دراسات وبحوث

ابن هشام.. عميد النحو التعليمي

محمود محمد عليامتاز ابن هشام بأسلوبه التعليمي الذي عبر عنه في تقديمه لكتابه "المعني"، إذ قال: "وها أنا بائح بم أسررته، مقيد لما قررته، مقرب فوائد للأفهام، واضع فرائده علي طرف الثمام، لينالها الطلاب بأدني إلمام". لهذا اختلفت أساليب التعريف عنده باختلاف مؤلفاته، فوجدته يتناول المصطلح بالشرح والتحليل والتفسير سالكاً عدة أساليب، متخذاً من تعريفه المصطلح مفتاحاً لشرحه، وبيان أحكامه؛ كل ذلك حرص منه علي إيصال ما يريده إلي ذهن المتلقي، بل هو يضع الكتاب مجملاً، ثم يضع شرحاً عليه مفصلاً، كما في قطر الندي وشرحه، وشذور الذهب وشرحه .

وهو حينما يضع مصنفاته يتدرج بها من السهل إلي الأصعب، أو من الجزء إلي الكل، ففي "قطر الندي" و"شذور الذهب "، يبدأ بتعريف الكلمة، لأنها أصغر وحدة تؤدي معني مستقلاً في ذاتها، ثم ينتقل إلي أقسامها واقفاً عند كل قسم مُعرفاً له بخصائصه التي ينماز بها عن غيره كما هو الحال في تعريف الاسم والفعل .

ومع تعدد أساليبه في تعريف المصطلح النحوي غير أن أبرز أسلوبين من أساليب تعريفه: هما التعريف بالعامل، والتعريف بالمعني، مدعماً كل منهما بالمثال أو الأمثلة تعزيزاً لهدفه التعليمي . وسأناقش مثالين من تعريفه المبتدأ، وثانيهما تعريفه ليت . عرف ابن هشام المبتدأ بأنه:" الاسم المجرد من العوامل اللفظية للإستاد .

ويلحظ أن محور هذا التعريف يستند إلي العامل النحوي، فتجرد الاسم من العوامل اللفظية هو الميزة الكبري للمبتدأ فالأسماء التي تشترك في الرفع هي المبتدأ والخبر والفاعل ونائبه، واسم كان وخبر إن، وخبر لا النافية للجنس، واسم الأدوات التي تعمل عمل ليس، وقد استطاع ابن هشام أن يخرج كل هذه المدخلات بقوله: المجرد من العوامل اللفظية " ؛ لأن هذه المرفوعات إلا المبتدأ رفعت بعامل لفظي ألا وهو الفعل في الفاعل ونائبه واسم كان، وعمل عمله في خبر إن، وما حُمل علي ليس – في خبر (ما) و(إن) و(لا) و (لات) العاملة عملها، وقوله للإسناد محور جزئي ثان يراد به ( الموقعية)؛ فالاسناد كون المبتدأ مسنداً كما هو في مثاله (زيد قائم) أو كون المبتدأ مسندأ كما هو في مثاله الآخر: ( أقائم الزيدان) (25). ولم يكن ابن هشام ليلقي التعريف، ثم ينتقل إلي أحكام المعرف دون شرحه التعريف، موضحاً كل عبارة فيه بالمثال ؛ فعندما ذكر لفظ (المجرد) في تعريفه السابق – شرحه بقوله:" وخرج بالمجرد نحو (زيد) في (كان زيد عالماً) ، فلسان حال هذا المثال يقول: الاسم المرفوع الواقع بعد كان ليس مبتدأ إنما هو اسم كان ؛ لتقدم عامل لفظي عليه . ولم يخرج هذا المثال اسم كان فحسب إنما أخرج كل ما تقدمه عامل لفظي مما ذكرت أتفاً كالفاعل ونائبه . ثم يسوق مثالاً آخر مصوراً فيه ما ليس فيه إسناد، وهي الأعداد المفردة: (واحد، واثنان، ثلاثة) ثم يشرح ذلك بالكلمات:" فإنها وإن تجردت لكن لا إسناد فيها " .

والنموذج السابق عند ابن هشام يكاد ينسحب علي تعريفه المصطلحات كلها كالمرفوعات والمنصوبات والمجرورات .

والمدقق في التعريف السابق عند ابن هشام يري أن كل تركيب أو عبارة جاءت تخصيصاً للمعرف بحيث لا يقع التعريف إلا عليه . فيقدر ما يحدث انزياح في التعريف إلي اليسار بقدر ما تتضح صورة المعرف في الذهن أكثر بحيث لا يشترك معه غيره . وواضح أن المبتدأ انتهي تعريفه عند قوله: (للإسناد) أي بالعمل والموقع غير أن ما جاءت به من أمثله زادت المعرف توضيحاً .

ونأخذ أنموذج آخر من التعريف عند ابن هشام هو تعريفه (ليت) إذ قال:" ليت حرف لمن يتعلق بالمستحيل غالباً كقوله:

فيا ليت الشباب يعود يوماً      فأخبره بما فعل المشيب .

وبالممكن قليلاً، وحكمه أن ينصب الاسم ويرفع خبره، الاسم الذي انبني عليه لتعريف السابق هو (المعني) إذ كشف لنا معني (ليت)، وهو التمني فيما لا يتوقع حصوله في كثر استعمالاتها أو فيما يتوقع حصوله مقيداً المعني الأول بالغلبة ومقيداً المعني الثاني بالقلة . لما كان المعني الأول شائعاً في ليت دلل عليه بقول الشاعر:" فيا ليت ... البيت " فالشباب لا يعود قطعاً، فجاء المثال معبراً عن المعني الأول الذي تأتي عليه (ليت) تعبيراً دقيقاً لا يتبادر إلي الذهن غيره . ثم يشمل التعريف محوراً آخر هو (الحكم) بقوله:" وحكمه أن ينصب الاسم يرفع الخبر"؛ وبالحكم تنكشف حقيقتان لـ (ليت) الأولي: أنها تدخل علي الجملة الأسمية، الثانية: كونها تنصب ما أصله المبتدأ ويسمي اسمها، وترفع ما أصله الخبر ويسمي خبرها .ويكثر هذا النمط من التعريف عند ابن هشام في تعامله مع الأدوات النحوية .

وقل أن يتخذ التعريف الواحد شكلاً واحداً عند ابن هشام ؛ فالتعريف بالمثال – مثلاً- يكاد يرد مع كل تعريف أياً كان أسلوبه متصلاً به، موضحاً له، بحيث يجعل المتعلم أكثر تصوراً لحقيقة المعرف . وهذا النوع من التعريف – أعمي التعريف بالمثال – ينسجم مع المنهج التعليمي الذي اختطه ابن هشام لنفسه، وهو يقدم المادة التعليمية لتلاميذه .

وربما حدث انزياح في معاني الألفاظ المستعملة في شرحه التعريف – نحو المنطق مستعيراً بعض هذا الألفاظ، التي أصبحت كأنها في النحو من أصله كالجنس والفصل والنوع والقضايا الصغرى والقضايا الكبرى، والعموم والخصوص الوجهي، والمعروض والعرض، والماصدق والمفهوم، والمادة والصورة، والاجتماع والإنفراد، ومنع الجمع ومنع الخو، والماهية الذهنية والتشخيص الخارجي، والتقييد والإطلاق، والموضوع والمحمول، واللازم والملزوم، والموجود والمعدوم، والقوة، والفعل – فينقطع التواصل بينه وبين المتعلم أو يكاد . مثال ذلك ما جاء ما جاء في تعليقه علي تعريف ابن مالك الحال، قال:" وفي هذا الحد نظر؛ لأن النصب حكم، والحكم فرع التصور، والتصور متوقف علي الحد، فجاء الدور ".

وحين عرض ابن هشام لبعض الأدوات التي لها صلة بالقضايا المنطقية لم يغفل النظر في علاقة الأداة بالمعني ناقداً أحياناً ما أستقر عله الأمر عند المعربين – وذلك لأن النحاة قبل عصر ابن هشام – ما كانوا أو ما كان أكثرهم يعنون بالعلاقة القائمة بين الأداة والمعني العام الذي جاء به نص وردت فيه هذه الأداة، وإذا كان المنطق الأرسطي في جملة أمره يعني بـ" الصورة" أو " الشكل" أكثر من المادة أو المضمون، فإن معظم النحاة في تحليل بعض هذه الأدوات ما كان ليهمهم غير الموقع الإعرابي أو عملية الربط بين جملتين وهو ما يسمي بالقضية الشرطية عند المناطقة .

ونلاحظ أن ابن هشام قسم مكاناً لمستعمل هذه الأدوات من حيث حكمه علي صحة المعني أو فساده بناء علي ما استقر عليه عند سابقيه أو معاصريه، ومن ذلك حديثه عن عموم السلب وسلب العموم، وهو كل جملة سبقت بنفي سلط علي فكرة، والقضية في جملة أمرها عامة، ولكنه حين تصدي لبعض الآيات التي وردت في القرآن الكريم، أحس بأن هذا الأصل لا يمكن أن يطبق عليها كما في قوله تعالي "والله لا يحب مختال فخور" فإنا لو طبقنا هذا الأصل، لكان المعني غير صحيح، أو دقيق مع أن النص لا شبهة فيه .

كذلك يعني ابن هشام بالمنطق، ونلحظ ذلك بينا في حديثه عن (إن) الشرطية إذا دخلت علي زمن مضي أو مستقبل، وإن الشرط دائماً لما سيكون، فإذا قلنا مثلاً، " إن زارنا محمد أكرمناه" فإن الزيارة ستكون في المستقبل والذي حول هذا الماضي إلي المستقبل ليس (إن) وحدها، وإنما صيغة التعبير وما يحدث في دنيا المستعملين للغة وليست (إن) هنا إلا دالة علي ذلك .

وقد يظهر أثر المنطق في عرض الآراء التي ينسبها إلي نحاة ولغويين من مذاهب واتجاهات مختلفة ثم في مناقشتها والرد عليها وتعليلها، وكذلك في الحدود والتعريفات التي يذكرها في تعريفه عن بعض الأدوات، يقول في (أل) الجنسية : وهي إما لاستغرق الأفراد، وهي التي تخلفها "كل" حقيقة، أو لا ستغرق خصائص الأفراد وهي التي تخلفها " كل" مجازاً أو لتعريف الماهية وهي التي لا تخلفها "كل" لا حقيقة ولا مجازاً نحو "وجعلنا من الماء كل شئ حي" . وقولك:" والله لا أتزوج النساء " أو "لا ألبس الثياب" ولهذا يقع الحنث بالواحد منهما، وبعضهم يقول في هذه إنها لتعريف العهد، لإإن الأجناس أمور معهودة في الأذهان متميز بعضها عن بعض ويقسم المعهود إلي شخص وجنس .

وفي القرنيين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين وجدت أفكار ابن هشام صدي كبير لدي محمد بن علي المعروف بالصبان (ت: 1206ه – 1719هـ) من أبرز النحاة الذين يمثلون هذه المرحلة . فقد جاءت حاشيته علي شرح الأشموني (ت: 929ه 1522هـ) التي طارت شهرتها في الأفاق حاوية كما هائلاً مما كتبه الشراح من تعليقات وشروح وتأويلات علي شرح الأشموني .

ويحاكم الصبان تعريف المصطلح النحوي محاكمة منطقية علي غرار ابن هشام؛ فالتعريف المثالي هو التعريف الذي يتمثل شروط الحد في علم المنطق، فلا يشذ عن شئ منها، فضلاً عما يورده من آراء النحاة السابقين المتعلقة بالتعريف الذي يناقشه، ولا سيما تعليقات شيخه "الحفني" المتوفي 1181هـ وهو يحمل مادة واسعة من خلافات النحاة يكمل بها ما ذكره الأشموني في شرحه .

ولا يفوت الصبان في تعليقاته علي تعريف المصطلح النحوي أن يعرض لآراء النحاة، ولا سيما معاصريه كعرضه لرأي أستاذه الحفني ولرأي الروداني المتوفي 1094هـ . وكذلك عرضه لرأي أحد المتقدمين أعني الرضي الإسترآبادي المتوفي سنة 686هـ .

ومما جاء في تعليقاته علي شرح المصطلح النحوي قوله: اعتراضه شيخنا السيد (أ) اعترض ماله الأشموني في تعريف الكلام من كون الحدود لا تتم بدلالة الإلتزام) بأن الظاهر أن التركيب والقصد داخلان في مفهوم (المفيد)، فدلالته عليهما تضمينية لا التزامية، والتضمنية غير مهجورة في الحدود، ولو سلم أنها إلتزامية فهجرها إنما هو في الحدود الحقيقية التي بالذاتيات، ومثل هذا التعريف ليس منها بل من الرسوم". فواضح أن تعليقاته علي شرح التعريف عند الأشموني إنما هي تعليقات مستمدة من المنطق وشروط الحد فيه . ويجد الناظر في حاشية الصبان أن التعليق علي التعريف ليس تعليقاً علي تعريف نحوي بقدر ما يكون تعليقاً علي تعريف منطقي، مما يشير إلي أن صنعة المنطق كادت تغلب صنعة النحو عند الصبان .

كما وجدت أفكار ابن هشام النحوية صدي كبير أيضا لدي ابن الناظم ؛ حيث يعد شرح ابن الناظم علي ألفية والده أهم كتاب نحوي أودعه عصارة جهوده الدراسية في عدد من العلوم التي ألم بها، وهذا الشرح امتاز بالطابع المنطقي، فقد وصفه المقري بأنه غاية في الإغلاق، ويتسم شرح ابن الناظم بالتأثر الشديد بالمعارف المنطقية التي غلبت علي شرحه، وكانت هي السمة الغالبة علي علماء عصره، فانعكس علي مؤلفاتهم النحوية واللغوية، بالإضافة إلي الأسلوب الفلسفي الذي صاغ به الشرح، ولهذا كثرت عليه الحواشي والشروح والتعليقات .

كان ابن الناظم أول من شرح لا مية أبيه متأثرا بابن هشام، وبذلك مهد السبيل لشارحيها بعده، ولم يحظ هذا الشرح بما حظي به شرحه علي ألفية أبيه من مكانة عند الدارسين، وقد تعقب ابن الناظم أباه وربما حمله التعقب علي الإتيان ببيت بدل بيت الناظم، إلا أن شراح الألفية بعده تصدوا للرد عليه بما جعل حملاته علي والده الناظم طائشة . وقد وردت في شرحه بعض شواهد محرفة نقلها عنه من بعده وربما شاق شعر المحدثين استدلالا، وقد كان شرحه مغلقاً لذلك كثرت الحواشي فيه . وعلي الرغم من ذلك فإنه في عموم شرحه، كان سهل العبارة قريب المأخذ نال عناية فائقة من العرب والمستشرقين فنشروه، وكتبوا عنه خاصة بروكلمان في كتابه .

كان الطابع المنطقي من أهم معالم دراسات ابن الناظم النحوية التي اكتسبت الصبغة المنطقية، وكان من مظاهرها ذكره لكثير من المصطلحات المنطقية واستخدامه لكثير من أساليب المناطقة في الاستدلال علي صحة ما يذهب إليه من التراكيب المنطقية التي شاعت في دراساته النحوية لفظ بالقوة ولفظ بالفعل ، وبين الكلام والكلام عموم من جهة الخصوص .

ولذلك كانت حدوده النحوية ذات طابع منطقي، اتسمت بكونها جامعة مانعة، وأنه كان كلفاً بها منذ مراحل دراساته النحوية الأولي . وهذه الظاهرة شاخصة في شرحه علي الألفية: قال في حد الكلمة:" والمراد بالكلمة: لفظ بالقوة، أو لفظ بالفعل، مستقل، دال بجمله علي معني مفرد بالوضع . وبالقوة مدخل للضمير في نحو أفعل، وتفعل، "ولفظ بالفعل " مدخل لنحو زيد في قام زيد "ومستقل" مخرج للأبعاض الدالة علي معني، كألف المفاعلة، وحروف المضارعة و" دال " معمم لما دلالته ثابتة، كرجل، ولما دلالته ذائلة، كأحد جزأي امرئ القيس، لأنه كلمة ولذلك أعرب بإعرابين كل علي حدة، ويجملته مخرج للمركب، كغلام زيد فإنه دال بجزأيه علي جزأي معناه، وبالوضع مخرج للمهمل، ولما دلالته عقلية، كدلالة اللفظ علي حال اللافظ به .

وعرض مسألة أقسام الكلمة في اللغة العربية عرضاً منطقياً لا تجده إلا عند ابن الحاجب فقال: " الكلمة أما أن يصح أن تكون ركناً للإسناد أو لا، الثاني الحرف، والأول: أما أن يصح أن يسند إليه، أو لا الثاني بالفعل ؛ والأول الاسم وقد ظهر من هذا انحصار الكلمة في ثلاثة أقسام ".

أخذ ابن الناظم قوله في أقسام الكلمة من ابن الحاجب، فقال:"الكلمة لفظ وضع لمعني مفرد،وهي اسم وفعل وحرف، لأنها أما أن تدل علي معني في نفسها أو لا الثاني الحرف، والأول إما أن يقترن بأحد الأزمنة الثلاثة أو لا الثاني: الاسم، والأول الفعل، وقد علم بذلك حد كل واحد منها .بهذا الأسلوب المنطقي عرض ابن النظام كثيراً من المسائل النحوية .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم