دراسات وبحوث

من كلام المتكلمين إلى كلام الحق (2-2)

ميثم الجنابي"أكثر الخلق يرون كل شيء سواه فيستشهدون عليه بما يرونه.

 والصديقون لا يرون شيئاً سواه فيستشهدون به عليه" (الغزالي)

 فعندما بدأ الغزالي بتخطي منظومة الكلام ومواقفه وحلوله التقليدية منذ بدايات "مرحلة الانتقال" إلى التصوف في (ميزان العمل) لتتخذ في بداية (إحياء علوم الدين) ما سبق للفارابي أن صاغه عن الكلام باعتباره علما لا يمت للبحث عن الحقيقة بصلة، ولكنه قادر على خدمة السلطان من حيث تحكمه في العوام. وسوف يشاطر الغزالي جزئياً هذه الفكرة. إذ أكد في (إحياء علوم الدين)  على أن الكلام بحد ذاته يمكنه أن يقدم خدمة للدولة من حيث إمكانية توحيد الجماهير في الدفاع عن عقائد إيمانهم. إلا أنه لم يربط ذلك بمصلحة الدولة ولم يسع لإعطاء قيمته الأيديولوجية نزوعاً تبريري، بل ربط ذلك بضرورة تقليص عدد المتكلمين وتحسين نوعيتهم. إلا أنه لم يسلك في موقفه من هذه المعادلة سلوك السياسي العملي، بل المصلح الأخلاقي. حيث اشترط في مهام الدولة اهتمامها بالمتكلمين باعتبارهم مصلحين مدافعين عن إيمان العوام مطالبا بإتصافهم بالنقاء الأخلاقي وحسن السيرة وسعة الاطلاع.

إننا نعثر منذ بداية (إحياء علوم الدين) على اتجاهين متعارضين متوازيين في موقفه من علم الكلام والمتكلمين. فهو يشدد من جهة على المحدودية المعرفية لعلم الكلام، ومن جهة أخرى على ضرورته الأيديولوجية. إلا أن هذا الاتجاه الأخير تضمّن في ذاته أيضا عناصر تحلله. وهو ما يمكننا العثور على بعض انعكاساته الأولية في مواقفه المناهضة لتقليد المتكلمين وتعصبهم. مما جعله يشدد بقوة متزايدة على دور المتكلمين والكلام التخريبي لكيان الأمة الاجتماعي السياسي ووحدتها الروحية.

فهو يشير في (إحياء علوم الدين) إلى أن الكلام أخد يوّلد "تعصبات فاحشة وخصومات متفشية مفضية إلى إهراق الدماء وتخريب البلاد"[1]. ولا يمكن فصل هذا التعارض والتناقض في آرائه عن تزاوج واستمرارية تقاليد الكلام في رؤيته للقضايا وبقاياه المنفية في مجرى تطوره العقلي الأخلاقي. ومن الممكن البحث في هذه الجوانب عن أسباب الإطراء والازدراء الفاضح أحيانا في موقفه وتقييمه للكلام والمتكلمين. ويكشف ذلك عن ظاهرية الظاهرة لا حقيقتها. فقد ارتبط "إعجاب" الغزالي بالكلام بوظيفته الاجتماعية والعقائدية الدينية. أما "ازدراؤه" له فبفعل فقدانه إمكانية رؤية حقائق الأشياء على ما هي عليه، أي أننا نعثر على نفس الفكرة التي أخذت تتبلور في مجرى تطوره ما قبل (إحياء علوم الدين) حتى (المستصفى من علم الأصول) و(إلجام العوام عن علم الكلام) بوصفها استمرارا للموازاة المتعارضة بين الدفاع عن الكلام باعتباره علم الدفاع عن عقيدة العوام، ورفضه إياه باعتباره فنا لا يبحث عن الحقيقة.

ان وجود علم لا علاقة له بالبحث عن الحقيقة هي مفارقة "علمية" بحد ذاتها. كما أنها إشكالية الانتاج الفارغ بوصفه الكمية المبتذلة والتي عادة ما ترافق كل إبداع كبير وبالاخص ضمن سياق التطور الكبير للثقافة. لكنه في حال التجرد من اصطلاحات المرحلة والنظر إلى علم الكلام باعتباره فنا من الفنون أو علما من علوم الدين، فإن ما هو جوهري في استثارة وجوده التاريخي هو احتراف فن الدفاع عن الإسلام وعقائده. وبما أن الاسلام هو الكيان والكينونة اللذين احتويا على قوة الأمة بكافة فرقها ومذاهبها، فإن تطور الكلام لم يفعل إلا على تمحوره في قضاياه. وعندما يعتبر الغزالي هذا الكلام علما لا يبحث عن الحقيقة، فإنه لا يقصد بذلك سوى عدم قدرته على التجرد من احترافه المذهبي والفرقي الضيق ودورانه الدائم ضمن فلك موضوعاته العتيقة، أي انه لا يفعل إلا على اجترار ما فيه. وقد لازمت هذه الصفة علم الكلام منذ وقت مبكر نسبيا وتكلست حتى زمنه في نماذجها الجافة وتنوعها المتحذلق. وبهذا المعنى، فإن انتقاده للكلام هو انتقاد لكلام عصره أساسا. إلا أن هذا الانتقاد العميق والمتجانس لتقاليد الكلام لم يمنعه من رؤية وظيفته الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية، باعتباره علم الدفاع عن عقائد العوام. لهذا كان بإمكانه أن يجد فيه قوة "توحيد" الأمة في عوامها. وفي الوقت نفسه أدرك أيضا خطورة تفتتها بفعل الكلام نفسه وذلك بسبب تحزبه الضيق للفِرق والمذاهب. 

فقد أدت حالة علم الكلام التاريخية والفكرية إلى صيرورة نموذجين من الكلام في مجرى تطور آرائه، وهما الكلام التقليدي والكلام الفلسفي، ومستويات ثلاثة في موقفه واستيعابه لحقائق الكلام ومهماته وهي كل من المستوى الإيماني الكلامي، والمستوى العقلي الفلسفي، والأخلاقي الصوفي.

ولا أعني هنا بالكلام التقليدي سوى ذلك النمط الفكري وقضاياه المحدودة التي بلورتها ثقافة الإسلام العقائدية، أو كل ما صاغه بفكره العلم المدافع عن عقائد إيمان العوام بفعل كونه العلم الذي يبني أدلته وبراهينه الجدلية على التقليد والهيبة كما قال في (إحياء علوم الدين)، أو على "قبول الدليل جميعا لحسن الظن في الصبا" كما قال في (المستصفى من علم الاصول)[2]، أي ذات النظرة الآخذة في التعمق منذ أول أعماله الصوفية الكبرى، حتى آخر أعماله الفقهية الأصولية الكبرى. وإذا كان موقفه المعارض لهذا الكلام مبنيا على أساس معرفي خالص، فإن ذلك لا يعني غياب نموذجه في آرائه ومؤلفاته ومنظومته بما في ذلك في مرحلته الصوفية. لقد أبقى عليه كجزء مكمل يستمد مقوماته من استيعابه الواقعي للإصلاح في مهامه وغاياته وحدوده العملية.

بينما بقى الكلام الفلسفي جزءاً جوهريا في تطوره الفكري. وعبّر حتى آخر مراحل ابداعه النظري، عن المستوى العقلي في استيعاب حقائق القواعد الإيمانية، ومثَّل الصيغة العليا في مضمونه كما هو مميز للنموذج الأول. بمعنى استمرارية فعالية الثقافة الكلامية التي أبدعت وبلورت الاطار النظري لكلامه وفقهه، أي أن بقاءه كان التمثل الواعي لضرورته النسبية في منظومة الإصلاح العملية الاجتماعية والسياسية والفكرية الأخلاقية كأيديولوجية لعوام المثقفين والجمهور.

أما في إطار مستويات استيعاب حقائق الكلام ومهماته، فإنها تعكس الصيغة النظرية العلمية لتطور مواقف الغزالي من الكلام وتعميقها في مجرى صيرورة تآلفه اللاهوتي الفلسفي الصوفي. فمواقفه من الكلام تظهر في تآلفه الفكري كدرجات أو مستويات منفية. وفي الاطار العام، يمكن القول، بأن ما يميز الكلام في مستواه الإيماني هو تعبيره عن حالة ونفسية الدفاع عن عقيدة العوام وعن نزوعه الإيماني، واهتمامه بقضايا العبادات، وتمثيله في وحدته منظومة ما قبل الأيديولوجية. أما في مستواه العقلي الفلسفي فهو تعبير عن حالة ونفسية الدفاع والهجوم الأيديولوجي، وعن نزوعه العقائدي، واهتمامه بقضايا العبادات والعادات، وتمثيله في وحدته منظومة الأيديولوجية الدينية. أما في مستواه الأخلاقي الصوفي فهو يضمحل في حالة ونفسية الهمّ الصوفي ونزوعه الأخلاقي واهتمامه بقضايا المهلكات والمنجيات، وتمثيله في حصيلته العامة بقايا الأيديولوجية المنفية في البديل المعرفي الأخلاقي.

إضافة لذلك، إن لهذه الشكلية العامة إطارها الآخر، والذي يمثل في نمطيته الاجتماعية السياسية علاقة الجمهور والسلطة والتصوف (الفردي المتسامي). غ ير أن الغزالي لم يعر اهتماما مباشراً لهذه القضية. فهو يتناولها كأجزاء متناثرة في مختلف القضايا التي تشكل محور اهتمامه الفكري والديني الإصلاحي. وفي الإطار العام، يمكننا الحديث عن اتجاهين ومرحلتين في مواقفه من الكلام كأيديولوجية، واللتين تطابقتا من حيث حقيقتهما المجردة مع مواقفه الأيديولوجية والعلمية من الكلام. فمن الناحية التاريخية المنطقية استمدت معارضته للكلام مقوماتها الأولى من وعي محدودية الكلام المعرفية وتحديد هويته باعتباره علما للدفاع عن عقيدة العوام، أي اكتشاف طابعه الأيديولوجي. وأن تطوره الروحي الأخلاقي اللاحق قد دمج في عناصر ضعف الكلام كل من جموده الروحي وافتقاده إلى عناصر القوة الأخلاقية الداخلية.

لهذا نعثر في أول وأكبر صياغة شاملة للموقف المعارض من الكلام في (إحياء علوم الدين) على محاولة ربط الجانب المعرفي بالأخلاقي في انتقاده للكلام. وقد جعله ذلك يقدم في آن واحد، جانبين متوازيين الأول في ضرورة إصلاح المتكلمين من خلال الدولة (بعد إصلاحها) وإصلاح النفس (من جانب المفكرين)[3]. والثاني في ضرورة إدراك المتكلمين محدودية الكلام والتركيز فيه على أهمية تلقين العقيدة العامة وتأمل تجربة السلف الأخلاقية الروحية. وقد تناول الجانب الأول بصورة غير مباشرة في معرض تحليله وتقييمه لآراء الفقهاء الكبار ومواقفهم من الفقه والكلام، والجانب الثاني في (الرسالة القدسية) والمقاطع المتناثرة في مؤلفاته المختلفة ما بعد (إحياء علوم الدين).

لقد أبقى في الشطر الأول على أهمية الكلام من حيث وظيفته في تلقين الصغار قواعد العقيدة التي يجري اكتشاف ما فيها لاحقا من مضامين حقيقية. أما في تأمل تجربة السلف، فإنه حاول إيجاد الوهج الروحي في ممارسته العملية. لهذا ركز في مفهوم تتبع السلف على فكرة "سبيل المجاهدة" لا التقليد[4]. انه طالب بسماع أخبار الماضي لا مشاهدة تجربة المعاصرين وأراد بذلك إظهار قيمة الماضي من حيث نموذجيته المجردة. وبالتالي تخليص المعاصرين من مهمة تقليد الماضي والحاضر. وفي هذا ينعكس الاستيعاب التوليفي الجديد لعلاقة الأيديولوجية بالعلم واضمحلالها في أخلاقية التصوف.

إن إدراك بقايا الكلام وأهميته في منظومته الصوفية تشكل الاستيعاب الجديد لأحد مستوياتها في التعامل مع قضايا العبادات والعادات في ارتباطها بالعالم النفسي الأخلاقي للمهلكات والمنجيات. بصيغة أخرى، إن تناوله لقضايا الكلام في مرحلته الصوفية لم يعد تقليدا لموضوعات الكلام، بل استمرار نوعي جديد لما يمكن دعوته بالتسنن الأخلاقي المتسامي لا السلفية العقائدية.

فوقوف الغزالي ضد الكلام أو انتقاده الشديد لما فيه لا يعني غياب وحدته الثقافية كمنظومة عقائدية في تآلفه الصوفي. إذ لا يمكن فهم حقيقة هذه الوحدة الثقافية للمنظومة العقائدية خارج إطار تطوره الفكري وموقع الكلام في "انقلاباته" الروحية، أي كل ما يعطي لنا إمكانية الإقرار بالوجود الذائب لتقاليد الكلام وعناصره العقلانية أو ما أسميته بالوحدة الثقافية الذائبة في التآلف الصوفي. غير أن هذا الذوبان لم يجر فقط من خلال انحلال الأطر التقليدية لعلم الكلام، بل ومن خلال تغيير وتنوع مستويات دراسة موضوعاته.

فموضوعات علم الكلام ما كان بإمكانها أن تغيب عن نظره، أو أن تفتقد شرعيتها وحيويتها بفعل انتقاله إلى التصوف. والقضية هنا ليست فقط في أن موضوعات علم الكلام هي موضوعات الحضارة الإسلامية وثقافتها الروحية والعقلية، وتقاليدها في دينها ودنياها، بل ولأنها العصب الحساس لمقياس العقائدية الدينية. ولا يغير من جوهر هذه الظاهرة واقع تعرض هذا العصب إلى اليبوسة التدريجية، بفعل تحول الكلام من علم الدفاع المقاتل عن عقائد الإسلام إلى أسير موضوعاته الأولية واجترارها المتكرر، أي كل ما جعل منه مجرد مجموعة متناثرة لقطع الأيديولوجيات المتناحرة. وذلك لأن حيويته النسبية أو مصدر فعاليته الوجودية ظل مرتبطاً بوجود وفعالية العقيدة ذاتها. وهذا ما يفسر أيضا الأسباب القائمة وراء نظرة الغزالي إلى الكلام، حتى في آخر أعماله الكبرى (المستصفى من علم الأصول) باعتباره "العلم الأعلى في الرتبة وعلم الدين الكلي"[5].  انه شخّص وظيفته الواقعية في منظومة العلوم الدينية الظاهرية كالفقه والأصول والتفسير وغيرها. وعلى الرغم من انه لم ير في علم الكلام شرطا ضرورياً لأصول الفقه والتفسير، إلا أن وضعه إياه "في المرتبه العليا" والعلم الكلي، يكون قد تضمن في ذاته التقرير النظري لموقعه في منظومة العلوم الدينية باعتباره جامع الميادين النظرية والدينية. وبهذا المعنى، فإنه ظل يلعب هنا دوراً ضرورياً في تطور القضايا التقليدية لعلوم الدين كالنبوة، والإسلام، والإيمان، والعقل والشرع (المعقول والمنقول)، والذات والصفات والأفعال، وغيرها من القضايا.

إن إدراك الغزالي لأهمية الكلام كانت تعبر عن فعالية وواقعية القضايا الكلامية في عقائد الإسلام، وعن دور الكلام في منظومة العلوم الدينية الظاهرية. لهذا يبدو  في تناوله وحلوله للقضايا التقليدية مثل قضية العقل والشرع كما لو أنه يسير في تقاليد الأشعرية. وينطبق هذا أيضا على موقفه من القضايا الأخرى. إلا أن هذا التشابه والتطابق مع نماذج الكلام السابقة لا يعبر في آرائه ومنظومته ما بعد التصوف إلا عن المستويين الأول والثاني، أي اللاهوتي واللاهوتي الفلسفي. ففي موقفه من قضية العقل والشرع يبدو في مظهر أحكامه كما لو أنه يهاجم عقلانية المعتزلة من أجل إثبات ضعف وخطأ العقلانية المتطرفة. أما في الواقع، فإن جدله الكلامي الذي حاول من خلاله اثبات شرطية الأحكام العقلية ونسبيتها التاريخية لا يمثل بما في ذلك في (المستصفى من علم الأصول) سوى الجانب الظاهري الجزئي،  وليس حل القضية في اطارها الأعمق والأشمل، أي في تجاوز محدودية الكلام وجدله العقلي في مستواه اللاهوتي والفلسفي، من خلال فكرة الوحدانية الأخلاقية المطلقة وتحقيقها الملموس في علاقة العقلي بالشرعي. انه حاول انتزاع الفكرة العقلانية عن الواجب لأنها تتعارض مع فكرة الوحدانية. لكنه أدخلها في اطار مفهوم العبودية. لقد حوّلها إلى قضية وجدانية أخلاقية. بمعنى سعيه لتجاوز ادلجة الكلام العقلانية المفتعلة من خلال تحويل العقل إلى حاكم على الواجب الالهي ولكن باعتباره واجبا قلبيا وجدانيا (تلقائيا) يمكن للعقل أن يعي جوانبه في مجرى تطوره المعرفي الأخلاقي. فهو لم يسع للكشف في هذه العبادات (الواجبات) عن حكمة الهية (كالصحة والرياضة وما شابه ذلك). لقد نزع منها التبرير الممكن والغائية المتغطرسة في حكمتها ليحولها إلى ميدان السمو الفردي والاجتماعي الفعال في وحدة الكلّ.

لقد بحث عن الحل الوسط في قضايا الكلام. وهو توّجه يمكن العثور عليه عنده منذ (الاقتصاد في الاعتقاد). فإذا كان (الاقتصاد في الاعتقاد) الصيغة الوسطى المعتدلة لفض خلاف الفرق الكلامية بصدد قضايا الاعتقاد، بينما في تطوره اللاحق سعى لحل قضايا الاعتقاد على مستوى آخر من الاعتدال يتعدى حدود الكلام التقليدي إلى مستواه الفلسفي الأخلاقي. وبهذا تكون محاولاته الجديدة في انتقاد الكلام والحفاظ عليه، هي الصيغة الجديدة لإيجاد الصلة الممكنة بين الأيديولوجية والعلم. ومن الممكن القول، بأن الغزالي هو أول من استشف في تاريخ الفكر العلاقة المرنة والمعقدة بين الأيديولوجية والعلم[6]. وتناولها كمعضلة وحلّها كجزء من مواقفه النظرية العميقة تجاه الكلام ،والإصلاح الاجتماعي الأخلاقي للدولة والأمة، أي انه افترض في مواقفه وحلوله نموذجا خاصا في تذليل تقليدية الأيديولوجيات السائدة. غير انه وضع مهمة تذليل تقليدية الأيديولوجيات في مجرى انتقاله إلى التصوف، وفي مرحلة اكتماله الأخلاقي وتأسيسه المعرفي الجديد الذي يرفض من حيث الجوهر عناصر المنظومة الأيديولوجية ومتطلباتها المباشرة.

وقد طبع ذلك أسلوب تعامله مع قضايا الكلام ومعضلاته اللاهوتية الكبرى. ووجد ذلك انعكاسه في إدراكه الضرورة الوظيفية للكلام ،باعتباره علم الدفاع عن عقيدة العوام، ومحدوديته المعرفية في الوقت نفسه. ففي الوقت الذي يتعامل مع قضايا الكلام باعتبارها أجزاء ضرورية من أصول العقائد، فإنه يشدد في الوقت نفسه على أن استيعابها في مستويات علم الكلام يتطابق في حقيقته مع قشر الجوزة مقارنة بلبها. وليس مصادفة أن يشرح آراءه في التوحيد وقضايا الإيمان على مثال قشرة الجوزة في قشرتيها الخارجيتين ولبيها الداخليين (ثمرة الجوز وزيتها) بحيث طابق القشور مع الدرجتين الأولى والثانية في الإيمان (تصورات العامة وأهل الكلام والنظار)، أي ما يتطابق مع مستويات الكلام التقليدي والكلام الفلسفي. فهما ضروريان ضرورة القشر للّب. ولكنهما لا ينفعان بحد ذاتهما. فهما لا يؤديان في نهاية المطاف سوى وظيفة الحافظ الحارس. وهي ذات الصيغة المجازية التي حاول تطبيقها على كافة القضايا الكلامية. ففي علاقة العقل بالشرع، يصل فيه الكلام والفلسفة إلى حد الظاهر، وفي العبادات ظاهرها (أو قشورها) وفي العادات والمعاملات الى حدود الشريعة الظاهرة وحدّ الواجب. فالكلام لا يستطيع في مستواه التقليدي والفلسفي تعدي هذه الحدود. انه يصل في كافة القضايا التي يتناولها إلى الحد الذي ينقطع فيه كلام المتكلم وينتهي تصرف العقل، كما ذكر ذلك مرة في (المستصفى من علم الأصول)[7]. ولا يعني هذا في آرائه سوى وقوف الكلام بفعل خضوعه لمتطلبات العقيدة عند حدودها الظاهرية. وقد أشار في (المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى) إلى عينة دقيقة للمقارنة بين أسلوب الكلام والتصوف في الموقف من الذات الإلهية عندما شدد على أن الخلاف بين المتكلمين والمتصوفة يقوم في أن المتصوفة ترى فناء نفسها ولهذا السبب ينتشر اسم الحق على ألسنتهم لأنهم يلحظون الذات الحقيقية دون ما هو هالك في نفسه. على عكس علماء الكلام الذين هم أكثر ايغالا بالاستدلال بالأفعال، من هنا انتشر اسم الباري (الخالق) على ألسنتهم، وذلك لأنهم يرون كل شيء سواه فيستشهدون عليه بما يرونه، على خلاف المتصوفة الذين يستشهدون به عليه[8].

إن هذا الخلاف الذي يصل في مظهره إلى حد القطيعة النهائية ما هو في الواقع إلا التعبير المناسب عن تباين درجات استيعاب القضايا التقليدية للكلام. فما وراء هذا الخلاف تكمن النسبة المختلفة لمستويات الكلام المذكورة أعلاه. وفي الاطار العام يمكن القول، بأن مأثرة الغزالي في الثقافة الروحية العقائدية للإسلام تقوم في محاولته ثني الخلافات العقائدية الضيقة بتطويعها صوب حل القضايا العملية. فعندما يتطرق على سبيل المثال إلى قضية العقل والشرع، فإنه يؤكد على تفاعلها وتبدل مواقفها وأولويتها من مكان لآخر. ويرتبط هذا الموقف بنظرته الشاملة والعملية الحقوقية. فعندما يشير إلى أن العقل لا مدخل له في أحكام الشرع، وأنه لا حكم قبل ورود الشرع، فليس ذلك إلا بفعل نظرته إلى وحدة الحاكم والمحكوم عليه والمحكوم فيه (أي الشارع والمكلف وفعل المكلف). فللحكم كما يقول الغزالي، حقيقة في نفسه وله ارتباط بالحكم وبالمحكوم عليه والمحكوم فيه والمظهر له (أي الشارع والمكلف والفعل والسبب). فالحكم بهذا المعنى ليس وصفاً (من جانب العقل)، بل هو مجرد خطاب للشرع[9]. وسوف نرى لاحقا في مجرى تحليل مختلف القضايا الأساسية في فكره الكلامي الفلسفي، بأن هذه النزعة العملية تمثل في مسارها العام التعبير المناسب عن تخطي الكلام التقليدي إلى الميدان الأرحب، أي ميدان العمل العقلي الأخلاقي. فهو يحاول إبداع النموذج المتجانس والمتناسق والممكن بين عقائد الإسلام الكبرى ومعضلاته الواقعية وأهداف سموه الدائمة من خلال إيجاد الوحدة الجديدة للأيديولوجية والعلم على أساس الأخلاق.

إن إدخال الغزالي فكرة الهّم الأخلاقي الفلسفي وروحية الصوفية إلى قضايا الكلام قد أدى من حيث الجوهر إلى نفي الطابع الأيديولوجي للكلام. وبهذا يكون قد ابتدع طريقا خاصا وجديدا في التعامل مع الكلام. لقد كان بإمكانه أن يقول لنا، بأن لقوانين الروح قواعد فعلها الخاصة، ولقوانين الكلام قواعد لعبها الخاصة.

***

ا. د. ميثم الجنابي

......................

[1] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص43.

[2] الغزالي: المستصفى من علم الأصول، ج1، ص41.

[3] قد توحي هذه الفكرة بطوباويتها الظاهرة. إننا نعثر فيها على ما يمكن دعوته بمعالم "أوهام النفس". غير أن هذه الأوهام لا معنى لها في منظومة الأخلاق المطلقة. فهي حالما تتكسر في مشروع البديل الواقعي، فإنها لابد وأن تسقي عطشها مما تقطره غيوم الأوهام. وفي هذا التناقض تتكون وتتلاشى عناصر الرؤية التاريخية. وقد كان الغزالي يدرك، في مجرى كلامه عن إصلاح النفس، تعقيد هذه المهمة، وذلك لمعرفته ماهية الكلام ووظيفته. غير انه ربط إصلاح الكلام بإصلاح المتكلمين. وبهذا يكون قد أنزلهما سوية إلى حالة تنفيذ إحدى وظائف الدولة. وقد أحتوى هذا الافتراض الأخلاقي في ذاته على تضخيم للرؤية البديلة مبني على أساس تقييمه لتجربته الشخصية. لكنه كان يهدف في الوقت نفسه إلى وضع حد لعلم الكلام المذهبي والفرقي وقوته المستقلة المدمرة. ولم يعن ذلك بالنسبة له محاربة الاستقلال الفكري، بقدر ما كان نتاج إدراكه لحقيقة الكلام نفسه، بوصفه علم الدفاع عن عقائد العوام. لقد أراد الغزالي تحويل المتكلمين إلى جنود الدولة الأحرار! 

[4] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص408.

[5] الغزالي: المستصفى من علم الأصول، ج1، ص7.

[6] التيار الوحيد الذي سبقه ولكن بمعايير أخرى، ووضع أسس نظرية انتقائية هو تيار (إخوان الصفا).

[7] الغزالي: المستصفى من علم الأصول، ج1، ص6.

[8] الغزالي: المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، ص128.

[9] الغزالي: المستصفى من علم الأصول، ج1، ص8.

 

في المثقف اليوم