دراسات وبحوث

الجاحظ وتأسيس الاعتدال العقلي

ميثم الجنابيإن إحدى الأفكار النظرية والعملية الكبرى التي بلورها الجاحظ في موقفه من أهل العلم والمعرفة تقوم في ضرورة مواجهتها للواقع كما هو والعمل على نقده وتغييره بما يتوافق مع مبادئ الفكرة العقلية والالتزام الفردي المحكوم بقيم الحق والحقيقة. وهذه بدورها ليست إلا الصيغة المتسامية لفكرة الاعتدال. إذ لا حق ولا حقيقة خارج الاعتدال. والاعتدال لا متناه في الأشكال. من هنا موقفه المعارض للتقية السياسية والفكرية على السواء. وذلك لأن إخراج الحقيقة في الرؤية والمواقف إلى العلن هو جزء من الحقيقة بل الحقيقة بعينها عندما تكون مهمة المواجهة تجاه الخطأ والخطيئة القضية الكبرى والجوهرية. ونعثر في هذه الفكرة على موقف فكري وسياسي يلازم معنى وحقيقة أهل العلم، أو المثقف الكبير. والمقصود من فكرة الجاحظ هذه وموقفه هو أن رجل العلم والفكر ينبغي أن يبوح بحقيقة أفكاره كما هي. من هنا استفساره النقدي بهذا الصدد عندما قال:"فمتى إذن تزول التقية ويجب إظهار الحق والنصرة للدين والمباينة للمخالفبن؟ أحين يموت الخصم ويبيد أثره ويهلك عقبه ويقلّ ناصره، ويزول جميع الخوف، ويكون على يقين من السلامة. وكيف يكون القائم حينئذ بالحق مطيعا ولله مخلصا؟"[1].

إن أولوية الطاعة للحق، هو الموقف الذي استحكم في ذهنية ونفسية الجاحظ وحكمها على الدوام، بوصفها الصيغة الملازمة لمنطق البحث العقلي عن الحقيقة. وضمن هذا السياق يمكن فهم دفاعه عن علم الكلام، عندما كان البحث عن الحقيقة وتأسيسها في المواقف والعقائد، باعث الإبداع الجوهري فيه. وهذا بدوره لم يكن معزولا عن أن مهمة الدفاع عن علم الكلام عند الجاحظ مرتبطة بتقاليد مضمون الكلام المعتزلي من جهة، وكونه العلم الذي كان يحمل آنذاك وهج الرؤية العقلية والنقدية، على الأقل ضمن تقاليد المعتزلة بشكل عام والجاحظ بشكل خاص.

وخصوصية الجاحظ بهذا الصدد تقوم، في انه حالما يتناول هذه القضية أو تلك في جميع رسائله وكتبه، فإنه يسعى لإبراز قيمتها الكبرى، كما لو أنها الأهم بين غيرها من القضايا. ذلك يعني، إن كل شيء مهم. ولكل شيء فضيلته. ومهمة أهل العلم تقوم في إبراز ذلك لكي لا تجري الاستهانة بأي مظهر من مظاهر الوجود الإنساني بشكل عام والإبداع الحر بشكل خاص. من هنا قوله "لصناعة الكلام فضيلة على كل صناعة، ومزية على كل أدب"[2].

وقد كانت قضية نقد الغلو والخروج على الاعتدال إحدى القضايا التي نعثر على تناولها المباشر أو تناولها الجزئي وصداها المبطّن في كل ما كتبه. الأمر الذي يشير إلى أولية وجوهرية فكرة الاعتدال في منظومته الفكرية ككل. ونعثر على أهم أفكاره بهذا الصدد في نقد "النابتة" ومظاهرها المختلفة. فقد كانت رسالة (النابتة)، من حيث مضمونها الفكري والتاريخي والسياسي، موجهة أساسا ضد بني أمية. لكنه يجد أصولها ومظاهرها الأولية في صدر الإسلام الأول. وكتب بهذا الصدد يقول عن أن النابتة هم الذين ظهروا بعد الصدر الأول من الإسلام، بالأخص زمن عثمان بن عفان. ولها طبقات، الأولى من عصر محمد حتى نهاية خلافة عثمان. ومن أهم صفاتها آنذاك التوحيد الصحيح، والإخلاص، واجتماع الكلمة[3]. من هنا يمكن فهم موقفه المعارض والتقدي تجاه قتل عثمان، ليس محبة به أو احتراما له، بقدر ما كان موقفه ينبع مما اسماه بأن القتل بهذه الطريقة هو أحد آثار الهمجية[4]. لقد أراد الجاحظ القول، بأن الانتفاض والتمرد هو ليس الحل الأمثل لإحقاق الحق. وبالتالي، فإن الطريق الأمثل للتغيير يقوم عبر الإصلاح وتنوير العقول والقلوب. وهو استنتاج بناه فيما يبدو على تأمل التجربة التاريخية وما أدت إليه من صعود الأموية وظهور مختلف أشكال وأنواع الغلو السياسي والعقائدي والفكري. وليس مصادفة أن يتناول بعد موقفه النظري هذا إلى تاريخ الدولة بعد مقتل عثمان حتى صعود معاوية للسلطة، أو ما يسمى بعام الجماعة. بينما يعتبره هو عام الفُرقة. وكتب بهذا الصد يقول، بأن "العام الذي سموه عام جماعة، ما كان بعام جماعة، بل كان عام فُرقة وقهر وجَبَرية وغَلبة. والعام الذي تحولت فيه الإمامة مُلكا كسرويا، والخلافة غَصْبا قيصريا"[5]. إننا نعثر في هذا التقييم على موقف سياسي عقلاني دقيق وتقييم فكري نظري لظهور وتوسع وتعمق ظاهرة الغلو كما وجدها في سلوك القهر السياسي وتجبّر السلطة واستبدادها، والجبرية السياسية، أي كل ما رافق زمن الهيمنة الأموية. من هنا تقييمه الحاد للأموية كما في حكمه القائل، بأن صعود معاوية للحكم هو "أول كفرة كانت في الأمة".

غير أن نقده للأموية لم يكن مجرد ولع فكري أو استظهار للماضي أو تجيير لمصالح سياسية عابرة، بقدر ما كان يحتوي في أعماقه وتأسيسه وغايته على نقد ظاهرة الغلو الجديدة التي تسحق معالم الفكر العقلي والعقلاني وتدفع الجميع صوب هاوية الانحطاط الذهني والأخلاقي، كما وجدها في ما اسماه بظهور المستوى الجديدة للنابتة. فقد لاحظ الجاحظ  ظاهرة ازدياد تأثير النابتة التي تدافع عن بني أمية. كما نراه يشير إلى أن العوام تتبعها. وربط ذلك بسببين أساسيين وهما كل من انتشار فكرة التشبيه والجبر، وصعود الشعوبية والصراع القومي[6]. بمعنى انه وجد في كل هذا الانحطاط الذي تجّسد في ظهور النابتة الجديدة هو النتاج الملازم للخروج عن الاعتدال الفكري والسياسي. فالتشبيه والجبر يعكسان الصيغة الكبرى للخلاف الفكري والعقائدي في تاريخ الثقافة الإسلامية بين خطين وتيارين في مجال الفكر النظري والعملي، ألا وهما تاريخ الصراع بين التيار الحشوي (المشّبة) والتيار العقلي للمعتزلة الداعي الى التنزيه التام. وترتبط بتيار الحشوية كل مظاهر التشبيه والجبرية وتأييد السلطان وتحويل كل "اجتهادها" إلى احاديث نبوية مزيفة ووضعها ضمن مخزون "أهل السنّة والجماعة" بينما لا سنّة نبوية فيها ولا جماعة. وكلاهما من صنع الأموية القاهرة بعقيدة الجبر الدينية والسياسية. فقد كان سلوك وشخصية أهل التشبيه (التيار السنّي الحشوي). يقوم في عبادته وعبوديته للسلطان والقوة. كما أنه التيار الذي لا يستند إلى العقل والجدل والنقاش، كما يقول الجاحظ. وهذه ملاحظة فكرية مهمة لأنها تحولت إلى جزء من شخصية وتراث التقاليد السنيّة الحشوية. بما في ذلك في العالم المعاصر. انها جزء من هراوة السلطات والاستبداد وقمع الفكر ومحاربة حرية التعبير وازدراء الروح الإنساني. وقد شدد الجاحظ في اشارته على هذه الظاهرة. فعندما كان السلطان إلى جانبهم زمن الأموية، فإنهم كانوا أبواقه وخدمه في الترويج للتشبيه والاستبداد والمجاهرة العنيفة، لكنه حالما تغير مزاج وتوجه السلطة، انقلبوا أو اضطروا للنزال إلى المنازلة الفكرية. من هنا تأكيد الجاحظ على أن ما كتبه بهذا الصدد هو بسبب مهاجمتهم للمعتزلة[7]. من هنا اشارته إلى انه سبق وأن وضع كتابا بهذا الصدد بالرد على آراء الحشوية وتزييف آيات القرآن بسبب عدم تأويلها العقلي. وبالتالي، فإن الغاية من رسالته هذه  تقوم في "المنفعة وإصلاح قلوب العامة"[8]. بمعنى أن غايته الأساسية هي المنفعة وإصلاح القلوب على الأقل. بينما يختلف الأمر بالنسبة لإصلاح العقول، وذلك لأن هذه المهمة تحتاج إلى جهود ومستويات أخرى. من هنا يمكن فهم مقصوده من الفكرة التي وضعها في عبارة وجيزة تقول، بأن ظنّ العاقل كصواب غيره.

وبالمقابل يمكن فهم موقفه المؤيد (شأن المعتزلة ككل) لمن يدعوهم بالحكام المتنورين على خلاف وتناقض مع الحشوية[9]. وبأثر ذلك بلور حكمه القائل، بأن النابتة التي لا تسمح بمهاجمة ولاة السوء. وذلك لأن فعل كهذا يؤدي إلى الفتنة. واعتبره كفر أكبر من كفر يزيد بن معاوية وأبيه[10]. من هنا مهاجمته الشديدة لنابتة عصره المدافعين عن الأموية من جهة، ووقوفه إلى جانب البيت العلوي، من جهة أخرى[11]. وبأثر كل ذلك يمكن فهم الأسباب الكامنة وراء تقيمه العالي لشخصية عبد الله بن عباس[12]. وذلك لأنه وجد مأثرته هنا في أسلوبه للتأويل العقلي الذي أدخله إلى علم التفسير والموقف من القرآن. فالجاحظ يعتبر علوم القرآن والسنّة النبوية من أرفع العلم وأشرف الفكر[13]. وهذا بدوره ليس تفضيلا مطلقا، بقدر ما يعكس موقفه الذي أشرت إليه في البداية من أن كل العلوم والفنون والإبداع الإنساني لها قيمتها الكبرى بالنسبة له حالما يجري تناولها بانفراد.

أما لماذا جعلت الحشوية من التشبيه عقيدة، مع أنها مخالفة لأبسط مقومات العقل وقواعد المنطق العقلي، فلأنها بلا عقل. ومن هنا أيضا كرهها للمنطق والفلسفة. إنها تعكس نمط من الذهنية البدائية المبنية على أساس التمسك بأقوال السلف والنصوص "المقدسة" بعد أن تكون قد رفعتها في تصوراتها إلى مصاف "المصدر الوحيد للحقيقة". مع إن كل ما فيها أشياء تقترب من حيث الجذر والأصل والأسلوب إلى مستويات البلادة والغباء والجهل. والشيء الوحيد "الحي والفعال" فيها هو الاستعداد لنقل النصوص. وهذه مهمة يمكن أن يؤديها الأطفال والمجانين إيضا!

أما السبب الثاني المتعلق بصعود الشعوبية، فإنه استفز مشاعر العرب، الذي وجدوا في الأموية "أكثر عروبة" من العباسية. وقد اعتبر الجاحظ هذه الرؤية شيئا لا علاقة له بالعرب والعروبة والعزة القومية. وليس مصادفة أن تنتشر بين العوام. كما إنها الوجه الآخر للشعوبية التي تمثلت أرذل ما في الفكرة القومية من خلال جعلها أسلوبا للاستفزاز والانتقام والتشفي. ومن ثم تحتوي في ذاتها وتختزن كل قبح الآثام المترتبة على انعدام الرؤية العقلية والعقلانية والإنسانية. وبالتالي، ليست هي سوى الصيغة المعبرة عن الغلوّ ومن ثم انعدام الاعتدال فيها.

وبالمقابل دعا إلى أن يكون الرد القومي ثقافيا. ليس ذلك فحسب، وسعى إلى أن يكون الرد الثقافي عقلانيا أيضا. وإن الرد العقلاني ينبغي أن ينفي إمكانية ظهور وترسخ مختلف مظاهر ومستويات السخافة العقلية في مواجهة سخافة العقول والعقول الموتورة بالفكرة القومية ونفسية التشفي والانتقام التي وجدت تعبيرها آنذاك في الشعوبية.

كل ذلك يكشف عما في فكر ومنهج الجاحظ من تأسيس شامل لفكرة الاعتدال، بوصفه الصيغة النظرية لكل ما بإمكانه أن يؤدي إلى تكامل النفس الفردية والاجتماعية والأمة والدولة بمعايير العقل بشكل عام والعقل الثقافي بشكل خاص، أي ذاك الذي تتراكم قيمه ومفاهيمه وأحكامه ومواقفه بمعايير التجربة الذاتية.

***

ا. د. ميثم الجنابي

.......................

[1]  الجاحظ: نفي التشبيه، ضمن مجموعة (رسائل الجاحظ)، تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة، 1964ج1، ص287. وقد كتب الجاحظ رسالته (في التشبيه) إلى محمد بن احمد(ت-239) قاضي بغداد زمن المتوكل. كما كتب له رسالة (النابتة). وكانت الكثير من رسائله مكتوبة لرجال الدولة من أمراء وقضاة ووزراء وغيرهم. بينما كانت كتبه الأخرى ورسائله موجهة للجميع. انه أراد إيصال الفكرة للنخبة السياسية والحكومية وللجمهور. وتعكس هذه الظاهرة بدورها طبيعة العلاقة بين أهل العلم أو المثقف الكبير مع السلطة والمجتمع. كما تعكس واقع استفهام واستفسار رجال الدولة ومؤسساتها عن الكثير من القضايا الفكرية. ومن ثم تكشف عن إنهم يقرءون ما يكتب رجال العلم والمعرفة، على عكس ما هو مميز لأزلام السلطة، الذين لا تتعدى مصادر معارفهم الكتابات الصحفية المسطحة والسخيفة والمرتزقة، كما هو سائد في العالم العربي المعاصر. لقد كانت هموم رجال المعرفة والعلم تتركز حول قضايا الحق والحقيقة وتأسيسهما النظري والعملي، بينما مهمة أهل الصحافة المأجورة هو مسح أحذية السلطة وأزلامها، ولحس ما تحتها والتلذذ بهذه المهمة!

[2]  الجاحظ: في نفي التشبيه، ج1، ص285.

[3]  الجاحظ: في النابتة، ضمن مجموعة (رسائل الجاحظ)، تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة، 1964،ج2، ص7-8.

[4]  الجاحظ: في النابتة، ج2، ص9.

[5]  الجاحظ: في النابتة، ج2، ص11.

[6]  الجاحظ: في النابتة، ج2، ص20-21.

[7]  الجاحظ: في نفي التشبيه،ج1، ص288.

[8]  الجاحظ: في نفي التشبيه،ج1، ص291.

[9]  الجاحظ: في نفي التشبيه،ج1، ص292.

[10]  الجاحظ: في النابتة، ج2، ص14.

[11]  الجاحظ: في النابتة، ج2، ص12-13.

[12]  الجاحظ: في نفي التشبيه،ج1، ص300.

[13]  الجاحظ: في نفي التشبيه،ج1، ص300.

 

 

في المثقف اليوم