دراسات وبحوث

الجاحظ: فلسفة الجامعة الإنسانية والروح الثقافي

ميثم الجنابيلكل ثقافة كبرى حدودها ومرجعياتها، تماما كما أن لكل ثقافة من هذا القبيل شخصياتها المتميزة ومدارسها، التي تطبع بطابعها إما إحدى سماتها الكبرى أو حقيقتها الجوهرية. وقد كان الاعتزال الإسلامي من بين مدارس الثقافة العربية الإسلامية التي عبّرت عن حقيقتها الجوهرية. بمعنى انه تمّثل ومثّل بقدر واحد نزوعها العقلي النقدي وتوجهها الإنساني. وقد احتل الجاحظ موقعه في سلسلة الشخصيات الكبرى للاعتزال ومدارسه بتمثّله المبدع لهذا النزوع والتوجه. بمعنى انه الشخصية الكبرى ليس ضمن تقاليد الاعتزال فقط، بل وضمن تقاليد الثقافة الإسلامية ككل ممن كان صوته العقلي النقدي ممزوجا بنزوع إنساني رفيع المستوى وعميق المحتوى. بل يمكننا القول، بأن آراء ومواقف الجاحظ هي ليس فقط تجسيدا حيا للروح النقدي تجاه كل شيء، بل وتأسيسا منطقيا ووجدانيا للفكرة الإنسانية. الأمر الذي جعل من العقل النقدي عنده أداة لتوسيع وتعميق الروح الإنساني. ومن الممكن العثور على هذه الحالة الفريدة والراقية أيضا في كمية ونوعية الرسائل التي وضعها بهذا الصدد مثل رسالة (مناقب الترك وعامة جند الخلافة)[1]، وكتاب (فخر السودان على البيضان) وغيرها.

وليس مصادفة أن يحتل نقد الفكرة الشعوبية موقعه الخاص هنا أيضا. وذلك لأنه وجد فيها أحد المظاهر المخربة لفكرة الوحدة، وأولوية الدولة، ووحدة النوع الإنساني وطابعه الملزم في الأمة الإسلامية. ولا يغير من ذلك شيئا، حتى فكرة أولوية ورفع شأن الحق والحقيقة في حالة تجييرها لمصالح جزئية أو رؤية عقائدية ضيقة. فقد كان الفرس يتحدثون عن أنفسهم، بأثر انتصار العباسية وزوال الأموية بالشكل التالي:"نحن النقباء أبناء النقباء، ونحن النجباء أبناء النجباء، ومنا الدعاة قبل أن تظهر نقابة، وقبل المغالبة والمباراة، وقبل كشف القناع وزوال التقية، وزوال ملك اعدائنا عن مستقره وثبات ملك أوليائنا في نصابه. وبين ذلك ما قتلنا وشرُدّنا ونهكنا ضربا وعذبنها بألوان العذاب"[2]. وأضافوا لهذا الانتصار أبعاده العقائدية التي لا تخلو من سلامة العقل والوجدان، لكنه يخلو من فكرة التوحيد الضرورية بالنسبة للدولة والأمة. فقد قالوا بهذا الصدد ما يلي:"وبنا شفى الله الصدور واُدرك الثأر. ونحن أهل هذه الدولة، وأصحاب هذه الدعوة، ومنبت هذه الشجرة، ومن عندنا هبت هذه الريح"[3]. و" نحن على وتيرة واحدة تعرف بالشيعة، وتدين بالطاعة ونقتل فيها ونموت عليها. ونحن أصحاب الرايات السوداء والروايات الصحيحة، والأحاديث المأثورة، الذين يهدمون مدن الجبابرة وينزعون الملك من أيدي الظلمة"[4].

إننا نعثر في هذه النصوص على تداخل أفكار متعارضة ومتضادة، رغم وحدتها الداخلية بمعايير الانتماء السياسي والعقائدي. ولعل نقصها الجوهري هنا يقوم في تشبعها الباطني ببقايا الشعوبية وفكرة "الانتقام". ومن ثم رفع شأن تقييم النفس بالشكل الذي يتعارض مع فكرة الاعتزال ومجرى المسار التاريخي الفعلي لما ادعوه بصيرورة وتكامل النفس الإنسانية في الثقافة العربية الإسلامية. وضمن هذا السياق يمكن فهم ايراد الجاحظ للفكرة القائلة، بأن السبب الأساسي القائم وراء توجه الحركة العباسية صوب إيران في مجرى الصراع ضد الأموية، هو كونها المكان الذي خلى آنذاك من تأثير مختلف التيارات المتنازعة والمعارضة للتيار الشيعي العلوي. فقد كانت البصرة لعثمان، والشام لبني مروان، والجزيرة حرورية شارية (خوارج)[5]. لهذا ينسب إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس (مؤسس الدعوة العباسية) قوله:"أمرنا هذا لا شرقي ولا غربي.... يطلع كطلوع الشمس ويمتد على الآفاق امتداد النهار"[6]. بمعنى انه إسلامي خالص ولا ينتمي لجهة أو فئة أو قوم معين لحاله فقط. بل هو محكوم بما فيه من مبدأ إعادة الحق إلى نصابه عبر إزالة الأموية بوصفها القوة التاريخية التي حرفت مسار الإسلام الحق. لكن هذه بدورها مجرد صيغة أيديولوجية ودعائية صرف. غير أنها تحتوي على بُعدٍ جديد سوف تظهر معالمه وآثاره ونتائجه الكبرى لاحقا عندما تحولت مرجعيات الثقافة العربية الإسلامية زمن الخلافة العباسية إلى ميدان تفتح وتوسع المرجعيات الثقافية الإسلامية بشكل هائل، مع ما ترتب عليه من تحولها إلى ثقافة كونية وإمبراطورية ثقافة.

وقد تمثل الجاحظ المسار الجديدة للثقافة العربية الإسلامية من خلال توليف الأبعاد العقلية النقدية والروح الإنساني، بوصفه النفي الأدبي لمختلف مظاهر الضيق القومي والفئوي والفِرقي والمذهبي. من هنا دفاعه عن الجميع، كل بقدر ما فيه من طاقة وتميز خاص لرفد فكرة الوحدة والوئام. لهذا ركز على القيمة المتميزة للأتراك بوصفهم القوة المقاتلة والتربية والمتدبرة لفنون القتال. ومن ثم إمكانية استعمالها لما يخدم مصالح الدولة والوحدة والإسلام. ووضع هذه الحصيلة في صلب نقده ونفيه لكل ما يتعارض معها بالانتقاص من الأتراك كقوم. لقد أراد القول، بأن للأتراك فضيلة كبرى، هي جزء من صيرورتهم التاريخية وكينونتهم الثقافية. بمعنى انها خصلة جوهرية من خصالهم الكبرى مقارنة بالأمم الاخرى. ومن ثم ينبغي فهم محدداتها وقيمتها ومآثرها ضمن هذا السياق. وفي الوقت نفسه لم يجعلها قيمة مطلقة. من هنا مقارنته إياهم، في ميدان القتال، مع الخوارج. واستشهد هنا بكلمات حميد بن عبد الحميد الطوسي القائل[7]، بأنه يفّضل في حال الحرب أن يلاقي مائة تركيا من أن يلاقي مائة من الخوارج، على عكس القواد الآخرين[8]. لكنه كان يقرّ بقوة الأتراك وشجاعتهم في القتال. وقد حدد الجاحظ الصفات الأساسية للخوارج في كل من صدق الشدة من اول وهلة من اجل بلوغ الهدف؛ والصبر على القتال؛ وقدرتهم على بلوغ ما يسعون إليه بالتخلص من مكائد العدو؛ وخفة الأزواد وقلة الأمتعة، فهم "كالطير لا تدخر ولا تهتم لغد. ولها في كل أرض من المياه والأقوات ما تبتلغ منه. وإن لم تجد ذلك في بعض البلاد فأجنحتها تقرّب منها البعيد"؛ ولا يمكن بالتالي إرسال جيشا خفيفا لمقاتلتهم. فمائة جندي لا يمكنهم مقابلة مائة خارجي، وأخيرا، إن الخارجي يقاتل لاعتقاده بأن "القتال دين، على عكس التركي الذي يقاتل من أجل السلب"[9]. والفكرة الأخيرة لا تنتقص من بطولة وبسالة وجرأة الجند الأتراك في القتال. فلكل منهم تقاليده الثقافية والروحية والأخلاقية بهذا الصدد.

وطبق هذه الفكرة تجاه موقفه المدافع عن السودان (بمن فيهم الزنج والعبيد آنذاك)[10]. فقد أورد الجاحظ الكثير من الشخصيات الكبرى والمهمة في تاريخ الإسلام من ذوي الأصول السوداء، مثل سعيد بن جبير، الذي قتله الحجاج الثقفي سنة 95، وبلال الحبشي، والمقداد، ووحشي بن حرب الحبشي (قاتل مسيلمة) وكثير غيرهم. بل نراه يشدد عل ما يدعوه بصفاتهم المتميزة مثل الشجاعة، والقوة، وحسن الخلق، وطيبة النفس، وحسن الظن[11]. كما انتقد الانطباع والحكم المسطح والقائل، بأن تميز الزنوج بالسخاء هو بسبب قلة العقل. لهذا نراه يؤكد العكس تماما. حيث شدد على انه لو كان الأمر كذلك، لكان الصبي أكرم خصالا. بينما نحن نعرف بأن الأمر ليس كذلك، بل وعلى العكس. واستند الجاحظ في موقفه واستنتاجه هذا على "القياس الصحيح". بمعنى إن "قلة العقل لا يمكنها أن تكون سببا للسخاء"[12]. ثم استطرد وأسهب بهذا الصدد من خلال الكشف عن قيمة السودان وفضائلهم على مثال الطبيعة والحيوان والنبات. لقد أراد القول، بأن الحكم على الإنسان استنادا إلى بشرته هو عين الجهل والسخف. وأن لون السواد في الطبيعة والحيوان والنبات تبرهن على جماله وقيمته.

إن الحصيلة الأساسية والتأسيسية في فكر الجاحظ النقدي تجاه مختلف أشكال الانغلاق والتفاخر المفتعل وذم الأقوام والإنسان لاعتبارات لا علاقة لها بحقيقتهما هو دليل على سخافة العقل وانعدام الرؤية الإنسانية، أي افتقادها إلى كل ما يشكل مضمون وحقيقة الإنسان نفسه. لقد كانت مساعي الجاحظ بهذا الصدد تقوم في البحث عن الوحدة والوئام، كما نراه في مضمون رسائله عن الترك والسودان وغيرهم. من هنا توكيده على انه لا يسعى لتفضيل أحد على آخر، بل لجمع قلوب الجميع[13]. من هنا وقوفه بالضد من كل ما يرمي إلى "الجدال والهراء واستعمال الهوى"[14]. من هنا اعتباره مهمة "زيادة الألفة إن كانت مؤتلفة" المهمة الأساسية. ومن ثم استكمالها بالسعي "لاتفاق أسبابهم لتجتمع كلمتهم ولتسلم صدورهم". وبالتالي محاربة مختلف الأباطيل والأوهام والشبهات المزورة. وذلك لأن "المنافق العليم، والعدو ذو الكبد العظيم، قد يصوّر لهم الباطل في صورة الحق، ويلبس الاضاعة لباس الحزم"[15].

ووضع كل ذلك في ما يمكن دعوته بتأسيس مهمة البحث عن الجمعية الإنسانية وفضائل الأمم في خصائصها الجوهرية. وقدم بهذا الصدد تصنيفه الخاص للأمم وتميزها بالفضائل. وأشار أساسا إلى خمس أمم كبرى وهي كل من أهل الصين واليونان والفرس والعرب والأتراك. واعتبر من ميزات أهل الصين وخصائصهم الصناعة. بينما اليونانيون للحكمة، والفرس للسياسة، والأتراك للقتال، والعرب للغة والشعر[16]. ولم يقصد هو بذلك الطابع المطلق لهذه الصفات في هذه الأمم، بل إشارة إلى ما هو أكثر جوهرية فيها آنذاك. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه "ليس انه ليس في الأرض تركي وهو كما وصفنا، كما انه ليس كل يوناني حكيما، ولا كل صيني غاية في الحذق، ولا كل اعرابي شاعرا فائقا. ولكن هذه الأمور في هؤلاء أعمّ وأتّم، وهي فيهم أظهر وأكثر"[17].

ذلك يعني انه يجد في العرب قوة وفضائل ثقافية محض شأن اهل اليونان. وذلك لأنه طابق فضائلهم الجوهرية مع ابداع العقل والوجدان. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن "العرب لما كانت واحدة فاستووا في التربة وفي اللغة، والشمائل والهمة، وفي الأنفة والحمية، وفي الأخلاق والسجية. فسبكوا سبكا واحدا، وأفرغوا إفراغا واحدا. وكان القالب واحدا فتشابهت الأجزاء وتناسبت الأخلاط، وحين صار ذلك اشد تشابها في باب الأمم، والأخص في باب الوفاق والمباينة من بعض ذوي الأرحام، جرى عليهم حكم الاتفاق في الحسب. وصارت هذه الأسباب ولادة أخرى حتى تناكحوا عليها وتصاهروا من اجلها"[18].

ودفع هذه الفكرة صوب غايتها النهائية، ألا وهي الكشف عن أن الصيرورة التاريخية الخاصة للعرب جعلتهم أمة ثقافية، أي ليست عرقية. وهذا جزء من صيرورتها التاريخية الطبيعية. فإذا كان الماء والطين يختلف في أشكاله ومحتواه، مثل أن يكون طمى الأرض، والحجر، والياقوت، والذهب[19]، فإن أصولهم في نهاية المطاف واحدة. لاسيما وأن الله خلق آدم وحواء من الطين[20]. ونفس الشيء يمكن قوله عن حقيقة العرب والعربي. وقدم الجاحظ هنا إحدى الأفكار الثقافية العميقة في تناوله لشخصية الموالي. فالمولى عربي من جهة العائلة، كما يقول الجاحظ. [21]. وبالتالي، فإن الجميع، من وجهة نظر الجاحظ، في نهاية المطاف عرب. فإذا "كان الخراساني مولى، والمولى عربي، صار الخراساني والمولى والعربي واحدا"[22]. وهذه بدورها ليست إلا حصيلة التأمل والتأسيس العقلي والإنساني في موقفها من كينونة العرب الذاتية، أي كل ما أدى إلى أن تصبح فكرة الأمة الثقافية (للعرب) هي فكرة الروح الأدبي العربي والنفس الثقافية.

***

ا. د. ميثم الجبابي

........................

[1] كتبها إلى ابي الفتح بن خاقان وزير المتوكل العباسي، الذي قتل لاحقا مع المتوكل. وكان أديبا وشاعرا. أما العبارات التي يتقدم بها الجاحظ في رسالته المثمنة لشخصية بن خاقان في دفاعه وخدمته للخليفة والسلطة، فإنها لم تكن جزءا من تقاليد الخضوع والخنوع المميزة للكثير من كتّاب المرحلة، بقدر ما كانت تحتوي في أعماقها على إدراكه الخاص لقيمة وأهمية الدولة المركزية القوية، التي كانت تتآكل آنذاك. من هنا حديثه عن قيمة وأهمية الجيش من جهة، والدفاع عن مناقب الترك بوصفهم قوة عسكرية، من جهة أخرى. ليس ذلك فحسب، بل ووضع مناقب الترك ضمن الرؤية العامة لما اسماه "بكافة جند الخلافة" (الدولة).

[2]  الجاحظ: مناقب الترك، ج1، ص14.

[3]  الجاحظ: مناقب الترك، ج1، ص14-15.

[4]  الجاحظ: مناقب الترك، ج1، ص15.

[5]  الجاحظ: مناقب الترك، ج1، ص16.

[6]  الجاحظ: مناقب الترك، ج1، ص17.

[7]  أحد كبار قادة جيوش الحسن بن سهل في خلافة المأمون. وكان ذا قوة وبطش وشجاعة في الحرب. لهذا كان المأمون ينتدبه للمهمّات الصعبة.

[8]  الجاحظ: مناقب الترك، ج1، ص41-43.

[9]  الجاحظ: مناقب الترك، ج1، ص51-52,

[10]  تستمد أفكار الجاحظ هذه، مقوماتها من جوهر الفكرة الإسلامية لكنه يؤسسها ضمن سياق التطور التاريخي الثقافي للخلافة. كما انه يبلوها بمعايير الرؤية العقلانية للمعتزلة ومنظومته الفكرية المبنية على اساس الرؤية العقلية النقدية ونزوعها الإنساني. من هنا تحررها من جميع أشكال الأحكام النمطية الساذجة والسيئة. ووضع بالضد منها منهج إدراك حقائق الأشياء بعيون العقل النقدي والنزعة الإنسانية. من هنا الطابع الرفيع المتسامي لموقفه من الشعوب والأمم والأقوام والبحث فيها عن فضائلها الخاصة التي تشكل بمجموعها وحدة الفضائل الإنسانية. وبهذا المعنى يكون الجاحظ قد ارتقي حتى على الكثير من الأفكار التقدمية والثورية الحديثة والمعاصرة. كما نعثر فيها على نفي لكل تلك "الاجتهادات" الغبية التي لازمت مسار وتطور الثقافة الأوربية في مجرى وضعها للكثير من العقائد والأيديولوجيات غير الإنسانية والوحشية "المتمدنة".

[11]  الجاحظ: فخر السودان على البيضان، ، ضمن مجموعة (رسائل الجاحظ)، تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة، 1964،ج1، ص177-185.

[12]  الجاحظ: فخر السودان على البيضان، ج1، ص196-197.

[13]  الجاحظ: مناقب الترك، ج1، ص36-37.

[14]  الجاحظ: مناقب الترك، ج1، ص30.

[15]  الجاحظ: مناقب الترك، ج1، ص29.

[16]  الجاحظ: مناقب الترك، ج1، ص 67

[17]  الجاحظ: مناقب الترك، ج1، ص73,

[18]  الجاحظ: مناقب الترك، ج1، ص11.

[19]  الجاحظ: مناقب الترك، ج1، ص33.

[20]  الجاحظ: مناقب الترك، ج1، ص32.

[21]  الجاحظ: مناقب الترك، ج1، ص31.

[22]  الجاحظ: مناقب الترك، ج1، ص34.

 

 

في المثقف اليوم