دراسات وبحوث

الحسن البصري.. مثقف التحدي الروحي (1)

ميثم الجنابيإن الأرواح الكبيرة للمثقفين صيرورة متراكمة في مجرى إدراك القيم السائدة في ظاهر البشر وبواطنهم. وهو إدراك يؤدي بالضرورة إلى نقد الواقع من خلال انتفاضة الجسد واحتجاج العقل. وحالما ترتقي وحدة الانتفاض الحسي والاحتجاج العقلي إلى مصاف الإدراك الأخلاقي، حينذاك يبدأ الروح في احتجاجه الخاص. لكنه خلافا للعقل والجسد، عادة ما يحفر قنواته العميقة صوب بحار الحكمة، أي نحو عوالم بلا أوهام وأهواء، بوصفها المقدمة الضرورية لصنع إرادة فاعلة في عوالم الخيال المبدع.

وعادة ما يتوقف حجم هذه العوالم ونوعها وعمقها ومداها على قدر ما في تاريخ الدولة والأمة من مساع إمبراطورية. فالشخصيات الكبرى هي الوجه الآخر للمساعي الإمبراطورية والنزعة الكونية. فإذا كانت الإمبراطورية الأموية هي نتاج معارك القوى الاجتماعية والسياسية والروحية للخلافة في مجرى القرن التأسيسي الأول، فإن الحسن البصري كان وجهها الآخر.

إننا نعثر فيه على الصفة الفردية والفردانية لإمبراطورية الروح المناهضة لسلطان السلطة المستبدة. وذلك لأنه جسّد بذاته خزين معارك القرن الأول وصراعاته وبحثه عن البدائل، أي كل ما كان يحتدم في أعمق أعماق النفس وأشد مظاهرها بروزا في حل إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي للفرد والجماعة والأمة والدولة[1]. مما جعل منه في العرف الإسلامي العام أحد المصادر الكبرى للفكرة الإسلامية المتسامية رغم تباين المواقف السياسية منه. وهو أمر طبيعي. فالشخصية الكبرى، التي تنذر نفسها من أجل صنع "الإجماع" عادة ما تصبح أحد مصادر الخلاف الأكبر. كما أنه القربان الروحي الضروري لكي تتكامل الدولة بمعايير الحق والمثقف بمعايير الحقيقة.

فقد جسّد الحسن البصري في ذاته نموذج المثقف المتسامي عن صراع القوى الحزبية ونزوعها الضيق وأوهامها وأهوائها وظنونها الجازمة! مما جعل منه نغما متموجا في دبيب النفس الاجتماعية والعقل الحر والروح الأخلاقي. بحيث جعله على الدوام محل الاحتكاك والحراك، كما جعله قريبا من الجميع وبعيدا عنهم. أما في الواقع فإن القرب والبعد ليسا إلا الصيغة الظاهرية عن حقيقة بعده عن الباطل والخطيئة والرذيلة وقربه من الحق والصواب والفضيلة. لكنه اقتراب وابتعاد فرداني متحرر من أوهام وأهواء العامة والخاصة. ومن الممكن العثور عليه في أحد أجوبته عندما قيل له مرة:

يا أبا سعيد! صليت؟

نعم!

لكن أهل السوق لم يصلوا بعد؟!

ومن يأخذ دينه من أهل السوق؟![2]

بمعنى تمثيله لمسار الرؤية الفردية المسبوكة بمعايير المعاناة الفعلية للحق، أي تمثله للحقيقة القائلة، بأن المعاناة هي التي تجعل الحياة سهلة بسيطة كالماء والهواء والنار والتراب. وذلك لأن الحياة الخالية من معاناة كبرى هي ركود وملل. ومن ثم فهي كآبة قادرة على سحب بريق الرأفة والحنان والرقة والجمال من كل مشاعر الجسد وقلق الوجدان وتأمل العقل. وبالتالي من المكونات الضرورية التي تبعث في الوجود حرارة المعنى وقيمته بالنسبة للمصير والتاريخ على السواء.

وليس مصادفة أن نعثر في أكثر من تقرير مقارن له عن إشارة إلى ما "أدركه"، أي رآه وتحسسه وعاينه وعايشه وتأمله وتفكر به. من هنا كلماته العديدة التي يشير فيها إلى الأسلاف، ولكن بمعايير التجربة الفردية والتأمل الحسي والعقلي، وليس التقليد. إذ نراه مرة يقول "لقد أدركت سبعين بدريا ما كان لباسهم إلا الصوف"[3]. وفي حالة أخرى يقول "أدركت سبعين من الأخيار ما لأحدهم إلا ثوبه، وما وضع أحدهم بينه وبين الأرض ثوبا. وكان إذا أراد النوم باشر الأرض بجسمه وجعل ثوبه فوقه"[4]. وفي حالة ثالثة يقول "أدركت أقواما كانوا لا يشبعون بأكل احدهم حتى إذا رد نفسه امسك ذائبا ناحلا مقبلا على نية. يعيش عمره كله ما طوي له ثوب قط، ولا أمر أهله بصنعة طعام، ولا جعل بينه وبين الأرض شيئا"[5]. وفي حالة رابعة يقول "لقد رأيت أقواما كانت الدنيا أهون على أحدهم من التراب تحت قدميه"[6]. وفي حالة خامسة يقول "لقد أدركت أقواما كانوا أؤمر الناس بالمعروف وآخذهم به، وأنهى الناس عن منكر واتركهم له. ولقد بقينا في أقوام أأمر الناس بالمعروف وأبعدهم منه، وأنهى الناس عن المنكر وأوقعهم فيه. فكيف الحياة مع هؤلاء؟!"[7]. إذ يتمم هذا السؤال من حيث منطقه الداخلي تأمل تجربة الماضي والحاضر بمعايير الإدراك الأخلاقي الذاتي. فالقضية هنا ليست في عدد مرات الإدراك بقدر ما تكمن في نموذجيتها المتكاملة في السؤال المتألم حول كيفية العيش مع هذا القطيع المقطوع عن تجارب الأسلاف الكبرى. ويحتوي هذا السؤال في أعماقه على إجابة، وذلك لأنه سؤال الاستغراب والاندهاش من الكيفية التي يمكن الهبوط بها صوب الحضيض، بينما الحقيقة والحق يفترضان الارتقاء الدائم صوب السمو الروحي.

