دراسات وبحوث

ظاهرة التضمين بين التأييد والرفض

منتهى البدرانلقد حظيت ظاهرة  التضمين في اللغة وفي القرآن باهتمام القدماء من اللغويين، والمفسرين، وعلماء علوم القرآن، وكذلك نالت اهتمام المحدثين، وقد ذهب الباحثون فيها إلى مذهبين منهم من أيّد الظاهرة وأثبتها، وآخر رفضها، وكلٌ قدّم أدلته لإثبات رأيه وهي مدونة في أمّات الكتب لمن أراد التزود بالمزيد . وللتعرف على معنى التضمين فهو في اللغة يدل على معنيين:

الأول: الكفالة، ضمّن الشيء ضمنا، وضمانا فهو ضامن، وضمين: كَفَلَه(1).

الثاني: الإيداع، فقد ضمّن الشيء أودعه إياه، كما تودع الوعاء المتاع، وكل شيء جعلته في وعاء، وضمنته إياه(2).

أما في الاصطلاح فهنا تختلف الآراء بين القدماء والمحدثين حيث رأى ابن جني (ت392هـ) أنّ التضمين ظاهرة واسعة وكثيرة جدا في اللغة، ويمكن تأليف كتاب لو جمع أكثرها . ويوصي القارئ بالأنس بها إذا مرّت به، معلّلا أنّها من الفصول اللطيفة في العربية(3). في حين أنّ ابن هشام (ت761هـ) يراها قليلة ؛ لأنّه عرّفها: " قد يُشربون لفظا معنى لفظ فيعطونه حكما"(4). ولا يخفى أنّ (قد) تفيد التقليل إذا دخلت على المضارع، بيد أنّ ابن جني وسّع دائرة الإستشهاد، حيث استشهد بالقرآن، والشعر، أمّا ابن هشام فقد اقتصر استشهاده على القرآن الكريم.

أمّا عند المفسرين والمشتغلين في علوم القرآن، فنجد الطبري (ت310هـ) قد وجّه عددا من الآيات الشريفة في تفسيره (جامع البيان) استنادا إلى أسلوب التضمين. وقال الزمخشري (ت538هـ) بالتضمين في بعض من مواضع تفسيره الكشاف، لكنّه أعرض عنه في مواضع أخرى حين أنعم النظر في دقة المعنى. وأثنى على التضمين ابن عطية الأندلسي (ت546هـ) في تفسيره (المحرر الوجيز) . وعرّفه الزركشي (ت794هـ) بأنّه: " إعطاء الشيء معنى الشيء، وتارة يكون في الأسماء، وفي الأفعال، وفي الحروف"(5)، وهو بذلك عرّفه بمعناه الشامل لكل الأنواع . ويرى السيوطي (ت911هـ) أنّ التضمين يطلق على أشياء عدة أحدها " إيقاع لفظ موقع غيره ؛ لتضمنه معناه"(6). أما الآلوسي (ت1270هـ) في روح المعاني، والطاهر بن عاشور (ت1394هـ) في التحرير والتنوير فقد اعتمدا على التضمين في كثير من المواضع.

أما المحدثون فقد كانوا بين مؤيد، ومعارض للتضمين . فقد أقرّ مجمع اللغة العربية في القاهرة ظاهرة التضمين عام (1934م) متمثلا في أعضائه الذين كانوا بين مؤيد، ومعارض لها، حيث عقد المجمع جلسة خصصت لهذه الظاهرة فقد تلا رئيس الجلسة الأستاذ محمد الخضر حسين بحثه في التضمين، إذ رأى أنّ للتضمين غرضا وقرينة وشرطا، فالغرض هو الإيجاز، والقرينة هي تعدية الفعل بالحرف وهو فعل يتعدى بنفسه، أو تعديته بنفسه وهو يتعدى بالحرف، أما الشرط  فهو وجود مناسبة بين الفعلين(7)، ورأى أنّ للتضمين " صلة بقواعد الإعراب من جهة تعدي الفعل بنفسه أو تعدّيه بالحرف، وصلة بعلم البيان من جهة التصريف في معنى الفعل، وعدم الوقوف به عند حدّ ما وضع له، ومن هذه الناحية لم يكن كبقية قواعد علم النحو وقد يستوي في العمل بها خاصة الناس وعامتهم"(8). فهو هنا قد بيّنَ صلة التضمين بعلمي النحو والبلاغة.

وفي نهاية جلسة المجمع  صدرت التوصيات الآتية:

يعرّف التضمين بأنْ يؤدي فعل أو ما في معناه في التعبير مؤدّى فعل آخر أو ما في معناه، فيعطى حكمه في التعدية واللزوم.

يكون قياسيا لا سماعيا بشروط ثلاثة:

الأول: تحقق المناسبة بين الفعلين.

الثاني: وجود قرينة تدل على ملاحظة الفعل الآخر، ويؤمن معها اللبس.

الثالث: ملاءمة التضمين للذوق العربي.

ألّا يُلجَأ إلى التضمين إلا لغرض بلاغي(9).

ويرى عباس حسن أنّ التضمين ركن من أركان البيان، وأنّه " مبحث ذو شأن في اللغة العربية . وللعلماء في تخريجه طريقة مختلفة فقال بعضهم: إنّه جمع بين الحقيقة والمجاز على طريقة الأصوليين، لأنّ العلاقة عندهم لا يشترط فيها أنْ تمنع من إرادة المعنى الأصلي"(10)، ويرجِّح قياسيته، ويرى أنّ من الأفضل أنْ يبقى بابه مفتوحا للعارفين بدقائق العربية وأسرارها، وأنْ توضع له قيودا تضبط استعماله(11).

أما الدكتور فاضل السامرائي فإنّه يرى أنّ للتضمين غرضا بلاغيا لطيفا، وهو الجمع بين معنيين بأخصر أسلوب، كما أنّه يقرُّ بقياسيته(12). ويراه محمود أحمد الصغير أنّه " مخرج لغوي لطيف، يقوم أساسا على مخالفة أصول التعدية المعهودة في الأفعال، ويسعى إلى إجراء المصالحة بين الفعل ومفعوله أو الحرف الذي يصله بالمفعول . وذلك من طريق تنازل الفعل عن معناه المتبادر، كيما تعود الأمور إلى نصابها"(13).

وقال الدكتور هادي أحمد الشجيري: " وردت في اللغة أساليب في التعبير عن معنى بألفاظ متقاربة، يحسبها الغافل عنها أنّها أدت المعنى ذاته، وأنّ بعض الإختلاف في التركيب قد لا يغيّر في المعنى شيئا"(14). وكان الدكتور محمد الأمين الخضري من الرافضين للتضمين، معللا ذلك  بقوله: " إنّ التضمين يصرف الاهتمام عن تدبر أسرار الحروف، وهو عاجز عن الوفاء بأغراض النظم ودواعيه، وليس فيه أكثر من محاولة تصحيح التعدي بحرف ليس من شأن الفعل أو الإسم التعدي به"(15).

وأشار الدكتور تمام حسان إلى أنّ التضمين غالبا " ما يكون وسيلة يستعملها النحوي لحلّ إشكال الأصل . كأنْ يكون في الجملة فعل لازم انتصب بعده المفعول فيضمّن معنى التعدية أو متعد لم يصل إلى المفعول إلا بواسطة فيضمن معنى اللازم أو حرف استعمل في مكان حرف آخر فيقول النحوي بتضمينه معناه وهكذا . ثم يرى النحوي في كل ذلك ردا إلى أصلٍ عدل عنه ويقدر هذا الأصل"(16).  في ضوء كلام الدكتور تمام حسان يبدو أنّ علماء اللغة، والمفسرين الذين قالوا بالتضمين قد تأثروا تأثرا واضحا في البحث عن ظاهرة التضمين ووضع القواعد لها، وربما يكون الغرض من ذلك هو محاولة إخضاع التراكيب اللغوية التي تتعارض مع قواعد النحويين بردّها إلى قاعدة عامة. ولا يفوتني أن أذكر أن للتضمين صورا متعددة فالقائلين به يرونه يقع في الفعل، والإسم، والحرف.

