم الآراء والأحكام والقيم في منظومة لها حدودها الخاصة عادة ما يؤدي إلى تعميق عناصر النزعة النقدية. ومن ثم إرساء أسس المقدمات الضرورية لتأصيل وعي الذات العقلاني، وبالأخص حالما تجري هذه العملية بمعايير الإدراك الواقعي للأولويات التاريخية الفعلية. فنشوء وتطور الفكرة النقدية للإصلاحية الإسلامية تجاه النفس هو الوجه الآخر لإدراك أولويات الإصلاح الذاتي. لاسيما وأن ظهور فكرة الإصلاح الذاتي بهيئة منظومة فكرية نظرية وعملية هو التعبير المناسب عن بلوغ العقل النظري والعملي إدراك حدوده الذاتية.

إن إدراك قيمة الكينونة الثقافية لعالم الإسلام هو الذي حدد مضمون وضرورة الأصالة في عقلانية ومساع الإصلاحية الإسلامية. ومن ثم وضع إمكانية التعددية (العلمية والعملية). فإذا كانت مظاهر الرؤية النقدية للأصالة عند الأفغاني مرتبطة بصراعه الفكري ضد الدهرية (الهندية) ونهايتها في الدعوة الشاملة للنهوض الإسلامي، فإنها اتخذت عند محمد عبده صيغة الوحدة الهادئة بين العقل والأخلاق، مما ألبسها لباس التنوير والنزعة الإنسانية. في حين جرى بلورتها في آراء الكواكبي بوصفها أجزاء مترابطة ومتوحدة في مشروعه السياسي الديمقراطي والقومي التحرري. بحيث أدى في الحصيلة إلى استثارة القوى الروحية الكامنة للثقافة الإسلامية في أفعال القوى الاجتماعية الناشطة. ومن ثم مهدت لصعود فكرة البدائل ومشاريع النهوض دون أن تفرض بصورة جازمة تصوراتها وأحكامها على الآخرين. من هنا يمكن فهم مضمون الفكرة التي وضعها محمد عبده في مجرى مقارنته بين المسيحية (والغرب الأوربي آنذاك) وبين الإسلام في مجال الموقف من العلم. فقد ظلت المسيحية  والغرب الأوربي أكثر من ألف عام قبل أن يظهر فيها العلم، أو تنشأ الحرية الشخصية أو تسري فيها الحركة العملية إلى ما فيه صلاح الجمعية الإنسانية. بينما لم يمض على المسلمين من يوم استحكمت فيهم البدع إلا اقل من ثمانمائة سنة(!) وهي إشارة تتضمن من حيث رمزيتها التاريخية الإشارة إلى فترة سقوط الخلافة العباسية، ومن حيث رمزيتها الثقافية إلى انهيار الكينونة الثقافية الإسلامية الكبرى.

ففي مجرى إدراك ما اسمته بالحدود الذاتية وقيمة الكينونة الثقافية كانت تتراكم صياغة الإمكانات المتنوعة لتأصيل الأصالة، ومن ثم تنوع الرؤية النظرية للماضي والمستقبل وانكسارهما في مختلف قضايا ومسائل الوجود المعاصر. وقد حدد هذا بدوره مهمة تجديد الرؤية ومشاريع البدائل، بوصفها ميدان التجسيد المباشر لبلوغ الوعي النظري والعملي مستواه الرفيع والخاص. لاسيما وأنها الحالة "الطبيعية" التي تفرضها أيضا مشاعر الانتماء الثقافي ومنطق الرؤية العقلية والوجدانية لأولويات "القضايا المصيرية" وكيفية حلها. بمعنى البقاء في حيز الوجود التاريخي والفناء في الواجب، باعتبارها المعادلة التي تحتوي على قيمة وفاعلية الإدراك المتنوع لتأصيل الأصالة (أو إدراك الحدود الذاتية).

وقد جرت هذه العملية في أفكار الإصلاحية الإسلامية من خلال الرجوع إلى بداية الذات الثقافية وليس إلى بداية زمن "السلف الصالح"، وبالتالي لم تجر عبر توجيه الفكرة الإصلاحية وتوجهها العملي صوب فكرة المثال - الواجب، بل من خلال وضعها بمقولات الفكرة الواقعية ومعايير العقلانية المستقبلية. مما حدد بدوره خلوها من إفراط الاستشهاد المتكرر والممل بالماضي وبطولاته الواقعية والوهمية. بعبارة أخرى، لقد جرى الخروج من أوهام الروح البطولي وتقاليده اللاهوتية المخدرة للعقل والضمير صوب تأسيس بطولة الروح العقلاني. ولم يكن هذا رد فعل أو معارضة على ما في "عقلانية الضمير واللسان" (فكرة النهضة العربية الدنيوية) من قيم كبرى وفعالة بالنسبة لاستثارة الحماس الوجداني، بقدر ما كانت تمثل الاستكمال النقدي والأكثر عمقا لما فيها. وذلك لأن الإصلاحية الإسلامية حاولت تحقيق ذلك من خلال الرجوع إلى بداية الصيرورة الثقافية للكينونة الإسلامية. بمعنى أنها لم تقف عند حدود المتحجرات الجميلة للحضارة الإسلامية، بل تجاوزتها صوب مصادرها الأولى. وفي هذا كانت تكمن قدرتها العقلية ونشوتها الوجدانية في تنشيط فكرة التأصيل الثقافي وتأسيسه بالاستناد إلى فكرة الانتماء الثقافي ومرجعيته الجوهرية، أو ما أسميته بوحدة البقاء في حيز الوجود التاريخي والفناء في الواجب.

لقد كانت هذه الحصيلة النتيجة المترتبة على توليف ووحدة النزعة النقدية العميقة والتوجه الإصلاحي، أي كل ما يلازم بالضرورة إدراك قيمة الأولويات باعتبارها المقدمة الضرورية للفعل العقلاني. وبما أن قيمة الأولوية وفاعليتها مرتبطة أساسا بادراك طابعها ومستوى تأسيسها الموضوعي، لهذا لم يكن بإمكان هذه الوحدة الخشنة والمرنة أيضا أن تخلو في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بالنسبة لعالم الإسلام من أثر وتأثير الأغشية الوجدانية والأوهام الصنمية لزمن الاستبداد والاستعباد. وقد انعكست في هذه الظاهرة المتناقضة مفارقة الوجود التاريخي والثقافي للمرحلة (عهد التخلف والاستبداد والهجوم الاستعماري الأوربي) سواء جرى النظر إليه بمعايير الواقع أو بمعايير الواجب. وقد تكون حالة "الواجب" في نظام "الحرام" و"الحريم" وأشكالها ومستوياتها المتنوعة في قصور الخلفاء والسلاطين الصورة النموذجية عن هذه المفارقة. وإذا كانت هذه المفارقة هي الأسلوب المميز أيضا لحالة العالم الإسلامي عند اصطدامه بالقرن التاسع عشر - العشرين الأوربيين، فإن إدراكه الموضوعي في الإصلاحية الإسلامية لم يكن بالإمكان حصره بمستوى ما معين، أو جانب ما معين. مما حدد بالضرورة تنوع مساعي الإصلاحية الإسلامية واشتراكها في الوقت نفسه بأولوية الهموم الثقافية والسياسية. غير انه لم يجر حصر هذه المساعي والهموم ضمن آفاق محددة مسبقا أو معطاة مرة واحدة والى الأبد. أما اليقين الراسخ ومختلف مظاهره وأشكاله فقد كان الصيغة الوجدانية الملازمة لروح الثبات التاريخي المميز للإصلاحيات الكبرى، أي الغشاء الضروري للكينونة الاجتماعية والنفسية والثقافية. فهي المقدمة الخطابية للعمل المرتبط بفكرة الواجب. مما حدد بدوره آلية الرجوع للذات الثقافية، بوصفه تعبيرا عن حال البقاء في حيز الوجود التاريخي والفناء في الواجب. من هنا قيمة المرجعية (الثقافية) وفاعليتها في الرجوع "التاريخي". ذلك يعني، إن مرجعيتها لم تكن لاهوتية سلفية ولا مذهبية سياسية، بل مرجعية الإصلاحية العقلانية صوب الإسلام الثقافي.

إن استمداد الإصلاحية الإسلامية لمرجعياتها الأساسية من الإسلام الثقافي كان النتيجة الملازمة لمنطق الإدراك المتعمق في ذاته. أما التقليدية الظاهرية فيها، فإنها تقليدية الثبات التاريخي ضمن أصوله الثقافية، وليس ثبات الفكر وجموده في مقولات الماضي وقضاياه واهتماماته. ومن هنا اشتراك مختلف شخصيات وتيارات الإصلاحية الإسلامية في مرجعيات كبرى محدودة جرى حصرها بأصول القرآن والسنّة. ولم تعد هذه الأصول ديوان المعرفة المطلقة في تبويبها العقائدي والفقهي الجاهز، بل النماذج الرمزية المعقولة والمتغيرة. لهذا اعتبر محمد عبده القرآن هو "المعجزة الوحيدة" في الإسلام[1]، بسبب كونها "عرضت على العقل ومفهومة من قبله"، كما أن الإيمان لا يستلزم تغير سنّة الله في الوجود. بعبارة أخرى، انه لم يضع الإيمان "بخارق العادة" في ميدان التصديق فحسب، بل وقيّده بإدراك العقل وفهمه إياه. فالمعجزة هنا هي ليست خرق العادة، بقدر ما أنها "سنة الله في الوجود"[2]، أي قانون وجود الأشياء كما هي. وهي "السنّة" التي حاول إدراجها في ما يمكن دعوته بقانون الوحدة الثقافية وكونها احد المصادر التاريخية الجوهرية.

 وليس مصادفة أن يشدد محمد عبده على أن القرآن سيبقى على الدوام سندا أخيرا يمنع الأمة من السقوط في الهاوية. ذلك يعني انه لم يعط للقرآن هيئة الكيان السحري، بقدر ما حاول ربط وجوده التاريخي (أو بصورة أدق ما قبل تاريخي باعتباره وحيا إلهيا) بوجوده الثقافي باعتباره كتابا (فُصّلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون). وتعّبر هذه الوحدة التاريخية الثقافية فيه عن مصدريته الجوهرية، بوصفه "كتابا واحد لأمة واحدة"، وأنه "إمام المتقين ومستودع الدين"[3]. ولم يعن محمد عبده بإمامته ومستودعته هنا سوى رمزيته التاريخية الثقافية، بوصفها القوة الحافظة للوجود العربي (والإسلامي). وفي هذه الفكرة يمكن رؤية محاولته لاستظهار التاريخ المنصرم وتجسيده في آفاق المستقبل، تماما بالقدر الذي يمكنها أن تضع للمستقبل المجهول (والقاتم) حدوده المضيئة، باعتباره السدّ الأخير أمام الهاوية. ووضع محمد عبده هذه الفكرة بعبارة: "إليه المرجع إذا اشتد الأمر وعظم الخطب"[4].

إن مرجعية "المرجع الأخير" تحتوي على ما يمكن دعوته بأصولية الوحدة الثقافية، وليس الدينية والمذهبية والعقائدية منها والمعرفية. وفيها نعثر على إعادة تأسيس لآراء الأفغاني عن أن ازدياد حجم الهزيمة والضغط التاريخي على العالم الإسلامي سوف يجبر أتباعه على وعي حقيقة كونهم لا يفقدون في نضالهم إلا قيودهم، ولكن بالشكل الذي يعطي لما يقومون به بعدا عقلانيا وتنويريا وإصلاحيا. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه "لا تزال الشدائد تنزل بهؤلاء المنتسبين إلى الإسلام، ولا تزال القوارع تحلّ بديارهم حتى يضيقوا. وقد بدءوا يفيقون من سكرتهم ويفزعون إلى طلب النجاة… وعند ذلك يجدون هذا الكتاب الكريم في انتظارهم، يعدّ لهم وسائل الخلاص"[5]. ولا يعني انتظار القرآن لأولئك المنتسبين إليه من الناحية الواقعية، سوى إدراك فعل القيم الثقافية الروحية، ومن ثم الرجوع إلى مرجعية الذات الثقافي. إذ لم يسع محمد عبده إلى فرض القرآن على المسلمين، بقدر ما كان يسعى لتوكيد فعل الإفاقة من سكر الجمود والفزع إليه (القرآن) وطلب النجاة به. ولم يعن ذلك بالنسبة له سوى الرجوع الواعي لمصادر وعي الذات. فقد وضع هذه المهمة تحت ضغط عوامل الإجبار الحضاري للقرن التاسع عشر، الذي الزمه كما الزم الأفغاني قبله بمهمة إدراك قيمة "العروة الوثقى". وإذا أراد الأفغاني لها أن تتطابق مع قيمة العمل، فإن محمد عبده أراد لها أن تكون فعلا للقيم، أو إذا أراد الأفغاني أن يكون الاجتهاد جهادا، فإن محمد عبده أراد أن يكون الجهاد اجتهادا. وتنعكس في هذه المواقف والرؤية إدراك الأولويات الكبرى وأساليبها المتنوعة. وليس مصادفة أن يكون تجسيدها الأكثر وضوحا عند الأفغاني موجها صوب سياسة الجسد الثقافي للأمة، بينما يكون تجسيدها الأكثر وضوحا عند محمد عبده في سياسة الروح الثقافي للأمة. ومن هنا اهتمام الأفغاني بالعمل والنشاط السياسي والوحدة، واهتمام محمد عبده بالقانون والشروح والتعليقات والرسائل.

ويكشف هذا التنوع بدوره عن طبيعة مساعي الإصلاحية الإسلامية ونوعية إدراكها لقيمة وأساليب المرجعيات الثقافية والروحية الخاصة. وضمن هذا السياق يمكن فهم آراء الكواكبي ودعوته للرجوع إلى "ما هو معلوم من صريح الكتاب وصحيح السنّة وثابت الإجماع"[6]. فقد كان هذا الرجوع بالنسبة له أسلوب القضاء على التفرقة السائدة في العلام الإسلامي بشكل عام والعربي بشكل خاص. إذ وجد في فكرة الرجوع أسلوبا لإزالة التفرقة في الآراء[7]. وإذا كانت هذه الصيغة في مظهرها تبدو سلفية صارمة، فإنها احتوت من حيث توجهها الواقعي على قيمة الإدراك المتعمق للحرية بما في ذلك الفكرية. وذلك لأن توجه الكواكبي هنا كان منصبا على صنع الوحدة الاجتماعية والقومية. لهذا لم تعن إزالة الفرقة في الآراء إدانة الاختلاف، بقدر ما كانت تعني الإقرار بتنوعه، وفي الوقت نفسه إدراك الأولويات الأساسية في العمل الاجتماعي السياسي والتاريخي للعالم العربي. ونعثر على كل ذلك فيما اسماه بالأسباب الدينية والسياسية والأخلاقية للفتور العام (أو التخلف والانحلال). ففي الوقت الذي جعل من وحدة الآراء والمشاعر المقدمة الضرورية للقضاء على التفرقة، فإنه لم يجعل من إسنادها بأصول "صريح القرآن وصحيح السنّة وثابت الإجماع" ميدانا للجدل المدرسي، ولا أن يدرجها في تأملاته وأفكاره. لقد أبقى عليها، كما هو الحال عند الأفغاني ومحمد عبده، في مستوى الإشارة العابرة. إذ لم يعن القرآن بالنسبة له هنا سوى "الكتاب الذي وصل إلينا بطريق لا تحتمل الشبهة فيه لاجتماع الكلمة واتفاق الأمة عليه"[8]. بينما حصر مضمون السنّة في "ما قاله الرسول أو فعله أو أقره"[9]. أما الإجماع فقد تركه سائبا، وأبقى عليه بوصفه نموذجا محتملا للاختيار والاختبار. ووضع ذلك في عبارة تقول، بأن المقصود بالإجماع هنا هو ما ترجع"إليه الأمة وتجتمع عليه في بعض أمهات المسائل"[10]. وعندما يطابق الكواكبي الإجماع مع مذهب السلف، فإن ذلك لا يعني في آرائه ومواقفه سوى جوهرية الأصالة الذاتية السليمة وقيمتها الحية. ومع ذلك لم يضع في هذه القيمة معنى الإلزام والوجوب، أي انه لم يحوّل الإجماع إلى قضية عقائدية ولم يدرجها في مدارج العقائد. وبالتالي لم يكن توسيعه لهذا الأصل سوى توسيع الوجود المتزايد للحرية في مباحثها الواقعية. لهذا لم يحصر معجزة القرآن في ذاته ولا في لغته، بل في آنيته المتجددة. وإذا كان لهذه الفكرة تقاليدها الخاصة في علم الكلام الإسلامي والتصوف، فإن استمرارها في إصلاحية الكواكبي، كانت تتماشى مع إدراكه لأولوية التغير الواقعي. وهذا يعني أيضا نقل الإعجاز من ميدان اللاهوت إلى ميدان العمل. وكتب في معرض رده على أولئك الذين حصروا إعجاز القرآن في لغته قائلا: "لو أطلق للعلماء عنان التدقيق وحرية الرأي في التأليف، كما أطلق لأهل التأويل والخرافات، لرأوا في ألوف من آيات القرآن ألوف آيات من الإعجاز، ولرأوا فيه كل يوم آية تتجدد مع الزمان والحدثان تبرهن على إعجازه"[11]. بصيغة أخرى، لقد نقل الكواكبي مطلب حرية الرأي والتأليف من تقاليد المواجهة المباشرة ضد أصحاب "التأويل والخرافات" إلى ميدان حرية البحث والحقيقة. ومن ثم جعل القرآن مصدرا جوهريا بالنسبة لتأسيس حرية البحث غير المتناهي. وذلك لأن الإعجاز الدائم وغير المتناهي في القرآن هو الصيغة غير المباشرة للحرية. وإلا ماذا تعني "الرؤية المتجددة مع الزمان والحدثان" إن لم تعني تجدد الرؤية الواقعية؟ أي نقل إعجازه الحقيقي إلى ميدان المتغيرات والمتجددات في الواقع.

إننا نقف هنا أمام ما يمكن دعوته بحيوية الزمن الثقافي، ولكن دون جعله أسلوبا أو مستوى للتسلية الذاتية. فالرمز الثقافي هنا هو الكيان الحي لوحدة المثال والواجب، أي تلك القوة التي تلازم بالضرورة وعي الانتماء العميق للتاريخ الخاص (الثقافي) ومهمة استدراكه الجديد بالصيغة التي تستثير فاعلية الاستنهاض "الخالد" لمبادئه الكبرى. بعبارة أخرى، أنها عملية الاستعادة الدائمة للمبادئ المتسامية باعتبارها بداية التاريخ وغايته. ومن هنا تنوع ظهورها وتباين مستوياتها وتعدد نماذج تأسيسها النظري عند رجال الإصلاحية الإسلامية. فالاستعادة الدائمة للمبادئ المتسامية باعتبارها بداية التاريخ ونهايته هي الدورة التي يفترضها منطق ما أسميته بالأصولية الثقافية. لاسيما وانه المنطق الملازم لكل إبداع حقيقي، لأنه يفترض في استنتاجاته صدق معاناته. وتستقطب هذه العملية بدورها التاريخ والفكر، باعتبارهما المكونات المحددة لظهور الرموز الثقافية وكيفية فعلها في الوجود الاجتماعي والسياسي للأمم. ولا يمكن لهذه الأصول الثقافية أن تكون مؤثرة دون إعادة "تأصيلها" التاريخي. وتحتوي هذه العملية في أعماقها على تناقضات كبيرة، وبالأخص ما يتعلق منها بإمكانية تأديتها إلى صنمية النزعة التأملية، والابتعاد عن واقعية البدائل المعاصرة وصيرورة "التاريخ العالمي". لكنها في الوقت نفسه كانت تتمثل الأسلوب الأكثر واقعية لترسيخ عقلانية الرؤية والعمل، وبالأخص حالما تجد وتؤسس للنسبة المعقولة بين الماضي والمستقبل في الحاضر، أي حالما تتجنب وضع أفعالها في رياح التجربة الخالصة، وختم المستقبل بمقاييس الماضي وأحكامه القيميية.

