دراسات وبحوث

فلسفة إخوان الصفا في ميزان العقل الثقافي (1)

ميثم الجنابيتقديم: يمثل إخوان الصفا إحدى القوى الفكرية الثقافية العربية الإسلامية الأشد إشكالية. بحيث أثارت وما تزال مختلف الأحكام والتقييمات المتضاربة. وهو أمر يمكن تفسيره بالطابع الانتقائي في (رسائلهم) والتي جرى ملاحظته في الوعي التقدي العربي الإسلامي القديم والمعاصر. وهو أمر مفهوم بالنسبة للثقافة التي نشأت وتطورت بمرجعياتها الخاصة وثقافتها الواحدية. ومن ثم يحتوي هذا النقد على قيمة منهجية مهمة وضرورية لحد ما.

غير أن مضمون الإبداع التاريخي أوسع وأعقد من أن يجري حصره بمعايير المناهج المهيمنة. فهذه هي الأخرى حالة ثقافية عابرة، باستثناء ما فيها من مساع وجهود واجتهاد في البحث عن الحقيقة وتأسيسها في الوعي الثقافي. وهنا تكمن حقيقة المعنى والمضمون التاريخي لإبداع إخوان الصفا. إذ ليس كل انتقائية عديمة الجدوى ومخربة للوعي المتجانس. على العكس، أنها تصبح في ظل شروط وظروف تاريخية ذات أهمية علمية فعالة بالنسبة للإبداع الثقافي. وذلك لأنها تكسر حدود المنهج العقائدي بمنطق التأمل والتوليف الفلسفي. وهي الصفة الجوهرية التي ميزت إبداع إخوان الصفا.

لقد كان إخوان الصفا البوتقة التي جرى فيها ومن خلالها صهر الرؤية المنطقية والعلمية والدينية والعلوم الطبيعية الدقيقة وغير الدقيقة، وأساطير الأمم واجتهادها في كل واحد يرمي إلى جعل الفلسفة والرؤية الفلسفية في متناول الجميع. وبهذا المعنى كان التيار الذي أبدعه وأدخله اخوان الصفا هنا يقوم في التقاطع الحي مع تقاليد الفلسفة الإسلامية العاملة بثنائية العوام والخواص وآثارها المحتملة في قضايا المنهج والعمل والأخلاق.

انه التيار الأول والأكبر في تاريخ الفلسفة ما قبل الحديثة الذي عمل على تأسيس ضرورة التثقيف الفلسفي العام، وإن الفلسفة ضرورية للجميع. وأنها ليست حكرا على الخواص. بل على العكس، إن مهمتها على قدر حقيقتها. بمن ثم فإن قيمتها الجوهرية تقوم في تنوير العقل الفلسفي عند الأمم. بمعنى إن الفلسفة هي البحث العقلي والأنساني عن الحقيقة، وبالتالي، فإن الحقيقة للكل. وقد كانت تلك إحدى أعمق وأهم الانجازات الفلسفية التي أدخلها إخوان الصفا في صلب الثقافة العربية الإسلامية. وفيما لو نجحوا في جعلها "عقيدة" العوام والخواص، لكان بالإمكان توقع مسارا آخرا للتاريخ العربي والإسلامي.

كل ذلك جعل من صيرورتهم التاريخية وكينونتهم الثقافية لغزا هو عين أثرهم التاريخي، وقوتهم المعنوية، وقيمتهم الفلسفية.

إن حقيقة إخوان الصفا لا تقوم في إبداعهم إحدى أعظم الموسوعات الفلسفية والعلمية في الماضي، بل في تأسيسهم للعقل الفلسفي الثقافي العام. وهي مأثرة لا تفقد قيمتها مع مرور الزمن. وقد يكون أثرهم في إرساء أسس ما ادعوه بالاعتدال العقلي والفلسفي الثقافي من بين أكثرها أهمية وجوهرية. من هنا قيمتها للحاضر والمستقبل. إذ لا قيمة تعلو على الاعتدال في الفكر الفلسفي. والاعتدال أشكال وصور ومستويات ونوعيات وظواهر لا تحصى. لكنها جميعا محكومة بحقائق الرؤية المنطقية وتجاربها التاريخية الذاتية.

***

إن بلوغ الوعي النظري العقلي في مجرى القرنين الأوليين للهجرة مستواه المنظومي، وبلوغ الوعي العملي الأخلاقي موقع الجوهر الفاعل في الكلّ  الاجتماعي السياسي للأمة، كما هو الحال عند المعتزلة، يتطابق مع بلوغ الثقافة حدودها الأولية المتسامية. إذ يفترض الوعي في وحدة مكوناته النظرية والعملية ضرورة التحقيق الدائم لمبادئه الكبرى. وبما أن هذه المبادئ قد تجسدت في الجماعة والاعتدال، باعتبارهما المكونين العضويين للوجود الطبيعي (الاجتماعي السياسي) والماوراطبيعي (الأخلاقي  الروحي) للأمة، من هنا كان الرجوع إليهما تهذيبا وتعميقا دائما للوسط والاعتدال. وشق ذلك لنفسه الطريق إلى وحدة الدين والدنيا، والدنيا والآخرة، والعادات والعبادات، والسلف والخلف، والرواية والدراية، والمعقول والمنقول، والاجتهاد والإجماع، والظاهر والباطن، والشريعة والحقيقة، بوصفها مكونات الاعتدال التاريخي والثقافي لعالم الإسلام.

وكانت إشكالية العقل والشرع من بين أكثرها شمولا بفعل تمّثلها النموذجي لوحدة التاريخ والمنطق في صيرورة الثنائيات الكبرى للاعتدال الإسلامي. إذ وّحدت في ذاتها وحلّت الإشكاليات المتراكمة في مجرى صيرورة الإسلام الثقافي للوجود والميتافيزيقيا والمعرفة، كما يمكن العثور عليها وعلى حلها في الإشكاليات المذكورة أعلاه، من خلال تحديد وتقييد كل منها للأخرى. فوحدة الدين والدنيا، والدنيا والآخرة، والعادات والعبادات، والسلف والخلف هي النماذج التي توّحد في كلّها الوجود الاجتماعي السياسي والحقوقي للأمة، بينما شكلت ثنائيات الرواية والدراية، والمعقول والمنقول، والاجتهاد والإجماع نماذج أسلوبها المعرفي. في حين تراكمت في ثنائيات الظاهر والباطن رؤاها الميتافيزيقية والروحية.

وتعادل مساهمة علم الكلام في وضع إشكالية العقل والشرع في ميدان الظاهرية وأساليبها الإدراك النظري والعملي للحدود الجسدية الضرورية للانا والجماعة. فالجماعة لا تستطيع الفعل دون ضوابط، لأنها هي نفسها التجسيد الضروري لهذه الضوابط. وليس مصادفة أن تسود في الرؤية الفقهية عناصر الاستحسان والضرورة، كتعبير عن إدراك الحقيقة القائلة، بان كل خطوة إلى الأمام  في ميدان الحرية تفترض كحد أدنى ملاءمتها لاستحسان الشرع وعقل الضرورة. وهي نتيجة حددت لدرجة كبيرة بناء السيور غير المرئية في الثنائيات الكبرى للوجود الاجتماعي- الثقافي للخلافة في مراحل ازدهارها. مما أسهم في تقييد العقل النظري والعملي بقيود المنطق المنظومي والمنطق الثقافي وتنشيطه في الوقت نفسه ضمن مشاكله ومشاغله الخاصة. وبالتالي ساهم في صنع الإمكانية المتجددة لإبداع قيم الاعتدال.

احتوت هذه الظاهرة في أعماقها أيضا على إمكانية تحّجر الاعتدال وتمذهبه في العقائد. فبالقدر الذي كانت ثنائيات الكلّ الإسلامي تفعل على نسج منظومات الفكر وتقييد "خروجها" عن صراط الجماعة (أو التقاليد التاريخية والروحية للأمة) من خلال إدانة التهور العملي وإنكار قيمة المبادئ الجزئية أيا كانت فضيلتها، فإن خطورتها كانت تقوم في إمكانية دمج هذه الثنائيات في قواعد العقائد لا في تحريرها الدائم من ثقل مذهبية الفِرق (الكلامية).

