دراسات وبحوث

الجاحظ وبلاغة الروح القومي الثقافي (1-2)

ميثم الجنابيعادة ما ترتبط ذكرى الشخصيات العلمية والفكرية الكبرى بكتاب ما معين. ومن ثم ترابط شهرتها به. وهو ترابط أقرب ما يكون إلى العقدة الخفية أو السر المجهول أو المصير الجميل لكليهما. وبغض النظر عن اختلاف تفسير هذه العلاقة أو تنوع تأويلها، فإن تلازمهما ليس صدفة طارئة أو حالة مفتعلة. ففي هذه العلاقة يكمن أولا وقبل كل شيء الحدس المختفي وراء وحدتهما الداخلية، باعتبارها تاريخ العلاقة الذاتية للفيلسوف وفلسفته، والأديب وأدبه.

وقد جمع الجاحظ في اغلب مؤلفاته بين هذين الجانبين، غير أن كتاب (البيان التبيين) يبقى النموذج الذي حقق فيه أحد النماذج الرفيعة لوحدة الرؤية الفلسفية والأدبية وغايتها العملية. ومع انه يحتوي على مختلف صنوف الأدب والتفلسف والجدل والرواية الشعرية والأدبية والخطابية والنوادر والنكت وكثير غيرها، إلا أن ما يجمع كل هذه الفنون وغيرها هو تأسيس وعي الذات العربي الأدبي[1]. بمعنى الكشف عما يمكن تسميته ببلاغة الروح الأدبي. وهذه بدورها حلقة ومستوى وجزء من صيرورة الروح الثقافي للخلافة، أو ما يمكن دعوته بإمبراطوريتها الثقافية. بعبارة أخرى، إن الجوهري فيه ليس نظرية الأدب والشعر والخطابة، رغم إننا نعثر فيه على الكثير من أجنتها الأولية، بل تأسيس مرجعية النفس الثقافية.

إن تأسيس مرجعية النفس الثقافية، أي مرجعية رفع العقل والوجدان الفردي والاجتماعي إلى مصاف الرؤية الثقافية الخالصة والبقاء في الوقت نفسه ضمن حدود الانتماء الذاتي، هي الغاية الفعلية التي وضعها ودققها وحققها في (البيان والتبيين). لقد كشف فيه عن بلاغة الثقافة العقلية والوجدانية والقومية وتبيان أصولها وجذورها وحقيقتها في مواجهة النفس أولا وقبل شيء. ومن خلالها مواجهة كل تلك الحالة التاريخية الشاذة التي ميزت ظاهرة الشعوبية آنذاك.

وقد بنى هذه الرؤية والمواقف العقلية والأدبية الرفيعة على أسس العقلانية الثقافية، التي ميزت تاريخ المعتزلة وتقاليدها. ومن ثم سعى لأن تكون بلاغة الروح القومي الثقافي بيانا للنفس وتبيانا للحقيقة. من هنا إعارته الاهتمام الأكبر لقضية البلاغة، في مجرى الجدل والصراع ضد الشعوبية، من اجل الكشف عن جدواها وقيمتها وأهميتها بالنسبة للروح القومي. ومن ثم واجه من خلالها وفي مجراها قضية الإبداع الحر والبقاء ضمن حيز الكينونة الثقافية للأمة. وبالقدر نفسه كان المظهر الأدبي والبلاغي والبياني المعّبر عن تقاليد وتوسع الأبعاد الثقافية في الحضارة العربية الإسلامية. ومن ثم تعزيز مرجعياتها الذاتية الخاصة في النفس الفردية والاجتماعية والأمة ككل، بوصفها فلسفة النفس الثقافية (العربية الإسلامية). وليس اعتباطا أن يبدأ الجاحظ تقديمه (للبيان والتبيين) بالحديث عما اسماه بفتنة الكلام والعمل. فهي المعايير التي تكشف عن حقيقة الأقوال والأفعال أو العلم والعمل[2]. كما انه ليس مصادفة أن يبدأ بإظهار أهمية "البيان والتبيين" انطلاقا من أقوال الشعر العربي أولا والقرآن ثانيا.

إننا نقف هنا أمام رؤية تنطلق من الشعر بوصفه الصيغة الأدبية الراقية و"ديوان العرب" وخزين حكمتهم ورؤيتهم ومواقفهم، ومن ثم تعبيره عن ماهية وحقيقة الروح العربي. وهي الفكرة التي سيضعها لاحقا في اساس الخصوصية الثقافية للعرب، بحيث جعل من الشعر والبلاغة ذروة إبداعهم الأعظم مقارنة بغيرهم، أي مطابقة خصوصيتهم الثقافية بإبداعهم الأدبي والبلاغي.

لقد كانت قيمة البيان بالنسبة للجاحظ تطابق مع قيم الإدراك الدقيق لحقيقة الروح العربي الثقافي. بل إن القرآن نفسه يشدد على هذه القيمة كما في عدد من آياته مثل "الرحمن. علمّه القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان) و(هذا بيان للناس) و(نزلنا عليك القرآن تبيانا لكل شيء). إننا نعثر في هذه الصيغة وكذلك في هذا الاستنطاق للقرآن عن تلازم البيان والتبيان، كما لو انه يريد القول، بأن (البيان والتبيين) هو الصيغة الأدبية لفلسفة الروح الثقافي العربي كما أسس لها القرآن. لكنه وضعها ضمن سياق الرؤية التاريخية للماضي والحاضر والمستقبل. فإذا كانت في الماضي (الجاهلي) هي لغة وجودهم التاريخي، فإنها اتخذت زمن الإسلام الأول لغة الآيات القرآنية وبيانها الجديد، القادر على مواجهة التعنت "الجاهل" لقريش. بحيث جرى رفع بيان آياته وتبيانها للحق "معجزة" الإسلام الوحيدة.

من هنا اهتمامه العميق والدقيق بكل ما له علاقة باللغة. فاللغة العربية هي جوهر الوجود العربي. وكما كان الحال بالنسبة لمرحلة ما قبل الإسلام، كذلك الحال بالنسبة للإسلام. بل إن الإسلام نفسه هو الذي جعل من اللغة قوة الوحدة والانتماء الثقافي. والقرآن نفسه هو قراءة للوجود بآيات الحق، أي بآيات الرؤية المحكومة بفكرة الحق والحقيقة. وذلك لأنها إلهام صادق. وسوف يشدد الجاحظ لاحقا على هذه الصفة العميقة للكينونة العربية وصيرورتها التاريخية، عندما اعتبر خاصية العرب في الخطابة تقوم في ابتداعهم إياها بالبداهة والإخلاص للمعنى، بحيث كانت عندهم تصدح من الأعماق المتوقدة كما لو إنها إلهام. وهي ظاهرة وخاصية لها تقاليدها العميقة والعريقة عند العرب. فما وراء الشعر كانت تتراكم أيضا تقاليد السجع، التي جمّعت في ذاتها الحدود الدقيقة للكلمة والمعنى، وأعطت للعبارة أبعادها المترامية، التي نعثر على نموذجها اللاحق في آيات القرآن. فقد كان السجع العربي الأول الصيغة الأدبية الراقية للأحكام. بمعنى انه كان يجمع بين قوة الكلمة والتكهن بالحوادث، والحكم بما ينبغي التمسك به. من هنا يمكن فهم السبب القائم وراء تركيز الجاحظ على ظاهرة الكهانة. فقد كن كهان العرب الذين كانت العرب الوثنية يتحاكمون إليهم، يحكمون بالاسجاع[3]. وإذا كان الموقف السلبي الأول في الإسلام الأول من السجع بسبب ارتباطه بالكهانة، فإنه بعد انتصار الاسلام والتطور التاريخي "زالت العلة إلى التحريم" كما يقول الجاحظ[4]. بمعنى جرى قبوله ولكن ليس بمعايير الوثنية، بل بمعايير المحاكاة الأدبية للآية القرآنية ونغمها البلاغي والروحي والمعنوي.

إن ارتقاء الكلمة والعبارة العربية من السجع حتى الآية القرآنية يعكس من وجهة نظر الجاحظ ومنهجه في البيان، عما للكلمة من "قدسية" في الوعي العربي التاريخي. بحيث تحولت العبارة بصيغتها القرآنية (الآية) إلى معجزة الإسلام الكبرى الوحيدة. وهذا بدوره يكشف عما للكلمة والعبارة واللغة من قيمة لا يضاهيها شيء في الحس والعقل والحدس العربي. من هنا اهتمام الجاحظ بكل ما له علاقة باللغة العربية بدأ من تخريج الحروف والنطق وانتهاء بإدراك المعنى الحقيقي للكلمة، أي من الحس بالكلمة وإدراك المعنى حتى تذوقها بالحدس. ففي أحد نماذجها الراقية يورد الجاحظ مثال واصل بن عطاء (80-181) في نطق الكلمة وكيفية تأثيرها في التحكم بها عبر بلاغة المعاناة العقلية وحكمة البلاغة. فقد كان واصل بن عطاء الثغاً. من هنا عمله على تلافي هذه العلة الصغيرة من خلال التحكم برصف الكلمات واختيارها بالشكل الذي يزيل منها حرف الراء. وقد اشتهر بذلك، وبالأخص في احدى خطبه التي تجنّب فيها حرف الراء. لهذا قيل عنه:"رام أبو حذيفة إسقاط الراء من كلامه وإخراجها من حروف منطقه، فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه ويناضله ويساجله حتى انتظم له ما حاول"[5]. وقد مدحه عليها بشار بن برد[6]. بينما نراه في موقع آخر يهجوه، ويفضل النار على غيرها، كما لو انه يؤجج نار الزرادشتية تحت غطاء الشعوبية آنذاك. الأمر الذي دفع صفوان الانصاري بالرد عليه وهجوه في قصيدة منها[7]

زعمت بأن النار اكرم عنصرا     وفي الأرض تحيا بالحجارة والزَّند

وتُخْلقَ في أرحامها وأرومها       أعاجيب لا تحصى بخط ولا عقد

وفي القعر من لجِّ البحار منافع    مـــن اللؤلؤ المكنون والعنبر الورد

كذلك سرُّ الارض في البحر كله   وفـي الغيضة الغنّاء والجبل الصلد

ثم يعدد كل ما في الطبيعة من معادن وعجائب[8].

وتتبع الجاحظ معالم الخروج على النطق في ظاهرة اللحن التي استفحلت وانتشرت في العصر الأموي. بمعنى أخطاء النطق في تخريج الحروف وتشويهها[9]. واستشهد الجاحظ بأقوال عديدة بهذا الصدد مثل قول عبد الملك بن مروان:"اللحن هجنة على الشريف". وينسب له أيضا قول "اللحن في النطق أقبح من آثار الجدري في الوجه"[10]. بينما رد زياد بن ابيه على رجل اشتكى عنده ضد اخيه الذي سلبه ماله قائلا:

إن اخينا وثب على مال أبينا فأكله

إن الذي أضعت من لسانك أضرّ عليك مما أضعت من مالك[11].

كما اورد الكثير من النكت والنوادر بهذا الصدد مثل قول احد الأعاجم "هذا الذّمل يذكرنا بالسرّ" ويقصد بذلك "هذا الجمل يذكرنا بالشر". أو الحادثة الطريفة التي تروي كيف جاء أحدهم يطلب من جاره بإمرة سيده قائلا:

اهدوا لنا همار وهشي. (ويقصد بذلك أن يعطيه حمارا وحشيا، أي حيوانا بريا أو ما يشابهه مما يحل أكله)، فأجابه:

ما تقول ويلك!؟

اهدوا لنا أير وهشي!

الأول أهون![12]

لقد أراد الجاحظ هنا تأسيس المواقف المتشدد من اللغة، بوصفها وعاء وأداة التعبير عن المشاعر والحكمة العقلية وما ورائهما. ومن ثم الكشف عن قيمتها الجوهرية بالنسبة للشعر والبلاغة. ولم تكن هذه القضية بالنسبة للجاحظ مجرد تمرينا لغويا، وإلا كانت مجرد لغو لا طائل تحته أو  في أفضل الأحوال مجرد فقاعات في أزيز الريح. بينما كانت بالنسبة له تعادل وتتمثل وعي الذات العقلي والجمالي والثقافي. بمعنى ربطها في كل واحد الشعر والبلاغة، بوصفها الصفة الجوهرية للكينونة العربية وحكمتها التاريخية الخاصة. وأورد الجاحظ عبارة سعيد بن المسيب عندما قالوا له "إن ها هنا قوم نساك يعيبون إنشاء الشعر"، فأجابهم "نسكوا نسكا أعجميا"[13]. بمعنى إن الشعر بالنسبة للعربي يتطابق مع معنى هويته وكينونته التاريخية الثقافية، التي جعلت من اللغة إحدى أهم مرجعياته في كافة الميادين. مما اضفى عليها طابع ومضمون الهوية الثقافية. فحتى الأذان يبدأ وينتهي بالكلمة والعبارة وليس بالناقوس والطبول والأحجار والأخشاب، أي بجميع ما لا علاقة له باللغة بوصفها حياة الروح الناطق. لهذا نراه يقف موقف المعارض والداحض للآراء التي حاولت سلب الشعر قيمته، بما في ذلك من خلال وضع الاحاديث النبوية الكاذبة لدعم مواقفهم. لقد كان رد الجاحظ واضحا ودقيقا بهذا الصدد عندما شدد على أن القرآن هو من رفع قيمة البيان. كما أن أغلب، إن لم يكن جميع هذه الأحاديث التي تحارب الشعر وتنتقص منه ومن البيان، هي موضوعة، أي كاذبة. (يتبع.....)

 

ا. د. ميثم الجنابي

..............................

[1] كتاب (البيان التبيين) هو الكتاب الذي اهداء الجاحظ إلى القاضي احمد بن ابي داوود (160-240) من كبار القضاة، معتزلي المذهب. شخصية كبيرة في البلاط العباسي زمن ازدهار الخلافة و"عصرها الذهبي".

[2]  الجاحظ: البيان والتبيين. القاهرة، 1975، ط 4، تحقيق عبد السلام محمد هارون، ج1، ص3.

[3] الجاحظ: البيان والتبيين، ج1، ص290.

[4]  الجاحظ: البيان والتبيين، ج1، ص290.

[5]  الجاحظ: البيان والتبيين. ج1، ص15.

[6]  الجاحظ: البيان والتبيين. ج1، ص24.

[7]   صفوان بن صفوان الانصاري هو أحد أبرز شعراء المعتزلة. توفي في البصرة بحدود عام 180 للهجرة. وقد عاصر واصل بن عطاء ومدحه مراراً في شعره وأشاد به كثيراً. ومن أشهر ما قال فيه:

فما مسّ دينارا ولا صرّ درهما  ولا عرف الثوب الذي هو قاطعه

وهي اشارة إلى زهده. وقد كانت مهنة واصل غزل الملابس، ولذلك لقب بالغزّال. وفي مجرى دفاعه عن واصل بن عطاء ضد هجوم بشار بن برد عليه، قال في بشار (الأعمى) وأخَويه بشر وبشير (أحدهما أعرج والآخر ناقص اليد)، مخاطبا أمهم

ولدتِ خلدا وذبخا في تشتُّمهِ     وبـــــعده خزَراً يشتدّ في الصّعُدِ

ثلاثةٌ من ثلاثٍ فُرِّقوا فِرِقاً      فاعرف بذلك عِرقَ الخالِ في الولدِ

والخلد هو الجرذ الأعمى، ويقصد به بشار، والذبخ هو ذكر الضباع، وهو أعرج، ويقصد به أخو بشار الأول، والخزر هو ذكر الأرانب، وهو قصير اليدين، ويقصد به أخو بشار الآخر.

[8] الجاحظ: البيان والتبيين. ج1، ص27-29.

[9] ارتبطت هذه الظاهرة بالتوسع العربي الذي ادخل الكثير من الشعوب والأقوام في فلك الدولة العربية (الخلافة) ومن ثم هيمنة اللغة العربية وانتشارها، مع ما رافقه من تعقيدات وصعوبة في فهم اللغة ومعانيها ونطق حروفها بالنسبة للأغلبية من غير العرب. والسبب هو صعوبتها بالنسبة لعوام الأقوام الأخرى. وبأثر ذلك تباينت أيضا ولحد الآن لهجات العرب (مع إن للظاهرة تقاليدها العربية الخاصة). لكنها بالارتباط مع تعريب الأقوام الأخرى جرى صنع لهجات جديدة، إضافة إلى انحدار العربية من الفصحى إلى العامية (من العوام).

[10] الجاحظ: البيان والتبيين، ج2، ص216.

[11] الجاحظ: البيان والتبيين، ج2، ص222.

[12] الجاحظ: البيان والتبيين. ج1، ص73-74.

[13] الجاحظ: البيان والتبيين، ج1، ص 202.

 

 

في المثقف اليوم