وقد نثر الأفغاني الأحجار الأولى لهذا الطريق المعقد في محاولاته المتنوعة لإيجاد النسبة المعقولة بين الديني والدنيوي، والإسلام والعلم، والقومي والإسلامي، والإصلاحي والعقلي، والاجتماعي والإنساني في مدنية الإسلام وحضارته، أي كل ما يشكل في حصيلته مقدمات الرؤية المناسبة لصياغة أسس الثقافة باعتبارها الأسلوب الأكثر واقعية لرسم عقلانية الرؤية والعمل. الامر الذي أدى إلى إبداع قيم الاعتدال والوسط ونسبها الخاصة في مختلف ميادين الوجود الاجتماعي والسياسي لعالم الإسلام. وإذا كانت آراءه وأحكامه تبدو في مظهرها أحيانا غاية في التباين، فلأنها تعكس أساسا تطورها الحي بالارتباط مع مجرى تعمق رؤيته للأمور ومجراها. ولهذا كان من الطبيعي أن يتحمس في بداية أمره لنقد الدهريين بالصيغة التي عمم في مواقفه منطق الأخلاق الصارمة في ما يتعلق بصعود الأمم وسقوطها التاريخي. إذ لم يجد في الدهرية الهندية أكثر من مقلد "للمادية" ومقصدها في "محو الأديان" من خلال نشرها فكرة "الإباحة في الأموال والإبقاع بين الناس عامة"[12]. ووجد في هذه المساعي "الإباحية" مصدر سقوط الحضارات قديما وحاضرا[13]. وبغض النظر عن ضعف هذه الأحكام من حيث رؤيتها للأسباب الفعلية العميقة الخاصة بصعود الأمم وسقوطها، إلا أنها تكشف في ذوق المشاعر الحساسة للإصلاحية الدينية عن قيمة الروح الأخلاقي في إعادة بناء الكيان الثقافي للأمة. من هنا يمكن رؤية تعرضها اللاحق إلى نفي فكري ايجابي في آرائه السياسية. ولم تجر صياغة هذا النفي بين ليلة وضحاها، بل جرى بلورته في مجرى الحماس النقدي في مواقفه من الواقع المتغير. ففي انتقاده للأخلاق الدهرية، باعتبارها سببا من أسباب السقوط الروحي للأمم، نراه يشدد على أن "الدين مطلقا هو سلك النظام الاجتماعي. ولن يستحكم أساس للتمدن بدون الدين البتة"[14].ذلك يعني أن انتقاده لما اسماه بفساد الدهرية الأخلاقي كان يتضمن في أعماقه تراكم القيم الايجابية عن وحدة العناصر الاجتماعية والمدنية في الدين بشكل عام والإسلامي بشكل خاص. لهذا لم يجد في آراء الدهرية عن "المدافعة الشخصية" و"شرف النفس" و"الحكومة" عقائد قادرة على صنع النظام الاجتماعي والسياسي الحق في عالم الإسلام. من هنا وضعه بالضد منها كل من فكرة الإلوهية وفكرة "الثواب والعقاب" باعتبارهما الاعتقادين اللذين "لا تقرر هيئة الاجتماع الإنساني، ولا تلبس المدنية سربال الحياة، ولا يستقيم نظام المعاملات، ولا تصفو صلات البشر من شائبات الفعل وكدورات الغش إلا بهما"[15].(يتبع...)

 

ا. د. ميثم الجنابي

.......................

[1] محمد عبده: الإسلام والنصرانية، ص70.

[2]  المصدر السابق، ص71.

[3] المصدر السابق، ص142.

[4] المصدر السابق، ص142.

[5] المصدر السابق، ص144.

[6] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص138.

[7] المصدر السابق، ج1، ص138.

[8] المصدر السابق، ج1، ص212.

[9] المصدر السابق، ج1، ص212-213.

[10] المصدر السابق، ج1، ص138.

[11] المصدر السابق، ج2، ص352-353.

[12] الأفغاني: الأعمال الكاملة، ج1، ص129.

[13] المصدر السابق، ج1، ص129.

[14] المصدر السابق، ج1، ص130.

[15] المصدر السابق، ج1، 171.

 

في المثقف اليوم