دراسات وبحوث

الكمال الأخلاقي ومدارج الخلود بين محدودية الوجود الأنساني واللامتناهية في الوجود الكوني (1)

اكرم جلالإنّ التدبّر المعمّق في الحقيقة الكونية للأديان السماوية وحتى الوضعية منها، باستخدام السياقات العلمية المعاصرة في البحث الموضوعي، يقتضي عدم التردد في تناول مسائل جوهرية من أجل بناء رؤية فلسفية تنويرية للقضايا الكبرى والمحطات المفصلية التي تندرج ضمن اطار الحداثة والتنوير في العقل الديني، وبلورة رؤية حضارية متقدمة للإصلاح الديني من جهة، وبناء حداثة دينية تتماشى مع متطلبات الفكر الراهن تقدم الإسلام كدين الله وفق مقوماته الفكرية والعقلانية كاشفة عن حقيقة عمقه الفلسفي والروحي من جهة أخرى.

إنّ المنطق الحر والعقل المتنور يقتضي البحث العقلاني، مع ضرورة التمسك بثوابت وروح الدين، وتقديم فَهم أدق ينطلق من تجديد في القراءة للعقل المفاهيمي من أجل وعي أعمق للحقائق التي يشتمل عليها الدين، مع ضرورة اخذ الحيطة والحذر من الوقوع في فخ القبول بتعالي الفكر الفلسفي على الحقائق الدينية، خصوصا المسلّم بها.

يقول أفلوطين (205-270 م) في كتابه التساعية الرابعة: (كثيراً ما أتيقظ لذاتي، تاركاً جسمي جانباً. وإذ أغيب عن كل ما عداي، أرى في أعماق ذاتي جمالاً بلغ أقصى حدود البهاء. وعندئذٍ أكون على يقين من أنني أنتمي إلى مجالٍ أرفع. فيكون فعلي هو أعلى درجات الحياة، وأتحد بالموجود الإلهي).

إن الوعي المعرفي عندما يصل بالأنسان لأعلى المراتب يبدأ باستنهاضه وترغيبة في السير نحو معرفة الإله ولو بأسماء وصفات مختلفة، فقال فيه الفلافسة القدماء أنّه الأله الواحد ذو القدرة الجامعة، الذي لا تدركه العقول ولا يُنال بوصف ولا تشبيه. وقد وصفوه بالمطلق اللانهائي، فقد جعل منه أرسطو العقل الكلي بينما اعتبره هيرقليطس القانون الكلي للكون وأسماه اللوغس (logos) حيث يقول فيه: ” كل القوانين الإنسانية تتغذى من قانون إلهي واحد لأن هذا يسود كل من يريد، ويكفي للكل ويسيطر على الكل ” .

والخلود .. تلك الكلمة ذات الألق والإثارة والمعنى الخلّاق لما تحويه من معاني التحرّر المطلق والخروج من كل محدود والتحليق خارج اللامحدودية وما يتطلّبه ذلك من استنهاض للنفس، والسّير بها نحو الوجود اللامتناهي (إذا قُدّر لنا أنْ نُسمّيه وجوداً)، من أجل سبر أغوار مجهولية الزمن والبدأ بفكّ طلاسمه لتبدأ مرحلة مواجهة الحقيقة واتخاذ القرار وتخيير النّفس بعد الأجابة عن السؤال الذي أثار الحيرة في العقول المترددة: من أين يبدأ طريق الخلود؟ وأين هو منتهاه؟

من أجل ذلك نجد أنّ أهتمام الفلاسفة والباحثين قد أنصبّ على مفهوم الخلود، حيث أخذ الحيّز الأوسع من أفكارهم وأحاسيسهم، ودعاهم الى الرجوع الى بواكير الفكر الأنساني من أجل استكشاف أسراره بشكل أعمق وأن يتتبّعوا أرهاصاته وهم على أعتاب الرقي الحضاري متسلّحين بالفكر والعقل والمنطق بغية بناء تصوّر واضح يصف العلاقة بين الخلود والوجود اللامتناهي.

 لقد كان الخلود دعامة الشرائع والأديان حيث سعى الكثير منها الإجابة عن ماهية الزمان والمكان باعتبارههما حجر الزاوية والقاعدة الفكريّة والمنطقية التي يؤسّس عليها العديد من الفلاسفة والعلماء نظرياتهم الفلسفية التي تتناول فهم المعادلة الأنسانية والمشاكل المرتبطة بمسألة الخلود.

