دراسات وبحوث

فلسفة "الأنا العارفة" عند الغزالي

ميثم الجنابيانطلق الغزالي من الحديث القائل "ما فضلكم ابو بكر بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بسرّ وقر في صدره". أما هذا السرّ فقد كان متعلقا، كما يقول الغزالي، بقواعد الدين غير خارج عنها. وبما أن ما كان من قواعد الدين، لم يكن خافيا بظواهره على غيره، لهذا يفترض أن يكون ذلك شيئا آخر غير ظواهر عقائد الدين1. وإذا كانت هذه الظاهرية غير المباشرة وراء ما اسماه بغير ظواهر قواعد الدين، فلأنها النتاج الملازم لتعمق الوعي اللاهوتي الفلسفي في اطار الصوفية الإسلامية. بمعنى تعمق إلزامية الحدود الواضحة والمعقولة للجميع. لهذا اتخذت في آرائه صيغة المحاولة المنظمة لإيجاد الوحدة الممكنة والمعقولة بين الظاهر والباطن أي السرّ، وبالتالي إزالة تناقضاتها وإشكالاتها المستعصية في الذوق والكشف، من خلال التحقق بصفات الحق (المطلق) وحقائقها الموجودة في قواعد الدين. وهي الفكرة التي حاول الكشف عنها من خلال آراء التسترى القائل "للعالم ثلاثة علوم، علم ظاهر يبذله لأهل الظاهر، وعلم باطن لا يسعه اظهاره إلا لأهله،  وعلم هو بينه وبين الله لا يظهره لأحد". انه حاول الكشف عن الوحدة الداخلية في هذه العلوم الثلاثة من حيث طبيعة حقائقها الجوهرية، وعن تباينها وتناقضها في ما بينها، باعتباره نتاجا ملازما لسطحية  الوعي. وبالتالي، فإن الحل الشامل لهذه الإشكالية يقوم في نفي الظاهر والباطن وإزالة الطابع السرّي للسرّ. وهو ما حاول اظهاره في مواقفه من الذات والصفات والأفعال باعتبارها هويات فكرية، أو منظومات جزئية، وكذلك في موقعها الوظيفي ومستوياتها المعرفية في كتاباته. بصيغة أخرى، ليست (الرسالة القدسية في قواعد العقائد) و(الاقتصاد في الاعتقاد) وما قبلها من الأعمال سوى علم الظاهر المبذول لأهل الظاهر. أما آراؤه وإشاراته ورموزه في أعماله الصوفية فهي من علوم ما وسعه اظهاره لأهله، وما هو بينه وبين الله، أي كل ما لا يسهل التعبير عنه بشرطية اللغة وحدودها المنطقية واللغوية. إذ ليست هذه الحدود في اشد أحوالها سوى لصيغة الأكثر تجريدا للمقارنة لا لحقائق الأشياء كما هي، والتي يمكن احتواؤها الكلي في مذاق المعرفة الصوفية باعتبارها كشفا. لهذا اكد على أن المرء لا يدرك من حقيقة الذات الإلهية وصفاتها إلا نفسه وصفات نفسه، مما هي حاضرة له في الحال، أو مما كان من قبل، ثم بالمقايسة إليه يفهّم ذلك لغيره2 . إذ ليس في قوة البشر، كما يقول الغزالي، إلا أن يثبت لله ما هو ثابت لنفسه من الفعل والعلم والقدرة وغيرها من الصفات مع التصديق، بأن ذلك أكمل وأشرف فيكون معظم تحريمه على صفات نفسه لا على ما اختص الرب به من الجلال3 .

ولم يعن ضعف القدرة على اظهار ما بينه وبين الله عجزا معرفيا، بقدر ما انه انزلاق المطلق من أن تحويه أو تمسكه حدود اللغة المشروطة بالمقايسة والمقارنة.  وألا لأدى ذلك إلى جعله فتنة للوجود الاجتماعي السياسي والأخلاقي. فهي الفتنة التي كان مفهوم "حفظ السرّ" أحد تجلياتها الفكرية الاجتماعية. فإذا كانت هذه الفكرة السالمية التسترية المصاغة بعبارة "إفشاء سرّ الربوبية كفر" و"إن للربوبية سرّ لو اظهر لبطلت النبوة، وللنبوة سرّ لو كشف لبطل العلم، وللعلماء بالله سرّ لو اظهروه لبطلت الأحكام" هي الصيغة المناسبة لتجاوز حدود اللغة في لغة الحدود المطلقة، فإن الغزالي حاول توظيفها بالشكل الذي جعل منها المقدمة الضرورية للكشف عن درجات الوحدة ونفيها في الذات العارفة. بحيث جعله ذلك يشدد على أن المقصود بذلك هو ليس بطلان النبوة كنبوة، بل بطلانها في حق الضعفاء لقصور فهمهم. فالصحيح هو انه لا تناقض فيه. وإن الكامل من لا يطفئ نور معرفته نور ورعه4 .

لقد أراد الغزالي إزالة "وهم التناقض والخلاف". وإلا لأدى ذلك إلى ابطال الشرع. فإذا كانت الشريعة هي عبارة عن الظاهر، والحقيقة هي عبارة عن الباطن، وانه لا تناقض ولا خلاف بينهما، فليس ذلك إلا لأنهما شيء واحد. وبالتالي فلا انقسام ولا سرّ للشرع. وأن كونهما شيئا واحدا لا يلغي السرّ، بقدر ما انه يستلزمه. لكنه لا يعني هنا سوى غير المتناهي في امتداده بين الظاهر والباطن. وهو السبب القائم وراء اعتراضه العملي عما في ذلك من خطورة محرّكة للخطب العظيمة في علوم المكاشفة. وجعله ذلك يشدد على  فكرة العقائد وأعمال القلوب، وعلاقة إحداهما بالأخرى من خلال ما اسماه بالقبول والتصديق بعقد القلب، بوصفه إيمانا. وذلك لأن العقائد في مستوى عقد القلوب بالتصديق هي الدرجة التي لا تستلزم بالضرورة  انكشاف حقائقها (العقائد). إذ لا تكليف بها ملزم للجميع. إضافة لذلك إن الغزالي لا يوردها إلا بوصفها جزءاً من عمل الظاهر لا الباطن، أي الجزء المتعلق بميدان اللاهوت والدين (الكلام والعبادات) لا حقيقة  معرفتها، مازال الباطن هو وعاء المطلق غير المتناهي.

فالكشف الحقيقي، كما يؤكد الغزالي، هو صفة سرّ القلب وباطنه، وبالتالي لا أساس لمخالفة الشريعة بالحقيقة، والظاهر بالباطن. غير أن لهذا السرّ اسباباً تمنع من افشائه، أورد منها خمسة.

السبب الأول ويعود إلى تعقيد الشيء ذاته، مما يجعل من الصعب فهمه من جانب الغالبية. من هنا ضرورة عدم الإفشاء به. لكن منع الافشاء به لا يعني العجز عن إدراكه، كما هو الحال بالنسبة لمفهوم  الروح. فمن لا يعرف الروح فكأنه لا يعرف نفسه، ومن لا يعرف نفسه فكيف يعرف ربه؟ فالعوام لا تفهم، على سبيل المثال، من صفات الله ‘لا الظواهر كالعلم والقدرة ولكنهم يفهمونها بنوع مناسبة توهموها إلى  علمهم وقدرتهم. ففي حال افتراض ذكرنا لصفات لا توجد في الخلق، لأنكروا ذلك ولم يفهموه. فحينما نذكر، على سبيل المثال، لذة الجماع لصبي أو عنين، فإنهما لا يفهما من ذلك إلا بمناسبة (مقارنة) إلى لذة مطعوم يدركه. بينما لا يكون ذلك فهما على التحقيق. والفرق بين علم الله وقدرته وعلم الإنسان وقدرته أكثر من المخالفة بين لذة الجماع والأكل. فالإنسان لا يدرك في النهاية سوى صفات نفسه.

أما السبب الثاني فيعود إلى كون الشيء مفهوماً في نفسه ولا يستصعب فهمه، إلا أن ذكره يضر بأكثرية المستمعين، مثل سرّ القدر. ولا يبعد أن "يكون ذكر بعض الحقائق مضرا ببعض الخلق، كما يضر نور الشمس بأبصار الخفافيش، وكما يضر ماء الورد الجعل"5 . إذ كيف يبعد هذا وقولنا أن الكفر والمعاصي  والزنا كله بقضاء الله وإرادته ومشيئته حق في نفسه؟ مما يوهم بأنه دلالة على السفه ونقيض الحكمة والرضا بالقبيح؟

أما السبب الثالث، فهو ذاك الذي يمكن فهمه فيما لو ذكر صريحا ولا ضرر فيه، ولكنه يكنى  على سبيل الاستعارة والرمز لأجل الوقع في قلب المستمع. فبإمكاننا معرفة خلاف الظاهر عن الباطن في هذه  الأقوال أما بدليل عقلي او شرعي. فالعقلي أن يدرك أن محله على الظاهر غير ممكن، مثل قوله "إنما قولنا لشيء إذا أردنا أن نقول له كن فيكون". فظاهره ممتنع. إذ قوله "كن" إن كان خطابا لشيء قبل وجوده فهو محال. إذ العدم لا يفهم الخطاب حتى يمتثله، وإن كان بعد الوجود فهو مستغن عن التكوين. إلا أنها كناية أوقع في النفوس في تفهم غاية الاقتدار6 . أما الشرعي فبالتأويل. بمعنى إمكانية إجرائه على ظاهره أو تأويله كالموقف من قول القرآن (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها). إما ان يفهم بصورته الظاهرية، أو يفهم الماء باعتباره القرآن، والأودية القلوب.

اما السبب الرابع، فهو ما يدركه الإنسان جملة في بداية الأمر، ثم تفصيلا بالتحقيق والذوق، بأن يصير حالا ملابسا له فيتفاوت العلمان، كرؤية شخص لآخر في الظلمة أو على بَعد. إذ يجعل له علم بوجوده في الحالة الأولى يختلف بعد زوال الظلمة أو القرب. آنذاك يدرك التفرقة. ولا يعني هذا الخلاف تناقضا أو مضادة، بل هو استكمال له7 . وسعى لتطبيق هذا الاستنتاج على كل ما له صلة بالمعرفة والإيمان. انه حاول البحث عما هو مكمل ومتمم، ولكن في اطار تآلفه الفكري. فالإنسان، على سبيل المثال، يصدق بوجود العشق والمرض والموت قبل وقوعه، ولكن تحققه به عند الوقوع أكمل من تحققه قبل الوقوع. بل للإنسان في كل حال ثلاثة أحوال، ما قبل وقوع الشيء وأثناءه وبعده. فإدراك المرء، على سبيل المثال، حقيقة الحالة قبل الجوع وأثناءه وبعده غاية في التباين، ولكنه لا تناقض في حقيقة المعرفة. بمعنى، أن ما جرى هو تحقيق في مستوياتها تكشف عن وحدة المعرفة في الإدراك والسلوك. وينطبق هذا بالقدر ذاته على قضايا الدين كلها، بما في ذلك على قواعد العقائد. فإدراك حقائقها يمكنه أن يؤدي في إحدى درجاته إلى تذوقها، إي إلى اكتمال حقيقة المعرفة، وبالتالي تحولها إلى باطن بالإضافة إلى ما قبلها، أو الدرجة العليا في  إدراك تجليات حقائق الذات الإلهية وصفاتها، والتي دعاها أيضا بالكشف الحقيقي و"صفة سرّ القلب وباطنه"، أو هو ذاته فتوح طريق اللانهاية في المعرفة. إذ لا نهاية للذات الإلهية، وليس لمعرفتها حد، وبالتالي ليس للارتقاء المعرفي الأخلاقي في مدارجها نهاية. وجعله ذلك يشدد في آن واحد على تفاوت الخلق في درجات المعرفة، وعلى غياب تناقض الظاهر والباطن، والشريعة والحقيقة، والسرّ وكشف السرّ، والخفاء والجلاء، لأنها لم تعد سوى تجليات ومستويات وحالات للمعرفة لا حقائقها كما هي.

ووضع ذلك في مقدمة إدراكه لحقيقة الوحدة في الوجود، باعتبارها تجلياً لحقيقة الوحدة الإلهية في ذاتها، أي كل ما يتطابق مع مستوى التعبير بلسان المقال عن لسان الحال. بمعنى إدراك حقيقة الوحدة  في كل ما هو موجود، باعتباره حقيقة الجود الإلهي أو إدراك الحقائق في وحدتها كانعكاس للوحدة القائمة في الوجود، وفي الله. إذ ليس في الوجود إلا الله وأفعاله، كما يقول الغزالي. فعندما يقول القرآن "ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين" فليس غير البليد الذي يعتقد ويقدّر أن لهما حياة وعقلا وفهما للخطاب، أما البصير فيفهم من ذلك انه إنباء عن كونهما مسخرتين بالضرورة ومضطرتين  إلى التسخير. وكذلك الحال بالنسبة لقوله "وإن من شيء إلا يسبح بحمده". بمعنى ليس إلا البليد من يعتقد  أن للجمادات حياة وعقلا ونطقا، أما البصير فيفهم من ذلك أن ما أريد به ليس نطق اللسان، بل كونه مسبحا بوجوده، مقدسا بذاته، وشاهدا بوحدانية الله.

لقد أراد الغزالي القول، بأن كل ما في الوجود شاهد على الوحدة وحقيقتها العليا في ذات الله. إذ ليست الوحدة القائمة في وجود الأشياء إلا فعله.  ووضع كل ذلك في سعيه البرهنة عليه من خلال ما اسماه بالمستوى المعرفي في طور ما وراء العقل، أو مستوى الكشف الذوقي، الذي يرى في كل ما هو قائم لسان الحال الناطق بحقيقة الحق (الله)، أو الوجود من وراء كل وجود. فعندما تكلم عن تأمل فعل الله، فإنه أكد على ضرورة "أن يشهد في الفعل الفاعل دون الفعل. فمن عرف الحق رآه في كل شيء. إذ كل شيء منه وإليه وبه وله. فهو الكلّ على التحقيق. ومن لا يراه، فكإنه ما عرفه. ومن عرفه عرف إن كل شيء ما خلا الله باطل، وأن كل شيء هالك إلا وجهه. لا يبطل في ثاني الحال، بل هو الأن باطل، وإن اعتبر ذاته من حيث هو. إلا أن يعتبر وجوده من حيث انه موجود بالله وبقدرته فيكون له بطريق التبعية ثابت وبطريق الاستقلال بطلان محض"8 .

وبهذا يكون قد حوّل الله في حقيقة المعرفة إلى مبدأ الوحدة السارية في الوجود، باعتباره الفعل المنظم لوحدته وترتيبه. ومن هنا تكراره لعبارة انه "ليس في الوجود سوى الله وأفعاله"9 . وإن كل ما في الوجود هو منه وإليه وبه وله. فهو الكلّ على التحقيق وفي حقيقة إدراكه. إذ لا خير ولا جمال ولا محبوب في العالَم، كما يقول الغزالي، إلا وهو حسنة من حسناته، وأثر من آثار كرمه، وغرفة من بحر جوده، بل كل حسن وجمال أدرك بالعقول والأبصار والأسماع وسائر الحواس من مبتدأ العالم إلى منقرضه، ما هو إلا ذرة من خزائن قدرته ولمعة من أنوار حضرته. فالمتحقق بالمعرفة "لا يعرف غير الله. إذ ليس في الوجود تحقيقا إلا الله وأفعاله"10 . ووضع هذه النتيجة في عبارته المفارقة القائلة "سبحان من احتجب عن الظهور بشدة ظهوره، واستتر عن الأبصار بإشراق نوره. ولولا أن ظهوره سبب خفائه لبهتت العقول ودهشت القلوب وتخاذلت القوى وتنافرت الأعضاء"11 .

وإذا كانت هذه النتيجة هي الخاتمة التي يختتم بها لسان الحال تعبيره عن مقال الكلام وحدوده المعقولة، فإنها تكشف في عباراتها المفارقة عن بداية الطريق غير المتناهي في مساعي الإدراك الحقيقي للذات الإلهية، باعتبارها مساعي الأنا العارفة. فالذات الإلهية لم تعد ميدانا للعقل الكلامي في مهاتراته وتأملاته، بل الكلّ المتجانس، والوحدة الفاعلة في الوجود. وهذه بدورها هي الله وأفعاله. كما أنها المفارقة التي يقف أمامها العقل الكلامي مبهوتا، والقلب الصوفي مندهشا في سلوكه الدائم للتخلق بأخلاقها.

 

ا. د. ميثم الجنابي

.....................

1- الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص100.

2- الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص101.

3- الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص101.

4- الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص100.

5- الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص101.

6- الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص102.

7- الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص102.

8- الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص103.

9- الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص283.

10- الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص330، ج2، ص280، ج3، ص15.

11- الغزالي: إحياء علوم الدين، ج2، ص280.

 

في المثقف اليوم