إننا نقف هنا ليس أمام سؤال يهدف إلى إدراك واقع أو حقيقة بقدر ما نقف أمام سؤال هو تعبير عن صرخة العقل والوجدان المتموجة في أعمق أعماقه بوصفها جزء من معاناة تاريخية أخلاقية كبرى. ويمكن الهبوط بهذه المعاناة إلى ميدان الخشونة المرّة للحياة من أجل تحسسها بمعايير الجسد أيضا، كما نراها في الفكرة التي وضعها مرة في عبارة مباشرة يخاطب بها الإنسان قائلا:"ابن آدم! إنك تموت وحدك! وتدخل القبر وحدك! وتبعث وحدك! وتحاسب وحدك! ابن آدم وأنت المعني وإياك يراد"[8]. وهي حقيقة أقرب إلى البديهة العقلية. لكن مفارقتها المثيرة تقوم في عدم تحسس أغلبية البشر لها، مع أنها أقرب الأشياء إلى جسد الإنسان! مما جعل عبارة الحسن البصري المذكورة أعلاه أشبه ما تكون بحشرجة مصدرها غباء العامة، وصلف الخاصة، وغيبوبة العقل، واندثار اليقين الروحي! من هنا يمكن فهم الاستكمال المبسط والمتمم لفكرة إن الإنسان يموت لوحده ويدفن لوحده، وإن المقصود بكل ذلك هو الإنسان المخاطب (الجميع). بحيث نرى الحسن البصري يصل ضمن هذا السياق، إلى مطابقة ماهية المؤمن مع المحاسبة الذاتية باسم الحق، كما وضعها في عبارته القائلة:"إن المؤمن قوّام على نفسه، يحاسب نفسه لله"[9]. بمعنى خروجه من تقاليد التقليد وشرطية العلاقات والقيم والانطواء على النفس بمعايير الروح المتسامي. وسوف تبدع هذه الحالة لاحقا فكرة وسلوك الخلوة بوصفها طريق التنقية الذاتية للنفس. وهي الحالة التي نعثر على صداها وتأسيسها الأول في السلوك الشخصي للحسن البصري، كما نراها على سبيل المثال في رده على ثابت البناني، الذي أراد مرافقة الحسن إلى الحج بعد أن سمع بذلك. فأجابه الحسن قائلا:"ويحك! دعنا نتعاشر بستر الله علينا. إني أخاف أن نصطحب فَيَرىْ بعضنا من بعض ما نتماقت عليه"[10].

إننا نقف هنا أمام فكرة تعكس نوعية السلوك المتراكم في مجرى المعاناة النقدية للنفس بوصفها محاسبة عسيرة، أو ما اسماه بمحاسبة النفس لله. بمعنى تحررها من قيود الظاهر والتقليد وعرف العوام. وليس مصادفة أن يرفع الحسن البصري هذا السلوك إلى مصاف الفكرة النظرية والعملية تجاه علاقة العقل والنقل أو الدراية والرواية، باعتبارها إحدى إشكاليات الثقافة الكبرى آنذاك. بحيث نسمعه يقول مرة:"إن الله لا يعبأ بصاحب رواية، وإنما يعبأ بذي فهم ودراية"[11]. وأن "من لم يكن له عقل يسومه لم تنفعه كثرة مروياته"[12].

وتعكس هذه الفكرة أولا وقبل كل شيء ما يمكن دعوته بنوعية السلوك الباطني المتراكم في مجرى احتكاك النفس بخشونة الواقع الفعلية و"استحالة" المثال. لكنه تراكم فردي بالضرورة ومحكوم بمعاناة التجربة الذاتية الحرة. من هنا اندفاعها مع كل انغماس في دروبها صوب دهاليز الجنون المرعبة للذهنية المستأنسة بروايات الأسلاف، والمستظرفة بأساطيرهم الوديعة، والمتراخية بقصص الليالي وسردها المغري! وهي نتيجة ليست معزولة عن واقع الحقيقة القائلة، بأن السمو الفردي المحكوم بمعاناة التجربة الذاتية الحرة عادة ما يجعل الشخصية "مجنونة" بمعايير الظاهر والعابر والزمن، و"روحا" بمعايير التاريخ والحقيقة. من هنا مقارنة الزمن العابر بالتاريخ الروحي في العبارة التي تفوه بها مرة عندما قال: "صحبت طوائف لو رأيتموهم لقلتم مجانين! ولو رأوا أخياركم لقالوا ما لهؤلاء من أخلاق!"[13]. ويمكن فك رموز هذه "الصحبة" وأسرارها الواقعية والمعنوية حالما يجري وضعها على محك المطلق بوصفه مصدر الوحي الذاتي والكمال المتحرر من رّق الاغيار، كما ستقول به المتصوفة لاحقا ، أي التحرر من عبودية الغير أيا كان شكله ومحتواه. فعندما قيل له مرة، بأن قوما يحضرون مجلسه ليس بغيتهم إلا تتبع سقطات كلامه وإرهاقه بالسؤال، نراه يبتسم ويقول:"إني حدّثت نفسي بسكنى الجنان ومجاورة الرحمن فطمعت! وما حدّثت نفسي بالسلامة من الناس، لأني علمت أن خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم لم يسلم منهم"[14].

وليس في كلامه هذا شيئا غير حقيقة المحبة المفعمة برائحة التحرر من كل ما لا يمكنه أن يوصل إلى إدراك حقيقة الحق. وذلك لأن حقيقة الحق بالنسبة للحسن البصري تقوم في بلوغ الحكمة. وهذه بدورها ليست شيئا غير "تحديث النفس بسكنى الجنان ومجاورة الرحمن"، بمعنى تجديدها وإصلاحها الدائم بحوار الرحمة الأبدية. لكنها رحمة يستحيل بلوغها دون معاناة التجربة الحرة بوصفها حوارا دائما للروح المتسامي. وقد بلغ الحسن البصري هذه الغاية ووضعها في عبارته القائلة: "إن أهل العقل لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر، وبالفكر على الذكر حتى استنطقوا قلوبهم فنطقت بالحكمة"[15]. كما سيقول عنه أبو نعيم الأصفهاني "مازال الحسن البصري يعي الحكمة حتى نطق بها"[16]. وهو نطق ميز كلمة الحسن البصري وعبارته بوصفها حكمة. لهذا نسمعه يقول:"لسان المؤمن وراء قلبه. إذا أراد أن يتكلم تفكر. فإن كان له تكلم، وإن كان عليه أمسك. وقلب المنافق على طرف لسانه"[17]. ومع ذلك تبقى مقارنة جزئية تعكس الفكرة الأوسع والأعمق والأكثر شمولا لعلاقة اللسان والقلب والحكمة، عندما وضعها في عبارته القائلة:"من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو. ومن لم يكن سكوته تفكرا فهو سهو. ومن لم يكن نظره اعتبارا فهو لهو"[18].

إن وحدة الحكمة والتفكر والاعتبار هي الحلقات الضرورية التي تصنع على مثالها سبيكة الأنا الناطقة بالحق. بمعنى صيرورتها التاريخية والذاتية بوصفها تلقائية واحدة وجدت تعبيرها الإسلامي بوحدة الكمية النوعية القائمة في بلوغ الأربعين والنبوة. لهذا نرى المكي وغيره، على سبيل المثال، يقول بأن الحسن البصري ظل "يعي الحكمة أربعين سنة حتى نطق بها"[19]. ويعكس هذا الرقم أولا وقبل كل شيء نمطية التقاليد الإسلامية التي جعلت من الأربعين حدا للنبوة والحكمة. من هنا إجماع الثقافة العامة عنه، بأنه "ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء"[20]. ثم تخصيص ذلك بما يتناسب مع ذوق الثقافة الإسلامية ورؤيتها للعظمة عبر مشابهة كلامه بكلام النبي محمد، كما نراه في العبارة التي يوردها أبو طالب المكي عندما كتب يقول، بأن كلام الحسن البصري "كان يشبه كلام رسول الله"[21]. وبهذا يكون الحسن البصري قد بلغ الدرجة المثلى في العرف التاريخي والروحي للثقافة الإسلامية التي جعلت منه سبيكة حية لتاريخ الأنبياء والحكماء. ويمكننا العثور على هذه الدرجة في العبارة التي وصفته بكلمات:"أن لسانه مثل لسان الأنبياء والحكماء". وليس المقصود بذلك نطق اللسان، بقدر ما كان المقصود به نمط التفكير والأسلوب والغاية. وهو القصد الذي يمكن رؤيته في التحديد الذي قدمه أبو طالب المكي واستعاده الغزالي لاحقا في عباراته القائلة :"لقد كان الحسن البصري أشبه الناس كلاما بكلام الأنبياء وأقربهم هديا من الصحابة. اتفقت الكلمة في حقه على ذلك. وكان أكثر كلامه في خواطر القلوب، وفساد الأعمال، ووساوس النفوس، والصفات الخفية الغامضة من شهوات النفس"[22]. ذلك يعني أن الحسن البصري هو الكينونة التي جسّدت في ذاتها رحيق الصيرورة الإسلامية الروحية، من خلال توليف تراث الروح المتسامي والتاريخ الواقعي في سلسلة الوحدة الضرورية للتاريخ الفعلي والمثال الواجب.

 من هنا إرتقائه في سماء الثقافة الإسلامية بوصفه أحد مصادرها وأعلامها الكبرى. كما لو انه تجسيد للحقيقة القائلة، بأن الأنبياء حالما تموت تحيى في ذاكرة الأجيال والأمم بما يتناسب وذوقها التاريخي. من هنا شيوع الصيغ العديدة والمتنوعة في مظاهرها والمتوحدة في مضمونها عنه بوصفه صوت التاريخ والحقيقة والروح الأخلاقي للأمة. لهذا قيل عنه، بأنه في الليلة التي مات فيها الحسن البصري شاهد البعض كما لو أن أبواب السماء مفتوحة، وكأن مناديا ينادي "ألا أن الحسن البصري قدم على الله وهو عنه راض"[23]. وهي الصيغة الرمزية المعبرة عما فيه من مفاتيح قادرة على فك مزلاج الوجود بفكرة الرضا الجوهرية للرؤية الإسلامية. إذ ليس الرضا سوى الوحدة المتجانسة للحرية والإرادة في المواقف. ومن ثم لا يعني رضا الله عنه سوى الصيغة اللاهوتية عن قبول التاريخ والروح له بمعايير وحدتهما التي جسدها الحسن البصري نفسه في صيرورته الفردية وكينونته الذاتية. وبالتالي لا تعني انفتاح أبواب السماء سوى الإطلالة الجميلة لاسترقاق السمع إلى صوت الحقيقة والتاريخ والروح الأخلاقي والأمة المتمثل في شخصية الحسن البصري. من هنا قول عبد الرحمن بن زيد عنه:"كان الحسن البصري إذا أمر بشيء كان من أعمل الناس به. وإذا نهى عن شيء كان من أترك الناس له. ولم أر أحدا قط أشبه سريرة بعلانية منه"[24]. وعندما سأل عنه الأمير مسلم بن عبد الملك، أجابه خالد ابن صفوان قائلا "أشبه الناس سريرة بعلانية، وأشبه قولا بفعل. وإن قعد على أمر قام عليه، وإن قام على أمر قعد عليه. وإن أمر بشيء كان أعمل الناس به، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له. رأيته مستغنيا عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه"! عندها قال مسلم:"حسبك يا خالد! كيف يضل قوم هذا فيهم؟!"[25]. من هنا شيوع العبارة القائلة عنه:"كنا نشبهه بهدى إبراهيم الخليل في حلمه وخشوعه ووقاره وسكينته!". بمعنى بلوغه الدرجة التي يمكن وضعه، حسب ذوق لعبارة الإسلامية، في مصدر الفكرة الأخلاقية والروحية المتسامية. وليس مصادفة، كما تروي كتب التاريخ والسير الحادثة الطريفة عن الرغبة الوحيدة والأخيرة لجابر بن زيد، عندما قيل له قبيل موته:

ما تشتهي؟

نظرة إلى الحسن!

فلما دخل عليه الحسن، قالوا له:

هذا الحسن!

يا أخوتاه! الساعة أفارقكم إلى النار أو إلى الجنة![26]

ذلك يعني انه بلغ الحالة التي جعلته عروة اليقين والسعادة المحتملة بالنسبة لأرباب الإرادة الحرة والأخلاق المتسامية، بحيث قال عنه الشعبي:"ما رأيت مثل الحسن فيمن رأيت من العلماء إلا مثل الفرس العربي بين المقارف! وما شهدنا مشهدا إلا برز علينا"[27]. وتشير هذه العبارة إلى تميز الأصيل عن المزيف. ولا معنى لهذا التمايز هنا سوى ما يتعلق بصيرورة الشخصية وأثرها الفعلي بالنسبة للروح الثقافي، التي جعلت الحسن البصري ممثلا لدراما الانتقال العاصف في تاريخ الدولة والأمة والثقافة.

فقد تمثل الحسن البصري تقاليد الرؤية التوحيدية في مرحلة الانتقال الدموية من فكرة الرشد إلى فكرة السلطان، أي الانتقال من براعم الفكرة العامة للدولة والأمة القائمة على جوهرية الاجتهاد العقلي والعملي المحكوم بمعايير وقيم الشريعة الإسلامية إلى أولوية التسلط المتحرر من فكرة القانون العام. من هنا إلغاء فكرة الدولة والأمة بالمعنى الدقيق للكلمة. بحيث حوّل تاريخ الأموية إلى دموية حروب خارجية وداخلية. وجرى تحسس هذه الحالة من جانب المثقفين المسلمين الكبار على أنها خروجا عن منطق الحق وروح الإسلام. وقد يكون الحسن البصري هو أحد أكبر ممثلي هذا التيار الذي تذّوق طعم المرارة القاسية في هذا التحول الدرامي وواجهها بأسلوب متميز في المواقف النظرية والعملية. الأمر الذي جعل منه نموذجا متميزا وأصيلا في تمثل دراما المرحلة ومواجهة رذائلها الهائلة. ووجد ذلك انعكاسه في شخصيته باعتبارها نموذجا فرديا معبرا عن تأمل الثقافة الورعة لنفسها في مراحل صعودها المتشنج وصراعها الدموي. من هنا تحوله إلى أحد المصادر الكبرى للفكرة الصوفية. ومن هنا قول الثقافة الصوفية اللاحقة عنه بأن الحسن البصري هو أحد الثمانية الذين انتهى إليهم الزهد من التابعين. غير أن مأثرته تقوم في رفعه ممارسة الزهد إلى مستوى الرؤية الفلسفية والعملية. من هنا يمكن فهم قول ابو طالب المكي، بأن بداية الزهد "كانت مجالس الحسن البصري يخلو فيها للذكر مع إخوانه وأتباعه من النساك والعباد في بيته مثل مالك بن دينار وثابت البناني[28] وأيوب السخستياني[29] ومحمد بن واسع وفرقد السبخي[30] وعبد الواحد بن زيد[31]. فيقول :هاتوا انشروا النور! فيتكلم عليهم في هذا العلم من علم اليقين والقدرة وفي خواطر القلوب وفساد الأعمال ووسواس النفوس"[32]. وكان هذا النوع من الكلام يبدو "غريبا" آنذاك. بحيث نرى أبو طالب المكي يقول بهذا الصدد:"إن الحسن البصري أول من انتهج سبيل هذا العلم (التصوف) وفتق الألسنة به ونطق بمعانيه وأظهر أنواره وكشف به قناعه. وكان يتكلم بكلام لم يسمعوه من أحد من إخوانه. فقيل له:

يا أبا سعيد! انك تتكلم في هذا العلم بالكلام لم نسمعه من أحد غيرك! فمن أين أخذت هذا؟

من حذيفة بن اليمان!"[33]

وتعكس هذه الإجابة ارتقاء الروح التلقائي في مجرى تأمله التاريخ والحقيقة. وهو ارتقاء ارتقى بالحسن البصري إلى مصاف المعلِّم الأول للروح الإسلامي الإنساني. من هنا استنتاج المكي:"الحسن هو إمامنا في هذا العلم الذي نتكلم به. أثره نقفو، وسبيله نتبع، ومن مشكاته نستضيء. أخذنا ذلك بإذن الله إماما عن إمام إلى أن ينتهي ذلك إليه"[34]. إذ يعكس هذا التقييم أولا وقبل كل شيء الحالة الفعلية لتقاليد الأسلاف والحقيقة والتاريخ الذاتي للأمة التي تمثلها الحسن البصري في مراحل صعودها وتوتر صراعاتها وفتنة احترابها السياسي بسبب خروج السلطة الأموية على قواعد المنطق الشرعي والأخلاقي الكامنة في الفكرة الإسلامية الأولى.

كل ذلك يعطي لنا إمكانية القول، بأن خاتمة الحسن البصري قد اختتمت في مواقفها النظرية والعملية منظومة النقد الأخلاقي الشامل لمرحلة الانتقال من الخلافة إلى الملك. إذ جسّد في ذاته ومظهره وحياته ومماته المزاج النقدي تجاه هذا الانتقال ومحاولة تذليله في ميدان الأخلاق العملية والنظرية. وقد لا يكون ذلك معزولا عن البصرة بوصفها "موقد الأجناس" وموطن الاعتدال الديناميكي، مما يجعل من شخصية الحسن البصري بهذا الصدد أنموذجا لتمثل تقاليد المدينة والتاريخ الروحي وقيم العقائد الكبرى. وليس مصادفة أن تظهر في البصرة أغلب المدارس الفكرية الإسلامية الأولى، وكذلك تفرّع مختلف فرق الكلام مثل القدرية والمعتزلة إضافة إلى اتجاهات الزهد والتصوف وغيرهم منه. ولم تكن هذه النتيجة معزولة عما في فكره النظري والعملي وتجربته الذاتية التي رفعها إلى مصاف الحكمة من توحيد خفي وتلقائي لمختلف تقاليد التيارات الإسلامية المعارضة الأولى. من هنا كانت ردود فعله تتسم بقدر واحد من الابتعاد والاقتراب من الجميع، بحيث نعثر فيه على مواجهة نقدية تجاه السلطة والمجتمع والأفراد والجماعات والفرق المختلفة بقدر واحد! وهو نقد اتخذ مساره الخاص من خلال تحويل روافده صوب النفس والغوص في خلجانها والبحث فيها عن كل ما يعيق صفائها الأول. وهي المقدمة الضرورية لنقد الكلّ من خلال عرض النفس على مطالب الحكمة والقيم المتسامية بوصفه محك الاختبار الفعلي للفكر والتفكر والفكرة.

من هنا كان صمت الحسن البصري ونطقه نقدا كليا متكافئا للجميع. بحيث جعل منه ممثل الاحتجاج الأكبر في مرحلة الانتقال العاصفة من الخلافة إلى الملك. إذ كان هذا الاحتجاج يهدف أولا وقبل كل شيء إلى محق الغربة البليدة عن معاناة الأسلاف والتاريخ ومصالح الأمة وتراث الحقيقة. كما لو انه أراد القول، بأنه لا غابرون في التاريخ غير غبار الجهل وخواء العزيمة والخروج على منطق الأخلاق المتسامية. ولا قيمة لهذه المظاهر أمام ما تتوصل إليه الحكمة بوصفها استنطاق النفس الحرة. من هنا كان في احتجاجه أشبه ما يكون بالرمال المتراكمة للكينونة الإسلامية في قدرتها على امتصاص غبار الفتنة وحطامها التي كانت ترمي بها أفعال الأموية الهوجاء على سواحل الحياة الفعلية للروح. كما كان هذا الاحتجاج يكشف في كل مظاهره وخفاياه، لوامعه وملامحه عن ضحالة شواطئ الأموية وأمواجها. كما لو انه أراد القول، بأن الأموية لا يمكنها أن تكون بحر الأرض ولا قمر السماء. لهذا كانت أمواج المد والجزر العارمة تجري في أوهامها، لهذا لم يكن بإمكانها تحسس دور هذه الأمواج وما فيها من حياة وحيوية في صقل قاع الوجود وسماءه.

وفيما لو نقلنا هذه الصيغة البلاغية إلى ميدان الفكر والواقع، فإن حركة المد والجزر التي تزخر بها الحياة لم تكن بالنسبة للحسن البصري، سوى الحركة المتموجة لتناسب العقل والوجدان. الأمر الذي جعل منه الممثل النموذجي لوحدة وتناسب العقل والوجدان في مرحلة الانتقال العاصفة للدولة والمجتمع والثقافة والقيم. فقد حارب الأموية من خلال صياغة نموذج جديد للمعارضة يقوم في تحديد واستخلاص وتجانس موقفه من كل شيء، وفي كل مظاهر الروح والجسد والحياة العامة والخاصة[35]. وكان يصعب إدراج هذه المواقف في ما هو متعارف عليه بالنسبة لحركات المعارضة الأولى من شدة في المواجهة، وتحدي مباشر، ورد فعل في مواجهة سلوك الأموية الدموي بدماء قانية "نقية" من نقد الدينار والدرهم. لهذا وجدوا في مواقفه وكلماته وعباراته مجرد تعبيرا عن "لسان صامت". بحيث وجدت فيه بعض الحركات الشيعية الراديكالية "لسانا خانعا". من هنا قولهم "لولا سيف الحجاج ولسان الحسن البصري، ما قام لبني مروان أمر في الدنيا".

قد يكون ها التقييم الاستثناء الوحيد في تقييم "لسان" الحسن البصري، على خلاف ما هو متعارف عنه. وبالتالي ينبغي فهم عبارة "لولا سيف الحجاج ولسان الحسن البصري لما قامت لبني أمية قائمة!"، بمعايير الحماس الوجداني والمواجهة العنيفة التي كلفت حركات المعارضة السياسية والعسكرية للأموية ضحايا هائلة وعذابات مريرة. من هنا رغبتها في استعادة التقاليد القتالية ولغة البيان الحماسية وبلاغة العبارة القادرة على لسع الجسد الخامل والخائف للاندفاع بقوة الحس والإحساس، والعقل والضمير، والشهامة والمروءة إلى ميدان القتال العلني. إذ كان يصعب على هذه النفسية والذهنية فهم أقوال الحسن البصري المتسامية وتعاليها الغريب في عالم مريب يصعب عليه الاستمتاع بكلمات الرحمة والعفو. غير أن لرجال القدر التاريخي قدرهم في ألسنة العوام. وليس مصادفة فيما يبدو أن تبدع التقاليد العفوية لنزعة العفو المتسامية الرواية المختلقة عن "قبول" الإمام علي بن أبي طالب بقصص الحسن البصري، بعد دخوله البصرة والاستماع إلى خطبائها وقصاصيها. فالمكي يورد في (قوت القلوب) قائلا "لما دخل علي بن أبي طالب البصرة، جعل يخرج القصاص من المسجد ويقول "لا يقص في مسجدنا" حتى انتهى إلى الحسن وهو يتكلم في هذا العلم، فاستمع إليه ثم انصرف ولم يخرجه"[36]. والأغلب أنها رواية مختلقة، وذلك لأن عمر الحسن البصري لم يتجاوز آنذاك في أفضل الأحوال العشرين عاما. من هنا يمكننا القول، بأن هدف هذه الرواية يقوم في تأسيس أو غرس إحدى الصور الرمزية الهادفة إلى كشف ما يمكن دعوته بكلام الحسن البصري بوصفه نموذجا لمنطق الوجدان وليس نطق اللسان. فقد كان لسانه صيغة نقدية تتسامى على احتراب الفِرق مع البقاء ضمن تيار الحقيقة ووجدان الإخلاص الفردي لها. من هنا كان صمته ونطقه تعبيرا عن نقد الكلّ من خلال اختبار النفس، بوصفه أسلوب صيرورة المرجعية الروحية المتسامية في الفرد، وبالتالي صنع فردانية متميزة بين أقرانها. وكانت تلك الصيغة الأولية في تاريخ الثقافة الإسلامية التي حققها الحسن البصري من خلال تأسيس ما يمكن دعوته بفلسفة بكاء الوجود.

لقد أبكى الحسن البصري الوجود فأبكى الجميع. أنه استدّر عطف العوام والخواص من أجل تأمل الرذيلة القائمة في الوجود بوصفها رذيلة كامنة في النفس. وجعل منها مقدمة نقد الكلّ. وبهذا يكون الحسن البصري الفارس الروحي الذي استثار مختلف القوى الجديدة من أجل المشاركة في إحياء وإثراء بكاء الإرادة وقدرها التاريخي الذي وضعت أنغامه وأصواته حركات المعارضة الكبرى للشيعة والخوارج. وهو إحياء وإثراء نقدي. وذلك لأن النقد الأخلاقي الجديد للوجود عند الحسن البصري كان يقوم على فرضية أن الضلال هو ظلال الخطيئة الكامنة في النفس. من هنا كانت فلسفته عن بكاء الوجود ونعيه مبنية على أسس الموقف الفردي المحكوم بقيم الإخلاص للحق والمهّذب بمسالكه. ومن هنا أيضا وحدة بكاء النفس والروح والجسد وتأمله بمعايير السمو الباطني. فالإنسان بالنسبة له نفس وكلّ أخلاقي. وبالتالي ليست الإرادة الحقيقية سوى تحقيق وحدة العلم والعمل بالشكل الذي يجعل منها وحدة لا تجزئة فيها. بمعنى تحريرها من تجزئة الظاهر والباطن، والجزئي والكلي، والغاية والوسيلة وما شابه ذلك. وهو السرّ القائم وراء جعله تعرية النفس أسلوب نقدها الظاهري والباطني. انه أراد فضحها وليس اكتشافها. وهو موقف عملي ونظري لم يكن معزولا عن شخصيته ومعاصرته لمرحلة السيطرة الأموية وما لازمها من سيادة الإكراه، والجبر، والقهر، والقسوة الهمجية، والخروج على الشرعية، وشراء الذمم، واستفحال قوة النفس الغضبية، وصعود الإمبراطورية المتحررة من قيم الرؤية الشرعية وفكرة الدولة، وتفسخ النخبة السياسية(يتبع....).

 

ا. د. ميثم الجنابي

.........................

[1] ولد الحسن البصري، كما يقول أبو طالب المكي عام 20 للهجرة، قبل يومين من بقية خلافة عمر بن الخطاب. وبهذا تكون ولادته قد رافقت الاستكمال والاستتباب الأول لفكرة الخلافة الإمبراطورية بوصفها جزء من صيرورة الإمبراطورية الثقافية. إذ لم تكن الوحدانية الإسلامية المتغلغلة في فكرة الغزو، سوى الباعث الروحي الكامن في صيرورة ما ادعوه بالخلافة الإمبراطورية. وقد كانت بدورها محكومة في أبعادها السياسية بفكرة الرشد، أي بالقانون والشريعة والانتماء للأمة، وفي أبعادها الدينية بفكرة الأمة الواحدة المتحررة من مختلف مكونات "الجاهلية". ومن ثم، فإنها كانت تحتوي في أعماقها على مرجعيات الروح الثقافي. مما جعل من ولادتها صيرورة مرادفة لبداية القرن التأسيسي للدولة الكبرى (توفي الحسن البصري عام 110 للهجرة). وهو تأسيس كامن في صيرورته الفردية وكينونته الفردانية. ومنهما تراكمت شخصيته الروحية والاجتماعية والسياسية، التي جعلت منه احد ممثلي الاحتجاج المنظومي على خروج الأموية عن صراط الرشاد في إدارة شئون الدولة، والخروج على منطق مرجعياتها الأولى القائمة في أولوية وجوهرية الشريعة والنظام والقانون والأمة وقيم الأخلاق الروحية والعملية.

[2] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج2، ص174.

[3] الكلاباذي: التعرف لمذهب أهل التصوف، ص23.

[4] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص265.

[5] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص98.

[6] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص134.

[7] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص155.

[8] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2،ص155.

[9] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص157.

[10] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج2، ص234.

[11] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص199.

[12] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص199.

[13] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص171.

[14] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج2، ص241.

[15] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص425.

[16] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص147.

[17] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص97.

[18] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص424

[19] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص150.

[20] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2،ص147.

[21] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص150.

[22] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص77.

[23] القشيري: الرسالة القشيرية، ص177.

[24] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص391.

[25] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2،ص147-148.

[26] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4ن ص465.

[27] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج2، ص347.

[28] ثابت البناني – إحدى الشخصيات الأولى التي بلورت أسلوب تنقية الإرادة وهيكلة الروح الأخلاقي والمعرفي من خلال الوسيلة. فهو أول من جعل الصلاة أسلوبا لبلوغ الحق من خلال جعلها وسيلة الأنا الباحثة عن ارتباط وانسجام بالمطلق. وليس مصادفة ألا نعرف عنه أكثر من كونه مصليا عابدا. لهذا قيل عنه "من أراد أن ينظر إلى اعبد أهل زمانه فلينظر إلى ثابت البناني". وقد جعلته هذه الصفة كما يقول انس بن مالك "مفتاحا للخير". فقد قال انس بن مالك مرة:"إن للخير مفاتيح! وإن ثابتا مفتاح من مفاتيح الخير". وهو مفتاح فتح أولا وقبل كل شيء ذاته أمام ذاته من خلال حصر مكونات الروح والجسد وتذويبها في فعل الصلاة الدائمة، أي الخشوع أمام المطلق. من هنا قوله "لا يسمّ عابد أبدا عابدا، وإن كان فيه كل خصلة خير حتى تكون فيه هاتان الخصلتان – الصوم والصلاة، لأنهما من لحمه ودمه". بعبارة أخرى، إن العبودية الحقيقية لله تفترض التحرر مما غيره من خلال جعل العلاقة بينما تسري في اللحم والدم، أي في كل وجدان الروح والجسد وكل حركة يقوما بها. وليس مصادفة أن يقول البناني إن "الصلاة خدمة الله في الأرض". من هنا كثرة الحالات الغريبة المنقولة عنه، مثل أن يقال عنه، بان ثابت البناني ربما يمشي فلا يمر بمسجد إلا دخل فصلى فيه. ربما مشى معه امرؤ فإذا عاد مريضا بدأ بالمسجد الذي في بيت المريض. فركع ثم يأتي المريض. من هنا قوله "كابدت الصلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة". لقد كانت الصلاة بالنسبة له سريان الروح في الروح. من هنا وحدة وتناغم المكابدة والسعادة فيها، بوصفها المعادلة التي صنعت صيرورته وكينونته. بحيث نراه يحصر رغبته الأبدية والغاية النهائية من وجوده في ديمومة الصلاة. من هنا دعاءه القائل:"اللهم إن كنت أعطيت احد من خلقك أن يصلي لك في قبره فأعطني ذلك". وقد جرى وضع أساطير على أساس هذا الدعاء مثل سماع الناس صلاته في القبر، وسماعهم لتلاوته القرآن وما شابه ذلك. لقد أراد ثابت البناني أن تكون حياته وموته وحدة متجانسة لديمومة العلاقة الوجدانية التامة بالمطلق. وهي العلاقة التي تجعل من موقف المثقف تجاهه كل شيء لوحة مرئية من وراء دموع الوجدان الدافئة. ويمكننا رؤية بعض الملامح الظاهرية لهذه الحالة في التصوير الذي قدمه البعض عنه عندما رسم لنا شخصية البناني الباكية بعبارة:"رأيت ثابتا البناني يبكي حتى أرى أضلاعه تختلف". وقد لا تكون هذه الحالة معزولة عن الأثر السحري الذي تركته عبارة أنس بن مالك الذي قال له مرة:"ما أشبه عينيك بعيني رسول الله"، فما زال يبكي حتى عمشت عيناه. لكنه عمش العيون المعذبة بعذوبة الرؤية الوجدانية التي ترغم المثقف الكبير على مواجهة سيلان الحياة وصلادة البشر! وهي المفارقة التي يواجهها على الدوام بوصفها امتحانه الدائم. وليس مصادفة أن تؤدي به هذه الحالة إلى إمكانية تلف العين. وعندما جاءوا بطبيب يعالجها، فانه قال له:

أعالجها على أن تطيعني!

وأي شيء؟

على أن لا تبكي!

فما خيرهما أن لم تبكيا.

وأبى أن يتعالج! وبنى موقفه هذا على أساس ما أسميته بالعلاقة التي تجعل من موقف المثقف تجاه كل شيء لوحة مرئية من وراء دموع الوجدان الدافئة. كما أنها العلاقة التي تجعله يتعامل مع ما هو موجود وممكن ومحتمل بمعايير الوحدة السارية للروح في كل مكونات ومسام الجسد. لهذا نراه يقول مرة لأصحابه:

إني لأعلم حين يذكرني ربي.

تعلم حين يذكرك ربك؟!

نعم!

متى؟

إذا ذكرته ذكرني! واني لأعلم حين يستجيب لي ربي.

تعلم حين يستجيب لك ربك؟!

نعم!

وكيف تعلم ذلك؟

إذا وجل قلبي واقشعر جلدي وفاضت عيناي وفتح لي في الدعاء!

(انظر، أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص318-233). 

[29] أيوب السختياني – إحدى الشخصيات التأسيسية الأولى للزهد الإسلامي والتصوف العملي. أنه من أولئك الذين أرسوا أسس التصوف الإسلامي من خلال تمرين الروح والجسد بمعايير الخروج على ما هو مألوف وعادي في فهم إشكاليات الوجود الاجتماعي والسياسي والأخلاقي. فقد شارك إلى جانب المئات ممن يمكن دعوتهم بالرعيل الذائب في نحت الأفكار الجزئية والقيم العملية التي تناسبها. ومن الممن رؤية هذه النسبة في المقارنات والعبارات التي استعملها الحسن البصري عنه، وما قاله أيوب السختياني عن الحسن البصري. فقد قال الحسن البصري عنه مرة:"أيوب سيد شباب أهل البصرة"، بينما نرى السختياني يقول عن الحسن البصري:" هذا سيد الفتيان". وتعكس هذه العبارات رؤية الفرق بين الأبعاد المحلية والكونية. فقد كان أيوب السختياني محليا وجزئيا بمعايير الرؤية الكونية التي بلورها الحسن البصري. لكنه المكون الضروري الذي جعل منه عنصرا فعالا في بناء صرح المرجعيات الروحية المتسامية للثقافة العربية الإسلامية. فقد كان أيوب السختياني بنظر الكثيرين "جهبذ العلماء"، و"أفقه أهل البصرة في دينه" وأصدقهم. فقد كان ابن سيرين يقول عنه "حدثني الصدوق". بل تحول إلى قبلة الاستلهام العملي لأولياء الثقافة الروحية المتراكمة في مجرى تصادم المثقف والسلطة المميز للمرحلة الأموية. فعندما قيل لأحدهم:

نراك تتحرى لقاء العراقيين في الموسم؟

والله ما افرح في سنتي إلا أيام الموسم! القي أقواما قد نوّر الله قلوبهم بالإيمان. فإذا رأيتهم ارتاح قلبي منهم أيوب!

وينبغي فهم هذا اللقاء ضمن سياق المكانة التي احتلها أيوب السختياني في سلسلة الزهاد المصنوعة من معاناة التأمل العميقة لإشكاليات الوجود الفعلية والحياة العامة والخاصة. وليس مصادفة أن يقول بعضهم عنه "ما وعدت أيوب موعدا إلا وجدته قد سبقني إليه". بينما يقول عنه شخص آخر "ما رأيت رجلا قط اشد تبسما في وجوه الرجال من أيوب". وتعكس هذه البسمة بكاءه الروحي، بوصفها المفارقة التي يمكن تحسسها في وعيه الذاتي ونقده للنفس، أي مراقبتها بالشكل الذي يجعل منها كيانا مخفيا من ملاحقة العيون المتطفلة. من هنا قوله "ذكرت وما أحب أن اذكر"، وانه "إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل". بل نراه يقول عن يزيد بن الوليد بعد توليه الخلافة، وقد كانوا أصدقاء قبل ذلك "اللهم انسه ذكري". وهو موقف مبني على فكرته القائلة بأنه "لا يستوي العبد حتى يكون فيه خصلتان، اليأس مما في أيدي الناس، والتغافل عما يكون منهم". ولا يأس في هذا الموقف ولا انزواء بقدر ما يعكس تراكم المبدأ النظري والعملي في تنقيه النفس وجعلها روحا. من هنا بناءه هيكل الفضيلة الروحية والعملية بصمت. ووضع هذا المبدأ في عبارة تقول "ليتقي الله رجل وإن زهد، فلا يجعلن زهده عذابا على الناس، فلأن يخفي الرجل زهده خير من أن يعلنه". ووجدت هذه المعادلة تعبيرها فيما يمكن دعوته بالنفي الدائم للسمو الروحي بوصفه طريق السير الأبدي صوب الحق، كما نراها في فكرته عن الزهد. فقد قال بهذا الصدد "الزهد في الدنيا ثلاثة أشياء، أحبها وأعلاها وأعظمها ثوابا عند الله- الزهد في عبادة من عبد دون الله من كل ملك، وصنم، وحجر، ووثن. ثم الزهد فيما حرم الله من الأخذ والعطاء. ثم يقبل علينا فيقول: زهدكم هذا يا معشر القراء فهو والله أخسّه عند الله! الزهد في حلال الله!". وقد احتوت هذه الفكرة في أعماقها على احتمال بلورة الفكرة القائلة، بأن حقيقة الزهد هي الزهد في الزهد. غير أن تجربة السختياني كانت تدور آنذاك في تنقية اللسان والتفكر بمعايير الروح الأخلاقي. من هنا إجابته على طلب احدهم أن يوصيه بشيء، قائلا:أقلّ الكلام! بينما أجاب في حالة أخرى على سؤال يتعلق بعدم مشاركته في جدل الآراء الدائر آنذاك في البصرة: قيل مرة للحمار: ألا تجتر؟ فقال: اكره مضغ الباطل". وقد جعله ذلك يرد مرة على رجل من أهل الأهواء:

أكلمك كلمة؟

ولا نصف كلمة!

من هنا أفكاره المناهضة لجدل اللاهوت الفارغ والانهماك المتعصب في شحذ كل ما يمكنه العمل على إفراغ العقل والروح من مهمة العمل. فنراه مرة يقول "ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا". وليس مصادفة أن يربط هذا "الابتداع" الزائف بكلمة الاجتهاد، أي الانهماك في مهنة التحريف والتخريف التي ميزت ما كان القدماء يدعونه بفن أو صنعة القصص والقصاصين. لهذا نراه يقول، بأنه "ما افسد على الناس حديثهم إلا القصّاص"، وانه "لا خبيث أخبث من قارئ فاجر". وجعله هذا الموقف يتهرب حتى من حديث أبي حنيفة. إذ تنقل عنه حادثة كيف أن أبا حنيفة دخل عليه مرة وهو بين أصحابه، فقال لهم:"قوموا بنا! لا يعدينا بجربه!". وهو سلوك لا تهرب فيه، بقدر ما انه كان يضع الحرف والكلمة على ميزان المعاملة الروحية. وهي معاملة تختزن المعرفة وتضعها دوما على محك التجربة الذاتية وتختبرها بامتحان الإرادة. لهذا نراه ينصح احد مريده قائلا "انك لا تبصر خطأ معلمك حتى تجالس غيره. جالس الناس!". بينما نسمعه يقول عن نفسه بهذا الصدد "لقد جالست الحسن البصري أربع سنين فما سألته هيبة له". بل ونراه يكثّف هذه المفارقة في عبارة تمثلت تجاربه بهذا الصدد عندما قال "إذا لم يكن ما تريد، فأرد ما يكون". وترك لنا هذه المفارقة في سلسلة روح المثقفين الأحرار وغيب التصوف. (يمكن الرجوع إلى بعض جوانب وشخصية أيوب السختياني في كتاب أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج3، ص3-14). 

[30] فرقد السبخي- من المقربين للحسن البصري، بمعنى الدوران في فلك تصوراته وشخصيته. غير أن ذلك لم يفقده بريقه الخاص ولمعانه الفردي في حلقات الزهد والزهاد. فهو من بين أوائل الزهاد الذين رفعوا فكرة الجوع إلى مصاف المبدأ. بمعنى بحثه عن مقومات الغريزة وأساليب قهرها. ولم يقف عند ذلك بل وجعل من هذه الأساليب أدوات في تهذيب الإرادة الظاهرة والباطنة. من هنا تركيزه إلى فكرة الخطورة الكاملة في الشبع. فنراه مرة يقول "الشبع أبو الكفر"، و"ويل لذي البطن من بطنه. إن أضاعه ضعف، وإن أشبعه ثقل". وحقق هذا الموقف بنفسه على نفسه بحيث نرى الحسن البصري يقول له مرة بعد أن دعاه إلى الطعام فنظر إلى فرقد وعليه جبة صوف:"يا فرقد! لو شهدت الموقف لخرقت ثيابك مما ترى من عفو الله". بينما نراه مرة يطيل الحديث مع من زاره. وعندما قالوا له:

حان وقت الغداء!

إنما طولت حديثي لكي تجوعوا فتأكلوا ما عندي.

ثم اخرج لهم فقط كسرة خبز شعير اسود. وعندما قالوا له:

ملح يا أبا يعقوب!

قد طرحنا في العجين ملحا مرة. لم تعنّوني أن اطلب لكم!

وهو مبدأ يرفع فكرة وممارسة الزهد إلى إحدى درجاته العليا من خلال التشديد على معارضة الدنيا بالآخرة. والمقصود بذلك نقد الانفصام الجلي بين الظاهر والباطن، والروح والجسد. من هنا مطالبته القوم بعبارة "اتخذوا الدنيا ظئرا والآخرة أما". ورفع هذه الفكرة إلى مصاف المطلب السياسي الروحي عندما قال مرة "إن ملوككم إنما يقتلونكم على الدنيا، فدعوهم والدنيا". وأرجعه هذه المبدأ إلى أعماق النفس من خلال إبراز جوهرية العلم والعمل. فنسمعه مرة يقول "إني رأيت الليلة في المنام كأن مناديا ينادي من السماء: يا أصحاب القصور، يا أصحاب القصور! يا أشباه اليهود، إن أعطيتم لم تشكروا، وإن ابتليتم لم تصبروا، ليس فيكم خير بعد العذاب!". وفي حالة أخرى نراه يشدد على ضرورة ترتيب علاقة الإنسان بذاته من خلال إبراز أولوية العمل لكي تستقيم الإرادة مع ذاتها. فنسمعه يخاطب الناس قائلا:"إنكم لبستم ثياب الفراغ قبل العمل! الم تروا إلى الفاعل إذا عمل كيف يلبس أدنى ثيابه، فإذا فرغ اغتسل ولبس ثوبين نقيين. وانتم تلبسون ثياب الفراغ قبل العمل". مما جعله شديد اليقظة تجاه النفس بحيث قال مرة "ما انتبهت من نوم لي قط، إلا ظننت مخافة أن أكون قد مسخت!". وتحتوي هذه اليقظة في أعماقها على ما يمكن دعوته بمعاناة الهموم الكبرى من اجل تنسيق وانسجام الإرادة وغاياتها، والظاهر والباطن، والفرد والأمة، كما نراها على سبيل المثال في الأحاديث التي اشترك في إسنادها مثل الحديث القائل "قل لعبادي الصالحين لا يغتروا بي، وقل لعبادي المذنبين لا ييأسوا من رحمتي"، و"من أصبح وهمه غير الله فليس من الله. ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين فليس منهم"، وأن "أول من يقرع باب الجنة عبد أدى حق الله وحق مواليه"، و"ملعون من ضارّ مسلما أو ماكره". إننا نرى في هذه المواقف والآراء على هموم فرقد السبخي الكبرى والصغرى، أي كل تلك الهموم التي تتكامل في الشخصية وتصنع وحدة الغربة والغرابة من اجل ألا يكون غريبا عن الكلّ. من هنا قوله "الغريب من ليس له حبيب!". (حول بعض جوانب شخصية فرقد السبخي،انظر أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج3، ص44-54).

[31] عبد الواحد بن زيد – ينتمي، كما كان الحال بالنسبة للبناني وفرقد السبخي إلى ما يمكن دعوته بمدرسة الحسن البصري، أي العيش بمعايير الرؤية الأخلاقية المتسامية والغوص في أعماق النفس والتفتيش الدائم في مكوناتها من اجل ترميم خراب الدنيا بعمارة الدين. وقد عكست هذه الثنائية تصادم واختلاف الروح والجسد، والعابر والدائم، من خلال تذليل خلافهما عبر توحيد صيرورة الروح العملية وكينونته المعرفية، أي التمثل الأخلاقي العملي لمرجعيات المدرسة العقلية البصرية. فقد كان عبد الواحد بن زيد الحلقة المكملة لثابت البناني. وكلاهما يصبان في تيار تأسيس قيمة العبادة بوصفها وسيلة وأسلوب التنقية الروحية المعرفية. من هنا جوهرية الصلاة. لهذا قيل عنه، بأنه صلى صلاة الصبح بوضوء العتمة أربعين سنة! ولهذا السبب كان ينشد:

ينام من شاء على غفلة   والنوم كالموت فلا تتكل

تنقطع الأعمال فيه كما   تنقطع الدنيا عن المنتقل

ووضع هذه الفكرة في أساس موقفه من علاقة الحياة بالموت، والظاهر بالباطن. من هنا قوله:"فرّق النوم بين المصلين ولذتهم في الصلاة". بمعنى سعيه لديمومة العلاقة الوجدانية بالله بوصفها أسلوب تكامل الشخصية. من هنا مناجاته لله بعبارة:"وعزتك لا أعلم لمحبتك فرحا دون لقائك". وهي علاقة تذلل الوسائل والوسائط من خلال تذويبها فيما يمكن دعوته بصيرورة الإرادة الفاعلة بمعايير الإخلاص المجرد من كل ما يمكنه تعكير كينونة الروح الأخلاقي، بوصفها المقدمة الضرورية لإرساء أسس المرجعيات الروحية في الأفراد، أي في كل  تلك الكوكبة التي ساهمت في بناء ثقافة الروح الإسلامي.   

[32] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص149.

[33] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج 1، ص150.

[34] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج 1، ص149. هنا يمكن رؤية "السلسلة" الصوفية ولكن ليس بمعايير المشيخة، بل بمعايير الروح والأثر الشخصي. إذ من الممكن فهم طبيعة هذه العلاقة ليس فقط بمعايير القضايا والطريقة التي تناول بها الحسن البصري علاقته بالله والأمة والنفس، بل وبارتقائها إلى مستوى الفردانية في تمثل تقاليد الأمة (الشريعة) وتحقيقها الفردي (الحقيقة) بوصفها أسلوبه الخاص (الطريقة).

[35] ليس مصادفة أن يكون الحسن البصري أحد مصادر الاعتزال والتصوف. إذ يمكننا رؤية أثره في الاعتزال من خلال إدراك قيمة العقل والحرية والموقف الشخصي الأخلاقي. كما يمكننا العثور عليه في سرّ بحث المعتزلة اللاحق عن الأسباب أو علة وجود الأشياء كلها. أما بالنسبة للتصوف، فإن أثره يبرز ليس فقط في تحوله إلى إحدى حلقات السلسلة الروحية للأولياء، بل وإلى "الناطق" الأول في مختلف علومها المتعلقة بالنفس والسموّ الروحي.

[36] ابو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص148

 

في المثقف اليوم