دراسات وبحوث

ابن حزم وموقفه المنطق الأرسطي

محمود محمد علييعد ابن حزم واحدا من فقهاء الأندلس الذين اعتنقوا المذهب الظاهري، الذى أنشأه "داود بن سليمان" (ت: 270هـ)،  ثم وقف من المنطق الأرسطي موقفا مؤيدا خالف فيه الشافعي، حيث كان من أهم أغراض المشروع الثقافي لأبن حزم تأسيس الشرع على القطع، وضبط القواعد المتبعة فى العلوم الدينية، وهو مقصد لا يتأتى إلا بالاستعانة بعلوم الأوائل ومن بينها وأهمها المنطق من حيث هو أداة ضابطة للتفكير، تضفى عليه الصرامة والدافة الضروريتين للحفاظ على هوية الشرع وعلى كما له وحمايته من خطر الإضافات والزيادات، لا على المستوى الشرعي فحسب، بل حتى على المستوى العقائدي . حيث خطر التأويلات وتهد يدها ممثلا فى الملل والنحل التي جنحت عن الإسلام دينا وسلوكا فى نظرا بن حزم مما يتطلب دعم العقيدة الإسلامية مجسما فى علوم الأوائل  وبخاصة المنطق، وذلك من أجل بناء الشرع على القطع ودعم المنقول بالمعقول .

ومن أجل ذلك ألف ابن حزم كتابه "التقريب لحد المنطق والمدخل إلية بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية" وفى مقدمة هذا الكتاب قسم ابن حزم الناظرين فى كتب المنطق إلى أربع طوائف:

أولها: طائفة حكمت على كتب المنطق بأنها محتوية على الكفر وناصره للإلحاد دون أن يقفوا على معانيها، ويحكم ابن حزم على هذه الطائفة بأنها مخالفة لروح الشرع .

والثانية: طائفة ترفض هذه الكتب لأنها بدعة وعبث من القول، ويصف ابن حزم أصحاب هذا الرأى بالجهل، ويتساءل معهم قائلا:  "فإن قال جاهل: فهل تكلم أحد من السلف الصالح فى هذا، قيل له: أن هذا العلم فى نفس كل ذى لب، فالذهن الذكى واصل إليه بما مكنه الله تعالى من سعة الفهم إلى فوائد هذا العلم. والجاهل متسكع كالأعمى حتي ينبه عليه، وهذا شأن سائر العلوم، فما تكلم أحد من السلف رضوان الله عليهم في مسائل النحو، ولكن لما فشا الجهل بين الناس باختلاف الحركات التي باختلافها اختلفت المعاني في اللغة، وضع العلماء كتب النحو فرفعوا إشكالا عظيما، وكان ذلك معينا علي الفهم لكلام الله وكلام نبيه . وكان من جهل ذلك ناقص الفهم عن ربه . فكان هذا من فعل العلماء حسنا وموجبا لهم أجراً " .ثم يتابع ابن حزم فكرته في تبرير دراساته للمنطق فيقول:" وكذلك هذا العلم (المنطق) فإن من جهله خفي عليه بناء كلام الله عز وجل مع كلام نبيه .. وجاز عليه من الشغب جوازا لا يفرق بينه وبين الحق، ولم يعلم دينه إلا تقليدا والتقليد مذموم ".

والثالثة: طائفة قرأوا هذه الكتب بعقول مدخولة وأهواء مريضة غير سليمة فضلوا في فهمها ورفضوها بسبب الفهم السقيم لها .

والرابعة: طائفة نظرت في هذه الكتب بأذهان صافية، وأفكار نقية من الميل وعقول سليمة فاستندوا بها ووقفوا علي أغراضها، فاهتدوا بمنارها . وثبت التوحيد عندهم ببراهين ضرورية لا محيد عنها، ووجدوا هذه الكتب كالرفيق الصالح ".

ويصل ابن حزم من ذلك إلي القول بفائدة المنطق لكل علم، وأنه آلة نافعة لكل مستدل " .

ومن هذا المنطق يبطل ابن حزم القول بأن تعاطي المنطق بدعة، فكما النحو وغيره من علوم اللغة استحدثت، ولم يخض السلف الصالح فيها، نظرا لظهور الحاجة إليها بعد ما تفشي اللحن، أي ظهور الحاجة لقواعد تقنن استعمال اللغة، كذلك المنطق، ظهرت الحاجة إليه أيضاً كمعين علي فهم النص استعمال اللغة، كذلك المنطق ظهرت الحاجة إليه كمعين علي فهم النص والاستدلال علي صحة مضامينه " فإن من جهله (أي المنطق) خفي عليه بناء الله عز وجل مع كلام نبيه صلي الله عليه وسلم . والسلف الصالح في حاجة إلي كل ذلك، لأنهم عاصروا النبوة وعاشوا في فترة لم يوجد فيها مشاغبون يخلطون الحق بالباطل .

ويبدو من حديث ابن حزم، أن هناك ثلاثة دوافع تظهر معها الحاجة إلي صناعة المنطق في مجال العلوم الدينية، وهي:

1- فهم بناء كلام الله ورسوله، وفهم أحكامه وطرق استنباطها .

2- الرد علي المشغبة، وهو أمر يقتضي التسلح بالأفانين التي يلجأون إليها لإثبات دعاواهم الباطلة.

3- التمييز بين الحق والباطل، وه أمر يتم بطبيعة الحال لا بصورة مجردة، بل اعتمادا علي انص الديني .

ونلاحظ أن الدافع الأول دافع أصولي فقهي، فمعرفة القضايا وأقسامها ومعرفة الكلي والجزئي، والسلب والإيجاب، ليس له فائدة سوي فهم الأحكام الإلهية والعلاقات بينها، وطبيعة الجهات الشرعية.

وهذا مدلول امتزاج المنطق بالفقه، ومعني امتزاجها، أي فهم الفقه لا يقوم إلا بالمنطق لأن من طبيعة الفقه أن يؤدي بنا إلي كيفية وقوع الأسماء علي مسمياتها، ووجوه ارتباط القضايا والأحكام ببعضها البعض.

ومما يؤيد ما ذهبنا إليه بخصوص موقف ابن حزم الأصولي من المنطق الأرسطي نذكر رأي " روبير برونشفيك " , حيث يذهب في إحدى دراساته إلي أن ابن حزم نموذج من الفلاسفة المسلمين الذين قالوا بإمكان تطبيق واقتباس المنطق الأرسطي جزئيا في الأحكام الشرعية، وخلافا للغزالي الذي قال بالإمكان الكلي ولابن تيمية الذي قال بالاستحالة المطلقة .

ولا شك في أن المسألة في الإشكالية الحزمية لم تطرح علي هذا النحو، أي لم يكن أمام ابن حزم اختبار موقف من الموقفين امكان اقتباس أو عدم إمكانه، بل كان أمام محاولة إثبات كيف أن فهم النص الديني، وفهم أحكامه يحتاج ويستدعي اللجوء إلي المنطق، أي معرفة كيفية وقوع الأسماء علي مسمياتها، وأن معالجة مسألة ما من المسائل الفقهية والأصولية، تتطلب معرفة بطرق الاستنباط . وتلك الطرق بالضرورة، هي ما قال به أرسطو، يقول ابن جزم " إن الكتب التي جمعها أرسطاطاليس في حدود الكلام ( يقصد قواعد المنطق) كلها كتب سالمة، مفيدة، دالة علي توحيد الله عز وجل،وقدرته عظيمة المنفعة في انتقاد جميع العلوم . وعظم منفعة الكتب التي ذكرنا في الحدود ( أي القواعد المنطقية) في مسائل الأحكام، بها يتعرف كيف يتوصل إلي الاستنباط (الصحيح)، وكيفية تقديم المقدمات، وإنتاج النتائج، وما يصح من ذلك صحة ضرورية أبدا، وما يصح مرة، وما كان خارجا عن أصله، ودليل الاستقراء، وغير ذلك مما لا غناء بالفقيه المجتهد لنفسه لأهل ملته عنه " .

إذن ابن حزم يؤمن بفائدة المنطق لأي علم ومنها علم الفقه وأصوله، وأنه آلة نافعة لكل مستدل .

ويربط ابن حزم بين دراسة المنطق وفوائده للفقيه، فيجعل فائدة المنطق عامة، كما صرح بذلك الفارابي وابن سينا من قبل، وفوائده في فهم كتاب الله وحديث نبيه صلي الله عليه وسلم، وفي الفتيا في الحلال والحرام، والواجب والمباح أعظم وأعم .

كما يجعل ابن حزم معرفة المنطق أساسا في الإفتاء، وذلك لوجوه:

أولها: اعتقاده أن دراسة المنطق تساعد علي فهم الكتاب والسنة واستنباط الأحكام وفهمها .

وثانيها: العلم بمسائل المنطق وأصول البرهان، تساعد المفتي والفقيه علي التمييز بين الآراء، لنعرف الصحيح من السقيم، بحيث يتحقق له الإفتاء علي الوجه الصحيح الصائب .

وثالثها: اعتقاده أن المنطق قد يساعد علي بناء اليقين، والدفاع عن العقيدة، لأن إيمان المقلد عنده غير صحيح مشكوك فيه .

ورابعها: هو أن اشغاله بالفقه والكلام، دفعه إلي الاشتغال بالمنطق لحاجة المتكلم إلي معرفة أساليب الجدل، وحاجة الفقيه إلي إقامة البرهان .

وانطلاقا من هذا، حاول ابن حزم تطويع منطق أرسطو، كي يغدو آلة ضابطة للتفكير عامة، وللتفكير الفقهي علي الخصوص، فقد تجاوز نقائض المنهج القياسي القائم علي العلة والتعليل، وذلك أن فهم الأحكام الشرعية وفهم كيفية أخذ الألفاظ علي مقتضاها وفهم العام والخاص والمجمل والمفسر وبناء الألفاظ بعضها علي بعض، وتقديم المقدمات، وإنتاج النتائج، والصحيح من القياس والفاسد منه، يتطلب معرفة بالمنطق وتسحا به، وهو علم لا غناء عنه بالنسبة للمتكلم والفقيه والمحدث والناظر في الآراء والديانات والأهواء والمقالات لأن مهمته الوقوف علي كافة الحقائق وتميزها من الأباطيل .

ومما يكشف عن نية ابن حزم في تأسيس الفقه علي المنطق الأرسطي، أنه أسقط تماما لفظ " القياس " من حيثه عن أشكال الاستدلال مكتفيا بكلمة " البرهان"،وهو أمر نابع من اقتناعه بنقائض القياس الفقهي وعدم يقينية نتائجه، مما يجعله دعوة بلا برهان، أو يجعل نتائجه علي الأكثر قائمة علي الظن والترجيح ويسوق ابن حزم الأدلة لإبطال القياس الفقهي، ونلخصها فيما يلي:

أول هذه الأدلة: أن الله سبحانه وتعالي أنزل الشرائع فما أمر به فهو واجب وما نهي عنه فهو حرام، وما لم يأمر به ولم ينه عنه فهو مباح مطلق حلال والنصوص جاءت بكل ما محرم، وجاءت بكل ما هو مأمور به، والباقي علي أصل الإباحة، فمن أوجب من بعد ذلك شيئا بقياس أو بغيره، فقد أوتي بما لم يأذن به الله تعالي، ومن حرم من غير النص، فقد أتي بما لم يأذن به الله تعال .

الدليل الثاني: أنه لا قياس في موضع النص عند القياسين، وإنما القياس في غير موضع النص، ومن قال أنه لم يشمل النص كل شئ، فهو يناقض قوله تعالي " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " وقوله تعالي:" لتبين للناس ما نزل إليهم  . وقوله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع:" اللهم هل بلغت ؟ قالوا نعم .قال: اللهم أشهد " فإن هذه النصوص كلها تدل علي أن النصوص قد اشتملت علي كل شئ فلا حاجة إلي قياس بعدها .

الدليل الثالث: أن القياس في غير موضع النص، مبني علي الاشتراك في الوصف الذي اعتبر علة الحكم بين الأصل المنصوص علي حكمه، والفرع غير المنصوص علي حكمه، وإن هذا الوصف لا بد من دليل عليه، فإن كان هذا الدليل هو النص، فإن الحكم في الفرع أخذ من ذلك النص، وليس هذا قياسا،وإن لم يؤخذ من نص ولا إجماع، فمن أي شئ عرف؟، وإن ترك ذلك من غير بيان إشكال وتلبيس، وتعالي الله عن ذلك علوا كبيرا، ولا يحل لأحد أن ينسب هذا إلي شئ من دين الله تعالي، الذي قد بينه سبحانه غاية البيان علي لسان رسوله صلي الله عليه وسلم .

والدليل الرابع: أن النبي صلي الله عليه وسلم أمر المؤمنين بأن يتروا ما تركه الرسول، وما تركه رب العالمين من غير نص علي أصل ما كان عليه، فقد قال عليه الصلاة والسلام " دعوني ما تركتم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم علي نبيهم، فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم، وغذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه ". وبهذا يتبين أن ما لم ينص عليه فليس للعبد أن يحرمه بقياس، ولا أن يأمر فيه بقياس، وألا يكن ممن يزيد علي شرع الله ولم يكن أخذا بذلك الحديث الصحيح .

والدليل الخامس: يتمثل في نصوص كثيرة صريحة في إبطال القياس، من مثل قوله تعالي " يأيها الذين أمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله "، وقوله تعالي:" ولا تقف ما ليس لك به علم "(، وقوله تعالي:" ما فرطنا في الكتاب من شئ ، وقوله تعالي:" كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون" .

هذه هي الأدلة التي يسوقها ابن حزم لإنكار القياس الفقهي، علي أن هذا لا يعني أن ابن حزم يطعن في أساس هذا القياس، بل يري أن هذا الأساس قائم علي الاستقراء ؛ فقياس الفقهاء كما يراه ابن حزم هو استقراء، وفي هذا يقول:"... فمن ذلك شئ سماه أهل ملتنا القياس، أن معني هذا اللفظ، هو أن تتبع بفكرك أشياء لموجودات يجمعها نوع واحد ويحكم فيها بحكم واحد، فنجد في كل شخص من أشخاص ذلك النوع، أو في كل نوع من أنواع ذلك الجنس صفة قد لازمت كل شخص من أشخاص ذلك أو في كل نوع تحت الجنس أو في كل واحد من المحكوم فيهم، إلا أنه ليس وجود تلك الثقة مما يقتضي وجودها في كل ما وجدت فيه، ولا تقتضيه طبيعة ذلك الموضوع فيكون حكمه واقتضته طبيعته أن تكون تلك الصفة فيه ولا بد . بل قد يتوهم وجود شئ من ذلك النوع خاليا من تلك الصفة .

ومن جهة أخري هاجم ابن حزم القاس الفقهي، لكونه يقوم علي قياس الغائب علي الشاهد في أمور لا يصلح فيها هذا القياس، وفي هذا يضرب ابن حزم مثالا فيقول: " ما دمنا في حياتنا العادية لا نري فاعلا، وهذا غير جائز لأن الغائب هنا هو ما فوق الطبيعة والعقل . أما إذا كان الغائب ما غاب عن العقل، بل هو شاهد فيه كمشهود ما أدرك بالحواس، ولا فارق، وهذا ما يضمن إمكانية التعميم وصحة الانتقال من الجزئي إلي الكلي، وإذا أيقن المرء أن الحواس موصلات إلي النفس، وأن النفس إنما يصح حكمها بالمحسوسات، وإذا صح عقلها من الآفات، لم يجد المرء حينئذ لما يشاهده بحواسه، فضلا علي ما شاهده بعقله دون حواسه، فلا غائب من المعلومات أصلا وإذا غاب عن العقل لم يجز أن يعلم البتة " .

ويذكر ابن حزم أن لجوء الفقهاء إلي إطلاق لفظ " القياس"، والذي هو في الحقيقة مجرد عطية استدلالية منطقية، تتركب من مقدمتين ونتيجة تلزم عنهما ضروريا ليس إلا حيلة ضعيفة سوفسطائية لتسمية استقرائهم " قياسا" .

ما سبق يتضح لنا أن ابن حزم، يريد باختصار تأسيس الفقه والأصول علي المنطق، وذلك من أجل إضفاء اليقين .

أما الدافع الثاني إلي صناعة المنطق في نظر ابن حزم، فهو دافع جدلي، والجدل هنا يؤخذ بمعني النقاش الذي نسعي فيه ومنه إلي دحض آراء الغير قصد إبراز تهافتها، وما تتضمنه من باطل، هو مناصرة الباطل ومنهجه التلبيس، والتلبيس يكون بإيجاب ما لا يجب، وإما بإسقاط قسم من الأقسام أو أكثر أو زيادة قسم فاسد .

والملاحظ بهذا الصدد، أن ابن حزم لا يعتبر السفسطة في كتابه " التقريب " كتابا بذاته، مثلما هو الشأن مع أرسطو، ولذا لا يفرد لها كتابا بها، بل هي في نظره ما ليس برهانا، ولا ما يؤخذ من مقدمات حسية .

غير أن الحق في نظر ابن حزم لا يدرك بالعقل فقط، بل واعتمادا علي نص ديني، وارتباطا باللغة ولا سيما وأن هذه الأخيرة في نظر ابن حزم كلمات مستفزة في النفس لدي جميع ناطقيها بنفس الكيفية، فمعانيها واحدة وظاهرة، إلا لمن أراد التشغيب، وفي هذه الحالة الحاجة إلي إتقان أساليب الجدل وصناعة المنطق، لا لأنها توصل إلي الحقيقة، ولكن لأنها تساعد علي إبطال حيل الخصم وإبراز تهافت حججه، وهذا بالفعل ما قام به في كتاب " لفصل " حيث تصدي لإبطال مضامين الحلل والملل الأخرى التي لم يكن يتفق معها، كما قام بشبيه ذلك في كتاب " الفروع والأصول" .

وأما الدافع الثالث، فهو دافع أخلاقي ديني، وبما هو ديني فإنه يتضمن بالطبع الجانب الآخر الملازم له، وهو الدنيوي المتمثل في تدبير المنزل والرعية " يعطي للفلسفة أبعادا وحدودا، وتجعلها شيئا مناظرا للشريعة نفسها . فمقاصدها هي مقاصده، وغذا كان المنطق مدخلا للفلسفة، فلا مانع من أن يكون غلما مساعدا في فهم النص الديني، وفهم حدود الكلام وبناء القضاء وترتيب المقدمات والنتائج وشروط الاستنتاج وبنية البرهان والتمييز بين القضايا الكاذبة والقضايا الصادقة والتمييز بين الحق والباطل، فإذا كان الفكر اليوناني اعتبر الأخلاق ثمرة الفلسفة، واعتبر التمييز بين الحقيقة والخطأ، مؤسسين علي النظر، فإن المنطق آلة ذلك النظر.

وهنا نلاحظ أن ابن حزم يجعل الأخلاق ثمرة الدين، والتمييز بين الحق والباطل مصدره هذا الأخير، والمنطق آلة النظر في الدين، وفي نصوصه قصد فهم أحكامه، لأن هذا الأخير لا يمكن أن تفهم حق الفهم، إلا تفكيرا لا يبقي في مستويات العموميات المجردة، بل ينصب علي لغة مركبة من ألفاظ وضعت ليعبر بها عن معاني علقت هذه الألفاظ عليها . والباطل يحدث كلما أحيلت الألفاظ عن معانيها، وحرفت الكلمات عن مواضعها .

هذا هو باختصار موقف ابن حزم من المنطق الأرسطي، وقد بدأ فيه ابن حزم مولعا به، الأمر الذي جعله يصرح بأن هذا المنطق آداه جيدة ومثمرة في الدراسات الفقهية .

وهذا الموقف الذي وقفه ابن حزم من منطق أرسطو سيكون له أثر فعال عند الأشاعرة ؛ وبخاصة الغزالي الذي سيدعم فكرة مزج المنطق بالفقه علي المذهب الشافعي الذي يؤمن بالقياس الفقهي ويتغاضى عن بعض الأفكار الفقهية التي قام بها المذهب الظاهري عند ابن حزم.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

في المثقف اليوم