دراسات وبحوث

العقل والشرع في الإسلام والكلام (2-3)

ميثم الجنابي"أكثر العلوم الشرعية عقلية عند عالمها،

 وأكثر العلوم العقلية شرعية عند عارفها"

(الغزالي)

 إن الحلول النظرية لعلاقة العقل بالشرع، التي ستأخذ بالتوسع والتعمق كانت نتاج الظاهرة الاجتماعية الفكرية المرتبطة بسيادة الإسلام وصيرورة الخلافة، أي تراكم واقع الأمة (الاسلامية) والدولة الإمبراطورية. فالتباين الفكري والتعارض الكلي أحيانا بين اتجاهات علم الكلام، حتى في حال تجاهل طابعه العملي المباشر، كان الأسلوب الأولي للصيغة اللاهوتية المجردة عن علاقة العقل بالشرع. فالتراث الإسلامي الحقوقي (الفقهي) الأولي هو ميدان النزاع العملي، الذي أفرز في بداية الأمر مدارس الحديث والرأي. فالاتجاه الأول المتمثل بمالك بن أنس والشافعي وأحمد بن حنبل وداود الأصفهاني لم يفقد العقل قدرته الفعلية، بقدر ما جرى تهميشه النسبي مقارنة بالنص. ولعل إحدى صيغه النموذجية نراها في قول الشافعي "إذا وجدتم لي مذهبا، ووجدتم خبرا على خلاف مذهبي، فأعلموا أن مذهبي ذلك الخبر".  ومن غير الدقة التعامل مع هذه الفكرة على أساس معطيات ومقولات السياسة القديمة والمعاصرة، بل ولا حتى على أساس معطيات الفكر المجرد. بمعنى ضرورة الاحتكام للحقيقة فقط.

فالفكرة التي وضعها الشافعي يمكنها أن تجعل من المذاهب القديمة عرضة للتطابق مع حقائق الأخبار والنصوص الجديدة. غير أنه لا يمكن لهذه الأخبار والنصوص أن تكون لا نهائية، مما يضع الفكرة ذاتها في مأزق لا مخرج له. لكنه يزول حالما يجرى النظر إلى هذا المبدأ من زاوية كونه أسلوبا للتعامل العقلي العملي المحدود تجاه النصوص القابلة للتأويل الدائم. غير أن هذا الاستنتاج لم يكن حصيلة الوعي "الحجازي"، بل من انكساره في مدارك الثقافة التي أصبحت آراءها ومواقفها ومستويات وعيها أوسع وأشمل من محدودية النصوص. ولم يبلغ هذا الاتجاه ذروته النظرية الأكثر تجريدا إلا بعد خوض أصحاب الرأي معارك الجدل الفقهي والكلامي كما نراه عند أبو حنيفة وأبو يوسف القاضي وزفر بن الهذيل وغيرهم. فقد جعلوا من حرية الرأي مقارنة بالنص ضرورة، ومن تباين الأفكار حرية. لهذا لم يكن بإمكان أبو حنيفة أن يردد ما قاله الشافعي، بل أكد على أن "أحسن ما وصل إليه هو ما يقدر عليه برأيه الخاص، فمن قدر على غير ذلك فله ما رأى، ولنا ما رأينا". لقد أصبح العقل فعالا مقارنة بالنص. ولم يجر وضع هذه القضية في مفاهيم ومقولات الفكر النظري المنظم إلا في مدارس الاعتزال. إذ حددت المبادئ الأساسية العامة للفكر المعتزلي التوجه العام لنظرات ومواقف ممثليه من علاقة العقل بالشرع. فالمبادئ العامة، التي جرى الاتفاق عليها عند المعتزلة هي كون الإنسان قادراً خالقا لأفعاله خيرها وشرّها، وأن الله لا يفعل إلا الصلاح والخير، وذلك لأن الحكمة توجب رعاية مصالح الناس، وأن أصول المعرفة وشكر النعمة واجبة قبل ورود السمع، وأن الحسن والقبح يجب معرفتهما بالعقل[1]. فقد صاغ العلاف على سبيل المقال، فكرة وجوب المعرفة بالنسبة للانسان المكلّف تجاه الله (معرفة الله) بالدليل من غير خاطر، وأن يعلم أيضا حسن الحسن وقبح القبيح فيجب عليه الإقدام على الحسن كالصدق والعدل، والإعراض عن القبيح كالجور والكذب[2]. وهي الفكرة التي شاطرها النّظام القائل، بأن المفكر قبل ورود السمع إذا كان عاقلا متمكنا من النظر يجب عليه تحصيل معرفة الله بالنظر والاستدلال. إضافة لذلك انه قال بتحسين العقل وتقبيحه في جميع ما يتصرف فيه من أفعال[3]. ولا يشذّ عنه في هذه الفكرة ممثلو الاعتزال الكبار مثل ثمامة بن اشرس، الذي أضاف للفكرة السابقة ما دعاه بإمكانية عذر الكفار عن عدم معرفتهم الله. فالمعارف كلها ضرورية. وبالتالي فإن معرفة الله ليس مما هو مأمور به. فالإنسان، كما يقول ثمامة "كسائر الحيوان خلق للعبرة والسخرة"[4]. في حين أكد عيسى بن صبيح المردار على أن العقل يوجب معرفة الله بجميع أحكامه وصفاته قبل ورود الشرع[5]. بينما صاغ المعتزلي الكبير محمد بن عبد الوهاب الجبّائي وأبنه أبي هاشم عبد السلام الجبّائي فكرتهما حول العقل والشرع بالصيغة التالية: إن المعرفة، وشكر المنعم، ومعرفة الحسن والقبح، واجبات عقلية. بحيث جعلهما ذلك يتكلمان حول "الشريعة العقلية" بينما أرجعا "الشريعة النبوية" إلى مقدرات الأحكام وموقنات الطاعات التي لا يتطرق اليها عقل ولا يهتدي إليها فكر. وأنه بمقتضى العقل والحكمة يجب على الحكيم ثواب المطيع وعقاب العاصي[6]. إذ ليس شرع الشرائع وبعث الأنبياء بنظرهما سوى ألطاف من الله.

لقد قدّم الاعتزال الإسلامي في مواقفه الفكرية، الصيغة الأكثر تنظيما وتدقيقا لقضية علاقة الشرع والعقل. أما حلوله لها خارج سياق اللاهوت المحنط بالنص، فقد تجاوزت آراء ومواقف الفرق الإسلامية  السابقة. إذ طورت المعتزلة النظريات العقلانية بهذا الصدد للدرجة التي جعلت الغزالي لاحقا يتكلم عن "غلاة المعتزلة" الذين أدت آراؤهم إلى وضع العقل في صدام مع الشرع[7]. فمعرفة الدليل العقلية التي جعلت من العقل حاكما فوق كل حاكم آخر حصلت على صورتها الجلية في آراء إبراهيم النظّام حول قدرة العقل واستقلاله في الحكم على كل ما له صلة بالإنسان. بينما يكفّ التكليف الشرعي عن أن كون ذا قيمة جدية مقارنة بالمعارف العقلية عند ثمامة بن أشرس بفعل كون المعارف ضرورية بحد ذاتها. وهي الفكرة التي جعلت "راهب المعتزلة" ابو موسى المردار يشدد على استقلال العقل في معرفة الله وأحكامه دون ورود أية شريعة. وبالتالي إمكانية الشريعة العقلية كما سيستنتج لاحقا "شيخ المعتزلة" أبو علي الجبائي.

وسارت الأشعرية في الاتجاه العام للمعتزلة، وبالأخص من حيث استعمال الأسلوب "المنطقي" في التعامل مع قضية العقل والشرع. لكنها حلت هذه المشكلة بالطريقة التي ستحصل لاحقا على تسمية المدرسة الأشعرية. فالأشعري أكد على أن "معرفة الله بالعقل تحصل وبالسمع تجب"[8]. وبهذا يكون قد أّسس بصورة أولية للازدواجية المتوازية، التي تقرّ بقدرة العقل وضرورته مع الاحتفاظ بالشرع كحاكم نهائي. ولم يكن موقفه هذا محاولة لإخضاع العقل للشرع بقدر ما كان محاولة لتحديد مهمات كل منهما مع اعطاء صفة الحكم النهائي للشرع. فتوبة الله على العبد (الإنسان)، لا تخضع بنظر الاشعري للحكم العقلي، إذ لا جور عند الله. وأن كل ما هو واجب شرعا لا يخضع لحكم العقل. فالعقل لا يوجب شيئا ولا يقضي تحسينا ولا تقبيحا. وكل ما له علاقة بما وراء الموت كإثابة المطيع وعقاب العاصي فيجب الاعتراف بها بالسمع دون العقل. وبالتالي لا وجوب على الله عقلا لا بمفهوم الصلاح ولا الأصلح ولا اللطف ولا غيره. فكل ما يقتضيه العقل من جهة الحكمة الموجبة يقتضي نقيضه من وجه آخر[9]. إلا أن التشنج الكلامي يأخذ بالانحلال في الازدواجية المتوازية للعقل والشرع، حالما يتم النظر إليها من زاوية وحدتهما الضرورية. فإذا كان الاتجاه المعتزلي عند بعض ممثليه قد سعى وأدى إلى عزلهما شبه الكامل[10]، فإن ما يميز آراء الأشعري هو محاولتها الربط بينهما. وليس ذلك في الواقع، سوى محاولة ربط بعض آراء وأساليب الكلام المعتزلي بالاتجاهات السنيّة الخبرية (أصحاب الحديث). ومع ذلك، فإنها تشكل خطوة كبرى إلى الأمام ليس في اتجاه التوفيقية المفتعلة، بل في صنع تيار الاعتدال وقيمته السياسية والروحية الفعالة وسط الصراعات الفكرية العقائدية العنيفة. وللغزالي بهذا الصدد قرينة في شخصية الأشعري الفكرية التاريخية والثقافية الفردية (الشخصية). فالأشعري ليس فقط أحد مصادر الوعي اللاهوتي (الكلامي) للغزالي، بل والظل الخفي لوجوده المنصرم! وحالما يتبع الغزالي في تآلفه المعتدل مجرى الأشعري، فإن ذلك لا يعني تقليد السيرة الأشعرية بقدر ما يعني تقليد الإبداع التآلفي. مع أن للفكرة التوليفية أبعادا بحد ذاتها لا تستقيم مع التقليد. لكنه معقول ومقبول ضمن معنى البحث عن حلول فلسفية وسطية. وقد حقق الأشعري هذا التوليف بهيئة علم الكلام، بينما حققه الغزالي في منظومته اللاهوتية الفلسفية الصوفية.

فقد كان الغزالي أقرب ما يكون إلى التآلف المعتدل، الذي كان لابد وأن يبرز في مجرى أو نهاية الصراعات المتأزمة. وحالما تبلور هذا الكيان المستقل لهذا التآلف الفكري حينذاك يأخذ باحتلال نفس مواقع القوى الفكرية العقائدية المتصارعة بوصفه نقيضا لها. وليس المقصود من وراء ذلك الكشف عن "حيوية الجبرية" القاهرة لتقوقع التيارات الفكرية العقائدية، بقدر ما يقوم عما في هذه الظاهرة من إشارة إلى وحدة وصراع القديم والجديد، الثوري والسلفي، الاجتهادي والتقليدي في الوعي والممارسة. وفي مجرى هذه العلمية تظهر القيمة الدائمة لفاعلية الفكر ورفضه المبدئي "لقدسية" آراءه ومواقفه النظرية. فقد مّثل الأشعري هنا الصيغة اللاهوتية (الكلامية) الاولية، التي اضعفت قوة "الأنا" الفردية وتبجحها المتهور، في حين مّثل الغزالي صيغتها النظرية الاخلاقية، التي سعت لإذابة المفارقات الممكنة في الوعي الاجتماعي التاريخي للخلافة وخلافاته في بوتقة المساعي الوجدانية والعقلية صوب المطلق. ومع ذلك لم يخلّص ذلك منظومته الفكرية من أن تصبح مادة للاتهام والمعارضة من جانب من أيّده وعارضه وأختلف معه.

فقد أبرز الأشعري قيمة العقل في علاقته بالشرع دون أن يعطيه قيمة الأولوية، وأبرز الشرع في علاقته بالعقل دون أن يجعله ثانويا. انه أدرجهما ضمن علاقة الممكن والواجب. فالمعرفة العقلية لله، كما أكد الأشعري، ممكنة بينما السماع واجب. وبذلك يكون قد فتح ثغرة إخضاع العقل للشرع دون ان يشدد عليه في الظاهر، كما فتح باب الخلاف الشامل مع المعتزلة دون أن يجعل منه شعار المعركة. الأمر الذي نرى ملامحه الجلية عند ممثلي الأشعرية الكبار كالباقلاني والجويني. فعندما يناقش الباقلاني آراء "البراهمة" بصدد قضايا النبوة والعقل والشرع، فإنه يتخطى في حالات عديدة آراء الأشعري، إلا أنه يسير معه في نفس الاتجاه العام. فهو شأن الأشعري، يرفض حاكمية العقل على قبح القبيح وحسن الحسن. انطلاقا من كونها أفعال لا يثبت الحكم فيها إلا للشرع دون العقل[11]. وعندما يناقش مواقف العقل من قضايا الإيمان وأصوله، فإنه يوجّه العقل وقدرته بالاتجاه الذي يلزمه في البحث عن صلة دائمة ومؤيدة ومصدّقة للشرع. فالشرع، كما يقول الباقلاني، ضروري للعقل، وذلك لأن العقل لا يمكنه معرفة العدل والإنصاف وقبح الظلم والعدوان. فلو كان الأمر كذلك لاشترك الجميع في ما يعتقدونه. بينما هناك من يعتبر هذا الشيء أو الفعل قبيحا لباعث ما من البواعث المؤيدة بالعقل، بينما آخرون ينظرون إليه باعتباره حسنا. الأمر الذي جعل الباقلاني يستنتج قائلا، بأن "العقل يبلغ كماله لا بذاته من ذاته، بل في تتبعه الشرع واستكماله به"[12]. وقد صاغ الجويني هذه الفكرة باختصار بليغ في عبارته القائلة بأن الشرع يردّ العقل ويوافقه، والشرع يرفض العقل في ما لا يوافقه[13].

مما سيق يتضح بأن الغزالي لم يقف أمام معضلة مجهولة أو عصية على الحل، لاسيما وأن هناك الكثير من الحلول التي شملت من حيث صيغها العامة الاحتمالات الفكرية النظرية الممكنة لها. والاستثناء المحتمل هو ما لم يكن بإمكانه الظهور آنذاك، أي النفي الكلي المباشر للعلاقة المفترضة بين العقل والشرع. إلا أن العناصر الفكرية لهذا الاتجاه المحتمل كانت قائمة أيضا. فقد وقف الغزالي أمام واقع التباين الواسع في حل قضية علاقة العقل بالشرع. فقد بلورت هذه القضية أسلوب تطورها الذاتي، بوصفها قضية نظرية وعملية. كما كانت في الوقت نفسه القضية الملموسة بين الشرع الإسلامي والعقل (غير الإسلامي)، بين مواقف وأحكام الشرع الإسلامي الملموسة والعقل الإسلامي التاريخي الملموس. (يتبع....).

 

 ميثم الجنابي

.......................

 

[1] الشهرستاني: المِلِل والنِّحل، ج1، ص45، وكذلك البغدادي: الفَرق بين الفِرق، ص79.

[2] الشهرستاني: المِلِل والنِّحل، ج1، ص52.

[3] الشهرستاني: المِلِل والنِّحل، ج1، ص58.

[4] الشهرستاني: المِلِل والنِّحل، ج1، ص71.

[5] الشهرستاني: المِلِل والنِّحل، ج1، ص70.

[6] الشهرستاني: المِلِل والنِّحل، ج1، ص81.

[7] الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، ص2.

[8] الشهرستاني: المِلِل والنِّحل، ج1، ص101.

[9] الشهرستاني: المِلِل والنِّحل، ج1، ص102.

[10] ليس مصادفة أن يضع الملطي (ت-377 للهجرة) عبارة "المفرّقون بين علم السمع وعلم العقل" في صلب تقيمه للمعتزلة.

[11] الباقلاني: كتاب التمهيد، ص97.

[12] الباقلاني: كتاب التمهيد، ص108.

[13] الجويني: اللمع في قواعد أهل السنّة، ص173.

 

في المثقف اليوم