دراسات وبحوث

عمر بن الخطاب وإشكالية الدين والدنيا (2-3)

ميثم الجنابيالتحليل التاريخي الثقافي والنقد الفلسفي لفكرة الخلافة (على مثال خلافة الراشدين)

كان سلوك عمر بن الخطاب الحاد والعنيف تجاه أخته فاطمة بسبب إسلامها، هو نفس ما ميز أسلوبه في التعامل مع فاطمة زوجة الإمام علي وبنت النبي محمد. فقد أدمى وجه الأولى بسبب إسلامها، وكسر أضلاع الثانية بسبب امتناعها عن مبايعة أبو بكر بالخلافة. والشبه الوحيد في هذا السلوك يقوم في سعيه لفطم سلوك المعارضة في مواجهة ما يعتبره حقا. وهو سلوك يشير إلى شخصيته وطبيعة تفكيره وفعله. إذ نعثر فيه على ما يمكن دعوته بالحمية الحامية في إرادته الفردية. ففي الأولى حمية الجاهلية وفي الثانية حمية الدولة. وهي حمية الشخصية الفاعلة بمعايير الرؤية العملية وضرورة تجسيدها مهما كلف الثمن. وضمن هذا السياق يمكن فهم سلوكه ومواقفه بعد اختيار أبو بكر للخلافة تجاه كل من عارض أو اعترض أو توقف أو اعتزل، عندما سعى لإجبارهم على المبايعة. فنراه يطالب أبا بكر، بأن يبايعه سعد بن عبادة [1] قائلا له"لا تدعه حتى يبايعك"[2]. إذ تنسب إليه العبارة التي خاطب بها أبا بكر:"والله لا أبايعكم أبدا". والتزم بها حتى النهاية. بل هو الشخص الوحيد الذي لم يبايع عمر بن الخطاب. وقد اضطر لترك المدينة والهجرة إلى الشام وتوفي في الطريق إليها(منطقة حوران) عام 14 للهجرة. وبغضّ النظر عن حوافز معارضته للصيغة التي جرى بها اختيار أبو بكر ولاحقا عمر بن الخطاب لخلافة المسلمين، إلا أن ردود فعله المتجانسة في الموقف من أبي بكر وعمر بن الخطاب تشير إلى صلابة موقفه السياسي المعارض. فقد احتوت معارضته السياسية من حيث مقوماتها الداخلية على عناصر الرؤية التاريخية والحقوقية. بمعنى انه حاول تقديم أولوية أو أحقية الأنصار بالخلافة انطلاقا من دورهم السياسي والأخلاقي والاجتماعي والتاريخي في تثبيت أسس الدعوة الإسلامية وانتصارها. فانتصار الإسلام كان بمعنى ما وثيق الارتباط بالأنصار. وبالتالي فإن تمثل فكرة أحقيته بالخلافة مبنية على رؤية ومبادئ لا علاقة لها بالقبيلة وقرابة الدم. وقد كانت تلك فكرة متطورة بحد ذاتها. لاسيما وأن الأنصار كانوا من الناحية الفعلية القوة التاريخية للإسلام وقربانه البشري الأكبر. كما انه القربان الذي دفعه سعد بن عبادة في مجرى حياته الأخيرة أيضا عندما توفي وهو في طريقه إلى الشام، باعتباره احد أشكال الاحتجاج على السلطة. وليس مصادفة أن يقول عمر بن الخطاب عن موته:"قتله الله!"[3]. وهي عبارة لا مروءة فيها.

كما نراه يذهب إلى بني هاشم لكي يجبرهم على المبايعة لأبي بكر بحيث نراه يأخذ الزبير بن العوام بالقوة[4]. كما نراه يخاطب عليا بعبارة: "انك لست متروكا حتى تبايع". بل نراه يكرر دعوته لأبي بكر لكي يجبر عليا على المبايعة قائلا له:"لا تمهل هذا المتخلف عنك بالمبايعة"[5]. بل نراه يطالب بقتل علي إذا رفض المبايعة، كما في قوله:

إذا لم تبايع، فوالله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك!

إذا تقتلون عبد الله وأخا رسول الله؟!

أما عبد الله فنعم! وأما اخو رسول الله فلا![6]

لم يكن سلوك الإجبار هنا سوى المظهر المتوتر والمعبّر عن إدراكه لقيمة وأولوية الدولة ومركزيتها بالنسبة للدين والدنيا. من هنا رغبته في إجبار الجميع على المبايعة والإقرار بضرورة الاعتراف بالدولة والسلطة المركزية. لهذا اعتبر من الممكن قتل "عبد الله"، أي "مواطن" الدولة الجديدة إذا كان ذاك ضروريا بالنسبة لإعلاء شأنها وهيبتها، بينما ترك المجال مفتوحا أمام علاقة "الأخوة" والقرابة. انه شدد على أولوية "عبيد الله"، بوصفهم أعضاء الأمة والدولة، واعتبرهم أفرادا مهما كان أصلهم ومنشئهم. وهي ممارسة تعكس فهمه لقيمة الدولة. وفي هذا الموقف نلمس إدراكه لمبدأ الدولة وأولويتها بالنسبة للدين والدنيا، ورفعه إياه إلى مصاف المرجعية الكبرى.

لقد كان موقفه هذا احد اشد الأشكال تطرفا وغلوا لإدراك قيمة الدولة. بمعنى إننا نستطيع تحسس الهاجس الخفي والعميق والكبير لفكرة الدولة في مواقف وشخصية عمر بن الخطاب. وهو أمر جلي في خضوعه الشخصي للخليفة الجديد. بحيث لم نسمع عن أية معارضة مهما كان نوعها، بل الاشتراك المباشر وغير المباشر في تحسين شروط فعلها وأداءها. ولم يكن هذا الاشتراك معزولا عن الرغبة المحتملة في احتلال موقع الخلافة بعد أبي بكر. لاسيما وأن ترشيح أو استخلاف أبو بكر إياه قبيل موته احد الأدلة الواقعية والدقيقة بهذا الصدد. وهو أمر لا تخلو منه الحياة السياسية. فبعد موت النبي محمد لم يعد الإسلام إذعانا لله والدعوة الجديدة، بل إسلاما للدولة والأمة. فقد لازم هذا الانتقال الموضوعي تحول الإسلام إلى دين الدولة، أي أيديولوجيتها "المتسامية". أما عمر فقد طوعها بطريقة واقعية وسياسية خالصة. وقد يكون أكثر أشكالها جلاء بهذا الصدد هو الطابع الحاد المميز لشخصيته في اتخاذ القرار وتنفيذه، بوصفه احد شروط رجل الدولة الكبير. غير أن الخطأ ولحد ما الخطيئة التاريخية في سلوك عمر بهذا الصدد، يقوم في تحويل الحادثة التاريخية العابرة إلى مبدأ. إذ ارتبط هذا التحول بشخصية عمر بن الخطاب، الذي جعل من الإكراه مبدأ ضروريا لمركزية ووحدة الدولة والأمة. بحيث تحولت "المبايعة" لاحقا إلى عمل تقليدي ملزم للجميع. بمعنى جعل المعارضة أيا كان شكلها ومستواها "خروجا على الإسلام". وهو تناقض فض! إذ جعل من فكرته السياسية واجتهاده العملي جزء من العقيدة الدينية والإيمان القويم! وفي هذا يكمن التناقض القاتل لعبارة عمر المذكورة أعلاه وسلوكه العملي. إضافة إلى كمون الخطيئة والفساد الأخلاقي والسياسي فيها. وذلك لأنها أسست لما يمكن دعوته بحاجة الدولة إلى لسان كاذب وقلب خرب. وذلك لأن فكرة المبايعة بالطريقة العمرية أفرغت حرية الإنسان وفكرة الإرادة الحرة وحق الاختلاف من معناها. كما أعطت للسلطة وحدها ممارسة الإجبار بوصفه حقا، بينما جعلت من الاختلاف معها ومعارضتها خروجا على الإيمان ومروقا على الدين! مما أدى إلى جعل الإسلام والقهر السياسي للسلطة تجاه الأفراد والجماعات والأمة شيئا واحدا.

وسوف ترتقي هذه الممارسة عنده في وقت لاحق إلى مبدأ شامل. بحيث تحول عمر بن الخطاب إلى قوة جامعة متحركة في تتبعها لكل شيء ومكان يمكن أن تصل إليه يداه وساقاه ونظره وعقله وفؤاده. الأمر الذي كان يعني من الناحية الفعلية تداخل الدولة والسلطة على مثال تداخل الدين والدنيا. بحيث أصبحت علاقة السلطة بالدولة الوجه العملي لعلاقة الدين بالدنيا. ولم يفتعل عمر بن الخطاب هذا التداخل، بقدر ما كان ينبع من وحدة شخصيته وتمثله للرؤية الإسلامية التي جمعت في أعمق أعماقها الحمية العربية الجاهلية (الواقعية) والإسلامية (الأخلاقية المتسامية). ومن الممكن تلمس هذا التداخل في ارتقاء وحدة الدين بالدنيا للدرجة التي كانت تجعله يتتبع أدق الصغائر ومعاملتها بطريقة جعلت منه مثالا للشخصية التي لا تأخذها في الحق لومة لائم. لهذا امتلأت كتب التاريخ والمناقب عنه بحكايات لا تخلو من الطرافة الواقعية، مثل الحكاية المروية عن إرسال قيصر الروم رسولا إليه لينظر أحواله ويشاهد أفعاله. فلما دخل المدينة سأل أهلها:

أين ملككم؟

ما لنا ملك، بل لنا أمير خرج إلى ظاهر المدينة.

فخرج في طلبه فرآه نائما في الشمس على الأرض فوق الرمل الحار وقد وضع درته كالوسادة والعرق يسقط من جبينه إلى أن بلّ الأرض. فلما رآه على هذه الحالة، وقع الخشوع في قلبه وقال:رجل تكون جميع الملوك لا يقر لهم قرار من هيبته وتكون هذه حالته! لكنك يا عمر قد عدلت فأمنت، وملكنا بجور فلا جرم أنه لا يزال ساهرا خائفا"[7]. وقد غذت هذه الصورة المثالية للخيال الواقعي وحدة الدين والدنيا في سلوكه العملي، بوصفها الصيغة الروحية لوحدة الدولة والسلطة السياسية.(يتبع...)

 

ميثم الجنابي

......................

[1] سعد بن عبادة (ت- 14 للهجرة)- اسلم مبكرا. وشهد بيعة العقبة وجميع الأحداث الكبرى في صدر الإسلام. سمي بالكامل لإتقانه السباحة والرمي. وهو أول من طرح فكرة أن يكون الأنصار خلفاء للنبي، بمعنى المشاركة الفعلية في إدارة الدولة وليس حصرها بمعايير القبيلة والمنشأ. لهذا نراه يرد في نهاية المطاف على محاولة إبعادهم عن السلطة بفكرة "منا أمير ومنكم أمير". وهي فكرة متناقضة بالنسبة لمركزية الدولة الضرورية، لكنها تعكس من حيث حوافزها وغاياتها إدراك أهمية المشاركة العامة. ويمكن اعتباره أول الشخصيات الحرة في الموقف من السلطة (الخلافة). إذ لم يؤيد البيعة لأبي بكر. .

[2] ابن قتيبة: الإمامة والسياسية، ج1، ص16.

[3] ابن سعد: الطبقات الكبرى، ج2، ص70

[4] الزبير بن العوام (ت- 36 للهجرة)- اسلم وعمره خمس عشرة سنة. من أوائل المسلمين (السبعة). هاجر للحبشة والمدينة. وشهد بدر وجميع غزوات النبي. كما ساهم في فتح مصر. ودخل مجموعة الشورى الستة. ويعكس في شخصيته كل تناقضات مجموعة الشورى التي وقفت إلى جانب خلافة عثمان بن عفان. وهو موقف أسهم من الناحية التاريخية والسياسية بتهشيم أسس الصيرورة الإسلامية السليمة وكينونتها الروحية، كما نعثر عليه بصورة جلية فيما أدت إليه خلافة عثمان من نخر أسس الدولة والأمة والفكرة الإسلامية الأولى ومبادئها الكبرى. وهو اختيار سياسي له مقدماته وغاياته. وليست حرب الجمل التي اشترك فيها الزبير بن العوام وقادها ضد خلافة علي بن أبي طالب سوى الوجه الظاهري لباطن رؤيته السياسية والأخلاقية. فقد غلبّ المصالح الضيقة على مصالح الدولة والأمة والحق. وحكم هذا التناقض حكم سلوكه السياسي المعارض لخلافة علي بن أبي طالب ثم اعتزاله الحرب ومقتله الذي كان يفتقد لكل المعاني الجليلة التي لازمت صيرورته الفردية والاجتماعية والإسلامية. فقد قرر اعتزال القتال مع علي. وعندما قابله ابنه عبد الله بعبارة "جبنا جبنا"! فانه لم يجد فيها ما يستحق الرد. فمن المعروف عنه شجاعته وبأسه وبطولته في القتال والمعارك. إذ كان من فرسان قريش مقداما. كما كان غنيا كريما كثير الشمائل والفضائل. ويقال انه مات وهو كثير الديون لكرمه. كما كان مخلصا للدعوة الإسلامية. بحيث تنسب للنبي محمد عبارة عنه يقول فيها:"لكل نبي حواريّ. وحواريّ الزبير". والحواري بالعربية تعني ناصر الأنبياء أو الخالص، أو الخليل. وهي عبارة يمكن أخذها على علتها، لكنها تعكس موقعه الشخصي من النبي محمد. غير أن العبارة العابرة في تقييم النبي محمد لمن صحبه ليست صك الغفران الإسلامي ولا تحتمل معنى "الشفاعة" الأبدية. انطلاقا من أنها قيلت ضمن سياق الصراع وسباق الأحداث، شأن كل كلمة تقال في الأفراد أيا كان حجمهم وموقعهم في الوجود.

[5] ابن قتيبة: الإمامة والسياسية، ج1، ص18-20.

[6] ابن قتيبة: الإمامة والسياسية، ج1، ص21.

[7] الغزالي: التبر المسبوك، ص117.

 

 

في المثقف اليوم