وقبل البدأ لابد من التوقف عند المعنى اللغوي لكلمتي البحث وهما الخلود والزمان، فقد جاء في لسان العرب لابن منظور أن معنى الخُلْد هو (دوام البقاء في دار لا يخرج منها خَلَدَ يَخْلُدُ خُلْداً وخُلوداً بقي وأَقام ودار الخُلْد الآخرة لبقاءِ أَهلها فيها وخَلَّده الله وأَخْلَده تخليداً وقد أَخْلَد الله أَهلَ دار الخُلْد فيها وخَلَّدهم وأَهل الجنة خالدون مُخَلَّدون آخر الأَبد) وأن الزَّمَنُ والزَّمانُ هو (أسم لقليل الوقت وكثيره، وفي المحكم:الزَّمَنُ والزَّمانُ العَصْرُ، والجمع أَزْمُن وأَزْمان وأَزْمِنة. وزَمَنٌ زامِنٌ: شديد. وأَزْمَنَ الشيءُ: طال عليه الزَّمان، والاسم من ذلك الزَّمَنُ والزُّمْنَة).

لقد أدرك الأنسان، جيلاً بعد جيل، وهو الكائن المحدود، عَظَمَة الكون اللامحدود من أرضٍ وسماءٍ وعلمٍ وأيقن بعجزه وعدم قدرته عن سبر أغوار حقائق الكون مما دعى الفلاسفة والعلماء لأطلاق العنان للعقل مرة وللأشراقات الروحية مرة أخرى من أجل إدراك بعضاً من الحقائق اللامتناهية في هذا الكون اللامتناهي.

ورغم إخفاق الفلاسفة في الأتفاق على رؤية فلسفية موحّدة وتفسير مشترك لمفهوم الخلود إلّا أنهم قد ساروا باتجاهين في تفسيرهم الزمن لما له من علاقة مع مفهوم الخلود؛ أمّا الاتجاه الأول فقد سار نحو رؤية أن الزمان حقيقته متواجدة خارج الذات الأنسانية (الزمان الموضوعي)، والأتجاه الأخر أيّد أن الزمان داخل الذات الأنسانية. أما أصحاب الأتجاه الأول فقد تفرّعوا كذلك الى عدة اتجاهات، فمنهم من رأى الزمان كحركة دائرية وذهب الى هذا الرأي أرسطو أرخوطاس وفيثاغورس، أما نيكلسون ونيوتن وانشتاين وغيرهم فقد رأوا أن الزمان يسير في خط واحد.

وضع أَرِسْطُوطَالِيس (384- 322 ق. م) وناقش ما أطلق عليه بالمقولات العشرة أو قاطيغورياس(Categories)، حيث درس المعارف وأهم مظاهرها فتوصل الى أنّها تنبني على أسس عشرة، يتربّع فوقها الفكر الواضح المستقيم. وقد وضع هذه الأسس في مقدمة كتابه العبارة، وهو الكتاب الذي يناقش البعد المنطقي لصفات الموجودات، وهذه المقولات العشرة هي: الجوهر، الكم، الكيف، المكان، الزمان، الإضافة، الوضع، المِلْك، الفعل، والانفعال، وقد أشير اليها في كتاب التعريفات للجرجانى أنّها قد جمعت فى بيت واحد هو: قمر غزير الحسن ألطف مصره لو قام يكشف غمتى لما انثنى.

والجوهر هو الأصل، وباقي المقولات التسع إنما هي أعراض للأصل. والوجود هو جوهر كلّي، أمّا التباينات فما هي إلّا صفات تشير الى الجوهر وتُحمَل عليه، وأنّ المنطق هو أداة ذلك الحَمل بشكل قياسيّ أو استنباطيّ.

والزمان، كما وصفه أَرِسْطُوطَالِيس في كتابه الطبيعة هو (عدد النقلة)، ويعني بذلك المقياس العددي في الحركة والتغير. وبعدد النقلة وبمراقبته لحركة الكواكب والأجرام توصل إلى ما يسمى بالميقات، فكانت الضروف الزمانية والمكانيّة.

وللبحث تتمة في الجزء الثاني إن شاء الله تعالى

 

د. أكرم جلال

 

في المثقف اليوم