دراسات وبحوث

فلسفة الذات الإلهية عند الغزالي (3)

ميثم الجنابيانطلق الغزالي من الفكرة القائلة، بأن كل حادث له سبب، وبما أن العالم حادث، فيلزم أن يكون له سبب. إذ ليس العالَم بنظره، سوى كل موجود ما عدا الله من أجسام وأعراض. وكل ما هو موجود أما متحيز أو غير متحيز. ففي الحالة الأولى أما أن يظهر باعتباره جوهرا فردا (أي ما لا ائتلاف فيه) أو جسما (ما هو مؤتلف من جواهر عديدة). أما في الحالة الثانية (غير متحيز) فيظهر أما باعتباره عرضا، أي ما يستدعي وجوده جسما آخر يقوم به أو ما لا يستدعي وجوده شيئا آخر وهو الله. فالله بهذا المعنى يظهر كوجود لا متحيز، قائم بحد ذاته لا يرتبط وجوده بوجود ما آخر.ذلك يعني أن الله وجود ليس بجسم ولا جوهر متحيز ولا  عرض. مما يؤدي بدوره إلى انعدام إمكانية إدراكه بالحس، ولكننا ندعي وجوده وإدراكه بالدليل لا بالحس1 .

وشكلت فكرة حدوث العالم المقدمة الأساسية للبرهنة على ذات الله، انطلاقا من أن الحادث هو ما كان معدوما ثم صار موجودا. وذلك مما يمكن تصور وجوده. إذ لا يعني تحول المعدوم إلى موجود سوى انه غير واجب الوجود بذاته. وفي الوقت نفسه يدل على أن ذلك ليس مما يستحيل وجوده، وإلا لم يوجد. فالعالم هو الأجسام والجواهر. والبرهنة على حدوثه، كما يقول الغزالي، قضية ليست معطاة بالعقل كما هو الحال بالنسبة لمفهوم الحادث. فالجوهر، على سبيل المثال، لا يخلو من الحركة والسكون. وكلاهما حادثان. أما الحركة فحدوثها ملموس. وإذا افترضنا وجود جوهر ساكن كالأرض، على سبيل المثال، فافتراض حركته ليس بمحال. بل إننا نعلم جواز هذه الحركة بالضرورة. وإذا وقع ذلك الجائز (أي الحركة  بعد السكون) كان حادثا. وبالتالي يصبح معدما للسكون فيكون السكون أيضا قبله حادثا. وذلك لأن القديم لا ينعدم. بمعنى أن تحول السكون إلى حركة وبالعكس هو بحد ذاته دليل على حدوثها، باعتبارها تغيرا جوهريا أاو انتقالا نوعيا من حالة لأخرى. مما يؤكد افتراض عدم قدمها. فالقديم، كما يؤكد الغزالي، لا ينعدم. لهذا رفض الافتراض القائل بإمكانية انتقال الأعراض باعتباره الأسلوب المناسب أو الفرضية الممكنة لإزالة التناقض القائم هنا، انطلاقا من أن الجوهر لا يخلو من كمون الحركة فيه أو ظهورها. وكلاهما (الكمون والظهور) حادثان. وبالتالي فإن الجوهر لا يخلو من الحدوث. ومن يفهم حقيقة العرض يدرك استحالة الانتقال فيه. إذ ليس الانتقال سوى عبارة أخذت من انتقال الجوهر من حيز إلى آخر. مما يثبت في العقل من أن فهم الجوهر والحيز واختصاص الجوهر بالحيز زائد على ذات الجوهر. وبما أن العرض لابد له من محل، تماما كما لابد للجوهر من حيز، فقد أدى ذلك إلى تخيل أن إضافة العرض إلى المحل كإضافة الجوهر إلى الحيز، فيسبق منه إلى الوهم إمكان الانتقال عنه كما في الجوهر2.

إن عدم التفرقة بين محل العرض وحيز الجوهر أدى إلى التباس المطابقة بينهما. فالمحل وإن كان ملازما للعرض، مثلما أن الحيز لازم  للجوهر، إلا أن بين لزوم الأول والثاني فرق. فربّ لازم ذاتي للشيء ورب لازم ليس بذاتي للشيء. ولم يقصد الغزالي بالذاتي هنا سوى ذاك الذي يرتبط به وجود الشيء ارتباطا ضروريا. وبما أن الحيز ليس ذاتيا للجوهر، لهذا لا يؤدي فقدان حيز زيد إلى فقدان زيد. بينما لا يمكن تصوره (زيد) بدون عرضه (طوله). لقد أراد من وراء ذلك البرهنة على أن الحيز ليس ذاتيا للجوهر، انطلاقا من علمنا أولا الجسم والجوهر ثم ننظر بعد ذلك في الحيز، وما إذا كان أمرا ثابتا أم أمرا موهوما، أي كل ما يمكننا الوصول إليه بالدليل العقلي والحسي. لهذا اعتبر "اختصاص العرض بمحله لم يكن زائدا على ذات العرض كاختصاص الجوهر بحيّزه".  فالجوهر عقل وحده. وعقل الحيز به لا الجوهر عقل الحيز على خلاف ما هو مميز للعرض. فهو عقل بالجوهر لا بنفسه. فإذا قدّرنا مفارقة العرض لذلك الجوهر المعين فقد قدّرنا عدم ذاته. وذلك لأن ذات العرض تابعة للجوهر المعين وليس له ذات سواه.

أما الدعوى الثانية فتقوم في محاولته البرهنة على حدوث العالم من خلال الرجوع إلى السبب الأول. بمعنى انطلاقه من أن إثبات حدوث العالم يستلزم الإقرار بافتقاره إلى سبب آخر. وهذا السبب يفتقر بدوره إلى سبب آخر وهلم جرا. ولا يمكن لهذه الأسباب أن تترتب وتتسلسل إلى ما لانهاية. مما يلزم بالضرورة الإقرار بوجود قديم خالق. ولم يعن هذا القديم، بنظره، سوى أن "وجوده غير مسبوق بعدم. فليس تحت لفظ القديم إلا اثبات موجود ونفي عدم سابق"3 .

اما الدعوى الثالثة فتستند إلى الفكرة القائلة بأن صانع العالم مع كونه موجودا لم يزل، فهو باق لا يزال، لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه. ومن هذا المنطلق حاول دحض الفكرة المعتزلية القائلة بأن المعدوم شيء وذات.

أما الدعوى الرابعة فتقوم بالإقرار بأن صانع العالم ليس بجوهر متحيز لأنه قد ثبت قدمه. إذ لو كان متحيزا لكان لا يخلو من الحركة في حيزه أو السكون فيه. وما يخلو من الحوادث فهو حادث.

أما الدعوى الخامسة فتقوم بالإقرار بأن صانع العالم ليس بجسم، لأن كل جسم متألف من جوهرين متحيزين. وإذا استحال أن يكون الله جوهرا متحيزا استحال أن يكون جسما.

وقد حدد ذلك بدوره مضمون الدعوى السادسة والقائلة بأن صانع العالم ليس بعرض. إذ ليس العرض سوى ما يستدعي وجوده ذاتا تقوم به. وشكلت بهذا المعنى مقدمة الدعوى السابعة القائلة بأن الله ليس في جهة مخصوصة من الجهات. فمن يفهم معنى لفظ الجهة والاختصاص، كما يقول الغزالي، يفهم قطعا استحالة الجهات على غير الجواهر والأعراض. وبالتالي لا معنى للآراء التي تحاول أن تستنبط جهة الله استادا إلى ما في ظاهرية العبارات من إشارات. وذلك لأن التوجه لله (في السماء) تضرعا أو إلى الكعبة (في الأرض) عبادة، لا يعني اشارتها إلى حقيقة الذات أو تطابقها مع المكان. وذلك لأن ربط الذات الإلهية بالمكان أو الزمان هذيان. كما أن التضرع إلى السماء وما شابه ذلك هي أمور مختصة بالشرع لا بالعقل. فالتوجه للسماء والانحناء للأرض هي أسرار تقوم حكمتها في استمالة القلوب. أما مقصود الدعاء لله فمنزه عن الحلول في البيت والسماء. أما تصور الله في السماء أو الأرض فهي تصورات العوام وسوء فهمها لإشارات الجوارح (الظاهر)4 . فعادة ما يصعب عليها نفي الجهة وذلك لأنها قضية عقلية خالصة يصعب إدراكها بأساليب التمثيل والوهم والحس. فهي أساليب لا تتعامل إلا مع الأجسام. في حين إن الله ليس بجسم ولا  جوهر ولا عرض.

وإذا كانت هذه الصيغة تتعارض مع الظاهرية السنّية، ولحد ما القرآنية في عباراتها المباشرة عن العرش والاستواء وما شابه ذلك، فإن الغزالي حاول حلها من خلال ما اسماه بالدعوى الثامن، أي الضرورية للعوام من حيث يقال لهم، بأن الله منزّه عن أن يوصف بالاستواء على العرش، وانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وفي حالة إلحاحها بالسؤال فلا بأس من أن تجاب بما أجاب به مالك بن أنس، من "أن الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والسؤال عنه بدعة والإيمان به واجب". أما فكرة كون الله "ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا" فينبغي أن تصاغ ضمن إطار مفهوم "وهو معكم أينما كنتم" بمعنى انه "مع الكلّ بالإحاطة والعلم"5 . وبهذا يكون قد سعى من وراء ذلك نفي التشبيه والتجسيم من خلال إبراز مطلق الذات الإلهية. فالاستواء بالنسبة له هو مجرد نسبة للعرش. أما هذه النسبة فهي كونه معلوما أو مرادا أو مقدورا عليه أو محلا مثل محل العرض أو مكانا مثل مستقر لجسم، ولكن بعض هذه النسبة تستحيل عقلا، وبعضها لا يصح اللفظ للاستعارة به له. فليس الاستواء هنا، في حالة النظر إلى القضية من زاوية اللغة وما لا يتخيله العقل، سوى السيطرة، كما في الشعر القائل:

قد اسـتوى بشر على العـراق    من غير سـيف ودم مهـراق

وحاول تطبيق هذه الفكرة على موقفه من "نزول الله". إذ لم يعد النزول سوى إضافة بالمجاز. أما بالحقيقة فهو مضاف إلى ملك من الملائكة. تماما كما هو الحال في الآية (واسأل القرية) أي أهلها. بمعنى التلطف والتواضع في حق الخلق، كما يستعمل الارتفاع بمعنى التكبر. أما نزوله في الليل فبمعنى أن "الخلوات مظنة الدعوات. فالليالي اعدت لذلك حيث يسكن الخلق وينمحي عن القلوب ذكرهم ويصفو لذكر الله"6 .

أما الإبقاء على الصيغة الإسلامية في اطار عقائدها الكبرى، فقد حدد بدوره مضمون الدعوى التاسعة في ما اصطلحت عليه تقاليد الكلام برؤية الله، أي أن الإقرار بإمكانية رؤية الله لا يتناقض مع نفي الجهة. فالأخيرة لا تعني نفي الرؤية، بل تستلزمها. فالله مرئي لوجوده. ووجوده ذاته. فالوجود لذاته لا لفعله أو صفة من صفاته. وبما أن كل موجود ذات، من هنا ضرورة رؤيته، تماما بالقدر الذي يوجب ذلك كونه معلوما7 . أما الدليل العقلي على الرؤية فيقوم، حسب نظر الغزالي، في أن كل ما ينطبق على الوجود ينطبق عليه، باستثناء الحدوث، وما لم يناقض صفة من صفاته. إذ لا سبب ضروري لنفي الرؤية. أما نفي رؤيته فمتأتٍ مما تعوّد عليه الحس والنظر في رؤية الأشياء والأجسام. فالله يرى نفسه ويرى العالم، وهو مع ذلك لا في جهة من نفسه ولا في العالم. وإذا جاز ذلك فقد بطلت آراء الحشوية، والتي لم يكن بإمكانها فهم  معنى موجود لا في جهة، والمعتزلة، التي نفت الجهة ولم تثبت الرؤية.

أما الدعوى الأخيرة، فهي دعوى إن الله هو الواحد. فهو واحد، بمعنى رجوعه إلى ثبوت ذاته ونفي غيره، ولا ند له بمعنى أن كل ما سواه مخلوق له. وبالتالي فهو أجلّ الموجودات.

 

ا. د. ميثم الجنابي

..................

الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، ص14.

الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، ص16.

الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، ص19.

الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، ص24.

الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، ص27.

الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، ص30.

الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، ص30.

 

في المثقف اليوم