دراسات وبحوث

توليف الفكرة الإسلامية والعربية عند الكواكبي (2)

ميثم الجنابيتحليل ونقد الفكرة الاصلاحية الاسلامية (16)

إن نفي النظام الموجود بالنظام الواجب أو الاستبداد بالحرية، هو الذي حدد بدوره نفي الأمة الموجودة (الإسلامية) بالأمة الواجبة (القومية). فقد كانت الأمة الموجودة مزيجا مفتعلا للإسلام والتركية، أي لم تكن أمة الإسلام أو الأمة الإسلامية في الواقع سوى أمة الاستبداد التركي. وهي النتيجة التي أخذت تتعمق في آراء الكواكبي منذ بواكير نشاطه الفكري والسياسي. مما أدى في مجرى تطوره إلى بلورة وصياغة مبادئ وعي الذات العربي. ونعثر على الملامح الظاهرية لهذا التأسيس في انتشار رموز العربية في تعبيره وآرائه. فهو يضع لكتابه الأول تسمية (أم القرى) ويقترحه في الوقت نفسه لأن يكون اسم الجمعية نفسها[1]. ويشير إلى انه ربط مساعيه الأولى لإخراج المسلمين من حالة الفتن بعقد مجالس الجمعية في مكة مهد الهداية. وانه حّظر لذلك بعد زيارة أمهات البلاد العربية[2]. تعكس هذه الإشارة الظاهرية عن الاتجاه الجديد لصيرورة وعي الذات العربي باعتباره بديلا للتركية. فالتركية بالنسبة له ليست إسلامية بالمعنى الدقيق للكلمة، وذلك لأنها فقدت حقيقتها الإسلامية منذ أمد بعيد. بل ودفعه ذلك في حمية الهجوم الأيديولوجي السياسي إلى أن ينتزع عن الأتراك مضمون ومعنى الإسلام الحقيقي منذ بداية اعتناقهم إياه. وليس مصادفة أن يقول الكواكبي، بأن المؤرخين العرب وغيرهم دعوهم بالاروام (أهل الروم) كناية عن الريبة في إسلامهم. لأنهم لم يخدموا الإسلام بغير إقامة بعض الجوامع[3].

لقد صاغ الكواكبي هذه الأفكار تحت ثقل ما اسماه بالضرورة الدينية التي تلزمه قول الحقيقة كما هي. أما من حيث طابعها الواقعي وغاياتها الفعلية، فقد كانت تتضمن نفي الاستبداد العثماني وتحرير العالم العربي منه. وبغض النظر عن الصياغة الأيديولوجية القاسية أحيانا في مواقفه من إسلامية الأتراك، إلا أنها دقيقة ضمن وحدة الكلّ الإسلامي. بمعنى نتائجها المباشرة التي أدت إلى اضمحلال الكيان الثقافي الإسلامي. أما في العالم العربي فقد ظهرت نتائجها المباشرة في اضمحلال الكينونة الثقافية العربية ونظام وجودها السياسي المستقل. وهي الحالة التي حاول الكشف عن مظاهرها العديدة بما في ذلك في مجال الخطاب العادي. فهو يشير إلى أن الأتراك العثمانيين لم يستعربوا ولم يستتركوا العرب. ولم يجد في ذلك شيئا غير ما اسماه بشديد بغضهم للعرب، كما تدل على ذلك كلماتهم عن العرب ومعانيها السيئة، مثل "عرب الحجاز" بمعنى العرب الشحاذين، و"المصريين" بمعنى الفلاحين الأجلاف، بينما وجدت نظرتهم إلى الشام انعكاسها في عبارات عديدة مثل "دع الشام وسكرياتها ولا تر وجوه العرب"!! أما ألفاظهم مثل (بس عرب) وتعني عربي قذر و(عرب عقلي) بمعنى عقل عربي صغير، و(عرب طبيعيتي) بمعنى ذوق عربي فاسد وما إلى ذلك على أنها أدلة إضافية على مواقفهم هذه. وقد كان الكواكبي يدرك دون شك مهزلة العبارات العربية المقلوبة في لفظها التركي. وكان في موقفه هذا شأن الأفغاني الذي عمل على إيقاف ما يسمى بتغليب اللغة التركية على العربية، والمطالبة بعكسها، أي جعل العربية لغة المسلمين الثقافية العامة. فقد قال الأفغاني بهذا الصدد مرة، بأنه في حالة إزالة الكلمات العربية والفارسية عن اللغة التركية، فإن ما تبقى فيها لا يكفي إلا لِسَوْق الحمير!! لكنه وضع هذه العلاقة في إطارها التاريخي المعقول، باعتبار أن كفاءة الأمم ووجودها التاريخي لا يقاس بلغاتها، بل بكيفية وجودها الثقافي. من هنا موقف الكواكبي النقدي تجاه هذه الظاهرة السيئة بحد ذاتها. لهذا اكتفى بالرد على عبارات الأتراك السيئة، كما يقول، بكلمة وجيزة متداولة بين عرب مرحلته، من أن "ثلاث خلقن للجور والفساد: القمل والأتراك والجراد!"، أي أن ما كان يشغله وراء هذا العداء الواقعي هو واقع الجور والفساد. مما ألزمه إعادة النظر بالمقدمات التاريخية والثقافية والسياسية لهذا الواقع. أما الوجه الآخر لهذا الموقف فقد كان يحتوي على البحث عن مقدمات الاستقلال العربي والتأسيس له في الوقت نفسه. وليس مصادفة أن يربط آماله في (طبائع الاستبداد) بما اسماه بالناشئة العربية المباركة الأبية، المعقود آمال الأمة بيمين نواصيهم[4].

فمن الناحية التاريخية، لم يكن تقهقر الإسلام وتكلسه في نظام الاستبداد، حسب رؤية الكواكبي، سوى النتيجة الملازمة لاضمحلال البؤرة العربية في الخلافة. وإذا كانت هذه الصياغة لا تتضمن بحد ذاتها ولا تتطابق بالضرورة مع مضمون النزعة القومية، فإنها مهّدت مع ذلك  في آرائه للفكرة القائلة بضرورة الإصلاح المعقول، باعتباره طريقا لبلوغ الاستقلال. فقد توصل الكواكبي إلى استنتاج مفاده بأن السيطرة التركية قد فقدت مبرر وجودها الإسلامي والثقافي، وتصيرها اللاحق في كيان استبدادي سياسي وقومي. من هنا فكرته عن دور العرب التاريخي في الإسلام.

فقد كان التأسيس النظري لمكانة الوجود العربي بوصفه بؤرة جوهرية في التاريخ الإسلامي هو الصيغة السياسية والثقافية لضرورة الاستقلال القومي. وبهذا لم تكن أوهام الكواكبي عن مثالية عرب الجزيرة سوى معنى التشبث بمثالية الاستقلال وضرورته. إذ لم يكن تحديد الكواكبي "لخلاصة العرب" في الجزيرة سوى ما يتطابق في ذهنه ومشاعره وحوافز نزوعه السياسي مع الكينونة المستقلة للعرب. وحالما يجري توضيح المعنى الكامن في هذه الفكرة على مثال التاريخ الواقعي، فإنه يجد في رقيه الثقافي تحقيقا عمليا لها. وكتب الكواكبي بهذا الصدد يقول، بأن التطور الثقافي لعالم الإسلام قد جرى في المراحل التي تعرّبت فيها الأقوام الإسلامية "مثل استعراب آل بويه والسلاجقة والأيوبيين والغوريين والجراكسة وآل محمد علي باشا"[5]. ووجد في هذه الظاهرة تأكيدا تاريخيا عما اسماه بقيمة العربية الثقافية وليست العرقية في عالم الإسلام، وقيمة القومية الثقافية بالنسبة لوعي الذات السياسي. مما يعني ضرورة هذه العربية الدائمة بالنسبة للنهضة الإسلامية والقومية.

لهذا وضع العرب في خطته العامة عن الاتحاد والعمل الإسلامي المشترك في موقع "الروح" الفاعل في جسد الأمة (الإسلامية). وأعطى للأتراك العثمانيين مهمة حفظ الحياة السياسية الخارجية، وللمصريين حفظ الحياة المدنية، وللأفغان والترك والخزر والقوقاز ومراكش وإمارات أفريقيا مهمة الجندية، ولإيران وأواسط آسيا والهند حفظ الحياة العلمية والاقتصادية[6]. وإذا كانت هذه الصيغة تشير من الناحية الظاهرية إلى البقاء ضمن اطر الجمعية الإسلامية، فإن مضمونها الفعلي يسير باتجاه رابطة أممية من طراز حديث ينفي تاريخ وواقع السيطرة التركية العثمانية بوصفها تخريبا لمعنى الكل الإسلامي القومي والثقافي[7]. ووضع هذه الفكرة استنادا إلى إدراك الأولويات العقلانية السياسية والإصلاحية الإسلامية، بوصفها نزوعا سياسيا للتحرر والوحدة. إذ لم تكن الجزيرة العربية هنا سوى نموذج المثال التاريخي باعتبارها مهد المرجعية الروحية للكلّ العربي والإسلامي. مما حدد بدوره رؤية ما اسماه بخصال العرب وتمييزهم لكي يحتلوا مكانهم المناسب لهم في الكلّ الإسلامي. فهو يشير في قانون جمعية أم القرى إلى أن "الكفاءة لإزالة الفتور بالتدرج موجودة في العرب خاصة"[8]. وربط ذلك أساسا بفضيلة أو صفة الاعتدال الموروثة عندهم بأثر الحصيلة العامة للثقافة الإسلامية.

أما الوجه الآخر لهذه الكفاءة فيقوم في استبطانها الخفي لفكرة وجوب الدولة والقومية الحديثة، أي النفي الشامل للفكرة العثمانية الاستبدادية. لاسيما وأن لهذه الكفاءة تاريخها الثقافي الخاص بوصفه جوهر الثقافة الإسلامية ككل. من هنا ربطه لما اسماه بالنهضة الدينية وآمالها بالجزيرة العربية وما يليها[9]. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن ربطه لهذا النهضة بالعرب لم يكن وليس تعصبا، بل لخصال معينة فيهم حصرها في كون جزيرة العرب هي مشرق النور الإسلامي، ووجود الكعبة فيها، وأنها أنسب المواقع لأن تكون مركز السياسة الدينية، وأنها أسلم الأقاليم من الأخلاط الجنسية والدينية والمذهبية، وأنها تحوي على المسجد النبوي، وأنها أبعد الأقاليم من مجاورة الأجانب، وأنها أفضل الأراضي للأحرار، وعرب الجزيرة هم مؤسسو الجامعة الإسلامية، ولاستحكام التخلق بالدين فيهم، وأنهم أعلم المسلمين بقواعد الدين، وأكثرهم حرصا على حفظه، ولم يزل الدين عندهم حنيفا سلفيا، وأنهم أقوى المسلمين عصبية له، وأمراؤهم جامعون بين شرف الآباء والأمهات والزوجات، وأنهم أقدم الأمم مدنية، وأقدمهم على تحمل مشقة العيش، وأحفظ الأقوام على جنسيتهم وعاداتهم، وأحرص الأمم على الحرية، وأن لغتهم أغنى لغات المسلمين (بالقرآن)، وأنها اللغة العمومية بين المسلمين، وأنهم أقدم الأمم إتباعا لأصول الشورى في الشؤون العمومية، وأهدى الأمم لأصول المعيشة الاشتراكية، وأحرص الأمم على احترام العهود والذمة الإنسانية. وبمجموعها هي الصفات التي تجعلهم أنسب الأقوام، كما يستنتج الكواكبي، لأن يكونوا مرجعا في الدين وقدوة للمسلمين[10].

إن هذا التصوير المكثف والعام لخصال العرب المؤهلة لهم لأن يكونوا مرجعا في الدين وقدوة للمسلمين تكشف عما في آرائه من تجانس داخلي في رؤية القومية القادرة على التمام، باعتبارها نفيا واجبا للأمة الموجودة. لقد جمع المكونات التاريخية والثقافية (الإسلامية) والجغرافية والإستراتيجية، والقومية الدينية، والسياسية والحضارية في كل واحد، من اجل كشف قيمة العروبة في الكل الإسلامي، ونموذجها المثالي باعتباره البديل الواقعي لأفول السيطرة الاستبدادية العثمانية. وهو الحافز المتلألئ في تشديده على خصال امتلاك العرب لتقاليد السياسة المعتدلة في ما اسماه بإتباع الأصول في تساوي الحقوق وأصول الشورى والمعيشة الاشتراكية. إذ تعبر هذه الصيغة المثالية عن قيمة الاعتدال باعتباره البؤرة الحاوية في ذاتها لعقلانية الرؤية وإصلاحية المنهج. وإذا كانت هذه الصياغة العامة تتمحور في إطار الكينونة الفاعلة للجمعية الإسلامية، فإنها تسير من حيث حيثيات تجسيدها السياسي المحتمل صوب إعادة بناء الدولة الجديدة بما يتوافق مع عناصرها السياسية والثقافية الحديثة، أي مشروع الوحدة السياسية والقومية الحديثة. وهو أمر جلي في آرائه عن الخلافة. فهو لم يحصر رؤيته عن الخلافة والخليفة ضمن تقاليد الكلام والفقه واللاهوت التقليدي، بل وجهها صوب ما اسماه بضرورة تطابق الأخلاق بين الرعية والرعاة. من هنا إشارته إلى أن أحد الأسباب الكبرى القائمة وراء انهيار الدولة العثمانية هو أن السلطة فيها كرأس جمل على جسم ثور، أو بالعكس. بينما الأمة تعتبر رئيسها رأسها، فتتفانى دون حفظه ودون حكم نفسها بنفسها كما قال المتنبي:

إنما الناس بالملوك، وهل     يفلح عرب ملوكها عجم[11]

ولا يعني ذلك سوى دعوة الكواكبي لضرورة التجانس الكامل في وعي الذات القومي والسياسي، أي كل ما حصل على تعبيره في فكرته عن ضرورة حكم الأمة بنفسها، باعتباره الهدف الذي ينبغي أن يتحول في مجرى ارتقاء الأمم إلى بديهية من بديهياتها السياسية. ولم تعن هذه البديهية السياسية في إصلاحية الكواكبي سوى صياغة الوحدة السياسية القومية، والقومية الثقافية الجديدة. من هنا جوابه على انه لا معنى للرد على أولئك الذين يمكنهم شم رائحة التعصب للعرب في هجومه على العثمانيين، لأن العثمانيين لا يعنون بالإسلام والعرب، وأنهم دمروا كل ما بناه العرب إضافة إلى إفنائهم الأمة (الإسلامية)، وانه في آرائه "غير متعصب للعرب، وإنما يرى ما لا بد أن يراه كل مدقق يتفحص الأمر"[12]. لهذا وضع في خطابه الحماسي في نهاية (طبائع الاستبداد) دعوته المباشرة بكلمة (يا قوم …) مؤكدا على انه لا يقصد بها سوى "الناطقين بالضاد من غير المسلمين للعمل سوية وترك الأحقاد"[13]. بمعنى دعوته للارتفاع عن حضيض الخلافات الدينية والمذهبية والطائفية باسم الانتماء القومي. ووجدت هذه الصيغة تعبيرها الصريح والبليغ في خطابه القائل: "يا قوم، واعني بكم الناطقين بالضاد من غير المسلمين… ادعوكم إلى تناسي الأحقاد… فهذه أمم اوستريا (النمسا) وأمريكا قد هداها العلم الطرائق شتى وأصول راسخة للاتحاد الوطني دون الديني، والوفاق الجنسي (القومي) دون المذهبي، والارتباط السياسي دون الإداري. فما بالنا نحن لا نفتكر في أن نتبع إحدى تلك الطرق أو شبهها"[14]. ولا يعني الاتحاد الوطني والوفاق الجنسي (القومي) والارتباط السياسي هنا سوى البديل الأكثر عقلانية ودنيوية في فلسفته الإصلاحية. أما النتيجة المنطقية المتربة على كل ذلك فيمكن العثور عليها في ما يمكن دعوته بتأسيس منظومة وعي الذات العربي السياسي عند الكواكبي.

إن التركيز على أهمية الاتحاد الوطني والوفاق القومي والارتباط السياسي يعكس رؤية الأولويات السياسية في مشروع الكواكبي المناهض للاستبداد العثماني. انه أعطى لأولويات السياسة صيغة الأسلوب المناسب لإعادة بناء الكينونة العربية في وجودها الدولتي والاجتماعي والثقافي. وبهذا يكون قد تجاوز الصيغ العمومية عند الأفغاني عن مساواة الجميع باسم المبادئ الإسلامية العليا. من هنا إعادة النظر النقدية عند الكواكبي تجاه واقع الخلافة (الدولة) العثمانية ودعوته بأثر ذلك لإبراز قيمة الوحدة العضوية بين التاريخ والوعي القومي بالنسبة لوعي الذات السياسي. ولم تعن هذه الوحدة العضوية بين التاريخ والوعي القومي عند سوى الصيغة الثقافية لصيرورة عناصر المركزية العربية وإعادة بناء دولتها الخاصة. ومن هنا حماسه وحميته في إعادة النظر بتاريخ الدولة (الإسلامية) وخلافاتها. ففي هذه الأخيرة تكمن عناصر المركزية العربية للتاريخ الإسلامي. غير أن الكواكبي لم يسع من وراء ذلك وضعها في إطار الاستعلاء القومي، بل في إطار إعادة الكينونة العربية الثقافية أي إعادة بناء التاريخ العربي السياسي في دولته المستقلة.

وبهذا المعنى شكلت جوهرية الخلافة في مشروع النهضة عنده الصيغة المناسبة لبعث الكيان العربي المستقل. من هنا ظاهرها العام في فكرة الانتماء الثقافي الإسلامي، وباطنها الخاص في الأبعاد السياسية القومية. فهو يشير إلى أن حديثه عن الخلافة هنا، يجري في إطار صفتها الدينية فقط. أما في قواعدها فقد أكد على أن يكون حكم الخليفة وسياسته مقصورا على الحجاز ومربوطا بشورى خاصة حجازية. وإن هذه الشورى مهمتها السياسة الدينية فقط. أما مهام الخليفة فمقصورة في الأغلب على إبلاغ قرارات الشورى ومراقبة تنفيذها. ولا يحق له التدخل في الشؤون السياسية والإدارية في السلطنات والإمارات، ويصادق على توليات السلاطين والأمراء. وينطبق هذا بالقدر ذاته على صيغة عمل هيئة الشورى المكونة حسب اقتراح الكواكبي من مائة شخص، ينتخبون، كما هو الحال بالنسب للخليفة، كل ثلاث سنوات[15]. إننا نقف هنا أمام هيئة خاصة وخلافة جديدة مهمتها الحفاظ على استمرار الروح الإسلامي في أحد معالمه الرمزية الكبرى. وفي الوقت نفسه يحتوي هذا النزوع الروحي على أبعاد سياسية جديدة، تتطابق وسائله وغاياته مع فكرة عزل السلطة الدينية عن الدنيوية، وربطهما برباط العروة الثقافية. من هنا انتقاده اللاذع لمن اسماهم بالغشاشين، الذين حاولوا البرهنة على أهلية السلطة العثمانية للخلافة من خلال إرجاع نسبتهم لعثمان وقريش[16]. وتضمن هذا الانتقاد في ذاته على شحن وعي الذات السياسي من خلال إعادة المرجعية الروحية للإسلام الثقافي في الخلافة، وإحيائها من خلال ربطها بالمركزية الجديدة للعرب. من هنا مظهر السلفية العقائدية في مواقفه من الخلافة، وبالأخص ما يتعلق منها بضرورة أن يكون الخليفة عربيا قرشيا مستجمعا للشرائط في مكة، وأن تكون هيئة الشورى الخاصة مكونة من أعضاء تحتوي على ممثلين من جميع الإمارات الإسلامية[17]. إلا أن المعنى الواقعي لهذه السلفية يقوم في تمثله السياسي لاستمرار الإسلام الثقافي في بناء وعي الذات السياسي العربي. إذ لم تعن مرجعية الخلافة في العرب، سوى مرجعية العرب في الخلافة. أما التوليف السياسي الممكن لهذه العلاقة الخفية في آرائه فهي استمرار وربط لمرجعية الروح (الثقافي) بمرجعية الجسد (السياسي).

ففي الوقت الذي حصر الكواكبي مهمة الخلافة في القضايا الدينية فقط، فإنه وضع في وظائفها كلا من "تمحيص أمهات المسائل الدينية، والتي لها تعلق مهم في سياسة الأمة وتأثير قوي في أخلاقها ونشاطها"، مثل قضايا فتح باب الاجتهاد، وسد أبواب الحروب والغارات والاسترقاق، وفتح أبواب حسن الطاعة للحكومات العادلة، وسد أبواب الانقياد المطلق ولو لمثل عمر بن الخطاب. ولم يعن تمحيص أمهات المسائل المتعلقة بالوجود الحيوي للعالم الإسلامي في السياسة والأخلاق، سوى صياغة الأبعاد السياسية لوجود الخلافة الروحي. إذ لم تعن قضايا الاجتهاد ومنع الحروب الداخلية وتأييد الحكومات العادلة ورفض الانقياد المطلق حتى لشخصية جسدت في رمزيتها التاريخية والمعنوية مثال العدل السياسي النموذجي (عمر ن الخطاب)، سوى الصيغة الثقافية التقليدية لرفض الاستبداد السياسي. بعبارة أخرى، إن الخلافة المثالية المفترضة (العصرية) هي الصيغة الروحية للبديل السياسي الأفضل. من هنا محاولته البرهنة على ماهية الحكم السياسي في إسلام الخلافة الرشيدة، باعتباره حكما معتدلا بين الديمقراطية والارستقراطية[18]. فالإسلامية، كما يقول الكواكبي، "مؤسسة على أصول الإدارة الديمقراطية أي العمومية، والشورى الارستقراطية أي شورى الإشراف… وأنه لا يوجد في الإسلامية نفوذ ديني مطلقا في غير مسائل إقامة الدين"[19] أي كل ما يفترض في ذاته رفض الاستبداد بشكل عام ومظاهره العديدة في الدولة العثمانية بشكل خاص.

تحتوي هذه الصيغة الرفيعة لإعادة ربط التاريخ بالوعي السياسي المعاصر للعالم العربي على إدراك قيمة وعي الذات السياسي العربي، أي كل ما وضعه في فكرته عن ضرورة امتلاك الأمم لوعيها الخاص، كما هو جلي في قوله: "إن أفكار الأمم لا تقاوم ولا تصادم"[20]. وهذا بدوره ليس سوى مظهر ما أسميته باستكمال مرجعية الروح الثقافي بمرجعية الجسد السياسي. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار كون الكواكبي قد استقى، حسب عبارته، برنامجه عن الخلافة من قواعد إتحاد الألمان والأمريكان، فإن من السهل رؤية هذه المرجعية السياسية النابعة من وجودها الروحي الثقافي. بمعنى دعوته الضمنية لوحدة العالم العربي في دولة جديدة. وقد أشار هو إلى ذلك بوضوح عندما تمنى أن تكون وحدة إمارات الجزيرة العربية سباقة في نموذجها إلى مثل هذا الاتحاد[21]. وبهذا يكون الكواكبي قد سعى لربط الخلافة بالنظام العصري السياسي الديمقراطي بوصفه النظام الأفضل. واستكمال ذلك في وحدة العالم العربي بأحد نظم الاتحاد العصرية الفضلى (فيدرالية أو اتحاد مركزي لولاياته). فقد امتلك العرب، كما يقول الكواكبي، حكومتهم الديمقراطية في غضون قرنين من الزمن[22]. ولم يعن ذلك من الناحية الرمزية سوى إمكانيتها المعاصرة في وحدة النظام الديمقراطي للاتحاد العربي. والمقصود بقرنين من الزمن هنا هو دولة الخلافة العربية "الخالصة". ولم يكن مقصود الكواكبي بهذه المقارنة والمثال سوى الدعوة غير المباشرة لاستعادة المركزية العربية في وحدتها الجديدة باعتبارها تآلفا عصريا للنظام الديمقراطي والاتحاد الفيدرالي أو المركزي، أو التحقيق الأمثل لجهادية مشروعه السياسي وعقلانية نزوعه القومي. بمعنى تحويل مبادئ وغايات النظام الديمقراطي والاتحاد العربي إلى بديهيات الفكر النظري والسياسة العملية للعالم العربي. وهي البديهيات التي سعى لتأسيسها في رؤيته الإصلاحية المتعلقة بقضايا الدولة والقانون، والوحدة والنظام، والتاريخ والمعاصرة. وبهذا يكون قد دفع بالفكر الإصلاحي العقلاني الإسلامي العربي إلى أقصى ذروته أمام دخوله معترك القرن العشرين ونزوعه الاستقلالي وإعادة بنائه الجديد.

 

ا. د. ميثم الجنابي

....................

[1] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص274.

[2] المصدر السابق، ج1، ص127-128.

[3] المصدر السابق، ج1، ص260.

[4] المصدر السابق، ج2، ص330.

[5] المصدر السابق، ج1، ص259.

[6] المصدر السابق، ج1، ص300-301.

[7] إن ضعف تجانس آراء الكواكبي بصدد الأمة العربية نابع أساسا من عدم اكتمالها التاريخي آنذاك. فقد كانت الأمة السائدة آنذاك هي الأمة الإسلامية. أما الانحطاط السياسي والثقافي للعرب فقد جعل منهم مجموعة مفككة لا يربطها آنذاك شيئا غير شعور الانتماء الباهت لعالم الإسلام اللاهوتي. وقد كان الأفغاني أول من شخّص هذه الظاهرة، بينما دققها الكواكبي لاحقا كما هو جلي في عبارته القائلة، بأن "المسلمين في غير جزيرة العرب لفيف أخلاط وبقايا أقوام شتى لا تجمعهم جامعة غير التوجه للكعبة"(ج1، ص59). وإذا كانت آراؤه هذه تجري ضمن سياق دور القادة والزعماء السياسيين في جمع الأمة على مثال بيسمارك وغاريبالدي، فإن مضمونها الحقيقي والأبعد يندرج ضمن من ما أسميته بفكرة الأمة الواجبة، بوصفها نفيا للأمة الموجودة، أي النظر إلى الأمة القومية بمعايير السياسة الواقعية لعالم منحل آيل للزوال. وهي ذات الفكرة التي اختصرها الكواكبي لاحقا بعبارة:"إن الأمة هي مجموع أفراد يجمعها شعب أو ارض أو لغة أو دين" (ج2، ص409). وهي العناصر التي سوف تجمعها لاحقا الاتجاهات القومية العربية الدنيوية بأشكال مختلفة. لكنها كانت تصب جميعا ضمن المنظور القائل، بأن الأمة هي مجموع أفراد يجمعها شعب ووطن ولغة ودين. وقد كان لهذا الجمع معناه الكبير ومآثره ومثالبه الخاصة في الصيرورة الحديثة للعالم العربي.

[8] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص275.

[9] المصدر السابق، ج1، ص301.

[10] المصدر السابق، ج1، ص301-304.

[11] المصدر السابق، ج1، ص258.

[12] المصدر السابق، ج1، ص316.

[13] المصدر السابق، ج2، ص417.

[14] المصدر السابق، ج2، ص417-418.

[15] المصدر السابق، ج1، ص313-314.

[16] المصدر السابق، ج1، ص311.

[17] المصدر السابق، ج1، ص313.

[18] المصدر السابق، ج1، ص314-315.

[19] المصدر السابق، ج2، ص348.

[20] المصدر السابق، ج1، ص 319.

[21] المصدر السابق، ج1، ص315.

[22] المصدر السابق، ج2، ص378.

 

 

في المثقف اليوم