إنّ بلاغة القرآن قائمة على أساس دقة استعمال المفردات في معانيها، فــــ " لكل نوع من المعنى نوع من اللفظ وهو به أخصُّ وأولى"(17)، وإنّ كل لفظ وضع في مكانه المناسب ولا يستطيع لفظ آخر أنْ يحلّ محله أو يؤدي معناه، حتى وإنْ كانت مادة اللفظ واحدة(18). وإنّ فتح باب التضمين على مصراعيه سيهدم هذه البلاغة، ويبعد الأسلوب القرآني عن معيار الدقة التي اتّسمَ به.

بعد هذا العرض الموجز لآراء القدماء والمحدثين وحين بحثت في أثر المعاني الحرفية في التراكيب التي قيل بتضمين الحروف والأفعال فيها بوصفها ظاهرة لها صداها عند اللغويين، والمفسرين، لم يثبت لي وجود هذه الظاهرة في النص القرآني بفرعيها تضمين الحروف وتضمين الأفعال.

وكما يقال (في المثال يتضح المقال)  ولضيق المقام وتوخيا للاختصار سأكتفي ببضع أمثلة من الشواهد القرآنية لبيان ذلك.

قال تعالى: ) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (19). فقد ذهب الزمخشري (ت538هـ)، وأبو حيان (ت745هـ) إلى أنّ (أفيضوا) بمعنى (ألقوا)، فيكون (أفيضوا علينا) بمعنى (ألقوا علينا)(20). وذهب جمع من المفسرين إلى أنّ الفعل (أفيضوا) بمعنى (صبّوا) فيكون المعنى (صبّوا علينا)(21).

ولو أنعمنا النظر، وأطلنا الوقوف عند دقة استعمال المفردة القرآنية لالتمعت لنا دلالات كامنة في استعمال الفعل (أفاض) التماع النجوم في الدُّجى، ولو تأملنا حكمة مجيء الفعل (أفاض) مع (علينا)، و(من الماء) لانكشفت لنا أسرار من شأنها نفي القول بالتضمين. فمن الدلالات التي كمنت وراء الشكل التركيبي (أفيضوا علينا من الماء) ما يأتي:

دلالة الكثرة: وقد بثّها مجيء فعل الإفاضة مع المركب الحرفي (من الماء) وسيتضح ذلك على النحو الآتي:

إنّ أصل مادة الفعل (فاض) هو جريان الماء بسهولة ويقال: أفاض إناءه إذا ملأه حتى فاض(22).  و " الفيض الماء الكثير، يقال إنّه أعطاه غيظا من فيض أي قليلا من كثير "(23) و " فاض الماء أي كثر حتى سال على ضفة الوادي"(24). والفيض خلاف الغيض؛ لأنّ الأول يدل على كثرة الشيء، والثاني يدل على نقصان الشيء(25). فالفعل (أفيضوا) يفيد كثرة الماء ووفرته لدى أهل الجنة ؛ لأنّ الأصل في مادته هو " سيلان في امتلاء، أي من كثرة وامتلاء"(26). فضلا عن أنّ صيغة الفعل (أفاض) المتعدي بالهمزة وهي (أفعل) تعطي دلالة التكثير(27). ومجيء الفعل مع (من الماء) دلّ على الكثرة كذلك، فهو دلّ على شعور أهل النار بكثرة الماء ووفرته لدى أهل الجنة ؛ لذا طلبوا بعضا من هذا الكثير.

دلالة الإستعلاء: وقد بثّها حرف الإستعلاء (على) وهو استعلاء حقيقي حيثُ كشف لنا عن هيئة من هيئات الموجودات الغيبية من العالم الآخر، وهي موقع الجنة من النار، فهذا التركيب كشف لنا أنّ موقع الجنة أعلى من موقع النار.

دلالة التبعيض: وقد بثّها الحرف (من) ؛ فأصحاب النار لم يطلبوا بقول (أفيضوا علينا الماء) ؛ لأنّهم لم يتجرأوا على طلب ماء كثير، وإنّما طلبوا نزرا يسيرا ليطفئوا به حرَّ جهنّم، وسعيرها.

دلالة الإستعطاف، والتحقير: إنّ طلب أصحاب النار إفاضة بعض من الماء عليهم يدلّ على ما هم فيه من ذل، وهوان جعلهم يستعطفون من هم فوقهم . أما دلالة التحقير فتُسْتَشَفُّ من طلبهم بعض الماء وعدم جرأتهم بطلب الكثير منه ؛ لإدراكهم عدم استحقاقهم الرحمة لما اقترفوه من الإثم والظلم في الحياة الدنيا ؛ لذا طلبوا القليل وهو في تصورهم كثير عليهم . وربما توجد دلالات أخرى غابت عن الباحثة ولم يغنم بها يراعها.

بعد التعرف على فائدة مجيء الفعل (أفاض) مع المركبين الحرفيين (علينا)، و(من) يجدر الوقوف عند الأفعال التي قالوا بأنّها حلّت محلّ الفعل الموجود في التركيب:

ألقى: عند الرجوع إلى المادة المعجمية لهذا الفعل نجد أنّ أصلها هو الدلالة على طرح الشيء(28)، ومن المسلَّم به أنّ طرح الشيء يكون للأجسام وليس للسوائل، فنقول: طرحتُ زيدا أرضا، وألقيتُ الثوبَ على الأرض.

صبّ: صببتُ الماء أي سكبته(29)، وأصل المادة هو إراقة الشيء(30). والإنصباب: إنحدار

من فوق بلا قيد، ماديا كان أو معنويا، فالصبّ هو مطلق الإنحدار(31). وهذا يتعارض مع المعنى المراد ؛ لأنّه لو أراد مطلق انحدار الماء من فوق لقال (أفيضوا علينا الماء) ولم يأتِ بـ (من) التي قيّدت كمية الماء المراد إنزاله. وبهذا تكون حروف الجر أدت دور توجيه الدلالة، وتقييد الفعل، فضلا عن أنّ معانيها الحرفية نفت مقولة تضمين الفعل.

قوله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (32). هذه آية أخرى من آيات الأحكام - كما صنّفها الفقهاء(33) -  تُساقُ في هذا البحث لاكتشاف دلالات توالي حروف الجر، وأثره في إثراء النص دلاليا.

عند الوقوف على المعاني المعجمية للفعل (ضرب)، والمعاني الوظيفية لحروف الجر التي جاءت معه يمكن استنتاج الآتي:

يقع الضرب على جميع الأعمال(34) . ومادة (ضرب) " أصل واحد ثم يستعار ويحمل عليه من ذلك ضربت ضربا إذا وقعت بغيرك ضربا"(35). و" الضرب إيقاع شيء على شيء "(36)، ويرى الشريف الرضي أنْ (ليضربن) استعارة، المراد بها إسبال المقانع على الصدور، وأنّ أصل الضرب من قولهم: ضربت الفسطاط إذا أقمته بإقامة أعماده، فاستعير لفظ الضرب هنا للكناية عن التناهي في إسبال الخمر(37).، وقيّده بعضهم بأنّه إيقاع بشدة(38) ؛ لذا عدّي بالحرف (على) دلالة على الإستعلاء الحقيقي. إذ يطلق " الضرب ويراد به نوع من التثبيت من قبيل قولنا: ضربت الخيمة"(39)، ويبدو أنّه " أطلِق الضرب وهو الملزوم وأريد به التثبيت وهو الأمر اللازم"(40)  بمعنى أنّه حين أراد أنْ يلزم النساء غطاء الصدور غطاء محكما عدل عن ذكر الإلزام إلى ذكر الضرب، فلم يقل (وليلزمن).

تتضح مما تقدم دلالات عدة للفعل (ليضربن) هي:

دلالة الإلزام والوجوب، فالفعل (يضرب) من أفعال الإلزام كما يبيّنه سياقه في الآية، وتعلق حرفي (الباء) و(على) به جاء مناسبا للمقام ؛ لأنّ المعاني الوظيفية لهذين الحرفين تتلاءم مع المعنى المساق وهو (الإلزام والوجوب)، فالوجوب يركّز على الفعل والشخص الذي يُلزم به، أي إنّه يركّز هنا على فعل الضرب، وعلى النساء اللواتي ألزمن به.

دلالة الإحكام: إنّ ضرب الخُمُر يراد به إحكام وضع الخمار على الصدر والنحر، فضلا عن أنّ الخمار غطاء للرأس؛ مما يوحي بضرورة ستر المرأة مواضع الفتنة في جسدها لئلا يطمع الذي في قلبه مرض، فيتعرض لكرامتها التي حفظها لها الدين الإسلامي بفضل هذه الأحكام التي نزلت لحمايتها.

بعد التعرف على الدلالات التي بثّها فعل الضرب، هل يصح تضمينه معنى فعل آخر كالفعل (ألقى) ؟  فلو فرضنا أنّه متضمن معنى (ألقى) فإن البحث في أصل مادة هذا الفعل لن يعطي غير دلالة طرح الشيء دون التأكيد على ضرورة إحكامه.

2) إنّ مساوقة الفعل مع (الباء) أعطى دلالة الإلصاق ؛ لأنّ (الباء) هنا أدت معناها الحقيقي(41)، وكذلك قامت ببيان وسيلة الإستتار أي أدّت معنى الإستعانة الحقيقية كقولنا (كتبت بالقلم).

3) أدّى الحرف (على) دلالة الإستعلاء الحقيقي وهو وضع الخمار على الصدر.

4) إنّ الدور الذي قام به حرف الجر في التركيب هو نقل دلالة فعل الضرب من دلالته المعروفة في ضرب الشيء إلى دلالات أخر أبرزها الشد والإحكام . وبذلك يكون المراد بالتركيب (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) دلالة وجوب الإستتار، وإحكامه، وبيان وسيلته وهي (الخُمُر).

إنّ التركيب (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) يوحي بوجوب ستر الصدر، وفي الآية جانب تربوي وإرشادي للمرأة المسلمة وتوجيهها " إلى كيفية إخفاء مواضع الزينة بعد النهي عن إبدائها وقد كانت النساء على عادة الجاهلية يسدلن خُمُرهن من خلفهن فتبدو نحورهن وقلائدهن من جيوبهن لوسعها فأمرن بإرسال خمرهن إلى جيوبهن سترا لما يبدو منها"(42). وقد ضمّن أغلب المفسرين الفعل (ليضربن) معنى الفعل (ليلقين) لكي يتلاءم مع تعديته بالحرف (على)، فهم يرون أنّ الضرب هنا بمعنى الإلقاء(43).

وقد ذهب الرازي (ت606هــ) والسيد الحائري (ت1353هــ) إلى وجود المبالغة في فعل الضرب أيضا(44)، ويرى الرازي أنّه إلزام للنساء أنْ يضربن مقانعهن على الجيوب بإحكام لستر العنق والنحر(45).

بعد إنتهاء هذا المبحث في التراكيب التي قيل بتضمين الحروف والأفعال فيها بوصفها ظاهرة لها صداها عند اللغويين، والمفسرين، لم يثبت لي وجود هذه الظاهرة في النص القرآني بفرعيها تضمين الحروف وتضمين الأفعال.

 

منتهى البدران

العراق /البصرة

.......................

(1)  ينظر: الصحاح: 6/ 2155، ومقاييس اللغة: 3/ 372، وأساس البلاغة، 568، ولسان العرب: 13/ 257، ومجمع البحرين 6/ 275، مادة (ضمن) .

(2)  ينظر: الصحاح: 6/2155، ومقاييس اللغة: 3/ 372، ولسان العرب: 275، وتاج العروس: 18/ 348، مادة (ضمن) .

(3)  ينظر: الخصائص: 2/312.

(4)  مغني اللبيب: 2/ 493.

(5)  البرهان في علوم القرآن: 3/ 434.

(6)  معترك الأقران في إعجاز القرآن، أبو الفضل جلال الدين السيوطي، تحقيق: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1988م: 1/302.

(7)  ينظر: النحو الوافي: 2/542.

(8)  المصدر نفسه: 2/ 543.

(9)  ينظر: المصدر نفسه: 2/552.

(10)  النحو الوافي: 2/548.

(11)  ينظر: المصدر نفسه: الصفحة نفسها.

(12)  ينظر:  معاني النحو: 3/ 12 – 13.

(13)  الأدوات النحوية في كتب التفسير، 714.

(14)  التضمين النحوي وأثره في المعنى، د. هادي أحمد فرحان الشجيري، مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية، العدد الثلاثون، دبي، 2005، 298.

(15)  من أسرار حروف الجر في الذكر الحكيم، د. محمد الأمين الخضري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1989م، 52.

(16) الأصول دراسة إبستميولوجية للفكر اللغوي عند العرب النحو- فقه اللغة- البلاغة، د. تمام حسان، عالم الكتب، القاهرة، 2000م، 145.

(17) أسرار البلاغة في علم البيان، عبد القاهر الجرجاني، تحقيق: محمد الإسكندراني، ود.م مسعود، دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1998م، 2.

(18) ينظر: التركيب اللغوي في الحوار القرآني، د. عبد المحسن لفتة فارس الفيّاض، دار الجواهري، بغداد، 2015م، د.ط، 93.

(19)  سورة الأَعراف: 50.

(20)  ينظر: الكشاف: 2/84، والبحر المحيط: 4/ 307.

(21)  ينظر: إرشاد العقل السليم: 3/231، وزبدة التفاسير: 2/ 528، وكنز الدقائق: 5/ 98، ومقتنيات الدرر: 4/335.

(22)  ينظر: مقاييس اللغة: 4/465، مادة (فيض) .

(23)  المفردات،404.

(24)  لسان العرب: 7/210، مادة (فيض) .

(25)  ينظر: التحقيق في كلمات القرآن الكريم: 7/ 297.

(26)  المصدر نفسه: 9/ 169.

(27)  ينظر: الصرف الوافي، هادي نهر، دار دروب، عمان، 2011م، د.ط، 298.

(28)  ينظر: مقاييس اللغة: 5/60، مادة (لقى).

(29)  ينظر: الصحاح: 160، مادة (صبّ)

(30)  ينظر: مقاييس اللغة: 3/280، مادة (صبّ).

(31)  ينظر: التحقيق في كلمات القرآن الكريم: 6/ 177، و 178.

(32)  سورة النور: 31.

(33)  ينظر: فقه القرآن، قطب الدين الراوندي، مطبعة الولاية، ط2، قم، 1405هـ:1/8، وينظر: دروس تمهيدية في آيات الأحكام، باقر الإيرواني، دار الفقه، ط2، إيران، 1425هـ: 1/93.

(34)  ينظر: العين:7/30، ولسان العرب:1/544.

(35)  مقاييس اللغة: 3/298.

(36)  المفردات، 305.

(37)  ينظر:  تلخيص البيان في مجازات القرآن،  الشريف الرضي، حققه وقدم له وصنع فهارسه: محمد عبد الغني حسن، دار إحياء الكتب العربية  - عيسى البابي الحلبي وشركاه – القاهرة، ط1، 1955م، د.م، 245.

(38)  ينظر: تاج العروس:2/169.

(39)  الميزان: 11/315.

(40) المصدر نفسه: الصفحة نفسها.

(41) ) ينظر: مفاتيح الغيب: 23/206، ومقتنيات الدرر: 7/337.

(42)  إرشاد العقل السليم: 6/170.

(43)  ينظر: جامع البيان: 18/159، وزاد المسير: 5/356، وإرشاد العقل السليم: 6/170، وزبدة التفاسير: 4/497، و التفسير الكاشف: 5/356.

(44)  ينظر: مفاتيح الغيب: 23/ 206، ومقتنيات الدرر: 7/337.

(45)  ينظر: مفاتيح الغيب: 23/ 206.

 

 

في المثقف اليوم