إن الخطورة تكمن في إمكانية تحويل الاعتدال إلى قواعد العقيدة لا إلى روحه. وهو أمر كان يعيق إمكانية التوليف المجدد للاجتهاد وللإجماع في الاجتهاد.  فمعادلة الإجماع والاجتهاد في مضمونها الثقافي هي الصيغة الأوسع شمولا لفاعلية المرجعيات الفكرية والروحية الكبرى للإسلام، التي تعكس في استتبابها المنطقي (والشكلي أيضا) الإدراك النظري والعملي لمعنى الحدود الثقافية. لذلك لم يؤد الانهماك المتزايد في تنظير الاعتدال إلا إلى تحجرّه. وبالتالي إعاقة إدراك الحقيقة القائلة بأن الاعتدال هو "تثوير حق"، و"منطق خالص"، و"خير أسمى" وليس مجرد قواعد في عقيدة. وحالما جرى وعي مبادئ الإسلام الكبرى وثنائياته الفكرية والروحية في مضمار العقائد الكلامية والفقهية، فإنها أدت بالضرورة إلى تزايد تقنينها وتحجرّها في العرف المذهبي وتقاليد الإجماع الفرقي. وأدت بالنتيجة إلى أن يسيطر في ورعها سوط القانون، وفي رؤيتها السياسية أولوية الضرورة المستحسنة، وفي فكرها مفارقات السفسطة ومنطق الجدل المذهبي الضيق. وتجسّد ذلك بصورة نموذجية في الاشعرية عبر اعتدالها المحافظ في ردها "التاريخي" على "تطرّف" المعتزلة العقلي، وعبر توفيقيتها السلفية ومشروعها الثقافي للأصالة الإسلامية. وليس مصادفة أيضا أن تتعرض إلى ردود تاريخية من الباطنية بمختلف تياراتها، وردود ثقافية من جانب الفلسفة.

فقد كان البديل الفكري العملي للباطنية، كما هو الحال عند إخوان الصفا، الرد التاريخي على الصيغة اللاهوتية المقننة للعقائد. ولكنه رد لم يستطع تجاوز الظاهرية وتوظيفها في نظام مقبول ومعقول للأمة، يستند ويعمل بوحي تقاليدها الخاصة عن وحدة العقل والشرع، والمعقول والمنقول، ولا نفيها الكامل في "باطنية الحق"، كما هو الحال عند المتصوفة. من هنا تراوح الإخوان في الكلّ الثقافي لعالم الإسلام. ومع ذلك استطاعوا في تراوحهم بين الظاهرية والباطنية تجاوز جزئية الثنائية التقليدية للعقل والشرع من خلال إدراجها في رؤية منظومية للبديل الفكري العملي.

أبقى إخوان الصفا على وحدة العقل والشرع من خلال إدراجها في وحدة الفلسفة والشريعة باعتبارها الصيغة الشاملة والتامةّ لجمع الأمة وتوحيدها الجديد. إذ وجدوا في هذه الوحدة العقلية الأخلاقية المرنة أسلوبا لاستعادة حقيقة التوحيد ونبذ الخلاف المذهبي والسياسي. لهذا تناولوا بالشرح والتعليق أسباب الخلافات بشكل عام ونماذجها الكبرى الملموسة في عصرهم بشكل خاص. فتكلموا عن أسباب الاختلاف، والمختلف فيها، ومستويات الاختلاف. وأرجعوا سبب اختلاف البشر إلى كل من تركيب البدن (مزاجه وأخلاطه) والطبيعة والمناخ المحيطين بهم من تراب البلد وتغير أهويته والأزمان التي تنشأ فيه، والعادات والتقاليد والأديان، وكذلك إلى أشكال الفلك ومواضع الكواكب في أصول مواليدهم. وهي أسباب تشكل المقدمة الطبيعية والتاريخية للرؤية الثقافية لا لحقائق الأشياء كما هي. فهي تحدد طبيعة الاختلاف لا نوعيته المعرفية. إذ لنوعية المعرفة قوامها الذاتي في مستويات المعرفة نفسها من الحسيات والمعقولات والإلهيات

إما تنوعها الكمي فيعود، حسب نظر الإخوان، إلى دقة المعاني ولطافتها وخفائها، وإلى تباين فنون الطرق المؤدية إليها، وإلى تفاوت قوى النفس المدركة، أي إلى كل من موضوع المعرفة وأساليبها ومستوى تطورها بذاتها وبقواها(نفوسها). وإذا كان موضوع المعرفة يعكس إشكاليات المحسوس والمعقول، فإن الخلافات المترتبة على مستوى تطور المعرفة تنبع من تفاوت قوى النفس المدركة وهي الحواس الخمس، والقوة المتخيلة والمفكرة والحافظة. فتفاوت إدراك الحواس الخمس لا يستتبع اختلافها في ذواتها، ولكن في اختلاف أحوالها في إدراكها صور المعلومات. أما علة ذلك فتقوم في اختلاف إدراكها في الجودة والرداءة. فكل حاسة من الحواس الخمس تحتاج في إدراك محسوساتها إلى شروط معدودة لا زائدة ولا ناقصة. وأن نقص بعض منها كزيادتها يؤدي إلى إعاقة المعرفة الصحيحة. فالقوة الباصرة، على سبيل المثال، تحتاج في إدراكها المبصرات إلى قدر معين من الضوء والبعد والمحاذاة والوضع. وينطبق هذا بدوره على قوى الحواس الأخرى. ذلك يعني أن لكل حاسة محسوسات مختصة لها بالذات ومحسوسات بالعرض. فإذا كان النور هو الشرط الذاتي(الضروري) للبصر، فإن الألوان عرضية، لأنها من توسط النور والضياء. ومن هنا إمكانية الخطأ في الألوان. وأن تغليب العرضي على الذاتي يؤدي إلى الخطأ والخلاف. وينطبق هذا على قوى النفس الأخرى كالمتخيلة والمتفكرة. فالمتخيلة لها قدرة الجمع والتركيب مما له حقيقة في الهيولي ولا حقيقة له. ولكنها  تعجز عن تخيل شيئ لم تؤد إليه حاسة من الحواس. أما ضعفها فيقوم في جعلها حكم ما تتخيله حكما حقا بلا حجة ولا برهان. وفي حالة عجزها عن تصور شيء، فإنها تنكره دون دليل وبرهان. في حين تختص القوة المفكرة بالفكر والروية والتمييز والتصور والاعتبار والتركيب والتحليل والجمع والقياس البرهاني. أما اشتراكها مع القوى الأخرى فهو عرضي لها لا ذاتي.

وإذا كانت قيمة الخلافات المتعلقة بدقة ولطافة المعاني وبقوى النفس تعّبر عن أطراف المعرفة، فإن "فنون الطرق المؤدية" إليها هو الوسط الذي تنعكس فيه حقيقة الخلافات الفكرية الكبرى بسبب تمثلّه إشكالية الذاتي والعرضي في الحس والإدراك العقلي، باعتبارها إشكالية الأصل والفرع  في أساليب المعرفة نفسها. وإذا كان تركيز الإخوان منصبا على القياس، باعتباره أكثر المصادر إثارة للاختلاف في الأفكار والديانات، فلأنهم وجدوا فيه الطريق الأكبر لمعارف الإنسان وعلمه. فالقياس هو الحكم على الأمور الكليات الغائبات بصفات قد أدركت جميعها في بعض جزئياتها. وهي أنواع مختلفة بحسب أصول الصنائع والعلوم وقوانينها. إلا أن كثرتها لا تخرجها عن ثلاثة أنواع وهي ما يستعمل بالأيدي كالقبان والشاهين والمكاييل، وما يستعمل باللسان، كالعروض التي يستعملها الشعراء والخطباء والموسيقيين، وما يستعمل بالضمير من جانب الفقهاء والحكماء وغيرهم عند تفكرهم بالمعلومات المحسوسات والمشاهدات واستخراجهم الخفيات المعقولات وصحة القياسات في إدراك المبرهنات. فالقياسات إذن، هي طرقات أو مناهج إلى المعلومات وموازين يجري التحاكم إليها في طلب العدل والإنصاف والحقائق والاستواء وتجنب الزور والخطأ والظلم والجور ورفع الخلاف والمنازعة . أنها تمثل في ذاتها حقائق العدل واليقين المعرفي والاجتماعي والأخلاقي. إذ اعتبروا القياسات بحد ذاتها صادقة وقادرة على بلوغ الحقيقة لولا ما يجري فيها من الخطأ بفعل الغش والسهو والجهل واعوجاج القياس . إن الخطأ لا فيها، كما لا يعني ذلك تلقائيتها في حل الخلافات. وإذا كان الغش والسهو والجهل من تسيب النفس في الاجتماع والعلم، فإن اعوجاج القياس هو الابتعاد عن الصدق فيه، أو الابتعاد عن القياس بوصفه ميزانا صائبا للمعرفة. لذا تناولوا بالدراسة والتحليل ما أسموه "بالاعوجاج من القياس الحق في الآراء الحكمية والاعتقادية".

لقد أرادوا القول، بأن الجميع تسعى إلى إدراك الحقيقة، غير أن كلا منهم يصل إليها بما هو ميسر له في قوى نفسه. لهذا تباينت درجات الحق والحقيقة في آرائهم وأحكامهم. إنهم سعوا لتأسيس موضوعية الحقيقة في القياس وقياسها المتنوع والمختلف في الاجتهادات. لهذا نظروا إلى الاختلافات في الاعتقادات نظرتهم إلى محاولات متنوعة لإدراك حقائق الوجود وعللها. فالثنوية، على سبيل المثال، لم تعد شركا وإلحادا، بل اعتقادا ناتجا عن رؤية تعدد العلل في الوجود من  خير و شر ونور وظلام. والاختلاف في ماهية العقل هو اختلاف حول العقل المكتسب لا العقل باعتباره أشرف الموجودات. وبالتالي، فإن الاختلاف فيه ناتج عن تباين المراتب في  درجاته . وهي نظرات تعكس بما في ذلك، توجههم الإنساني الرفيع وانفتاحهم العقلاني ومعارضتهم للاستبداد الفكري تحت أي  فكرة أو شعار كان. وهو موقف نعثر عليه أيضا في استفاضتهم عن اختلافات القياس. أنهم أسسوا لقيمة البحث عن الحقيقة. وجعلوا بالتالي من كل اقتراب أو بعد عنها مجرد اجتهاد. ولم يتناولوا هذه القضية ضمن معايير المنطق الخالص فحسب، بل وربطوها بالمصالح الاجتماعية والفضائل الأخلاقية.

***

فعندما تناول إخوان الصفا مسألة الاختلاف في ماهية الهيولي، نراهم يشيرون إلى أن الاختلاف فيه يتراوح بين من يعتقد أنها أجزاء صغيرة لا تتجزأ مختلفة الكيفيات (نارية وترابية وهوائية) تشكل في اختلاطها وتألفها الكائنات من معادن ونبات وحيوان وأفلاك، ومن يرى أنها أجزاء متماثلة يسد بعضها مسد بعض، وأن تأليفها وتشكيلها واختلاطها يؤدي إلى أعراض وكيفيات وهيئات وصفات وألوان وطعوم وروائح. ومن يعتقد أن الهيولي جوهر بسيط روحاني معّرى عن جميع الكيفيات قابل لها على النظام والترتيب . وقد وجد الإخوان في هذا التسلسل المعروض للآراء درجات في الاقتراب من الحقيقة. وحاولوا تفسير أسباب الاختلاف في القياس انطلاقا من أن الرأي الأول مبني على قياسهم هيولي الصناعة من نجارة وفلاحة وموسيقى وعقاقير وأصباغ، بينما الثاني يتبع رؤيتهم اختلاف أسمائها وأفعالها كتنوع الآلات واستعمالاتها مثل السكين والمنشار وأدوات الطبخ وغيرها من الحديد. وهي خلافات استتبعت إشكالية العلة النهائية والغاية (الغائية). كما أنها ظهرت من تنوع الرؤية في استعمال القياس. فمن تأمل أفعال البشر وجد لكل فعل مقصد وغاية. ومن هنا ظهور القائل بعلة واحدة ومن قائل بتعدد العلل. واختلف من قال بعلة واحدة بين قائل بأنها إرادة الله ومشيئته ومن قائل بأنها علمه فقط. وتنوعت اختلافاتهم وتفرعت . وينطبق هذا على اختلاف الاعتقادات بماهية الخير والشر. فمن يقول بعرضيتها في العالم، ومن يقول بذاتيتها. والأوائل ينقسمون إلى من يقول بأنها قديمة وعادمة للصور والأشكال والكيفية، ومن يقول أن المقصود بالشر هو عدم الخيرات عن الهيولي ونقصانها منه. لأنه لو تركت لحالها لأدى ذلك إلى رجوعها إلى حالاتها الأولى، ومن ثم إبطال نظام العالم واضمحلال وجود الخلائق. أما قياسهم في ذلك فيعود إلى سيادة النظرة الجزئية. إذ وجدوا في الموجودات الجزئية من عالم الكون والفساد (الصيرورة والانحلال) والصناعات البشرية أشكالها ونماذجها الملموسة . واختلفوا في قياساتهم لقضايا الجبر والقدر، وأحكام النجوم والوعد والوعيد والذات والصفات (الإلهية) .

إن استعراض الإخوان وتحليلهم لاختلافات الفكر والاعتقادات يتضمن في أعماقه محاولة بناء نظام الشروط الضرورية للمعرفة الحقة. إذ للمعرفة الحقة، كما يقول الأخوان مقدماتها في أصول العلوم نفسها. فلكل علم وأدب وصناعة ومذهب أهلا، ولأهلها فيه أصولا فيها متفقون في أوائل عقولهم ولا يختلفون فيها. وأن كانت عند غيرهم بخلاف ذلك. وأن لتلك الأصول فروعا هم فيها مختلفون .  ففي الحساب ماهية العدد وكيفية نشوئه من الواحد، وفي الهندسة المقادير والأبعاد الثلاثة وهي الخط والسطح والجسم، والطول والعرض والعمق، وفي الموسيقى معرفة النسب وفي الطبيعيات معرفة الهيولي والصورة والمكان والزمان والحركة . لقد أراد الإخوان بناء الصيغة المثلى لحقائق المعرفة الحسية والعقلية من خلال ترتيب ما هو ذاتي وما هو عرضي في الحس والإدراك بحيث ترتقي إلى مستوى الأصل والفرع  في المنهج أو الطرق والفنون، وفي العلم (المعرفة). أنهم حالوا التأسيس للأصول الذاتية (الجوهرية) في المعرفة وأساليبها وفسحوا المجال أمام الإمكانية الدائمة للخلاف في الفروع. لقد انطلقوا من انه "ليس على العقلاء كثير عيب في مخالفة بعضهم بعضا" وانه "عسير جدا اجتماع العقلاء على رأي واحد كلهم في شيئ واحد. إنما يتفقون في الأصول ويختلفون في الفروع" . إضافة لذلك أنهم وجدوا في الاختلاف قيمة علمية هائلة بالنسبة لتعميق وتدقيق المعرفة وشحذ العقل النظري (المنطقي) والعملي (الأخلاقي). إذ وجدوا فيه أيضا فوائدا كثيرة مثل طلب الحجة، وغوص النفوس في طلب المعاني الدقيقة، ووضع القياسات، واتساع المعارف، واليقظة الدائمة، والنقد المثير لانتباه النفس لكسب الفضيلة والصلاح .

لم يكن تأسيس أصول الفكر الأعم ووضعها في إطار معقول ومقبول للجميع فعلا نظريا خالصا فحسب، بل وعمليا أخلاقيا أيضا، لأنه يهدف إلى إعادة ترسيخ  قيمة الوحدة الاجتماعية الروحية للأمة. لهذا استعرضوا ما أسموه بالآراء الفاسدة كالقول بأن العالم قديم لا صانع له ولا مدبر، والقول بأن للعالم صانعين، وإنكار الثواب والعقاب، والاعتقاد بأن الله هو روح القدس الذي قتلته اليهود وصلبت ناسوته، والاعتقاد بأن الإمام الفاضل المنتظر الهادي مختف لا يظهر من خوف المخالفين، والترخيص في الشبهات والإباحية، وإيمان القسوة القائل بأن الله يعذب عبيده، والحسية المفرطة (الحشوية) واعتقاد الأمر إيمانا وإنكاره عقلا. وأكثر من ذلك الجدل المميز لمن أسموهم بعلماء السوء، أي"أولئك الذين يخوضون في المعقولات ولا يعلمون في الحسيات، ويتعاطون البراهين والقياسات ولا يحسنون الرياضيات، ويتكلمون في الإلهيات ويجهلون الطبيعيات، ويناقشون أمورا لا تفيد الدين في العلم والعمل، ولا تنتج حكمة ويضيعون الوقت في أمور لا تحدث ولا توجد ولا قيمة لها" .

إن مطابقة "الآراء الفاسدة" مع آراء أهل الغلوّ في الفرق والأديان بصدد قضايا الإلهيات والاجتماع والسياسة والأخلاق، يهدف في منظومتهم الفكرية إلى عقلنة شريعة الاعتدال. فعندما تناول الإخوان اختلافات الفكر  في العلوم الدينية والدنيوية، فإنهم أعاروا الاهتمام إلى ما في العلوم الدينية من آثار  للجدل والخلاف، بسبب تآلف واختلاط الوحدة أو الشقاق فيها. وعندما قسموها إلى علوم حكمية ونبوية، فإنهم أعاروا اهتمامهم إلى الأولى من خلال تحديدهم ماهية الدين أشاروا إلى أن الأصل فيه هو الاعتقاد في الضمير والسر، والفرع فيه وهو القول والعمل في الجهر والإعلان . أما الاعتقاد (الأصل) فينقسم إلى ثلاثة أنواع للخاصة والعامة وللجميع. وأفضلها ما هو شامل للجميع، أي توليف الأصل والفرع  في الرؤية، أو الاعتقاد والعمل بالشكل الذي يخدم وحدة الكل الاجتماعي الروحي للأمة. فالركن الأول من الاعتقاد هو ليس الإيمان التقليدي، بل الإيمان الذي يناسب الجميع، أي الخاصة والعامة. وقد حّده الإخوان "بالاستبصار والمشاهدة بعين البصيرة واليقين بالقلب الصافي من الشوائب للنفس الزكية التقية من الذنب، بعد تأمل شديد للمحسوسات ودقة نظر في المعقولات ودراية بالرياضيات وبحث عن القياسات كما فعلت القدماء الحكماء والموحدون الربانيون، وإقرار باللسان وإيمان بالقلب وتسليم بالقول كإقرار الأنبياء للملائكة وحيا وإنباء، أو كإقرار المؤمنين للأنبياء إيمانا وتسليما". أما الركن الثاني فهو الطاعة، أو الانقياد من المأمورين والمرءوسين للآمرين والناهيين .

وليست وحدة الاعتقاد والطاعة سوى الصيغة النظرية لوحدة ما دعاه الإخوان بصفاء النفس واستقامة الطريق، باعتبارها أسلوب تجسيد البديل الفكري العملي الذي أوجزوه في كل من ضرورة العمل بأحكام الشريعة ووصايا الأنبياء وإشارات الحكماء، وترك الخصومات والأخلاق الردية، واجتناب الآراء الفاسدة، وتعلم العلم الحكمي والشرعي والرياضي والطبيعي والإلهي . ووضعوا في صفاء النفس الرجوع إلى جوهرها الأول وفطرتها وروحانيتها. وانطلقوا من أن مثلها في إدراك صور الموجودات الحسية والعقلية كمثل المرآة، كلما كانت أكثر صفاء واعتدالا كلما كانت أكثر سلامة في عكس صور الموجودات، وانه لا طريق لإزالة الصدأ عنها إلا بإزالة حجاب الجهل. أما اعوجاجها فبسبب تمسكها بالآراء الفاسدة . لهذا قالوا، بأن اقرب الطرقات التي لا عوائق فيها وأسلمها لبلوغ هذه الغاية هو ترك المجادلة في الإلهيات إلا بعد تصفية القلب، ثم الاعتماد على الإلهام الشخصي وتفاسير الأولياء وألسنة الحكماء .

لقد حالوا بناء منظومة مترابطة للأصول والفروع النظرية والعملية في المحسوسات والإلهيات عبر تأسيسها المعقول في وحدة أركان الاعتقاد وتجسيدها المقبول في وحدة أساليب صفاء النفس واستقامة الطريق. ولم  يجدوا في أمرهم هذا، كما يقولون،"رأيا مستحدثا، بل هو رأي قديم قد سبق إليه الحكماء والفلاسفة الفضلاء، وهو طريق سلكه الأنبياء، ومذهب مضى عليه خلفاء الأنبياء والأئمة المهديون" . أنهم أرادوا توحيد وتوليف الكل الثقافي الإنساني في نظام بديل عبّروا عنه رمزا في قولهم: "كنا في كهف أبينا آدم مدة من الزمان تتقلب بنا تصاريف الزمان ونوائب الحدثان حتى جاء وقت الميعاد بعد تفرق في البلاد في مملكة الناموس الأكبر وشاهدنا مدينتنا الروحانية المرتفعة في الهواء" . وهي رؤية حددت سلوكهم النظري والعملي من خلال وحدة الأصول والفروع في أركان العقيدة وأساليبها في ما أسموه بضرورة ركوب السفينة التي بناها نوح للنجاة من طوفان الطبيعة للسلام من أمواج الهيولي ورؤية ملكوت السموات كما رآها إبراهيم، وتتميم الميعاد والمجيء إلى الميقات لقضاء الأمر كما فعل موسى، والعمل لكي ينفخ الروح في الروح حتى يمكن رؤية يسوع عن ميمنة عرش الرب، والخروج عن ظلمة اهرمن لأجل رؤية اليزدان قد اشرق في فسحة افريحون، والدخول إلى هيكل عاديمون من اجل رؤية الأفلاك التي يحيكها أفلاطون، والرقود من أول ليلة القدر من اجل رؤية المعراج مع طلوع الفجر .

إنهم أرادوا تمّثل الكلّ الثقافي التاريخي من خلال تمثيلهم للبعد الروحي في التجربة الإنسانية. لهذا جعلوا من شريعة الأنبياء وسلوكهم، وعقل الحكماء وألسنتهم الوحدة الضرورية للبديل الفكري العملي باعتباره التمثل الأصدق للاعتدال المبدع. ووجدوا في وحدة الدين والفلسفة الصيغة المناسبة لتجاوز ثنائية العقل والشرع العادية، والصيغة المثلى للأبعاد الإنسانية في منظومتهم الفكرية. إذ استجابت لمتطلبات ما أسميته بتمّثل وتمثيل الكلّ الثقافي العالمي. من هنا إشاراتهم المتكررة إلى أن استشهادهم بأقاويل الفلاسفة ووصاياهم، وأفعال الأنبياء وسنن  شرائعهم بسبب وجود "أقوام متفلسفين لا يعرفون من الفلسفة إلا أسمها، وأقوام من الشرعيين لا يعرفون من أسرار الشريعة إلا رسومها، يتصدرون ويتكلمون فيها بما لا يحسنون، ويناظرون فيمالا يدرون ويناقضون تارة الفلسفة بالشريعة، وتارة الشريعة بالفلسفة فيقعون في الحيرة والشك، فيضلّون ويضلّون" .

 

ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم