دراسات وبحوث

الأفعال الإلهية وتحقيق فعل الحق عند الغزالي

ميثم الجنابي"ليس في الوجود تحقيقا إلا الله وأفعاله"

(الغزالي)


إذا كانت غاية الاتصاف بصفات الحق هي الصيغة المثالية للإرادة المتسامية في حصيلة التجارب الفردية والاجتماعية، والتاريخية والثقافية للخلافة، فإن نموذجها الأول كان لابد له من أن يتربى على محك "الأفعال الإلهية".  ولم تعن هذه التربية في تاريخيتها الفردية والاجتماعية سوى رؤية الذات في منظومة التوحيد. أما التوحيد فقد كان الميدان والغاية التي رفعتها واحدية الثقافة الإسلامية إلى مصاف المطلق، أي تربية عناصر التوحيد في الذات الفردية والاجتماعية للأمة وصفاتها النظرية والعملية. أما في تجاربها المتنوعة في مدارسها وفرقها ومذاهبها وتياراتها، فقد عبّرت عن معالم التوحيد في الذات الإنسانية ونموذجها الأرقى في أئمة النحو والفقه والأمة السياسية، وفطاحل الشعراء وجهابذة الأدب، وأولياء الدعوة وأقطاب المعارف. ولم يعن ذلك  من الناحية التاريخية سوى تربية الإرادة المتسامية للكلّ الإسلامي. وبالتالي صيرورة عالمها الروحي القائم وراء صراعاتها السياسية والفكرية. إذ لم تكن مسألة الأفعال الإلهية من حيث مضمونها سوى مسألة تحديد ماهية الموقف الإلهي (الأخلاقي) من العالم (الإنساني)، أي كل ما نراه في جوهرية القضايا الفلسفية كحرية الإنسان ومشيئة الله، والقضاء والقدر، والواجب، والحسن والقبيح، والحكمة والأصلح. وبهذا المعنى لم تكن مسألة الأفعال الإلهية سوى النتاج الملازم لوعي تناقضات الصيرورة الاجتماعية الأخلاقية ومصيرها في عالم "الإبداع الإلهي".

فقد شكلت هذه القضية منذ البداية أحد الحوافز الكبرى وراء التهاب الوعي السياسي واللاهوتي، وتنوع آراءه ومواقفه المستقلة وعوالمه المتنابذة. ولم تعن هذه الاستقلالية من الناحية التاريخية سوى تباين الفِرَق والاتجاهات في جدلها حول ما اسماه في (الاقتصاد في الاعتقاد) بالأمور السبعة، وفي (الرسالة القدسية) بالأصول العشرة. وإذا كان المظهر العام والخارجي لهذه الأمور والأصول معارضا لآراء المعتزلة، فإن ذلك لا يعني انخراطها في قوالب الأشعرية وتقليدها. لهذا حاول في (الاقتصاد في الاعتقاد) تنظيم آرائه المعارضة لمنظومات المعتزلة مثل تشديده على أن الله يجوز أن يكلف عباده ما لا يطاق، ويجوز منه إيلام الناس بغير عوض وجناية، ولا يجب عليه رعاية الأصلح، ولا يجب عليه ثواب الطاعة وعقاب المعصية. وإن الإنسان لا يحب عليه شيء بالعقل بل بالشرع. وانه لا يجب على الله بعث الرسل، وانه لو بعث لم يكن ذلك قبيحا ولا محالا[1]. ولم تعن هذه الصياغة في إطارها الظاهرى، سوى تذليل فكرة الواجب العقلية والحسن والقبح العقليين، وتذليل الظنون والأحكام التي يفرضها عقل الإنسان مادامت هي في ذاتها مجرد تصورات وأحكام تاريخية نسبية. لهذا حاول تحديد مضمون الأحكام القيميية من أجل تحديد ماهيتها الحقيقية باعتبارها المقدمة الضرورية للجدل معها. فالواجب كما يقول الغزإلى، يطلق على فعل لا محالة. ولكنه يطلق في الوقت نفسه على القديم (الله)، وعلى الشمس إذا غربت. وإننا لا ندعو الأفعال الإنسانية التي لا ضرر فيها واجبا، بل على تلك التي في فعلها فائدة، مثل شرب العطشان للماء، والتجارة للكسب، أو أن الواجب ما في تركه ضرر في الظاهر والآخر. ويطلق الواجب أيضا على من علم بوقوعه، فوقوعه واجب[2]. أما إطلاق الحسن والقبيح فمرتهن بمدى موافقته للغرض أو بالعكس. فما يوافق الغرض فهو حسن، وما لا يوافق الغرض فهو قبيح. في حين أن ما لا يكون في فعله ولا في تركه غرض فيسمى عبثا. فالذى "يوافق الفاعل يسمى حسنا في حقه، والذي ينافي الغرض يسمى قبيحا"[3].  أما الحكمة فتطلق بمعنيين. أما بمعنى الإحاطة المجردة بنظم الأمور ومعانيها الدقيقة، أو بالكيفية التي تتم بها الغاية، أو بمن تنضاف إليه القدرة على إيجاد الترتيب والنظام وإتقانه وإحكامه. فالحكمة إما أن تأتي بمعنى العلم (حكيم من الحكمة) أو بمعنى الفعل (حكيم من الإحكام). من كل ذلك يبدو واضحا، بأن انتقاد الغزالي للعقلانية المعتزلية جرى من خلال تذليلها في ما يمكن دعوته بشمولية الأحكام القيميية وتساميها الأخلاقي. فالوجوب، كما هو واضح من آرائه، ليس مفهوما واحدا، بل متعدد المضامين. لهذا انتقد مطابقة حقيقته الشرعية مع مفهوم المصلحة (الفائدة) انطلاقا من طابعها النسبي أو تغيرها الدائم. وبالتالي استحالة مطابقة الطابع النسبي والمتغير للأحكام القيميية مع الحقيقة الكلية. ولا يعني ذلك جهل الغزالي أو معارضته للأحكام النسبية وقيمتها المعرفية. كل ما في الأمر، انه أراد إظهار طابعها النسبي من خلال وضعها على محك الحقيقة المطلقة ومعاييرها الأخلاقية. وبغض النظر عن ميتافيزيقية هذه الصياغة، ولحد ما سلبيتها، إلا أن قيمتها الفكرية والأخلاقية تقوم في نقدها العميق للفكر اللاهوتي عن طريق تأسيسها لفكرة "الاقتصاد" في العقائد، أي الاعتدال والوسط الذهبي. لهذا أكد في استنتاجاته بهذا الصدد على ما اسماه بالمترسمين بالعلم، الذين لم يفارقوا العوام في أصل التقليد، بل أضافوا إلى تقليد المذهب تقليد الدليل. ولم يعن التقليد في الدليل هنا سوى وهمية الأحكام وطابعها التقليدي. فأغلب الأفكار الأخلاقية وأحكامها عما يسمى بالحكمة والواجب والحسن والقبيح والأصلح ومناقضاتها هي نتاج العادة والشرطية الاجتماعية والتاريخية والثقافية، أو ما أسماه بطاعة "النفس بحكم الفطرة والطبع بمجرد الوهم والخيال الذي هو غلط بحكم العقل. ولكن خلقت قوى النفس مطيعة للأوهام والتخيلات بحكم اجراء العادات، حتى إذا تخيل الإنسان طعاما طيبا بالتذكر أو الرؤية سال في الحال لعابه، وذلك بطاعة القوة التي سخرها الله تعالى لإفاضة اللعاب المعين على المضغ للتمثيل"[4].

لقد أراد الغزالي إظهار الطابع الإضافي الشرطي للأحكام الأخلاقية، والتي تشكل كلاً من العادة والمنفعة مصادرها المعرفية والاجتماعية. وبهذا المعنى لم يكن انتقاده لآراء المعتزلة سوى محاولة تخطئة أحكامها العقلية الشرطية في تطبيقها على الله (المطلق)، لا تخطئتها بحد ذاتها. إن انتقاده لعقلانية الأخلاق المعتزلية، هو انتقاد لعقليتها لا أخلاقيتها، بفعل جوهرية التمايز في عقائد العوام بين الإنسان والله في الذات والصفات. وحالما طبق ذلك على الأفعال الإلهية، أي الكشف عنها كما هي، فإننا نستطيع العثور في آرائه ومواقفه الكلامية الفلسفية على مستويين يشكلان بدورهما المقدمة الأوسع لشموليتها الفلسفية الصوفية. المستوى الأول هو ذاك الذي عبّر عنه بفكرة انه لا موجود سوى الله، إلا وهو حادث بفعله وفائض من عدله على أحسن الوجوه وأكملها وأتمها وأعدلها، وانه حكيم في أفعاله عادل في أقضيته، لا يقاس عدله بعدل العباد. ولا يتصور الظلم منه، فإنه لا يصادف لغيره ملكا حتى يكون تصرفه فيه ظلما. وكل ما سواه حادث اخترعه بقدرته بعد العدم اختراعا وأنشأه إنشاء بعد إن لم يكن شيئا. إذ كان موجودا ولم يكن معه غيره. فأحدث الخلق بعد ذلك إظهارا لقدرته وتحقيقا لما سبق من إرادته، ولما حق في الأزل من كلمته لا  افتقارا إليه وحاجة. بل حتى عذابه رحمة وعدل، ولا يتصور منه القبيح والظلم. انه يثيب عباده على الطاعات بحكم الكرم والوعد لا بحكم الاستحقاق واللزوم له. إذ لا يجب عليه لأحد فعل، ولا يتصور منه  ظلم، ولا يجب لأحد عليه حق. وإن حقه في الطاعات وجب على الخلق بإيجابه على ألسنة أنبيائه لا بمجرد العقل[5]. وشرح بعض جوانب هذه الفكرة العامة في ما دعاه بالأصول العشرة في الأفعال. فالأصل الأول يستند إلى أن العالم حادث، وكل حادث فهو فعله (الله) وخلقه واختراعه، ولا خالق سواه، ولا محدث له إلا إياه. انه خلق الخلق وأوجد قدرتهم وحركتهم، وبالتالي فإن جميع أفعال الخلق مخلوقة له ومتعلقة بقدرته. وقد أمر الإنسان بالتحرّز في أقواله وأفعاله وأسراره وضمائره لعلمه بموارد أفعاله. وقد استدل الله بعلمه في ظاهرة الخلق ذاتها. فالله هو الخالق لفعل الإنسان، بفعل قدرته التامة. وإن هذه القدرة متعلقة بحركة أبدان الخلق، والحركات متماثلة، وتعلق القدرة بها لذاتها. وإذا كان الأمر كذلك، فما هو المانع عن أن تكون متعلقة ببعض الحركات دون الأخرى؟ أي انه أراد الكشف عن أن القدرة متعلقة بكل الحركات، مازالت هي متماثلة باعتبارها حركات. إذ كيف يمكن القول بأن الحيوان مستبد في حركاته حين يصدر منه ما يحير العقول (كالعنكبوت والنحل) لاسيما وإنها غير عالمة بتفاصيل ما يصدر منها من الاكتساب[6]. إلا أن إنفراد الله باختراع حركات الإنسان لا يعني أنها غير مقدورة له على سبيل الاكتساب. وذلك لأن الله هو الذي خلق القدرة والمقدور، والاختيار والمختار جميعا، أي كل ما حاول كشفه من خلال تجليات ووحدة مفاهيم القدرة والحركة والاختيار. فالقدرة هي وصف للإنسان وخلق لله، وليست بكسب له. أما الحركة فهي خلق لله ووصف للإنسان وكسب له. فالحركة خلقت مقدورة بقدرة هي وصفه (الإنسان)، وكانت للحركة نسبة إلى صفة أخرى تسمى قدرة، فتسمى باعتبار تلك النسبة كسبا وبالتالي فإنه لا معنى للحديث عن الجبر المحض. لاسيما وأن الإنسان بالضرورة يدرك التفرقة بين الحركة المقدورة والرعدة الضرورية. ومع ذلك فإنها ليست مخلوقة للإنسان مطلقا، لاسيما وانه لا يحيط علما بتفاصيل أجزاء الحركات المكتسبة وأعدادها[7]. غير أن ذلك لا يلزم ان يكون تعلق القدرة بالمقدور بالاختراع فقط. وذلك لأن قدرة الله في الأزل كانت متعلقة بالعالَم، ولم يكن الاختراع (الخلق من العدم) حاصلا بها. والقدرة عند الاختراع متعلقة به نوعا آخر من التعلق، فيه يظهر أن تعلق القدرة ليس مخصوصا بحصول المقدور بها[8].

أما الأصل الثالث، فهو القائل بأن فعل الإنسان وإن كان كسبا له، فإنه لا يعني انه غير مراد لله. وذلك لأن كل ما يجرى في الوجود يجرى بقضائه وقدرته، وبإرادته ومشيئته، من خير وشر ونفع ومضرة وإسلام وكفر. أما الإشكالية التي تثيرها هذه الفكرة عن نهي الله عما يريد وأمره بما لا يريد فلإنه حاول حلها من خلال تقديمه المثال التالي: إذا ضرب السيد عبده فعاقبه السلطان عليه، فاعتذر بتمرد عبده عليه فكذب السلطان. انه أراد إظهار حجته بأن يأمر العبد بفعل ويخالفه بين يديه، فقال له: اسرج هذه الدابة بمشهد من السلطان! فهو يأمره بما لا يريد امتثاله، ولو لم يكن آمرا لما كان عذره عند السلطان ممهدا. ولو كان مريدا لامتثاله لكان مريدا لهلاك نفسه وهو محال[9].

أما الأصل الرابع فيقوم في أن الله متفضل بالخلق والاختراع ومتطول بتكليف العباد، ولم يكن الخلق والتكليف عليه واجبا. بصيغة أخرى، انه يرفض الوجوب على الله استنادا إلى فكرة المصلحة. لهذا أكد على أن الله هو الموجب الآمر، ولا وجوب وأمر عليه. فالمقصود بالواجب أحد أمرين،  إما الفعل الذي في تركه ضرر آجل أو عاجل. فالآجل كما يقال إن الإنسان ينبغي أن يطيع الله حتى لا يعذبه في الآخرة، كما يقال للعطشان أن يشرب الماء حتى لا يموت كنموذج للعاجل. وإما يراد بالواجب الذي يؤدى عدمه إلى محال كما يقال وجود المعلوم واجب إذ عدمه يؤدي إلى محال، وهو ان يصير العِلم جهلا. فبالمعنى الأول لا يمكن تطبيقه على الله. أما المعنى الثاني فإنه سليم، وإن أريد به معنى ثالثا آخر فغير مفهوم. ثم إن القول "يجب لمصلحة عباده" كلام متناقض ولا معنى له. فإذا كان الله لا يتضرر بترك مصلحة العباد، لم يكن للوجوب في حقه معنى. ثم إن مصلحة العباد، فيما لو قبلنا بهذه الصيغة، أن يخلقهم في الجنة لا في دار البلايا.

أما الأصل الخامس فهو القول بإنه يجوز على الله أن يكلف الخلق بما لا يطيقونه. غير أن الغزالي اعطى لهذه الفكرة معنى عمليا فاعلا كما في مثال صراع النبي محمد ضد ابي جهل. بمعنى أمره إياه بأن يصدقه في كل أقواله وأفعاله، مع علمه بأنه لا يصدقه.

أما الأصل السادس المعارض بدوره لآراء المعتزلة والقائل، بأنه يجوز على الله تعذيب وإيلام الخلق من غير سابق ذنب أو جرم. فالله، كما يقول الغزالي، يمكنه تعذيب الخلق من غير جرم سابق، ومن غير ثواب لاحق، لأنه متصرف في خلقه. والظلم عبارة عن التصرف في ملك الغير بغير إذنه. وهو محال على الله. وما يدل على جوازه وجوده. فإن ذبح البهائم إيلام لها وما صب عليها من أنواع العذاب من جهة الآدميين لم يتقدمها جريمة. وانه لخروج عن الشرع والعقل القول بأنه يجب على الله إحياء كل نملة وطئت، وكل بقة عركت حتى يثيبها على آلامها، إن كل المراد بالواجب أن يتضرر بتركه. وأن أريد به غيره فهو غير مفهوم[10].

أما الأصل السابع، فيقوم في أن الله يفعل بعباده ما يشاء. فلا يجب عليه رعاية الأصلح لعباده. لأنه وجوب عليه. بل لا يعقل في حقه الوجوب، فكيف يمكن للمعتزلي، على سبيل المثال، أن يفسر فكرة "إن الأصلح واجب عليه" في المسألة التالية: لنفرض مناظرة تجري بين صبي وبالغ من العمر ماتا مسلمين فالله، حسب منطق المعتزلة وعقلهم، يزيد في درجات البالغ بفعل ما بذله من الجهد في الطاعات والإيمان به… فلو قال الصبي:

يارب لم رفعت منزلته عليّ؟

لأنه بلغ واجتهد!

لكن انت الذي امتني في الصبا، فكان يجب عليك أن تديم حياتي حتى أبلغ فأجتهد. فقد عدلت عن العدل!

لأني علمت انك لو بلغت لأشركت أو عصيت فكان الأصلح لك الموت في الصبا! آنذاك هج كفار النار.

يا رب أما علمت إننا إذا بلغنا اشركنا. فهلا أمتنا في الصبا، فإنا رضينا بما دون منزلة الصبي المسلم!

لقد جعلته هذه المناظرة المفترضة يستنتج  ما يلي:"إن الأمور الإلهية تتعالى بحكم الجلال عن أن توزن  بميزان أهل الاعتزال"[11]. ولم يعن هو بميزان أهل الاعتزال سوى أحكامهم العقلية الخاصة، ومنطق تفكيرهم القائل، بأن تصوير العذاب من الله، مع قدرته على رعاية الأصلح ما هو إلا القبح عينه. غير أن القبح، كما  يقول الغزالي، هو ما لا يوافق الغرض. ومن هنا نسبية وعرضية القبيح. أما الله فهو المطلق. إذ قد يكون الشيء قبيحا عند شخص، حسنا عند غيره إذا وافق غرضه أحدهما دون الآخر. فالمرء يستقبح قتل أوليائه بينما يستحسنه أعداؤه. وإذا أريد بالقبيح ما لا يوافق الغرض (غرض الله) فهو محال، إذ لا غرض له. فلا يتصور منه قبح، كما لا يتصور منه ظلم. إذ لا يتصور منه التصرف في ملك غيره[12]. وإذا كان المقصود بالقبيح ما لا يوافق غرضه غرض الغير فَلِمَ يصير ذلك بالتالي على الله محال؟ أي كل ما استعرضه في "مجادلة أهل النار" السابقة. وينطبق هذا بدوره على فكرة الحكمة والحكيم. إذ لا معنى للحكيم إلا العالِم بحقائق الأشياء، القادر على إحكام فعلها على وفق إرادته. ومن أين يوجب ذلك رعاية الأصلح؟ بعبارة أخرى، لم يسع الغزالي من وراء ذلك تذليل قيمة الأحكام العقلية، بقدر ما حاول وضعها في اطار طابعها النسبي والمشروط، وبالتالي جزئيتها وعدم قدرتها على احتواء  الكلّ دفعة واحدة. فالحكيم من الناس، هو من يراعي الأصلح نظرا لنفسه ليستفيد. وما يعارض ذلك يدعى بالجهل والحماقة. في حين أن كل ذلك محال على الله.

ووضع هذا الاستنتاج في مقدمة الأصل الثامن، القائل، بأن معرفة الله وطاعته واجبة بإيجاب الشرع لا العقل. وذلك لأن العقل لا يوجب طاعة إما لفائدة أو لغير فائدة. فإيجابها لغير فائدة محال، بفعل أن العقل لا يوجب العبث. وإما في حالة إيجابه لفائدة وغرض، فإن ذلك مرتبط أما بعودته بفائدة لله وذلك محال عليه. إذ انه يتقّدس عن الأغراض والفوائد. بل أن الكفر والعصيان والطاعة والإيمان بالنسبة له سواء.  وإما أن يرجع ذلك لغرض الإنسان وهو الآخر محال. إذ ليس الإيمان والطاعة من حيث آنيتهما سوى تعب وجهد وانصراف عن الحياة وملذاتها لا يقابله بعد الموت سوى الثواب والعقاب. ومن هو الذي يستطيع أن يدرى ما هي العاقبة. إذ كل ما في الوجود من طاعة وعصيان، سيان بالنسبة لله. إذ ليس له إلى أحدهما  ميل، ولا به لأحدهما اختصاص. وإنما عرف فميز ذلك بالشرع[13]، أي أن المقايسة التي يقوم الإنسان بها  على أساس أفعاله وتصوراته هي التي توصله إلى تمييز الشكر والكفران، بفعل تعاملها مع الجوارح والوجدان. فهو يتلذذ ببعض ويتألم لآخر. بينما كل ذلك محال على الله. لكن الإشكالية تبقى قائمة في علاقة العقل بالشرع. بمعنى أن النظر والمعرفة (العقلية) لا توجب الا بالشرع، والشرع لا يستقر إلا بالعقل، ونفيهما القائل بإشكالية إن العقل ليس يوجب على المرء النظر، والشرع لا يثبت عنده إلا بالنظر. وهي  الإشكالية التي حاول حلها بمضاهاتها بمثال من يقول للواقف في موضع من المواضع إن ورائك سبعا ضاريا،  فإن لم تبرح من المكان قتلك، وإن التفت وراءك ونظرت عرفت صدقي! فيقول الواقف: لا يثبت صدقك ما لم التفت ورائي. ولا التفت ورائي ولا أنظر ما لم يثبت صدقك! بصيغة أخرى، لقد أراد الغزالي الكشف عن "حماقة هذا الإدعاء". فالجميع يتابعه سبع الموت. والشرع يعرف وجود السباع الضارية بعد الموت. والعقل يفيد فهم كلامه والإحاطة بإمكان ما يقوله في المستقبل. بينما الطبع يستحث على الحذر من الضرر. وليس معنى كون الشرع موجبا سوى انه معرّف للضرر المتوقع. إذ العقل لا يهدي إلى التهدف للضرر بعد الموت عند إتباع الشهوات. وهذا هو معنى الشرع والعقل وتأثيرهما في تقدير الواجب. إذ لولا خوف العقاب على ترك ما أمر به، لم يكن الوجوب ثابتا. إذ لا معنى للواجب إلا ما يرتبط بتركه ضرر في الآخرة[14].

اما الأصل التاسع، فهو انه ليس يستحيل بعث الأنبياء. وبعثهم أو عدم بعثهم لا يحدده العقل. فالعقل لا يهدي إلى الافعال المنجية في الآخرة، كما لا يهدي إلى الأدوية المفيدة في الصحة. وإن حاجة الخلق للأنبياء كحاجتهم للأطباء.

اما الأصل العاشر فهو الأصل القائل، بأن الله أرسل محمدا خاتما للنبيين وناسخا لما قبله من شرائع اليهود والنصارى والصابئين[15].

إن هذه الصيغة الكلامية لعقائد العوام في مواقفها من الأفعال، تعكس في حصيلتها المباشرة المستوى الأول، أو الكلامي الفلسفي في تحديد أصول الأفعال الإلهية في منظومة الذات والصفات والأفعال. مما يشكل في كليته جزءا من صياغة المبادئ العامة لعقيدة العوام الإسلامية. وبالتالي للأمة في وحدتها الفكرية الروحية. إذ لم تعن الأصول العامة للأفعال الإلهية سوى العناصر المتممة في سلسلة أدلة الكلام الفلسفي العقائدي على ذات الله ووحدانيتها عبر إظهار فاعليتها المباشرة وغير المباشرة في الوجود، أي كل ما عبّر عنه في عبارته المقتضبة القائلة، بأنه ليس في الوجود إلا الله وأفعاله. حيث تضمنت هذه العبارة في كثافتها المركزة ماهية الوحدانية المثالية وأسلوبها المعقول في مدارج الأخلاق المتسامية للعمل الفردى والاجتماعي. لهذا أكد على أن من "عرف الأفعال من حيث إنها أفعال لم يجاوز معرفة الفاعل إلى غيره"[16]. فمن عرف الشافعي، على سبيل المثال، من حيث تصانيفه لا من حيث هي حبر وورق وكلام منظوم  ولغة عربية، فإنه عرفه. ولم يجاوز معرفة الشافعي إلى غيره، ولا جاوزت محبته إلى غيره. وحالما  طبق هذه الفكرة على الله وأفعاله، فانه وصل إلى استنتاجه النهائي القائل، بأن "كل موجود سوى الله فهو تصنيف الله وفعله وبديع أفعاله. فمن عرفها من حيث هي صنع الله تعالى، فرأى من الصنع صفات الصانع، كانت معرفته ومحبته مقصورة على الله"[17].

وبهذا يكون الغزالي قد دفع ورفع آراءه عن الأفعال الإلهية في مستواها اللاهوتي الفلسفي إلى نهايتها المتجانسة. بمعنى استكماله إياها في وحدة المنظومة المعقولة للذات والصفات والأفعال، ونفيها الشامل في منظومة الإحياء الصوفية، أي استكمال النفي المتعمق للذات الإنسانية في أفعالها على مثال المطلق الإسلامي. وبالتالي تعميق الالتحام الفردي برؤية حقيقة الذات في أفعالها، باعتبارها الصيغة المثالية لما في (إحياء علوم الدين) من فرضيات عقلية وعملية عن المثال الاجتماعي، أو التحقيق الأمثل لفعل الحق.

 

ا. د. ميثم الجنابي

.......................

[1] الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، ص73.

[2] الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، ص74.

[3] الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، ص75.

[4] الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، ص79.

[5] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص110.

[6] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص111.

[7] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص111.

[8] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص111.

[9] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص112.

[10] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص112.

[11] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص112.

[12] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص112.

[13] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص113.

[14] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص113.

[15] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص113.

[16] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج2، ص280.

[17] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج2، ص280.

 

 

 

في المثقف اليوم