دراسات وبحوث

موقف أئمة الفقهاء من الحكم الأمويّ والعباسيّ

موقف الإمام أبى حنيفة من الحكم الأمويّ والعباسيّ:

قال الزمخشري[ت:538ھ/1143م] عند تفسير قوله تعالى: ﴿إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدى الطالمين﴾ [البقرة:124] قال رحمه الله تعالى:« أي من كان ظالما من ذريتك لا يناله إستخلافي وعهدي إليه بالإمامة، وإنما ينال من كان عادلا بريئا من الظلم. وقالوا: في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة، وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته، ولا تجب طاعته، ولا يقبل خبره، ولا يقدم للصلاة. وكان أبو حنيفة رحمه الله يفتي سرا بوجوب نصرة زيد بن علي رضوان الله عليهما، وحمْلُ المال إليه والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة، كالدوانيقي وأشباهه[1]. وقالت له إمرأة أشرتَ على إبني بالخروج مع إبراهيم ومحمد إبنى عبد الله بن الحسن حتى قتل،  فقال ليتني مكان إبنك. وكان يقول في المنصور وأشياعه: لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على عدّ آجره لما فعلت. وعن إبن عيينة، لا يكون الظالم إماما قط، وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة، والإمام إنما هو لكف الظلمة، فإذا نُصِبَ من كان ظالما في نفسه، فقد جاء المثل السائر، من إسترعى الذئب ظلم»[2]

يذكر الشيخ أبو زهرة رحمه الله موقف أبي حنيفة من سياسية بني أمية وبني العباس، فقال: « كان رضي الله عنه لنزعته العلوية من غير تشيع، لا يرى لبني أمية أىّ حق في أمارة المؤمنين، ولكنه ما كان ليثور عليهم، ولعله كان يهمّ أن يفعل. ويروى أنه لما خرج زيد بن علي، بالكوفة على هشام بن عبد الملك، قال أبو حنيفة: «ضاها خروجه خروج رسول الله يوم بدر» فقيل له: لم تخلفت عنه؟ قال:«حبسنى عنه ودائع الناس، عرضتها على ابن أبي ليلى،  فلم يقبل، فخفت أن أموت مُجْهِلاً». ويروى أنه قال في الإعتذار عن عدم الخروج مع زيد: لوعلمت أن الناس يخذلونه كما خذلوا جدّه (الحسين بن علي) لجاهدت معه، لأنه إمام حق، ولكنى أعينه بمالي فبعث إليه عشرة آلاف درهم وقال للرسول: «أبسط عذري له» وإن هذا يدل على أنه ما كان بنو أمية بأهلٍ للإمارة في نظره. وعلى أنه كان يرى زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب هو الإمام، ولكنه لم يكن مؤمنا بحسن النتائج لمعرفته لأخلاق العراقيين الذين يقولون ولا يعملون.. ومع ذلك لم يرِدْ أن يكون مع المعوقين المثبطين، فأرسل المعونة المالية»[3].

«كان أبوحنيفة يوالي العباسيين بقدر إنصافهم من الظلم والقيام بالعدل في أول الأمر، حتى وقعت الخصومة بينهم وبين أبناء عليّ بن أبي طالب لذا،« لم يكن بُدٌ من أن ينْقِم أبوحنيفة من العباسين كما نقم من الأمويين. ولكنه كشأنه في نقمته لا يزيد على الكلام في غضون الدرس»[4].

هكذا أستمرت معارضة أبي حنيفة في الحكم العباسى والنصرة لأبناء عليّ الذين ثاروا على خلافة أبي جعفر المنصور، كمحمد بن عبد الله بن حسن النفس الزكية، وأخوه أبراهيم بن عبد الله بن حسن. وكان أبوهما-عبد الله بن حسن - شيخا لأبى حنيفة، في سجن المنصور وقت خروجهما على المنصور، إلى أن مات وهو كظيم  في السجن بعد مقتل ولديْه. وأستمرت حالته بالمعارضة حتى رفض أن يقلد منصب القضاء« عندئذ حبسه المنصور، وعذبه فأمر بضربه  كل يومٍ عشرة أسواطٍ، حتى أشرف على التلف، فأخرجه المنصور، ومنعه من الدرس والإفتاء.. وقد مات بعد ذلك بقليل، وأوصى ألا يدفن في مقبرة جرى فيها غصب، أوأُتهم  فيها بغصب، ولذلك قال المنصور:« من يعذرني من أبي حنيفة حيّا وميّا»[5].

موقف الإمام مالك من الحكم العباسيّ:

رغم أن الإمام مالك لم يكن موقفه، كموقف الإمام أبي حنيفة، فى مواجهة الحكم الأموي والعباسي، إلا أنه كان يؤمن بعدم صحة بيعة المُكْرَهْ. ولهذا السبب كما رجّحه الشيخ أبو زهرة، لَقِىَ الإمام مالك في محنة شديدة في أيام أبى المنصور العباسي؛ لأنه كان يفتي الحديث: «ليس على مستكره بيعة». وقد كان العلويّون الذين خرجوا مع النفس الزكية، يدعون أن بيعة المنصور قد أخذت كرها فأتُخِذ هذا الحديث ذريعة لإبطال البيعة، فنهاه والي المدينة بإسم المنصور، أن يحدّث الإمام مالك به،  ثم دسّ عليه من يسأله عنه، فحدث به على رؤوس الأشهاد، وقد وجد مع ذلك أولئك الذين يكيدون لإمام الهجرة مالك، حيث روّجوا أنه ليس من الموالين للمنصور ودولته[6]

فقد جاء فى مناقب ابن البزاري، أن الخليفة المنصور جمع بين الأئمة الثلاثة، أعنى أبى حنيفة، ومالك بن أنس، وابن أبى ذئب، يسألهم عن حكم خلافته. فقال الإمام مالك: قولا لينا. وقال ابن أبى ذئب: قولا عنيفا. وقال أبو حنيفة: «المسترشد لدينه يكون بعيد الغضب، إن أنت نصحت لنفسك علمْتَ أنك لم ترد الله بإجتماعنا، فإنما أردت أن تعْلَمَ العامةُ أن نقول فيك ما تهواه مخافة منك. ولقد ولّيتَ الخلافة وما اجتمع عليك إثنان من أهل الفتوى. والخلافة تكون بإجتماع المؤمنين ومشورتهم»[7].

وهكذا تعتبر سياسية النظام الملكي الوراثي،حسب رؤية الشيخ الغزالي، نظاما سياسيا فاسدا؛ لأنه أدّى إلى إلإنفصام بين الحكم والعلم. فقال رحمه الله :« وفى هذه البيئة إنفصل العلم عن الحكم، ووقعت بين الفقهاء والساسة جفوة شديدة، وقد كان هوى أبي حنيفة ومالك رضي الله عنهما مع الثائرين المتمردين. فاما أبو حنيفة فقد رفض كل تعاون مع الدولة، وظل على موقفه حتى مات فى السجن. وأما مالك، فقد إبتعد بأدب، ورأى أن يخدم الإسلام بين عامة الناس دون إشتباك مع الحكام، بيد أن الفتوى فيما يقع من هولاء الحكام جعلته يعلن بطلان الأيْمان التى تؤخذ لأولياء العهد، فجوزي على ذلك بالضرب حتى كسرت ذراعه! ثم إعتذر الخليفة له بعد ذلك»[8].

موقف الإمام الشافعي من الحكم العباسيّ:

إن حالة الإمام الشافعي هى أشد بكثير،  نظرا لموالاته للثورة العلويّة، والذين ثاروا ضد الحكم الأمويّ والعباسيّ، حتى أتّهم أخيرا بالرفض إلى أن قال:

ياراكباً قف بالمحصّب من مِنَىْ      واهتفْ بقاعدِ خيْفِها والناهضِ

سحراً إذا فاض الحجيجٌ إلى مِنىً    فَيْضا بمٌلْتَطم الفٌرات الفائِضِ

إن كان رفضاً حبُ آل محمد           فليشهد الثقلان أنّى رافضيّ.

هذه التهمة- ضد الإمام الشافعي - قد بلفت ذروتها  حين وشَّى والي الخليفة  في اليمن- وكان الإمام وقتئذ في اليمن- إلى الخليفة العباسيّة هارون الرشيد، حيث أُعْتُبر ضمن تسعة أتّهموا بمساندة الثورة العلويّة ضد الحكم العباسيّ«وبسبب ذلك سيق الشافعي مكبلا بالحديد إلى بغداد، وتلك وفدته الأولى إليها وكانت في سنة[184ھ/800م] وسنّه نحو أربع وثلاثين»[9].

هناك رأي أخر نُسِبَ إلى الشافعي، ومفاده، أن الإمامة قد تجيئ من غير بيعة، إن كان ثمة ضرورة. وقد نقل  تلميذه حرملة بن يجيى التجيبي عنه أنه قال: إن كل قرشي غلب على الخلافة بالسيف حتى سمي خليفة واجتمع عليه الناس فهو خليفة. وبناء على ذلك، فالإمامة عند الشافعي، حسب رؤية الشيخ أبي زهرة، تصحّ من أمرين:

كون المتصدي لها قرشيا.

ثم إجتماع الناس عليه، سواء أكان الإجتماع سابقا على إقامته خليفة كما هو الأمر في حالة الإنتخاب أوالبيعة، أم لاحقا لتنصيب نفسه خليفة كحال المتغلب الذي ذكره، رضي الله عنه[10].

إلا أنّ الدكتور مصطفى الشكعة ضعّف هذا الوجه المنسوب إلى الإمام الشافعي، فى كتابه «إسلام بلا مذاهب» حيث قال:«والحق أنه رأي خطير من الإمام الجليل؛ لأنه إذا صحت نسبة هذا الرأي إليه كانت خلافة معاوية صحيحة، بل وخلافة يزيد صحيحة، إذا صح لها أن تسمى خلافة. وأخشى أن أقول عن بيعة الحسين وبيعة زيد لا تكونان صحيحتين في ظل فتوى الإمام الشافعي. وإجتهاده ذلك أن الحسين عليه السلام كان يحمل بيعة صحيحة كل الصحة وكذلك كان زيد يحمل بيعة صحيحة كل الصحة»[11].

عموما،  فإن مما يؤيد عدم  صحة بيعة المتغلب، ما حدث مع معاوية عند ما أراد أن يبدل النظام الشورى بالنظام الوراثي الملكي. وقد ردّ عليه ابن الزبير قائلا:« عندنا إحدى ثلاث، أيها أخذت فهي لك رغبة وفيها خيار، إن شئت فاصنع فينا كما صنعه رسول الله، حيث قبضه الله ولم يستخلف، فدع هذا الأمر، حتى يختار الناس لأنفسهم. وإن شئت فاصنع كما صنع أبو بكر حيث عهد إلى رجل من قاصية قريش، وترك من ولده ومن رهطه الأدنين من كان لها أهلا. وإن شئت  فاصنع كما صنع عمر، حيث صيّرها إلى ستة نفر من قريش يختارون رجلا منهم، وترك ولده وأهل بيته، وفيهم من لو وُلِيَ إليه  لكان أهلا»[12].

بل أكثر من ذلك، نجد  في التاريخ الإسلامى، أن عبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، والحسن بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم إعتبروا النظام الملكي الوراثي الذي سنّه معاوية، أنه هرقليّ وليس شرعا، حيث إمتنعوا عن البيعة وحملوا السلاح من أجل ذلك حتي استشهد بعضهم دفاعا عن الحق، مثل الحسين بن علي في ثورته ضد يزيد بن معاوية[13].

وفي هذه الغمرة إستأثر معاوية بخلافة المسلمين وبنى الدولة الأموية على أُسُسْ عربيةٍ خالصةٍ، ونزع إلى الأبهة ينهل من التقليد البيزنطية، ومن رسوم التلاج الفارسي ما مدّ له في بذخه، وشموخه، وإحكام نفوذه. وتحقت حوله جماعة  تمتح من تعصبها له سلطتها وسعيها في بلاد الإسلام وتقلبها بين المناصب المختلفة[14].

 

د. بدر الدين شيخ رشيد ابراهيم

...........................

[1] -  المقصود بالدوانيقي هو:  الخليفة أبى جعقر المنصور أخي السفاح، سمي بذلك قيل لبخله، وقد ذكر بعض المصنفين أنه لم يكن بخيلاً، وذكر من عطائه وكرمه أخباراً كثيرة، أنظر:أبا حيان الأندلسى محمد بن يوسف تفسير البحر المحيط، تحقيق، الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، و الشيخ علي محمد معوض،و  د/زكريا عبد المجيد النوقي، و د/أحمد النجولي الجمل، دار الكتب العلمية، لبنان/ بيروت، الأولى، 1422هـ /2001م، ج1/ص549 .

[2] - الزمخشري، أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط1/1397ھ/1977م، ج1/ص309.

[3] - أبو زهرة، الإمام محمد، تاريخ المذاهب الإسلامية في السياسة والعقائد وتاريخ المذاهب الفقهية، دار الفكر العربى، بيروت لبنان، (بدون رقم الطبعة والتاريخ) ص368.

[4] - المصدر السابق، ص371.

[5] - المصدر السابق، ص370-374.

[6] - المصدر السابق، ص416.

[7] - أبو فاس، د / محمد عبد القادر، النظام السياسى فى الإسلام، درا القرآن الكريم، بيروت، لبنان، 1404ھ/1984م، ص256.

[8] - الغزالى، الشيخ محمد الغزالي، المحاور الخمسة للقرآن  الكريم، دار القلم دمشق، سوريا ط1/1991م، ص128.

[9] - أبو زهرة، محمد، تاريخ المذاهب الإسلامية، دار الفكر العربى، بيروت، لبنان، (بدون رقم الطبعة والتاريخ)، ص443.

[10] -  أبو زهرة، محمد،الشافعي  حياته وعصره أراؤه وفقهه، دار الفكر العربي، القاهرة، مصر، 1416ھ/1996ھ. ص124.

[11] - الشكعة، مصطفى، إسلام بلا مذاهب، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، القاهرة، ط5/1976م، ص429.

[12] -  العودات، هيثم مناع‘ ولاية العهد وحق الإنتخاب

http://www.mokarabat.com/mo3-7htm

 [13] - أبو فاس، د/ محمد عبد القادر، النظام السياسى فى الإسلام، درا القرآن الكريم بيروت، لبنان، (بدون رقم الطبعة) 1404ھ /1984م، ص255.

[14] - الشابي، د/على، مباحث في علم الكلام والفلسفة، دار بوسلامة للطباعة والنشر والتوزيع، تونس، ط2/ 1984م،ص73.

 

في المثقف اليوم