دراسات وبحوث

فصولٌ من حكمة العارفين

مجدي ابراهيمليس من الحكمة في شيء أن يسلك الإنسان سلوكاً في الحياة يجيءُ على النقيض ممّا يعتقد. وليس من الحكمة في شيء أن يعتقد الرجل بلسانه ثم يفعل الفعل فيخالف فعله اعتقاده؛ فهذا مع كونه تدليساً يؤدي بالضرورة إلى النكوص الأخلاقي فهو أيضاً من جانب آخر يعدُّ سفاهة عارمة بالفوضى السلوكية والتخبط المعرفي وعدم الانضباط الخلقي والبعد عن الدين. إنّما الحكمة تقتضي أن يكون الإنسان على الدوام عالماً بما يعتقد سالكاً لهذا الاعتقاد. وعليه؛ فالعلم وحده لا يكفي، والمعرفة المُرَادفة للعلم وحدها لا تنهض دليلاً على إنسانية الإنسان؛ فلا يكفي مثلاً أن أعلم نظراً عن الشيء أنه كذلك، بغير أن يكون لديَّ الخبرة الكافية التي تؤهلني لإدراكه ذوقاً فضلاً عن العلم به؛ لكأنما الخبرة والتجربة شيءُ، والعلم بالشيء كما هو عليه شيءٌ آخر. أعني أن التجربة المُعاشة هى الفيصل في جميع الخبرات التي يُراد لنا معرفتها؛ فنحن لا نكون جديرين بالمعرفة ما لم نكن في أنفسنا أهلاً لهذه الخبرة التي من شأنها أن تجيء كما لو كانت متلبّسَة بها.

إدراك الشيء بالعلم وحده لا يكفي، ودرجة العلم مع أهميتها الضرورية في الحياة ضعيفة جداً. وعلمك عن الشيء كما هو ليس هو حقيقته؛ فَهَبْ أن أمامك الآن كوباً من الماء، وكوباً من شراب آخر لا يختلف عن لون الماء، وكوباً ثالثاً لا يغاير ما هو ممتلئُ به من حيث اللون الكوبين الأولين؛ فمن أين لك بمعرفة ما في تلك الأكواب الثلاثة لو أنك قصرت النظر فقط على إدراك الحاسّة البصريّة الظاهرة؟ تبقى بعد ذلك الخبرة التي تطلعك ذوقاً بمقدار ما في الأكواب الثلاثة من "حقائق"، ومن ثمّ نستطيع التمييز بينها. والخبرة التي نعنيها هنا هى "التذوق"، بالذوق تُفَرِّق طعم الماء من طعم الزيت من طعم الخمر مثلاً، لو نقلت العلم إلى ميدان التذوق.

وكما أن ها هنا تذوقاً حسياً، فهنالك أيضاً تذوق معنوي روحي؛ فالخبرة إنما هى التذوق. بينما العلم هو علمك بالشيء قبل أن تجري عليه اختبار التذوق، أي قبل أن تختبر طعم الماء وتميزه عن غيره من طعوم ومشروبات.

وعلى هذا؛ تصبح تجربة التذوق غير تجربة العلم، وكذلك ذوق طعم العسل مثلاً غير العلم به وصفاً عن طريق الغير؛ فلو أن أحداً قال لك إن هذا كوباً ملئ نصفه عسل وأن طعمه حلو المذاق، فلا يفيدك وصفه علماً بطبيعة العسل إلا حين تتذوّقه، فالعلم الذي أخذته عن الغير شيء، وذوق طعم العسل شيء آخر. في مثل هذا الذوق تحوَّل العلم إلى إدراك. وكذلك تجربة الإحراق بالنار؛ فإنّ ذوقها غير العلم بها عن طريق الغير. فهذه وتلك أمثلة هى من الفوارق الضروريّة التي تطلعنا على مدى الصحة التي يتوخَّاها العارفون في التفرقة بين "الذوق" و"العلم".

فالذين يندرجون تحت ما يسمى بأرباب الأحوال وأصحاب المواجيد والأذواق هم يخبرون الأشياء بخبرات روحيّة ويتعاملون معها، وهم في الحق يتعاملون مع حقائق علويّة يدركونها إدراكاً ذوقياً يحتاج بداهة إلى ممارسة واختبار؛ فلا يغني العلم بها فتيلاً ما لم تخضعه للمعايشة والسلوك والحياة لحكم الحال.

ثم يصفون هذه الخبرات وصفاً صادقاً من طريق "الذوق" أيضاً لا من طريق "العلم"؛ فإذا هذه التجارب الناتجة عن الممارسة تتميز بذاتها عن العلم. فالفرقُ هاهنا واضح بين من يعلم عن الشيء طبائعه من خارج، وبين من ينفذ إلى أسراره وحقائقه حين يخوض عباب التجربة، فيدرك ذوقاً حقيقة ما رأى وحقيقة ما شاهد، أي يدرك حقيقة هذا الشيء من العمق والفحوى والمضمون. وليس نصيبنا نحن من الفهم ما نعلم أننا نفهمه بل نحن نفهم أشياء شتى بالبديهة والخيال ولا نعلم بها، وهى تعمل عملها في الإحساس والتفكير.

من هذه الفوارق البسيطة تتميز حكمة العارفين الذوقيّة عن حكمة النُّظار من الفلاسفة والعلماء والمتكلمين : الأولى لا شك تخضع لسلطان الحال، وتجرى في الحياة الروحيّة مجرى التذوق والمعايشة والحياة عن طريق الفعل والعمل والتطبيق : تطبيق الفكرة على الواقع العملي، والاعتقاد على السلوك الفعلي.

والثانية : تدور حول العلم لا حول الإدراك، ولا تعترف بشيء غير ما يعطيها النّظر المجرّد عن لواحق العمل والتنفيذ، ولو كانت في ذاتها ضد التذوق في الأصل والمصدر. حكمة العارفين هى التي قال فيها سيد الخلق رسول الله صلوات الله وسلامه عليه :"إذا رأيتم الرجل قد أعطى زهداً في الدنيا، وقلة منطق (أي صمت) فاقتربوا منه؛ فإنه يُلَقَّن الحكمة".

فليس من الحكمة في شيء مثل هذا التكالب المسعور على زخرف الدنيا في غير مرضاة الله. وليس منها كذلك في شيء مثل هاته الثرثرة الفارغة من الوعي والعقل ودلالة العمل الكريم. وقد قيل إن آفة العلم والعلماء هى الخوض في الباطل، في الثرثرة : الثرثرة في الونسات وفي الصحف وفي الفضائيات، وفي اللقاءات، وفي المؤتمرات وفي الندوات، وفي الجرائد والمجلات؛ وفي سيرة الناس، والخوض في أعراض خلق الله بالباطل، وتشويه سمعتهم ونعتهم بما ليس فيهم.

هذه ضروب من الثرثرة وأدناها الثرثرة في الحديث بالعلم.

وأكثر الناس إشارة إلى الله أبعدهم عنه، "وما دُمْتَ تُشيرَ فلَسْتَ بموحِّد"، وما دُمْتَ تثرثر بالحديث عن العلم المعزول عن دنيا العمل الفعلي؛ فأنت أبعدُ ما تكون عن الأخلاق، وعن العلم، وعن الدين؛ لأن العالم الحق لا يحدّث الناس كثيراً بالثرثرة التي لا فائدة منها. العالم الحق يدرك أنه مُقَاربٌ من الحضرة الإلهيّة، وحضرة المعرفة كما صَوَّرها العارفون بالله إنّما هى حضرة بُهْت وسكون لا حضرة ثرثرة وصياح.

*    *     *

الله في عون العبد ما دام العبد في عون نفسه على طريق الله. ومن عون نفس العبد على طريق الله أن يفهم كلامه، وأن يتقرب إليه به، وأن يراقب نفسه من خلاله، وأن يكون بالقرآن خلوصاً في القصد والتبعة، وأن يعقل من حكمة هذا الكلام بمقدار ما يفهم، ولا عقل له ولا فهم وهو بعيد من حيث يظن القرب؛ لأنه بعيدٌ عن فهم القرآن، وقد تَرَادَفَ فهم القرآن مع الحكمة فقيل في حقه إنّه الحكمة بعينها، وما الحكمة إلا فهم لطائف القرآن ووجوهه ومعانيه كما حكى عن الإمام على بن أبي طالب رضوان الله عليه أنه قال :"لو شئت أن أوقر سبعين بعيراً من تفسير فاتحة الكتاب؛ لفعلت".

بالقرآن تتوارد على قلوب العارفين نفائس الحكمة ولطائف العرفان. وبالقرآن ينظرون ويفكرون ويتأملون ويعيشون أخلد الحيوات. ومن أجل ذلك؛ فهم يخرّجونَ من القرآن على منهج الذوق لطائف ومعان قلَّ أن تجد لها مثيلاً في تخريجات المفسرين وتفسيرات العلماء والحكماء والمؤولين. من ذلك أنهم قالوا : ما من آية من في القرآن إلّا ولها سبع معان : ظاهر، وباطن، وإشارات، وإمارات، ولطائف، ودقائق، وحقائق. هذه سبعة ألفاظ لسبع معان، لسبع طوائف يفهمون القرآن على نحو لا يفهمه به سواهم؛ فالظاهر للعوام، والباطن للخواص، والإشارات لخواص الخواص، والإمارات للأولياء، واللطائف للصديقين، والدقائق للمحبين، والحقائق للنبيين. ثم قالوا : تحت كل كلمة، بل تحت كل حرف بحرُ حِكَم عجاج ذو قعر مواج؛ فإذا قرأه الشاهد من العارفين والصادق من الخائفين أعطى بكل حرف ذهن، ولكل ذهن ألف فهم، ولكل فهم ألف فطنة، ولكل فطنة ألف عبرة، والعبرة لا تقوم بها السموات والأرض؛ فذلك قوله تعالى :"ومن يؤتَ الحكمة فقد أُوتىَ خيراً كثيراً"، يعني فهم القرآن ومعانيه" (أ. هـ).

ولربما قُوبِلتْ هذه العبارات بالسخرية والتهكم والمناكرة من أناس لا ترتفع عقولهم ولا أرواحهم فوق النعال التي يدوسون بها قُرَاب الأرض؛ فينكرون أن يكون لهذه الحقائق وجودٌ على الحقيقة في الواقع ملموس. وإنما هى فيما يرون مجرد تخيّلات أو أشبه بالتخيّلات لا وجود لها إلا في أوهام قائليها! فهم معذورون؛ لأن أرواحهم في عزلة عن هذه المعاني؛ ولأن عقولهم المحدودة بحدود ما تفكر فيه لا تدرك غير ما تدركه السائمة، إنْ صح للسوائم أن تدرك ما يدركه إنسان! على أن إدراك السوائم والحشرات قد يكون فيه النفع لجنسه أكثر من إدراك الآدمي الذي حمل تبعة الأمانة وهو ظالم لنفسه جهول.

هم معذورون؛ لأنهم يلهون ويقودهم اللهو إلى السّهو بعيداً عن حظيرة الإيمان. ولا شرط لفقه القرآن إلا شرط البقاء دوماً على الإيمان، وعلى معدنه الأصيل الذوقي في طوايا الكرماء الأصلاء من بني الإنسان. قال الفضيل بن عياض :"حاملُ القرآن حامل راية الإسلام، لا ينبغي له أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو، ولا يكون له إلى مخلوق حاجة، حتى الخلفاء فمن دونهم ينبغي أن يكونوا محتاجين إليه". وعن ابن عباس رضوان الله عليه إنه قال :"من قرأ القرآن من قبل أن يحتلم فهو ممّن أُوُتىَ الحكمة صبياً". وعن النبي صلوات الله وسلامه عليه قال :"من أُوتِىَ القرآن فقد أدرجتْ النُّبُوّة في جنبيه إلا إنّه لم يوح إليه". وقال عليه السلام :"الماهرُ بالقرآن مع السَّفرة الكرام". وأقلُ ما يُقال فيمن يطالع هذا الكلام أن يدعو الله بصدق ليقول : اللّهم اجعلنا ممّن أطلعتهم بفضلك على حكمة القرآن.

وأقلُ ما يُقال كذلك أن ينظر الناظر إلى الآية الكريمة في سورة الفرقان (آية 63) حين تصف عباد الرحمن :"وَعِبَادُ الرَّحْمَن الذّينَ يَمْشُونَ عَلَىَ الأرض هَوْنَاً وإذا خَاطَبَهُم الجَاهِلُونَ قَالوا سَلَامَاً "؛ ليطالع أدب القرآن مع المنكرين والمستخفين من جهة، ويطالع من جهة أخرى أدب القرآن فيمن يتحلىَ بأدبه ويعيش حياته على هداه.

فالقارئ مرجوُّ أن يلاحظ معي ظاهر المعنى في كلمة "هوناً" أي : مشياً هيناً ليّناً ذا سكينة ووقار. والقارئ مرجوُّ كذلك أن يقلِّب في ذهنه معنى كلمة "هوناً" ليحدّدها كما أحددها أنا تحديداً يخرجها أو يكاد عن مرادها القاموسي إلى حيث الاستهانة.

وهو مرجوُّ مرة ثالثة أن يقرأ الآية مراراً ليرى فيها مثل هذه الاستهانة بعد التحديد على ضربين :

(1) استهانة اتصال.

(2) استهانة انفصال.

فأمّا استهانة الاتصال؛ فلأن عباد الرحمن الموصوفين في الآية الكريمة، نظراً لاتصال قلوبهم بالحق، لم يشهدوا غيره ولم يبصروا سواه، هانت عليهم خِلاق العبيد لا لشيء إلا لأنهم عباد على الحقيقة، قد نظروا إلى الحق باعتبار كونهم عباداً لا عبيداً؛ فاكتملت رؤيتهم للحق في القلوب والسرائر؛ فلم يشهدوا غيره أصلاً؛ فإذا خاطبهم الجاهلون خطاب الغفلة والسَّفَه والطيش والفجور الذي هم به محجوبون، كان شهودهم للحق يدعوهم إلى البقاء في معيّته لا في معيّة الخلق؛ فهم على الدوام في معيّة الرحمن، وهم بتلك المعيّة محجوبون عن رؤية الخطاب أو سماعه من أولئك الذين تسفّهوا عليهم بطيش الخطاب.

هذه هى استهانة اتصال يكون فيها عباد الرحمن على صلة قوية بالله يستهينون فيها بسواه، ولو كانوا فجّاراً جبابرة. أمّا استهانة الانفصال؛ فلأنهم عباد الله على الحقيقة، ما كان يمكن لهم أن يعترضوا على الجاهلين في سفه الخطاب، وهم يرون أفضال الله تعالى مسبوغة على خلقه، ومن بينهم أولئك الذين يعصونه ولا يطيعونه. وفي الحق ما عصوا إلا أنفسهم، وما أضافوا إليها إلا الصّغار والموات والعدم والفناء.

ففي الطاعة لا شك حياة، وفي العصيان دمار وموات؛ ولأنهم عباد الرحمن على الحقيقة؛ فقد عرفوا من هذه العبودية أن الله تعالى ما كان عطاؤه مقصوراً على عباده وكفى، ولكنه أيضاً عطاء مشمول لعبيده؛ فاحترموا قضاء الله المبرم على عبيده حتى إذا ما صَدَرَ عن العبيد خطاب فيه من الطيش والفجور ومن السّفه والضلالة ما من شأنه أن يؤذي عباده على الحقيقة، كان استقبال العباد لهذا الخطاب، عينه أو مثله، ضرباً من ضروب العبودية؛ لأنه ضرب من التسليم المطلق بقضاء الله على عبيده والرضا به من خلف حجاب السبب، ولو كانوا من الجاهلين.

تلك كانت ولا ريب استهانة انفصال : انفصال السّر عن رؤية شرور العبيد، واتصال من جهة أخرى برؤية أقدار الله فيهم. ولكونه منفصلاً من تلك الجهة لا جَرَمَ كان السّر متصلاً بالجهة العلويّة؛ فهؤلاء العباد الموصوفون في الآية الكريمة بأنهم "عباد الرحمن"، متصلون من جهة، منفصلون من جهة أخرى. متصلون بجهة الحق فهم يستهينون بأفعال الخلق الذين هم من طائفة العبيد. ومنفصلون عن جهة الخلق فهم يستهينون بأفعال الخلق لا من أجل الخلق في ذواتهم بل من أجل مراعاة أقدار الله في خلقه وفي عبيده.

ومن أجل أنهم يفهمون دلالة هذه الأقدار فيراعونها مع الاحترام مراعاة اللطف والشفقة بالعبيد فهماً عن الله، فهم إنما يمشون على الأرض هوناً محفوفاً بالسكينة والوقار، وهو في الوقت نفسه محفوف بالاستهانة بأفعال العبيد وبأخلاق العبيد؛ لا لشيء إلا لأنهم (العبيد) يجهلون أقدار الله فيهم، في حين يعلم العباد من هذه الأقدار ما من شأنه أن يجعلهم قادرين على تحملها، وتحمل ما يصدر عنهم من أعبائها ولسان حالهم يقول : سلامُ سلام، لكنه سلام مُتَاركة وتجنُّب لا سلام تحية واتصال. وهو، من بعدُ، سلام انفصال مع احترام قدر الله المشهود فيهم من خلف حجاب الأسباب والأفعال، وهو شهود لا من أجل العبيد، ولكن من أجل الله وكفى. والله، الله، على ألطاف الله بعباده في كل حال.

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم