دراسات وبحوث

نموذج الإخلاص المعنوي في شخصية الخوارج

ميثم الجنابيإن الأفكار الأولية الكبرى مثلها مثل الحياة، صراخ وعويل، واستصغار وتهويل، وآمال وأعمال، ومجافاة ومعاناة، ودموع تترقرق في مآقي الأفراح والأحزان، ونشيج يصدح في سرّ المسّرات والأشجان، أي في كل نظراتها الشاخصة والفاحصة لما يجري فيها وحولها. وهو الحال الذي جسدته حركات الخوارج في كافة مواقفها، بحيث جعل منها "خروجا" يصعب تحديده بمعايير المصلحة العملية للعقل الأموي الماكر، كما يصعب قبوله بمعايير القدر المأساوي للأخلاق العلوية. وفيما بينهما تطايرت شظايا الفكرة الخارجية بوصفها لهيب الضمير المتآكل من خروجه على الجميع باسم الجميع. وهي المفارقة التي صنعت في آن واحد مأساة الخوارج ورونقهم الأبدي.

وشأن كل مفارقة روحية وفكرية كبرى هي الخميرة الضرورية لوجدان الثقافة وعقلها التاريخي. فالانتقال من وجدان الأحداث إلى عقل المواقف بمعايير الالتزام الفردي هي المكونات الضرورية لصيرورة الفردانية المتسامية. وذلك لأنها تجعل من كل ما يمس روحها وجسدها همّا من همومها الكبرى والصغرى. من هنا بروز الملامح الناتئة في المواقف والمآثر الكبرى والصغرى للخوارج. فالحركات التأسيسية الكبرى لا صغيرة فيها، بسبب قوة الرمزية الكامنة في جوارح الجسد وجروح الروح النازفة في مجرى مواجهة ما يبدو لها خروجا على حقيقة الإنسانية والحق. وفي هذا يكمن السبب الذي جعل من فكرة "مرتكب الكبيرة" العلامة الفارقة للخوارج.

فمن حيث المظهر الأولي أو رمزيته التاريخية لم تكن فكرة الخروج حكرا على الخوارج. غير أن ارتباطهما في الوعي التاريخي والسياسي واللاهوتي والأخلاقي الإسلامي يعكس طبيعة التحول الجوهري في فكرة الخروج على السلطة بوصفها الصفة الملازمة للخوارج. وإذا كان الوعي اللاهوتي السياسي بمختلف أصنافه، وبالأخص ذاك الذي استجاب في اغلب حوافزه الأولى لإغراء السلطة وترهيبها، قد طابق بين الخروج على السلطة وبين الخروج على الدين، من خلال ابتداع مصطلح المارقة وإلصاقه بالخوارج، فانه يكون بذلك قد حدس عظمة الفكرة الخارجية الملطخة بدماء أتباعها وأعدائها دون أن يدرك قيمتها! وهو أمر عادي بالنسبة للوعي المتملق والخاضع لرغبات السلطة والسلاطين. بينما كانت شعلة الخوارج الأولى هي لهيب الاحتراق الذاتي في مرحلة الانتقال من الوجدان الأخلاقي إلى العقل الثقافي ومنهما إلى معرفة النفس الفعلية. وجرى التعبير عن هذه العملية بمعايير الخوارج في مصطلح الشراة.

فقد كان الخروج فعلا عاما يمكن إطلاقه على أي خروج مهما اختلف شكله ولونه ونوعه. من هنا إمكانية تهمة "المروق" بوصفها الصيغة الدينية اللاهوتية المعارضة للخروج على السلطة والدين، بينما كانت تسمية الشراة هي التعبير الذاتي الأصيل عن معرفة النفس الفعلية. وتتماهى هذه التسمية مع رغبة الخوارج الذاتية وعقائدهم العملية. بمعنى تأسيسهم فيها ومن خلالها للفكرة المتسامية عن ضرورة شراء النفس، أي عدم بيعها في أسواق النخاسة والساسة. فقد كانت تلك التسمية الأولى في التاريخ الإسلامي التي جسدت نمطا من الرؤية النظرية التي تتوحد فيها القيمة والمعنى، وأسست نمطا من الرؤية العملية التي تتحقق فيها المبادئ والشخصية.

فقد كانت فكرة الخوارج الأولى عن شراء النفس مرهونة بالرغبة الصادقة بمرضاة الله. وليس مصادفة أن يصرخ حرقوص بن زهير، بوجه الخليفة علي قائلا: "يا ابن أبي طالب! لا نريد بقتالك إلا وجه الله والدار الآخرة"1. كما نراها أيضا في الصورة النموذجية التي تنقلها كتب التاريخ عن هيئة وحالة المواجهة الحربية التي حصلت بينهم وبين معسكر الإمام علي، عندما شدوا رغم أعدادهم القليلة "شدة رجل واحد، والخيل أمام الرجال، فاستقبلت الرماة وجوههم بالنبل، فخمدوا". ووصف احدهم ما كان يراه قائلا "لقد رأيت الخوارج حين استقبلتهم الرماح والنبل، كأنهم معز اتقت المطر بقرونها"2. وهو وصف لا استهجان فيه، بقدر ما انه يبرز عمق الاستعداد غير المتناهي للروح الخوارجي القادر على مواجهة مصيره دون تردد. بل أن المصير نفسه يصبح جزء من غبار المعركة التي تلف الجسد لكي ترميه بحمية بالغة أمام مهمة التضحية العابرة بوصفها تحقيقا لفكرة الأبد. ولم تكن هذه الحالة معزولة عن عنفوان الفروسية التي لا يعقل وجودها دون تحسس الجسد وهو يمرح في صحراء الصبر وبيداء التحدي وسواد البصرة والكوفة. إذ لا يعقل الأبد دون الأزل. فهما شأن الوحدة المرعبة والجميلة للحياة والموت. لكل منهما قيمته ومعناه ومداه. وفيما بينهما تتلألأ حمية الروح وصدق العزيمة، بوصفه الأسلوب الوحيد القابل للإدراك بمعايير الحدس المتسامي. وقد تمثل الخوارج هذا الحدس. من هنا "خروجهم" على الجميع! لكنه حدس لم يكن معزولا عن القدر الملازم للدولة الإمبراطورية وثقافة المواجهة العنيفة في مجرى إرساء أسسها الأولى.

فقد تمثل الخوارج إرهاصات الضمير الملازمة لانكسار الوحدة وتجزئتها، التي عادة ما ترافق الانعطافات الحادة في تاريخ الإمبراطوريات والأديان العالمية والفلسفات الكبرى وصعود الأمم. فهي تساهم في تعميق التجربة السياسية وإدخال ما يمكن إدخاله من عناصر الراديكالية المعنوية، كما تفعل في الوقت نفسه على ربط المكونات المتصارعة في رؤيتها الخاصة. الأمر الذي يجعلها شديدة الحساسية تجاه كل ما يعارضها. مما يؤدي بها في حالات عديدة إلى الغلو السياسي، والتزمت الأخلاقي، والفوضوية المتسامية، وهوس الشك الوجداني (التوبة) مع ما يترتب عليه من انعدام الثبات والاستقرار في المواقف الظاهرية بوصفه الصيغة المثلى للثبات الباطني. فعندما استكتب عبد الملك بن مروان، على سبيل المثال، نجدة بن عامر الحنفي (رئيس النجدات) وأعطاه الرضا، خالفه بذلك أتباعه وطالبوه بالتوبة. فتاب. ثم ندموا على ذلك وتابوا وطالبوه بالتوبة من توبته فتاب! مما اضطر ذلك بعضهم (أبو فديك) لقتله! وتكشف هذه الحالة النموذجية عن أن مظاهر الجسد الخشنة للخوارج لم تكن سوى الصيغة التاريخية لتهذب الروح في مجرى التدليل والبرهنة الذاتية على ما أسميته بالاستعداد على مواجهة المصير أيا كان مظهره بوصفه التزام الروح الفردي تجاه النفس والفكرة. وهي نتيجة تبعثر مكونات وتراكم وحدة التاريخ السياسي، لكنها تصنع على الدوام ما يمكن دعوته بالارتهان الكامل للفرد أمام التاريخ المعنوي (الأخلاقي) والسيرة الشخصية. ولا يمكن حل هذا الخلاف والخروج من مأزقه المتعرج في الحياة والضمير إلا عبر الإخلاص الدائم في الأقوال والأفعال. وقد صنع هذا التناقض خميرة الفكرة الراديكالية في الشخصية، بحيث يجعلها سماد الروح الأخلاقي في حياة الأمم والثقافة، ورماد الاحتراق الذاتي من اجل ذره في عيون السلطة الجائرة.

فقد كانت الهموم الكبرى للخوارج مقيدة بإجبار الأمة على العمل بما يمليه الضمير الحي والعقل الوقاد والإخلاص للعدالة، وليس بنفسية أو ذهنية الغزو والسلب والسلطة والجاه. وهو السر القائم وراء تحولهم إلى خميرة الصيرورة الثقافية الإسلامية الأولى التي أنقذتها في ميدان الفكر والإبداع من الفساد الأموي. بحيث جعلت منهم منذ البدء احد النماذج الرفيعة للإخلاص المادي والمعنوي لمتطلبات الإرادة المتسامية. الأمر الذي صنع ما يمكن دعوته بمثقف الإخلاص للفكرة والمبدأ. فقد استنسخ هذا الأنموذج الجديد روح الشخصية المحمدية التي بدت في أول أمرها خروجا على المعتاد والمألوف و"مروقا" على الوثنية، لكنها كانت في أعماقها وآفاقها شراء للنفس من أسواق الجاهلية بمختلف أصنافها وأشكالها ومستوياتها. بمعنى أنها قدمت النموذج لما ينبغي القيام به، وربط كل ذاك بفكرة الإرادة المتحررة من عبودية الرذيلة والاحتكام إلى صوت الضمير الخالص والصدق بمعاييره فقط. فإذا كان محور الإرادة المتسامية للشخصية المحمدية الأولى يدور حول فكرة الوحدانية بوصفها أسلوب توحيد الأنا والجماعة والحق، فان محور الفكرة الخوارجية كان يدور حول توحيد الأنا والجماعة والأمة تجاه إشكالية السلطة والحق. وليس مصادفة ألا تجتمع كل فرق الخوارج على شيء مثل اجتماعهم على محاربة الإمامة الجائرة، أي السلطة الغاشمة. ومن الممكن فهم بواعث هذا الإجماع في طبيعة معارك "القرن التأسيسي" للإمبراطورية، بوصفه زمن التحول العنيف من الخلافة إلى الملوكية الذي اجترح في مجرى انكساره الأخلاقي والسياسي الأول بعد معركة صفين وقضية التحكيم، ظهور الخوارج.

فقد كان ظهور الخوارج بحد ذاته تمثلا لقيم الحق بمشاعر الفروسية العربية والإخلاص الإسلامي الأول، وتصلب في مجرى المعارك القاسية وتألم من قسوة الخديعة، وعاني من تحسس الخروج على القيم الإسلامية الطرية ومحاولة تجفيفها السريع من جانب الأموية. فقد كانت كل هذه المكونات المرة هي حنظل الفطام الذي دهنته الملوكية الأموية على حلمة السلطة المغرية. من هنا اشمئزاز الخوارج، أي ممثلي البراءة وذوق الطفولة المرهف من الاقتراب منها. وهو الشيء الذي كانت تريده وتحلم به الأموية. وذلك لأنها وجدت في فطام الأمة الناشئة عن ألبانها أسلوب التحكم وليس الحكم. الأمر الذي جعلها تسمع في صراخ الخوارج عويلا وليس مناجاة وغناء. فالسلطة الجائرة لا ترغب بشيء غير سماع المديح أو الصمت. من هنا ذم الخوارج للسلطة الجائرة والجهر بذلك أمام الملأ بالأقوال والأفعال. فقد جعل منهم هذا الخروج ممثلي الحق وصوت الحقيقة. ووجد هذا التمثيل انعكاسه العميق في منظومة الافكار الكبرى التي أسسها الخوارج في الموقف من السلطة.

فقد أسس الخوارج جملة من المبادئ الجوهرية بصدد السلطة هي الأرقى والأنقى والأصدق لحقيقة الإسلام الأولى والفكرة الإنسانية والنزوع الاجتماعي والإنساني. فهم أول من أسس لفكرة الاختيار الحر للإمام من جانب الأمة. وجعلوا منه عاملا بعقد اجتماعي سياسي أخلاقي هو مصدر الشرعية الوحيد له وللإمامة (السلطان والسلطة). من هنا اشتراطهم فيه صفات العدل والحق والمساواة، بمعنى أن يعامل الناس على مبادئ وقيم العدل والمساواة المحكومة بفكرة الشرع. وهو مبدأ محكوم بطرفي المعادلة: الأمة والإمامة (المجتمع والسلطة). فالأمة تختار واختيارها محكوم بقيم ومبادئ محددة، كما أن الإمام محكوم بها أيضا. من هنا لا قيمة ولا أساس لفكرة القرشية في الخلافة. لأنها تتعارض مع حقيقة الإسلام والإنسانية. وهو السبب القائم وراء دعوتهم الرفيعة بإجازة أن تكون الإمامة في غير قريش. بحيث نراهم يقولون، انه إذا احتاجت الأمة إلى إمام فيجوز أن يكون عبدا أو حرا، نبطيا أو قرشيا3. بمعنى أولوية وجوهرية الفكرة الرفيعة والمبدأ المتسامي. من هنا ضرورة محاربة كل من يخرج على الإمام المنتخب، تماما بالقدر الذي ينبغي عزل أو قتل الإمام إذا "بدّل السيرة وخذل الحق". بمعنى يعزل إذا رضا ويقتل إذا رفض. ودفع بعض الخوارج هذه الفكرة إلى نتيجتها المنطقية والأخلاقية عندما قالوا بإمكانية أن لا يكون في العالم إمام أصلا. بمعنى التحرر من فكرة الراعي والرعية، والسيد والتابع، والقائد والجمهور. وهي فوضوية متسامية لكنها كانت تتمثل وتؤسس لفكرة الحرية التي لم يرتق إليها في عالم الإسلام آنذاك غير الخوارج. وفيها كان يكمن أيضا سر محاصرتهم الرهيبة. وذلك لأن فكرة الخوارج عن السلطة وموقف مثقفهم منها كانا يتعارضان آنذاك تعارضا تاما مع كمية العناصر المتراكمة في صيرورة الدولة الإمبراطورية. ووضعهم هذا التعارض في صلب المعركة التاريخية التي قدموا أنفسهم شهداء لها وعليها. بحيث تحول وجدهم ووجودهم وغايتهم إلى كينونة واحدة جعلت من الغلو السياسي، والتزمت الأخلاقي، والفوضوية المتسامية، وهوس الشك الوجداني مصدر القول والفعل الذاتي في مواجهة النفس والسلطة على السواء. أما النتيجة فهي صنع بهاء وصفاء المثقف الخوارجي ومصيره المأساوي

فالوساوس والشكوك هي آخر ما يساور الشخصية الكبيرة حالما تجد نفسها في لجة المعارك الحامية والدامية. لكن ذلك لا يعني انعدامهما في الأعماق. فاليقين الدقيق هو الوجه الآخر للشك العميق. وكلاهما يلطفان شغف القلب ووحي الضمير بوضعهما أولا وقبل كل شيء أمام مهمة تحدي النفس. فعندما تواجه الشخصية الكبيرة مآسي الحياة وعذاباتها بتحد قادر على انتزاع الغريزة من الجسد، والإبقاء على معالم الروح كما لو انه جسد الوجود الفردي، فإنها لا تفعل في الواقع إلا على تذليل أشباح الزمن. ومن ثم البرهنة على إن حقيقة الأنا هي أبد الوجود الحق. وهي مفارقة ترتدي مسوح المغالطة حالما تصبح جزء من الأهواء، ولباس الحقيقة حالما تصبح جزء من منطق الإخلاص. وهو المنطق الذي يصنع مثقف الإخلاص المعنوي. وذلك لما فيه من قدرة على تذليل وساوس الأحلام والدعوى الفارغة.

وهي حالة متناقضة، بل وتتسم بقدر كبير من المفارقة بسبب صعوبة التناغم الفعلي بين المنطق والوجدان الفائر. ولعل مفارقتها المذهلة تقوم في أنها عادة ما تبدع مثقفا لا يحلم! رغم كونه التجسيد الخلاب لحقيقة الأحلام الكبرى. وذلك لان فوران الوجدان العنيف عادة ما يلغي إمكانية التأمل ورؤية النفس ويجعلها تدور في رحى الحركة الهائجة لقيم الروح والجسد. حينذاك يصبح الحلم الوحيد هو الارتماء في أحظان المطلق الأخلاقي، بوصفها الحالة التي تجعل من المثقف أشبه ما يكون بنيزك الوجدان في بداية الليل الدامس! يتساقط ويعطي للآخرين إمكانية التأمل والحلم!

وقد كان أوائل الخوارج نيازك الثقافة الإسلامية في تساقطها المشع عند بداية الظلام الدامس للأموية. فقد كانت طبيعة ونوعية الانتقال من الخلافة إلى الملوكية فعلا مناقضا لمقدمات الفكرة الإسلامية عن الدولة والأمة والشرعية. بحيث جعل من كل خطوة تخطوها الأموية بهذا الصدد خروجا على الروح والجسد الفردي والاجتماعي والحكومي. وهو السبب القائم وراء تشنج الثقافة والرؤية الكونية للقوى المعارضة. فالإمبراطورية الثقافية الكامنة في الرؤية التوحيدية للإسلام الأول سرعان ما جرى كسرها بطريقة راديكالية تتسم بقدر هائل من العنف والإكراه والغدر والخيانة. وقد كانت تلك اشد العناصر مرارة في دهان الأموية لفطم الأمة والنخب عن مصادر رضاعتها الطبيعية. إذ لم يبق من إمبراطورية الخلافة الأولية شيئا غير قوة الإكراه الخالية من شرعية الروح والتاريخ المعنوي ونخب التأسيس الروحي والعملي ومعاناتها الفعلية في إرساء أسسها المادية والمعنوية.

فقد كان البديل الأموي للخلافة هو إمبراطورية الإكراه والغنيمة. ومن ثم لم يبق من معاناة تأمل الملك والملكوت والجبروت الإسلامي الأول سوى ملك الأموية وجبروتها السلطوي المتحرر من كل قيود أخلاقية وقانونية. وبالتالي رمي ملكوت السماء الإسلامي تحت حوافر العطايا ومرتزقتها. من هنا حدة النفور والمواجهة والتحدي في نحو القلوب الورعة والرغبة في إعرابه حسب قواعد الهموم الإنسانية الكبرى. فقد وضع الخوارج قواعد هذا النحو، وقاموا بإعرابه على قدر ما فيهم من فروسية العرب القديمة وعقائدية الرؤية الإسلامية الأولى. ومنهما جرى بناء صرح المعاناة الفردية العميقة لما يمكن دعوته بهموم الحق المهان. وهي هموم فردية الروح عامة الجسد. بمعنى أنها تنبع من القلب والوجدان في رؤيتها للكل الإسلامي على مستوى الأمة والدولة، والحياة وما بعدها.

وليس مصادفة أن نرى قلوب الخوارج تبكي وعيونها فرحة. فهي الحالة المثلى لتناغم الروح والجسد أو تكاملهما المخلص بمعايير الحق والحقيقة. مما جعل من الممكن تعالي الروح في سماء التضحية والشهادة، واقتراب الجسد من بيداء المعارك. أما المعنى الحقيقي لهذا التناقض فيقوم في تحول الإبادة إلى ابد، بمعنى تحول التضحية والاضمحلال في سديم المعارك إلى تخليد فكرة الحق والحقوق الأبدية. من هنا ظهور فكرة "حكم الأزل" وليس الأفراد. إن لم تعن فكرة الخوارج الأوائل عن انه "لا حكم إلا لله" سوى الحكم البشري الرفيع لأنه مرهون برؤية محددة هي عين "الوحي الإلهي". وليس "حكم الله" في رؤية الخوارج سوى رؤيتهم الذاتية. وتقترب هذه المعادلة من حدود المعضلة العصية على الحل، لكنها معقولة بمعايير ما أسميته بمنطق الإخلاص المعنوي. بحيث جعل هذا المنطق منهم نيازك الوجدان الإسلامي الفائر أمام فتور النخبة المترهلة بالثروة المسروقة، أي أمام نخبة لا تسمع بسبب انسداد سمعها الباطن، ولا ترى بسبب عميان بصيرتها، ولا تتحسس حقائق الأشياء بسبب يبوس أعصاب وجدانها الفردي، ولا تتذوق طعم الأبد لأنها محكومة بأوهام الأزل. وليس مصادفة أن يخرج مثقفو الخوارج الأوائل من بين جموع القوى العربية الإسلامية كما لو أنهم قوى غريبة، سرعان ما جرى تساقطها في حروب شرسة. أما البقية الباقية فقد جرى تجاهلها كما لو أنها قوى مجهولة. أما في الواقع، فان خروج مثقف الإخلاص المعنوي لا يتحمل الانتظار الطويل، لأنه من طبيعة النيازك الخارقة والشهب اللامعة. مهمتها العدم في كون الوجود. وأكثر من حقق الصيغة الأولية لهذه الظاهرة عبد الله بن وهب الراسبي وحرقوص بن زهير البجلي وعروة بن جدير وأبو بلال مرداس بن جدير، بوصفهم معالم الروح العملي والهجوم السياسي المحكوم بوجدان هائج وأخلاق صارمة وفكرة سياسية متزمتة. وهو الوجه المكمل والمتمم لرعيل المثقف النظري للخوارج في شخصيات جابر بن زيد وأبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة وعبد الله بن أباض.

***

ا. د. ميثم الجنابي

......................

1- البغدادي: الفرق بين الفرق، ص54.

2- ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، ج1، ص220.

3- مما جعل الشهرستاني يقول "إنهم أشد الناس قولا بالقياس". إضافة لذلك ينبغي تحليل مضمون "العبد" هنا على أنها فكرة مناهضة للعبودية، إذ لا يمكن للعبد أن يكون سيدا!

 

في المثقف اليوم