دراسات وبحوث

المصير الشخصي والروحي للفكرة الإصلاحية عند محمد عبده

ميثم الجنابيتحليل ونقد الفكرة الإصلاحية الإسلامية الحديثة (20)

يعكس مسار التطور الفكري عند محمد عبده تكامل التأسيس النظري للفكرة الإصلاحية من خلال بروز منظومة الوعي الإصلاحي الفاعل بالنسبة لإرساء مختلف المفاهيم والأفكار والمواقف والقيم. وليس مصادفة أن تحتل فكرة النظام والعدل والقانون أضلاع المثلث الكبير لفكرته السياسية الإصلاحية. فهو الثالوث الذي يعبّر بصور نموذجية رفيعة المستوى عن ثالوث فكرة العقل الثقافي الذاتي، والروح الثقافي الذاتي، والروح السياسي الذاتي.

ينطلق محمد عبده في تأسيس الفكرة السياسية الإسلامية من تحديده لفكرة القانون وأهميته بالنسبة للبناء الذاتي. من هنا فكرته عن أن المهمة لا تقوم بمجرد الإصلاحات بالنسبة لما اسماه بالكيان السياسي الإسلامي، بل في تأسيس ضرورة فكرة الإصلاح الديني الصحيح. والإصلاح الديني الصحيح بالنسبة لمحمد عبده هو منظومة الإصلاح الشامل بمعايير التجربة الذاتية والتراث الثقافي. وهي فكرة لا تتعارض مع مضمون الانفتاح الإنساني وفكرة الحق المجرد والمتسامي، على العكس، أنها تسندها وتدعمها بمعايير الإرتقاء الذاتي الفعلي، أي الإرتقاء المتراكم في مجرى معاناة التقدم الذاتي. فعندما يتناول على سبيل المثال قضية فكرة الجمعية الإنسانية، فإننا نراه يربطها بفكرة فلسفية وجودية تقوم على أساس أن الحركة العمومية تسير دوما صوب المركز. وكلما اقتربت من المركز كلما زادت سرعتها، شأن كل حركة طبيعية. من هنا تأثير هذه الحركة على العقلاء من البشر (دوما) فمالوا إلى خدمة الإنسانية دون التعصب إلى عقيدة أو جنس أو دين ومذهب. ووضع هذه المقدمة الفكرية العامة في صلب دعوته إلى السير صوب ما اسماه بالقانون الطبيعي المودّع في فطرة الإنسان، بوصفه سبيل السعادة للجميع . ففيها ومن خلالها يمكن رؤية الحدس العميق في فكرة محمد عبده عن أهمية وجوهرية القانون بالنسبة لنيل السعادة العامة، أي النظام المعقول بمعايير التجربة الإنسانية الحرة. وأسس لهذا الاستنتاج الكامن في رؤيته من منطلق عام يقول، بأن في الإنسان قوة نظرية وعملية، يتوقف كل منهما على الآخر. وأن علوم الإنسان تقوم في إدراك الحدود والاستفادة منها. والقوانين مهمتها ضبط السلوك والمصالح. كما أنها تتوقف على درجة المعرفة (العقل النظري). من هنا اختلاف الأمم في نظرتها إلى القوانين. لكنه اختلاف محكوم بتجاربها ونظراتها العامة. من هنا نراه يركز في الكثير من مقالاته وأبحاثه على أهمية إبراز أولوية وجوهرية القانون. ففي إحدى مقالاته المتعلقة بهذا الجانب تحت عنوان (احترام قوانين الحكومة وأوامرها من سعادة الأمة) يتوصل إلى أن البلاد "تسعد ويستقيم حالها، إذا ارتفع فيها شأن القانون" .

إن جوهرية القانون بالنسبة لمحمد عبده تستند إلى فلسفة إصلاحية تناسبها. كما أنها تنبع من فكرة الإصلاحية نفسها بوصفها فلسفة البناء الذاتي للدولة والأمة والعلاقة المعقولة والضرورية بينهما. في مجرى تناوله قضية علاقة القوة بالقانون، نراه ينطلق من أن استعمال القوة هو مصدر الاستبداد والانحراف الأخلاقي. ووضع هذه المقدمة في أساس نقده الذاتي والثقافي الإنساني. بمعنى نقده العميق أيضا للتجربة العربية والإسلامية والأوربية الحديثة. وأعتبر استعمال أو هيمنة القوة على الحق مصدر الخلل في الوجود الإنساني. وأعتبرها حالة شبه عامة في تاريخ الأمم. من هنا تشابه النتائج القائمة فيما اسماه محمد عبده "بإحداث القبائح"، بوصفها النتيجة المترتبة على استعمال القوة وإهمال القانون.

لقد وجد محمد عبده في إهمال القانون مصدر تخريب القوى السلمية والسليمة في الإنسان السلمية. من هنا أهمية القانون. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه لولا كسر القانون لسورة النفس وتذليل صعوبتها "لما أشرق نور الحق على صفحات الوجود، ولا تمتع الإنسان في الأزمان الأخيرة بلذة الراحة والسعادة. فالحق للقانون لا للقوة" . بل نراه يتوصل إلى أن الالتزام بالقانون هو مصدر التقدم والإرتقاء بما في ذلك العلمي. والعكس هو الصحيح. أما الاستبداد فهو مصدر الانحطاط، "الذي ضرب عن القانون صفحا، وطوى عنه كشحا فهو على مرذلة أخلاقه، وبساطة أفكاره يصبح مضغة تحت أضراس الظلم ويمسي كرة لصولجان البغي" .

إن بلوغ الفكرة القانونية ذروتها السياسية في نقد الاستبداد عند محمد عبده لم يكن جزء من تقاليد العقائد السياسية والأيديولوجية، بقدر ما كان تراكما في فلسفة التأمل العميق للتاريخ وتجارب الأمم والفكرة القانونية وفلسفة الحق. ومن الممكن العثور على هذا التراكم في الفكرة المكثفة التي وضعها بهذا الصدد عندما كتب يقول، بأن "تأمل الكون الأعلى وما فيه من الكواكب والشموس والأقمار، ثم إذا نظرنا إلى العالم الأسفل وما احتوى عليه من نبات وحيوان يشهد في الجميع لكل نوع منها قانونا خاصا في سير وجوده، تقوم البراهين على أنه لو أنحرف عنه لحكم عليه سلطان القهر الإلهي بالعدم والانقلاب" . ونعثر في هذه الرؤية على فكرة تأسيس ضرورة القانون (الإنساني) بالاستناد إلى رؤية وجودية طبيعية. وهو السبب الذي دعا الحكماء والأنبياء على مرور الزمن، كما يقول محمد عبده، بالتشديد على أهمية القانون من أجل حفظ الوجود. وذلك لأنه "من تخطى حدود هذه الحقائق رماه القهر الإلهي بسهام لا يخطى رماها" . والحصيلة هي أن "القانون سرّ الحياة وعماد سعادة الأمم. فإذا أرادت أمة إعادة مجدها فلا بد لها من إعادة شأن القانون، فتشيد ما هدمته يد الغرور وبددته سطوة الفجور" .

إن بلوغ الفكرة السياسية الإسلامية ذروتها من خلال تأسيس وتحقيق فكرة القانون والحق هو الوجه الآخر لإدراك أهميتها بالنسبة للبناء الذاتي. من هنا الربط العضوي بين فكرة القانون والحق والتاريخ الواقعي للأمم. بمعنى ربط محمد عبده لفكرة القانون والحق الإصلاحية بضرورة تحقيقها المتدرج والعقلاني والواقعي بتراث الأمة وواقع العالم العربي (ومصر خصوصا). وانطلق بهذا الصدد من فكرة فلسفية عامة تقول، بأن "أحوال الأمم هي المشرع الحقيقي" . وأستند في فكرته هذه إلى تجارب الأمم بشكل عام والفرنسي بشكل خاص. إذ وجد في تجربة فرنسا ما بعد الثورة نموذجا لتحقيق هذه الفكرة عندما أعتبر كل تطورها لم يكن بأيدي أهل الحل والعقد، بل بأيدي الناس. بل ونسمعه يقول، بأن "القانون الحقيقي هو القانون المسنون حسب الرأي العام" . وأن "أفضل القوانين هي ناشئة عن الرأي العام للأمة"، أي "المؤسسة على مبادئ الشورى. وأن الشورى لن تنجح إلا بين من كان لهم رأي عام يجمعهم في دائرة واحدة" . وبالمقابل نراه يشدد على أن "من عجّل بشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه". بمعنى إدراكه لرفض التقليد واستنساخه المباشر بما في ذلك في ميدان القانون والحق، مع أنها الصيغة الأكثر كمالا للحرية المجردة من ضيق الرؤية والمصالح. لكته يعكس في نهاية المطاف ليس فقط تجارب الأمم بل ومستوى إدراكها الفعلي لماهية القانون ومتطلباته الحيوية المباشرة. لهذا نرى محمد عبده يشدد على ضرورة البدء بالقانون وتوسيع مداه ونطاقه وتربيته في النفوس والعقول والتجارب الخاصة . وأسس لموقفه هذا في فكرته القائلة بالوحدة العميقة والدفينة بين الأخلاق والقانون، بوصفهما وجهان للتربية والتجربة الذاتية في تطور الأمم. لهذا نراه يشدد على وحدة القوانين والأخلاق من أجل نقل المرء من حالة التكليف إلى حالة العادة. وبالتالي تحويل الأخلاق الفاضلة إلى أسلوب حياة الناس والدولة . من هنا ضرورة القضاء على تشتت القوانين لما فيه من مضرة على المصلحة العامة. بل ودعوته إلى تجميعها وتوحيدها ونشرها والعمل بها وذلك لما له من أثر وقيمة وفاعلية في توحيد المجتمع والدولة والأمة والفكرة القانونية وقيم الحق والعدالة. وهذا بدوره ليس إلا المقدمة الأولية. وما بعدها تنفيذ ما يجري سنّه من قوانين. فالجوهري ليس إصدار القوانين الجيدة بل تنفيذها وتجديدها، كما يقول محمد عبده. ووضع هذه النتيجة في نقده اللاذع لحالة مصر المزرية آنذاك بهذا الصدد. وليس مصادفة، على سبيل المثال، أن نراه يعتبر الأخذ عند سنّ القوانين وتنفيذها بمراعاة الحالة الاجتماعية والمعرفية. وعندما طبق ذلك على حالة الزراعة والمزارعين في مصر آنذاك، فإننا نراه يقول أيضا بضرورة استعمال الأساليب العقابية الشديدة من أجل توطين النفوس على العمل (الزراعة).

لقد أدت الحصيلة المتراكمة لفلسفة محمد عبده الإصلاحية إلى بلورة ما يمكن دعوته بفكرة "الروح الليبرالي"، أو على الأقل ملامحه الأولية. وقد يكون جمعه وترتيبه لمحاضراته في كتاب (رسالة التوحيد) آخر حياته أحد مؤشرات هذا التحول الخفي. ففيه نرى أول ملامح تطويع فكرة التوحيد ضمن سياق رؤيته الإصلاحية، أي تحريرها من الاختمار بمعايير الرؤية السياسية. ومن الصعب القول فيما إذا كان سعيه هذا يتسم بقدر كبير من الوضوح بالنسبة له شخصيا، إلا أن منطق الإصلاحية والنسبة المتكافئة للاعتدال في تفكيره وشخصيته تجعل من هذه الفرضية أمرا ممكنا. كما نراه أيضا في "منظومة" العمل التربوي والإصلاحي المعرفي والثقافي والهدوء السياسي. غير أن صعود الحكمة لا يعني نفي أو انعدام الوجدان السياسي وبرودة الروح السياسي، بقدر ما يعني تحول الفكرة الإصلاحية صوب تأسيس المرجعيات الكبرى القادرة على تأسيس صرح الإصلاح الحقيقي. إذ نعثر عنده على قوة الروح السياسي ومساعيه النقدية الحادة حتى آخر لحظات حياته، كما هو جلي في (رسالة من السجن) و(رسالة إلى تولستوي) التي كتبها عام 1904، أي قبيل وفاته بقليل.

ففي (رسالته من السجن) نقف أمام شخصية حرة قوية أخلاقية تواجه رذيلة عصره بقلب ممتلئ بمتناقضات الوجود. لكنه يعطف عليه كما لو انه يعطف على ما فيه. وفيها أيضا تبرز بوضوح ماهية القلق الدفين فيه. بحيث نراه يضع في بدايتها أحد الأبيات الشعرية العميقة والمرهفة:

تقلدتني الليالي وهي مدبرة    كأنني صارم في كفّ منهزم

وهي حالة تتصف بقدر هائل من التناقض المقلق للعقل والضمير. وفيها يمكننا رؤية صراعه النفسي والعقلي ووجدانه العارم في مواجهة النفس والآخرين، والمجتمع وقيمه، والدولة ونظامها السياسي، والحاضر والمستقبل. فعندما يصور حالته فإنه يشير إلى انه يقبع في واقع اشتد فيه "ظلام الفتن حتى تجسّم، بل تحجر! فأخذت صخوره من مركز الأرض إلى المحيط الأعلى. واعترضت ما بين المشرق والمغرب، وامتدت إلى القطبين فاستحجرت في طبقاتها طباع الناس" . وهي حالة جعلت من الممكن أن تتدحرج أمام عينيه رؤية الملامح الخشنة لما يمكن دعوته باليأس الجميل. ففيها نقرأ كيف انه وجد نفسه في موقع "لا يأتي البصر على أطرافه، في ليلية داجية غطي فيها وجه السماء بغمام سوء، فتكاثف ركاما ركاما. لا أرى إنسانا، ولا أسمع ناطقا، ولا أتوهم مجيبا. أسمع ذئابا تعوي، وسباعا تزأر، وكلابا تنبح، كلها يطلب فريسة واحدة هي ذات الكاتب. وألتفّ على رجلي تنينان عظيمان، وقد خويت بطون الكلّ، وتحكم فيها سلطان الجوع. ومن كانت هذه حاله فهو لا ريب من الهالكين" .

لقد واجه محمد عبده عصره ومعاصريه بروح التحدي، وكشف عما في أعماقهم من خواء كان يسعى لانتزاع ما فيه من جرأة وإرادة حية حرة. لقد أدرك بالحس والعقل والحدس، بأن المطلوب هو وذاته. لهذا لم يجد في هذه المساعي الخربة غير سقوط الهمم وخراب الذمم، وغيض ماء الوفاء، وطمس معالم الحق، وتحريف الشرائع، وتبديل القوانين. بحيث لم "يبق إلا هوى يتحكم، وشهوات تقضي، وغيض يحتدم، وخشونة تنفذ. تلك سنة الغدر" . وليس مصادفة أن يجدوا في حبسه، أي عندما يصبح اغتيال العقل الحر والضمير الحي غاية كبرى وفضيلة عظمى! من هنا استغرابه وإدانته بقدر واحد لهذا السلوك كما وضعه في عباراته القائلة:"لا يطلبون ذلك لغامض يبينونه، أو لمستور يكتشفونه، أو لحقّ خفي فيظهرونه! كلا! بل ليثبتوا أنهم في حبس من حبسوه غير مخطئين. وقد وجدوا لذلك أعوانا من حلفاء الدناءة، وأعداء المروءة، وفاسدي الأخلاق، وخبثاء الأعراق" . ومقابل ذلك تقف نفسه الأبية وشخصيته الاجتماعية والوطنية والقومية الإنسانية كما لو أنها شمعة تحترق في ظلام الأطلال الخربة للفرد والجماعة والدولة والأمة. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن معظم قلبه قد "ذاب من الأسف على ما يلمّ بالهيئة العمومية من مصائب هذه التقلبات، وما ينشأ عنها من فساد الطباع الذي يجعل العموم في قلق مستديم" .

وأمام هذه الكارثة التي تواجه الفكرة الإصلاحية الكبرى وشخصياتها عادة ما تنتفض النفس حتى النهاية كما لو انه "القربان" الذي لابد منه من أجل وضع أسس الهيكل الروحي الأخلاقي والعقلي للبدائل. ونعثر على كل هذه الحالة في الحوار العميق الهائج مع النفس. فنسمعه يقول "هل أتأسف إن كنت سبّاقا إلى الخيرات؟ هل أتأسف إن كنت مقداما في المكرمات؟ هل أتأسف إن كنت شجاعا في الدفاع عن ذوي مودتي؟ هل أتأسف إن كنت أبيا أغار أن ينسب مكروه أو ذل لأولي صلتي؟ هل استحق العقاب على حبي لبلادي والناس لها كارهون؟. والله لن يكون ذلك. ولم ازدد في سبيل الفضيلة إلا بصيرة، ولم ازدد في المحافظة عليها إلا ثباتا. ولئن عشت لأصنعن المعروف، ولأغيثن الملهوف، ولأنقذن الهاوي في حفرة الغدر" .

وإذا كانت حالته تبدو في مظهرها، أي في أحوالها المادية كما قال عنها "أعجز من المُقْعِد عن طلوع النخل، ومن المفلس عن حرية التصرف"، لكنه واجه كل ما ينبغي مواجهته بعبارة صريحة وموقف واضح وضعه في عبارات مقتضبة يقول فيها: "أقول لكم! إن الحوادث المريعة سوف تنسى، وأن هذا الشرف سوف يردّ. ولئن أبت طبيعة هذه الأرض بخسّتها أن يكون لها من عوده نصيب، فليعودن في بلاد خير منها، ولأجذبن إلى المجد أحبتي، ومن إلى المجد ينجذبون" .

بينما نراه في رسالته إلى ليف تولستوي التي كتبها عام 1904، أي قبل وفاته بقليل يعيد من حيث الجوهر مضمون فكرة التحدي الإصلاحية بوصفها فكرة إنسانية وضرورية. فالمضمون العميق لهذه الرسالة ليس فقط في محتواها الذي يتقاسمه محمد عبده نفسه، بل في كونها موجهة من إمام مسلم لأديب نصراني، وجد في سلوكه وفكره ومواجهته للتقليد ودفاعه عن الفكرة الإنسانية قدوة للاعتبار. فنراه يشير فيها إلى انه بالرغم من عدم معرفة شخصه بشكل مباشر، لكنه يحرم التعارف بروحه. ويقيم عاليا موقف تولستوي من محاربة التقليد في العقائد والأديان بإرجاع مضمونها إلى الأصل، أي إلى ما اسماه بحقيقة التوحيد. بل ويطالبه قائلا: "فكما كنت بقولك هاديا للعقول، كنت بعملك حاثا للعزائم والهمم". وانه "أعظم جزاء نلته على متاعبك في النصح والإرشاد هو هذا الذي سموه "بالحرمان" و"الإبعاد". فليس ما كان إليك من رؤساء الدين سوى اعتراف منهم أعلنوه للناس بأنك لست من القوم الضالين. فاحمد الله على أن فارقوك بأقوالهم، كما كنت فارقتهم في عقائدهم وأعمالهم" .

لقد كانت مواقفه الأخيرة هذه تعكس مسار التجربة الشخصية وفردانيتها العميقة، أي كل ما ميّز إبداعه النظري والعملي. ومن الممكن العثور على ذلك في الأصداء غير المكتملة لسيرته الذاتية، التي تحتوي في ذاتها على صورة رمزية أو إيماء تأويلي على انقطاع الفكرة الإصلاحية وروحها الليبرالي. ومن ثم إمكانية تأسيس الدنيوية الإسلامية، أي كل ما يشكل القاعدة الضرورية لتراكم الحكمة التاريخية في الموقف من النفس والبدائل بطريقة تتمثل رحيق التجربة القومية. وإذا كانت هذه الفكرة تحتوي على قدر من الاحتمال والظن، فإنهما يبقيان كما يقال ضمن سياق الرؤية الواقعية. لاسيما وأن المسار التاريخي للفكرة الإصلاحية ونهايتها المتكسرة في ضعف تأثيرها وتطورها التقائي اللاحق، وانهزام تراثها الذاتي، واغترابها الفعلي في تيارات الفكر الجديدة، يكشف عما في هذه الفرضية من أصول واقعية. والسؤال الذي يظهر هنا من أجل فهم الأبعاد المقطوعة في أنغام المقطوعة الإصلاحية هو لماذا تظهر فكرة السيرة الشخصية عند محمد عبده؟ وما هي طبيعة التحول الذي جعله يكتب عن نفسه؟ ومن الممكن العثور على الإجابة الحقيقية على هذه الأسئلة من خلال تحليل الأبعاد الدفينة في السيرة نفسها. فإذا كانت شخصية محمد عبده تتسم بقدر كبير من الهدوء الظاهري والعنفوان الباطني، أي عدم تناسب الظاهر والباطن، فلأنها الصيغة النموذجية لعوالم الشخصيات الكبرى، بمعنى أنها النتاج الملازم لقوة الإرادة في ضبطها هياج الروح النظري والعملي. لهذا نراه ينظر إلى فكرة الكتابة عن النفس في بداية الأمر بمعايير النقد الذاتي. بمعنى النظر إلى هذه المهمة برؤية عقلانية أخلاقية. لكنه سرعان ما يذلل طابعها "الخجول" و"المتواضع". فهو لم يفكر في بادئ الأمر بكتابة سيرة ذاتية. بل استهجنها. ويعكس هذا الموقف بدوره بقايا الاستهجان الأخلاقي والنفسي للأنا الشخصية. وليس مصادفة أن يشدد محمد عبده بما في ذلك في جدله الكلامي والفلسفي على أولية الوجود ومظاهره. بمعنى أن هذا الاعتراض والتمنع والرفض الأولي لم يكن أكثر من بقايا التأثير الشديد للورع الذي ينتزع حقيقة الشخصية بوصفها فردا، أي فردانية المرء. من هنا فكرته عن "أن وقت اصرفه في حكمة استفيدها خير من زمن أنفقه في قصة أستعيدها". لكنه سرعان ما يعيد النظر في فكرته هذه بعد لقائه بأحد "الغربيين" الذي يشرح له قيمة هذا النوع من الكتابة. عندها يستذكر قول النبي محمد "لا تحقرّن من المعروف شيئا". واستكمل هذه الملاحظة بفكرة نقدية ايجابية لتجارب الأوربيين بهذا الصدد التي وجد فيها تقييما وتقديرا للفرد بوصفه جزء من رؤية عقلانية وأخلاقية وإنسانية محكومة بمعايير الحق، كما نعثر عليها في قوله "أولئك قوم يعرفون الأقدار، ويقدّرون الآثار، ولا يبخسون شيئا حقه، ولا ينكرون عليه ما استحقه ويطلبون المنفعة في كل شيء".

لقد استطاع محمد عبده الخروج السريع من تناقضات النفس وهو في عمر الشيخوخة. بمعنى قدرته على تذليل الفارق التاريخي في تجارب الأمم من خلال إرجاعه إلى صيغة نموذجية ورفيعة للفكر والمنطق. فالسيرة لم تعد بالنسبة له قضية شخصية بقدر ما هي قضية فكرية وتاريخية وثقافية وإصلاحية بقدر واحد. وحقق، وإن بصورة لم تكتمل، المهمة الأولى بهذا الصدد والقائلة، بأن كل صعود متسام للفردية هو تمثل متنوع وخاص للتجربة التاريخية. وبالتالي فإن السيرة الذاتية الكبرى فردية بمعالم العبارة، تاريخية بمعالم الفكرة. وعلى قدر تلاقيهما في تأسيس مرجعيات وعي الذات القومي والثقافي والإنساني، ترتقي قيمتها الفعلية.

فقد أخذ محمد عبده بكتابة سيرته الذاتية من منطلق إدراكه لقيمتها الحقيقية باعتبارها تجربة تاريخية وليست جزء من تقاليد المراقبة النفسية الأخلاقية. لقد وجد فيها معيارا ومرآة للعقل النقدي والعبرة التاريخية. من هنا قوله "فما أنا ممن تكتب سيرته، ولا ممن تترك للأجيال طريقته. فاني لم آت لأمتي عملا يذكر، ولم يكن لي فيها إلى اليوم أثر يؤثر، حتى أكون لأحد منها قدوة، أو يكون لأحد فيّ أسوة". وبهذا يكون محمد عبده قد أسس لضرورة إدراك قيمة النفس على خلفية ما هو موجود. من هنا معاناته وإصراره بقدر واحد في مواجهة الآذان الصماء، كما هو جلي في عباراته القائلة، بأنه يسعى يوميا لقول ما ينبغي قوله بينما هم "يسمعون ما بين عابث بلحيته، ولاه بكبريائه وعنجهيته، ومغرور بمقامه ورنينه، ومعجب بسنه وشيخوخته". وليس مصادفة أن تصبح مهمة نقد النفس وإجبارها على جلد المصابرة أمام تحديات الزمن العابر من أجل صنع التاريخ الفعلي المهمة الملهمة لمحمد عبده. فقد أوصله وعي الذات النقدي إلى إدراك قضيتين كبيرتين وهما سئمه الاستمرار على ما يألفه الناس، وارتفاع صوته صوب "أمرين عظيمين" أولهما وأكثرهما أهمية يقوم في "تحرير الفكر من قيد التقليد". وأدخل في هذا الأمر ست مبادئ كبرى وهي: فهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف; والرجوع في فهم كسب المعارف إلى ينابيعها الأولى; والمعرفة ضمن موازين العقل البشري; ومهمة الدين حفظ نظام العالم الإنساني; والدين صديق للعلم، وبالتالي ضرورة البحث عن أسرار الكون; واحترام الحقائق الثابتة والتعويل عليها في أدب النفس وإصلاح العمل. ووضع كل ما أراد قوله وما لم يستطع إتمامه بهذا الصدد في عبارة وجيزة تعكس حالة الانتظار القلق في مسار الفكرة الإصلاحية عندما كتب في "سيرته" قائلا:"إنني في كل مواقفي من المجتمع والدولة لم أكن الإمام المتبع، ولا الرئيس المطاع. غير إنني اكتب بروح الدعوة" . ووجدت هذه الروح ملاذها الأخير وتعبيرها الخاص في كتابه (رسالة التوحيد).

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم