تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

دراسات وبحوث

الأبعاد الحقيقية لفتاوي ابن الصلاح وابن تيمية بتحريم المنطق والاشتغال به

محمود محمد عليما زلت علي يقين بأن الجهد الذي قام به الغزالي في سبيل مزج المنطق بالفقه، وبقطع النظر عن قيمته الموضوعية، وبقطع النظر عن مدي تناسق دعوته هذه مع موقفه العام من الفلسفة اليونانية الذي رفض فيه إلهياتها، وجانب من طبيعياتها . في حين أن المنطق مقدمة لهما فهو مشترك معهما في الروح العامة التي تناقض في عمومها الروح الإسلامية في انبنائها علي الإلحاد وميلها إلي التجديد، وبقطع النظر عن ذلك كله، فقد كان له من النجاح في إدخال المنطق إلي حظيرة العلوم الإسلامية ما جعل تاريخ هذا العلم في الثقافة الإسلامية ينقسم إلي عهدين: عهد الرفض الذي بدأ به واستمر بعده، فمنذ أواخر القرن الخامس الهجري اتجه الكثير من مفكري الإسلام علي اختلاف تخصصاتهم إلي دراسة المنطق اليوناني، وخلطوه بأصولهم وتكلموا فيه بما يطول ذكره .

غير أن هذه الغزالية إلي المنطق، وإن حظيت بالقبول الذي يكاد يكون تاماً عند بعض الفئات من المفكرين، المتكلمين، فإنها عند فئات أخري كانت أقل حظا كما يتجلي في موقف الفقهاء .

وسوف أعرض هنا لموقف كل ابن الصلاح وابن تيمية، ليتضح لنا مدي توافق أو اختلاف هذين، وأيها كان مؤيداً، وأيهما كان معارضاً لتوجه الغزالي .

ففي المشرق العربي، نجد دعوة الغزالي قد أحدثت شقاقاً في مواقف الفقهاء بخصوص المنطق، ففريق بقي علي موقف الرفض للمنطق، ولكنه رفض أكثر حدة وأشد شوكه وأصوي تركيزاً من الرفض الذي وقفه الإمام الشافعي من قبل، وكأنما هو رد فعل جاء في قوة الفعل الذي قام به الغزالي .

وقد ابتدأ بجملة نقدية شديدة ضد الغزالي نفسه في مجموع تفكيره، وعلي الأخص من جهة المنطق والتصوف، ثم انجلي فيما يخص المنطق علي مظهرين أثنين:

المظهر الأول:  اتجه فيه الرفض إلي نقد خارجي ظهر في شكل فتاوي بتحريم المنطق والاشتغال به وإدخال في أي علم من العلوم الإسلامية، وذلك باعتبار أنه يناقض الشريعة وأصولها، ويؤدي إلي الخطأ فيها، وقد بلغ هذا التجاه ذروته عند " تقي لدين عثمان بن عبد الرحمن بن الصلاح الشهرزوري (677هـ - 643هـ)، حينما أصدر فتواه الشهيرة بتحريم المنطق والاشتغال به وبالفلسفة تعلماً وتعليماً.

فتساءل: هل أباحه واستباحه الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون والسلف الصالحون؟ وهل يجوز استخدام الاصطلاحات المنطقية أم لا في إثبات الأحكام الشرعية، وهل الأحكام الشرعية مفتقرة إلي ذلك في إثباتها أم لا ؟..

وما الواجب علي من تلبس بتعليمه وتعلمه متظاهراً به ؟ وما الذي يجب علي سلطان الوقت في أمره ؟ وإذا وجد في بعض البلاد شخص من أهل الفلسفة معروف بتعلمها وأقرانها والتصنيف فيها – فهل يجب علي سلطان البلد عزله وكفاية الناس شره؟ .

وقد اجاب ابن الصلاح علي هذا بأن:" المنطق مدخل الفلسفة – والفلسفة شر ومدخل الشر شر وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشرع ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدون والسلف الصالح وسائر ما يقتدي به .

ثم يجيب ابن الصلاح عن النقطة الثانية من السؤال، وهي استخدام الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الفقهية فيقول:" إنها من المنكرات المستشعه والرقاعات المستحدثة، وليس بالأحكام الشرعية افتقار إلي المنطق أصلاً وما يزعمه المنطقي بالمنطق من أمر الحد والبرهان ففقائع قد أغني عنها الله كل صحيح الذهن، ولا سيما من خدم نظريات العلوم الشرعية . ولقد تمت الشريعة وعلومها، وخاض في بحر الحقائق والرقائق علماؤها، حيث لا منطق ولا فلسفة ولا فلاسفة ومن زعم أنه يشتغل مع نفسه المنطق والفلسفة لفائدة يزعمها فقد خدعه الشطان.

وكان من نتيجة هذه الفتوي تحريم النظر في كتب أصول الفقه التي مزجت فيها الأصول بالمنطق مثل:" البرهان " للجويني، و" المستصفي" للغزالي، وغيرهما من الكتب الأصولية الهامة .

وهناك فتوي لابن الصلاح تثبت هذا تمام الإثبات، فقد سئل عن كتاب من كتب الأصول ليس فيه شئ من علم الكلام ولا من المنطق، ولا ما يتعلق بغير أصول الفقه: هل يحرم الاشتغال به أو يكره ؟ وفي الواقع أن المقصود بهذا السؤال هو الجانب السلبي من المسألة، أي عدم إباحة دراسة كتب الأصول الممزوجة بالمنطق . أجاب ابن الصلاح بأن كتب الأصول إذا خلت من منطق أو فلسفة فمن المعلوم دراستها .

ويستطرد ابن الصلاح فيضن فتواه بأن علي ولي الأمر أن يخرج معلمي المنطق الأرسطي من المدارس، وأن يعرضهم علي السيف حتي يستتبوا.

تلك هي عناصر فتوي ابن الصلاح، كان لها من الأثر البالغ في العالم الإسلامي ؛ حيث يأخذ بها كل من خاصموا المنطق والفلسفة بعد ذلك . ومن هؤلاء مثلاً " طاش كبري زاده" ( ت: 962هـ) الذي يقول:" وإياك أن تظن من كلامنا هذا أو تعتقد أن كل ما أطلق عليه اسم العلم، حتي الحكمة المموهة التي اخترعها الفارابي وابن سينا ونقحها نصير الدين الطوسي ممدوحاً، هيهات هيهات .. إن ما خالف الشرع فهو مذموم، ولا سيما طائفة سموا أنفسهم حكماء الإسلام، عكفوا علي دراسة ترهات أهل الضلال وسموها الحكمة، وربما استهجنوا من عدي عنها وهم أعداء الله وأعداء أنبيائه ورسله والمحرفون كلام الشريعة عن مواضيعه .

ومن آثار فتوي ابن الصلاح ما أصاب أحد كبار الأشاعرة وهو " الإمام سيف الدين الآمدي" من جزاء اتهامه بالفلسفة والمنطق، فقد كان واسع الاطلاع في العلوم الدينية والعلوم القديمة علي السواء، وقد نزل في القاهرة وتولي تدريس العلوم الشرعية فيها، ولكن شهرته بالاشتغال بالفلسفة والمنطق قد آذته كثيراً رغم أنه كان لا يدخل شيئاً من العلوم الفلسفية في دراسته، حين اتهم بأنه فاسد العقيدة يقول بالتعطيل، ويذهب مذهب الفلاسفة، وقد كتب بهذا محضر وقع عليه الكثيرون وأعلنوا استباحه دمه، ولكنه فر إلي الشام وقام بالتدريس في مدرسته بدمشق فأتهم به في القاهرة، وعزل من منصبه.

ولقد حرم المنطق علي المسلمين بعد فتوي ابن الصلاح، ولكن اشتغال الغزالي به خفف من أحكام خصومه علي المشتغلين به، فمن ذلك " عبد الوهاب السبكي" (ت: 771هـ)، الذي لم يحل المنطق كلية، بل أتي برأي بين التحليل والتحريم ؛ حيث يقول:" والذي نقوله نحن أنه حرام علي أنه لم ترسخ قواعد الشريعة في قلبه ويمتلئ جوفه من عظمه هذا النبي الكريم وشريعته ويحفظ الكتاب العزير، وشيئا كثيراً جداً من حديث النبي صلي الله عليه وسلم علي طريقة المحدثين، ويعرف من فروع الفقه ما فيه يسمي فقيها مفتياً مشاراً إليه من أهل مذهبه إذا وقعت حادثة فقهية، أن ينظر في الفلسفة، وأما من وصل إلي هذا المقام، فله النظر فيها للرد علي أهلها ولكن بشرطين: أحدهما: أن يثق من نفسه بأنه وصل إلي درجة لا تزعزعها رياح الأباطيل وشبه الأضاليل وأهواء الملاحدة . والثاني: أن لا يمزج كلامهم بكلام علماء الإسلام، فلقد حصل ضرر عظيم علي المسلمين بمزج كلام الحكماء بكلام المتكلمين وأدي الحال إلي طعن المشبهة وغيرهم من رعاع الخلق في أصحابنا وما كان ذلك في زماننا وقبله بيسير منذ نشأ "نصير الدين الطوسي" ومن تبعه لأحياهم الله . فإن قلت: فقد خاض حجة الإسلام الغزالي والإمام فخر الدين الرازي في علوم الفلسفة ودونوهما وخلطوها بكلام المتكلمين فهل لا تنكر عليهما ؟ قلت إن هذين إمامان جليلان ولم يخض واحد منهما ف هذه العلوم، حتي صار قدوة في الدين وضربت الأمثال باسمهما في معرفة علم الكلام علي طريقة أهل السنة والجماعة .. فمن وصل إلي مقامهما لا يلام عليه النظر في الكتب الفلسفية، بل هو مثاب مأجور .

وقد تواصل هذا الاتجاه النقدي حتي وصل إلي " جلال الدين السيوطي" فألف كتابه " صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام" . ويقول في مقدمته:" وقد رأيت أن أصنف كتاباً مبسوطاً في تحريم المنطق علي طريقة الاجتهاد والاستدلال جامعاً مانعاً وبالحق صادعاً" .

ومما يكن من سداد هذه النظرة أو عدم سدادها فيظهر أن سببها كان نفسياً إلي حد كبير، فإن هؤلاء قد تكون لهم حس مرهف بمنهج الفكر الإسلامي القائم علي النظر إلي الواقع والانطلاق منه وذلك بما لهم من كثرة الممارسة للعلوم الشرعية، فلما رأوا هذا المنطق ميالاً إلي التجريد تناقض مع ذلك الحس عندهم ولما رأوه علي شئ من العلاقة بميتافيزيقيا اليونان قام ذلك لديهم مقام الدلالة علي مخالفته للشرع، فأصدروا تلك الفتاوي بتحريمه .

المظهر الثاني: فقد اتجه فيه الرفض إلي نقد داخلي تناول المنطق ذاته، وحلل مسائله وأوضح ما تنطوي عليه من الخطأ والقصور والمغالطات .

وقد بلغ هذا الاتجاه مداه عند الإمام " تقي الدين ابن تيمية " الذي درس المنطق دراسة مستفيضة، وتفطن إلي مواطن الضعف فيه، فألف كتاباً في نقده سماه " نصيحة أهل الإيمان في الرد علي منطق اليونان"  أو " الرد علي المنطقيين " وكتاباً آخر سماه " نقض المنطق "، وفي هذين الكتابين يبين ابن تيمية نقده للمنطق الأرسطي بقوله:" اعلم أنهم بنوا المنطق علي الكلام في الحد ونوعه، وقالوا لأن العلم: إما تصور وإما تصديق . فالطريق الذي ينال به التصور هو الحد، والطريق الذي ينال به التصديق هو القياس، فنقول الكلام في هذا يقع في أربع مقامات: مقامان سالبين، ومقامان موجبين . فالأولان في قولهم: أن التصور لا ينال إلا بالحد . والثاني: أن التصديق لا ينال إلا بالقياس والآخران في أ، الحد يفيد العلم بالتصورات، وان القياس أو البرهان الموصوف يفيد العلم بالتصديقات .

فالمقامان السالبان ينفيان الطرق التي يسلكها غير المناطقة في التوصل إلي التصور والتصديق . ويري ابن تيمية أن: كل هذه الدعاوي كذب في النفي والإثبات فلا ما نفوه من طرق غيرهم كلها باطل ولا ما أثبتوه من طرفهم كلها حق علي الوجه الذي أدعوا فيه .

ثم يبدأ ابن تيمية بنقد كل مقام من هذه المقامات الأربع، ولكن ابن تيمية لا يلتزم ترتيباً معينا في نقد كل من المقام السالب والمقام الموجب للحد والقياس – فمثلاً في نقده للمقام السالب للحد لا يورد شيئا من آرائه الخاصة عن الحد كما يفهمه المسلمون، بل يجعل هذا المقام نقداً حرفياً للحد الأرسطي . وفي المقام الموجب للحد يورد ابن تيمية آرائه عن الحد . ولكنه في المقام السالب للقياس يورد أغلب آرائه عن صور الاستدلال القرآني – ويفرد معظم المقام الموجب في نقد القياس وغيره من صور الاستدلال الأرسطي .

وإلي جانب هذا الفريق الرافض للمنطق وجد فريق آخر من الفقهاء، كان أكثر موضوعية وتعمقاً ؛ حيث رأوا في دعوة الغزالي وجاهة، وميزوا في المنطق بين وجهه المنهجي الصرف، وبين وجهه الميتافيزيقي ؛ فاعتبروه من الوجه الأول ليس فيه ما يخالف الشرع، فاتجهوا إليه بالدراسة، وأفردوه بالتأليف، وأدخلوا في بحوثهم الأصولية والفقهية، وجعلوا مقدمات لكتبهم فيها .

ففي الشام وبخاصة " دمشق "، ظهر الإمام " سراج الدين الأرموي "، الفقيه الشافعي، فألف في أصول الفقه  " التحصيل من المحصول "، وألف في الفقه " شرح الوجيز للغزالي "، وألف في المنطق " بيان الحق " و " مطالع الأنوار " و" المنهاج".

وفي مصر ظهر القاضي الشافعي " أفضل الدين محمد بن ناماورا الخونجي (570هـ - 646هـ)، فألف في المنطق " كشف الأسرار عن غوامض الأفكار" و" الموجز" و" الجمل"، كما ظهر بمصر أيضاً " أبوعمرو جمال الدين عثمان ابن عمرو ابن الحاجب (570هـ - 649هـ) الفقيه المالكي، فألف في الفقه " جامع الأمهات " وفي أصول الفقه " منتهي السول في علمي الأصول والجدل "، وقد قدم لهذا الأخير بمقدمة في المنطق بسط فيها مسائل كلا من قسمي التصور والتصديق .

وظهر بعد ذلك بمصر أيضاً " أبو عبد الله محمد ابن سليمان الكافيجي " (788هـ - 879هـ) الذي انتهت إليه رئاسة الحنفية بمصر، فعمل علي تخريج مسائل الفقه علي قواعد المنطق مما كان سبباً في نزاعات مع أصحاب النزعة الرافضة للمنطق، كما يروي ذلك تلميذه " جلال الدين السيوطي"، إذ يقول:" وقد علم الناس ما كان يقع بين شيخنا المذكور في الخطبة ( يعني الكافيجي)، وبين فقهاء الحنفية من كثرة التنازع والاختلاف في الفتاوي والفقهية – ونسبتهم إياه إلي أنها غير جارية علي قوانين الفقه، وما ذلك إلا لكونه، كان يخرجها علي قواعد الاستدلال المنطقي" .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم