دراسات وبحوث

وللقرآن تجَلياتُه

مجدي ابراهيمحاملُ القرآن على الوعي والبصيرة مطلوبٌ غير طالب؛ لأنه حامل لهذا الوعي السرمدي الذي تتفتح عليه حقائق الوجود كله من معدن الحق الباطن فيه والظاهر. حامل القرآن بالوعي والفهم والتفكير عارف مستبصر، يدعو إلى الله على بصيرة، ويمسك بالحقيقة؛ فتملك عليه أقطاره فتوجهه هو أولاً؛ ليكون فيما بعد قادراً على التوجيه والإرشاد بما ينفع الناس.

إذا شاء الحق تَفَضَّل على حامله بأن يهبَه من الوعي بحقائق القرآن ما لا يُحصي ألطافه وعجائبه. في إشارة بديعة للفضيل بن عياض يقول فيها :" لا ينبغي لحامل القرآن أن يكون له إلى خَلْق حاجة، لا إلى الخلفاء فمن دونهم، ينبغي أن تكون حوائج الخلق كلهم إليه"؛ ولعلَّ معناها هو : أن يكون حامل القرآن في ذاته مطلوباً بما تنزّلت عليه ألوان التجليات الإلهية، فما حاجته إلى الناس (الخُلفاء، الرؤساء، الأمراء، الوجَهاء) وكفايته مرهونة بما كفله الله له من ضمان الوعي بإحاطة القدرة، فهو مطلوب لذاته؛ لأن ذاته واعية بما شاء الحق أن يُنَزّل عليها من فضله تجليات الأنوار.

شرطُ التّجلي تحويل النفس، وتحويل النفس من اتجاه في الحياة إلى اتجاه مُقدّمة للتجلي. وللقرآن تجلياته؛ وتجليات القرآن لا تتنزل كما سبقت إليه الإشارة على قلبٍ لاهٍ، لكنها تتنزل بعلم الله ومشيئته على تلك القلوب التي يَعْلم من أمرها أنها كانت تكون موضعاً لهذا التجلي ولو كانت في سابق عهدها لاهية ساهية فارغة أو تكاد من أعمال الخير والصلاح. فقد تكون سيرة الرجل ممّا لا يصلح لهذا التجلي في بدء أمره، أو قد يكون هو من أهل العمل الطالح وكثرة الغفلات التي لا حضور فيها مع الله، ولكن إذا شاءت إرادة الله له خيراً كانت هدايته المُهدَاه هى أن يتجلى عليه سرُّ من أسرار أية يسمعها عرضاً في طريق، لكنه لا يسمع منها حروفها وكلماتها بل يسمع منها تجلياتها.

وليس في التجلي ما يسمع الأذن ويبصر العين وكفى، بل فيه ما يخشع القلب ويوقظ الشعور ويهز الوجدان هزاً عجيباً بقشعريرة غريبة ينتفض لها الوجود كله، ويغيب الوجود في الشهود: شهود العظمة الإلهية سراً ظاهراً من خفاء إلى جلاء، ومن غيبة إلى حضور ليتحول صاحب هذه الهزة الفجائية المباركة من حال في الحياة إلى حال، وبمقدار ما يطرأ هذا الحال قوياً عنيفاً يجيء أثره فيقلب دفعة الحياة في الطوية الكامنة في أعمق الأعماق ليُغَيّر مجاريها كل التغيير.

ومثالُ الفضيل بن عياض (ت187ه) أحد أئمة التزكية خير الأمثلة التي نثبتها هنا لتجليات القرآن. كان الفضيل على رأس عصابة تقطع الطريق بين أبيورد في سمرقند من ناحية مرو وبين سرخس، وكان يعشق جارية، فبينما هو يرتقي الجدار إليها سمع قارئاً يتلو قوله تعالى من سورة الحديد :" ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله". فقال من فوره بلى آن .. بلى آن؛ فرجع فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيهم رفقة، فقال بعضهم: نرتحل! وقال قوم حتى نصبح؛ فإن فضيلاً على الطريق يقطعه علينا، لكن الفضيل كان قد تاب، وأمَّنَهم، ثم جاور الحرم حتى مات. وهو القائل:" إذا أحَبَّ الله تعالى عبداً أكثر غَمَّه وإذا أبغض عبداً وَسَّع عليه دنياه".

لننظر في سبب توبة "الفضيل بن عياض" حين سمع قارئاً يتلو الآية الكريمة وحين يجيب من فوره : بلى آن .. بلى آن .. لم يكن السماع حينذاك ككل سماع ولا كأي سماع ولكنه كان ضرباً من تجلى أسرار الآية على قلب الرجل. كانت منافذ الحواس مفتوحة على الجهة العلويّة فإذا النداء آية، سرُّها موصول بحضور القلب فمغذيه، لم يكن القلب لاهياً ولا غافلاً بل كان وقت السّماع حاضراً؛ وفي اتساع القلب لمثل هذا الحضور حدث التجلي فغير دفعة الحياة من الداخل، من العمق؛ وقَلَبَ بدوره حركتها من الضد إلى ضده : من قاطع طريق إلى عارف بأسرار الآي الكريم.

وهاهنا يكون التجلي ثورة انتفاضة باطنة، فيها من الغور البعيد " الجُوَّانيّ" ما يهيئ لصاحبها أن يكون كله بمثابة لحظة كونية متفرّدة يستشرف فيها طوالع الغيب المجهول بمثل ما تفردت به سريرة الفضيل حين استقبلت التنزُّلات الإلهية في كلمتها المتجلية. وبمثل هذا أو بما يشبهه يكون التجلي القرآني: التقاء سريرة إنسانية بلحظات كونية فريدة في تساميها : إشراق النفس وتفتح إمكاناتها لاشك في هذه الحالة إنما هو ضرب من ضروب التوجه الروحي العنيف الغائر لا تقيده بحال قيود الأغلال الجسديّة، هو فورة تغلي على الدوام بانطباع صورة الحق فيها، ولا يزال الانطباع موجوداً حتى يتمُّ المعنى منها، ولا تنقضي موارده وخوافيه ولا تنمحي آثاره على الإطلاق ما لم يكن يحدث هاهنا تغييراً جذريّاً يتبدى في العمل والسلوك فضلاً عن تبديه في الفكر والشعور وملكات الإدراك.

لم تكن اللحظة التي استقبلها "فضيل" هى لحظة بنت سماع طارئ يعرض كأي سماع، ولكنها كانت مشيئة خلقت الأسباب التي هيئتها، أو إن شئت قلت، خرقت جميع الأسباب التي تعوق تجلياتها لأجل أن يكون التجلي موفورة أسبابه محققة نتائجه. وكذلك تكون سائر التجليات القرآنية: لحظات كونية فريدة في تساميها واتصالها ليس بالوسع التعبير عنها أو وصفها بالعبارة كما ينبغي أن يكون الوصف والتعبير!

فإذا حدث هنالك نوع من الاستجابة للدعاء، حدث تباعاً إدراك خفي للتجلي، والدعاء دعوة، والدعاء نداء، فإذا كانت هناك آذان تسمع وعيون تبصر وقلوب تعي، فهنالك تمت الاستجابة. وقد تكون الاستجابة مواتية بغير أن يقف الواقف على نور واحد من أنوار التجليات. لكنه حكم المشيئة، فإن تكن المشيئة قد خرقت منذ البداية جميع الموانع وزللت كل العقبات، فها هنا تقع الاستجابة.

وأول هذه الموانع والعقبات أن ترى هاهنا استعداداً فطرياً مكملاً بمواهب الحضور بين يدي الحق، ثم ترى هنالك ما يعوقه ويمنعه عن أن يؤدي الغرض الأساسي الذي وضع لتأديته. فالغرض الأساسي من التجلي هو الإدراك الواعي: إدراك البديهة الصائبة والأمنية، وإيقاظ الوعي الذي تتداخل فيه ملكات الإنسان المعرفيّة برمتها، ومن الإدراك يجيء التغيير، ولا يكون ثمة تغييرٌ تتحول به النفس من حال إلى حال ما لم يكن قد حدث منذ اللحظة الأولى للشروع في عملية التغيير ضرباً متعالياً من الإدراك الذوقي.

لم يكن اختيار "الفضيل بن عياض" وهو من أبرز الشخصيات الصوفية التي كتب عنها القشيري في رسالته وأبو عبد الرحمن السلمي في "طبقات الصوفية"، والهجويري في "كشف المحجوب"، والكلاباذي في "التعرف لمذهب أهل التصوف"، والشعراني في "الطبقات الكبرى، وابن الملقن المصري في" طبقات الأولياء"؛ لم يكن اختيارنا لهذه الشخصية الصوفية عرضاً في غير أهمية لما عَسَانَا نتناوله من تحليل تجليات القرآن في ميدان الحب الإلهي ولكنه كان اختياراً مقصوداً؛ فإن عملية التحول الباطني في شخصية الفضيل بن عياض أو حتى شخصية رابعة العدوية (ت 185ه)، أو شخصية إبراهيم بن أدهم (ت 161هـ) لجديرة بتسليط الضوء عليها، ومن ثمّ إثباتها بنوع من التحليل كأثر ظاهر من آثار التجلي الإلهي على قلوب العارفين لا يمكن إغفاله ولا نكرانه لاسيما فيما لو كانت هنالك قيماً علوية وحضارية وإنسانية ترشدنا إلى مثل هذا التحول، وتقفنا على أهمية أن يكون التغيير ضرورة روحيّة بمقدار ما يجيء استعداداً سامقاً تتعلق به إرادة العارف في تحويل وجهة الحياة برمتها ناحية الجناب الإلهي.

ومن هنا نفهم : أن الفهم عن الله، كما تقدَّم، - وهو الدافع لعملية التغيير وتحويل النفس من نمط في الحياة إلى نمط آخر- لا يتسنى لأحد إلا بمقدار ما تتعلق به إرادة الله لتفهيم العبد على مقدار إخلاصه. وبهذا أو بمثله يكون الفهم مؤسساً على نورانية الصلة، وهو ما يسميه الصوفية بملكة  "التعلق" عند العارف، تعدُّ بوجه من الوجوه دعامة من دعائم الذاتية الخاصّة للقرآن. وما هذه الملكة "التعلق" سوى هِمّة عالية وإرادة فاعلة ومؤثرة، يتأثر بمقتضاها كيان العارف كله، ظاهرة وباطنه وما يعيه وما لا يعيه، كيما ينال - من بعدُ - لطائف العرفان.

يحظى العارفُ بملكة خاصة ينفرد بها ربما كانت هى أقوى وسائل التحصيل الذوقي للمعرفة التي هى في الأصل ذوقية صرفة. وملكة التعلق هذه؛ إنمّا هى ملكة مشروطة بخصائص روحانية قَلَّ أن توجد بين الناس اللهم إلا  كبار العارفين من عبيد الاختصاص، وبها وحدها ينالُ العارف حظوة العرفان، وبها وحدها كذلك يفهم العارف ما عَسَاه يفهم من كتاب الله وتتجلى عليه من أسراره ما لا يتجلى على أحد سواه. وشرط هذه الملكة في نموها وتطورها والمحافظة عليها وتفعيلها في أبواب الحياة الروحية، الجهاد والعزم والتسليم والإرادة وارتفاع الهمة عند الهبوط الشائع والنكوص المرذول، ثم دوامها في "المعية" في غير فتور وبلا اعتراض من عوائق الطريق.

وبملكة التعلق يصير الفهم عن الله خطابه وبيانه، خاصّة عرفانية يكتحل بها الفهم ويكتمل البيان، فهى لأجل هذا تبدو ذات وجهين: أحدهما أن قوة العارف الروحيّة "تتعلق" بالله على الدوام بغير فتور أو انقطاع، فتحظى بالمحبّة؛ فتورث المحبة معرفة عند قوم، أو تحظى بالمعرفة عند تحصيل وسائلها الذوقية، فتورث المعرفة محبة عند آخرين. والوجه الآخر : أن هذه القوة الحاصلة لا تكون إلا بمدد إلهي تتعلق به إرادة الله حين يشاء أن يمنح عبده تلك المعرفة الوهبية والمحبة العطائية.

ففي الوجه الأول: جهدٌ مكسوب من العبد. وفي الوجه الثاني: وهبٌ ممدود من الرّب. وعلى هذا وذاك تدور العبارات والإشارات حول حقيقة المعروف من خلال القرآن، وعلى هذه الدعائم والأركان فيما صورته أسرار أنفاس العارفين لتكون صادرة من وجد ملآن بمحبة الله.

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم