دراسات وبحوث

عثمان بن عفان: خليفة بلا خلافة (2)

ميثم الجنابيالتحليل التاريخي الثقافي والنقد الفلسفي لفكرة الخلافة (على مثال خلافة الراشدين)

لقد واجه عثمان بن عفان موته بلا بطولة ولا فروسية، خاليا من أي تحد أو استعداد للتضحية. فقد كان موته مجرد تجارة صغيرة لا قيمة لها. من هنا لم يكن بإمكانها ألا تكون بضاعة رخيصة بأيدي قوى ارخص منها عندما ننظر إليها بمعايير الرؤية الأخلاقية والمستقبلية. وبالتالي، فإن الأحاديث الموضوعة عن الولاية والغفران الأبدي والشهادة ليست إلا الصيغة الأيديولوجية للغنيمة الأموية. وإلا فإن مجرد كونه "من العشرة المبشرين بالجنة" تكفي بحد ذاتها لكي تكون صك الغفران الأبدي. ومن ثم لا معنى للولاية والشهادة وما شابه ذلك. وذلك لكونه تعارض كان يمكن حله بسفسطة القضاء والقدر اللاهوتية. غير أن للتاريخ منطقه الشديد والواقعي. وحالما يحدث، حينذاك يمكن رفعه بسهولة إلى مصاف الأزل. أما في حالة عثمان، فقد تحولت هذه السهولة الممتعة للعقل البليد إلى معضلة عصية. إذ كيف لمن كان من المبشرين بالجنة أن يقتل بتلك الطريقة الشنيعة على أيد مسلمين مؤمنين شعارهم الحق ورايتهم الاقتصاص لله والأمة من انحراف شخصي وسياسي جلي للحس والعقل والضمير؟

 وقد كان الجواب سهلا مثل حياته وموته: انه الحلقة الثالثة في سلسلة الخلافة الراشدة. ومن ثم فهو من ثالث القوم وثالث الخلفاء الراشدين! لكنها حلقة شكلية، إذ لا مضمون فيها يمكنه الارتقاء إلى مصاف القيمة المتلألئة ما وراء التاريخ الواقعي بالنسبة للوعي التاريخي والضمير الإنساني والعقل النقدي. وذلك لأن الصورة الجليلة تفترض نوعا من الموازاة الممكنة بين الحياة الفعلية ومآثرها التاريخية. فالصورة الجذابة للشخصية التاريخية تتلون بألوان الأشعة الكامنة في تجاربها الفردية ومستوى تمثلها في الأقوال والأعمال، أو في الإبداع الشخصي وخاتمته. وحالما نضع هذه المقدمة في أساس الموقف من شخصية عثمان، فإننا نقف أمام صورة باهتة وشاحبة باستثناء ما كان يتلون به في مظهر لحيته المخضبة بالحناء وأسنانه الذهبية وملابسه المزركشة وطلعته الجميلة وحياءه وأدبه وكرمه. ولا علاقة لهذه الصفات بمكونات الشخصية التاريخية لأنه يمكن العثور عليها بين اشد الشخصيات انحطاطا وجهالة.

وليس مصادفة أن تضع كتب التاريخ والسير "المؤدبة" و"المهذبة" كرمه وبذله الأموال في سبيل الدعوة الإسلامية باعتبارها أعلى فضائله العملية. فقد اشترى بئر رومة في عقيق المدينة من اليهود بعشرين ألف درهم وتصدق بها للمسلمين. كما قام بتجهيز جيش العسرة. إذ جهَّز ثلث الجيش بتسعمائة وخمسين بعيرا وبخمسين فرسا‏.‏ وقد كانت تلك بالفعل نفقة لم يقم بها قبله أحد من المسلمين. بل قيل انه جاء بألف دينار في كمه حين جهز جيش العسرة فنثرها في حجر النبي محمد، عندها قال النبي:"‏ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم‏". وهو سلوك يشير إلى ثروة عثمان الكبيرة وكرمه الفعلي. وقد لازمته هذه الصفات مدى الحياة. بحيث طبعت سلوكه السياسي. بما في ذلك توزيع الأراضي والثروات والمناصب على أقرباءه وأصدقاءه. وهو سلوك لا علاقة له بفكرة الدولة بقدر ما يعّبر عن شخصيته الخاصة وفعل الثروة العميق في بلورة أخلاقه العملية، كما نعثر عليها حتى في موقفه من الأكل. فقد نقل عنه عمرو بن أمية الضُمري القصة الطريفة التالية، قال‏:‏ كنت أتعشى مع عثمان خزيرا (نوع من الطبخ) من أجود ما رأيت، فيها بطون الغنم وأدمها اللبن والسمن، فقال عثمان‏:

- كيف ترى الطعام‏؟

- هذا أطيب ما أكلت قط!

- يرحم الله ابن الخطاب! هل أكلتَ معه هذه الخزيرة‏؟‏

-  نعم! فكادت اللقمة تفرث بين يدي حين أهوي بها إلى فمي وليس فيها لحم! وكان أدمها السمن ولا لبن فيها!

- صدقت! إن عمر أتعب والله من تبع أثره!!

ذلك يعني أن عثمان ظل يعيش بمقاييس حياته العادية وليس بمقاييس الخلافة الرشيدة. لهذا كانت ثروته بعد مقتله حوالي ثلاثين ونصف مليون درهم (عند خازنه)، وحوالي مائة ألف دينار (نقدا)، وألف بعير، وصدقات بحوالي عشرة ملايين دينار!! بينما مات أبو بكر وعمر بلا شيء على الإطلاق. فقد تحسس هذا التعارض، لكنه كان عاجزا عن العمل بمقتضاه. مما يعكس اختلاف طبعه وتطبعه من جهة، ونوعية التحول العميق في صيرورة الأفراد والجماعات والعلاقات، الذي استتبع تحول الخلافة إلى إمبراطورية، وارتقاء السلطة الروحية إلى دولة لها "منطقها" الخاص في التطور وإفراز قواها وتياراتها واتجاهاتها المتصارعة، من جهة اخرى. فسيرته الشخصية ما قبل الإسلام لا تتعدى التجارة والمتاجرة. وما بعده لم تحتو على أي قدر من الصفات التي تشير إلى نوعية الشخصية القادرة على مواجهة الصعاب والتحديات. وقد تكون المعاناة الوحيدة هي هجرته إلى الحبشة. فقد هاجر إلى أرض الحبشة مع زوجته رقية، فكان أول مهاجر إليها. ثم تابعه سائر المهاجرين إلى أرض الحبشة، ثم هاجر الهجرة الثانية إلى المدينة1‏. ولا يخلو هذا الفعل من بطولة بمعايير ذلك الزمن، لكنها أقرب إلى بطولة الاختباء والهروب. ولم يكن ذلك معزولا عن شخصيته اللينة وهدوءها الباطني وطابعها المسالم. وليس مصادفة أن يكون دوما من المتخلفين أثناء المعارك. فقد تخلف عن غزوة بدر وهرب في معركة احد. بحيث عيّره بها أبو عبيد الجراح أو على الأقل انه قال له في إحدى مشاجراته معه:

-  يا عثمان تخرج عليَّ في الكلام وأنا أفضل منك بثلاث.

-  وما هن‏؟‏

-   الأولى إني كنت يوم البيعة حاضرا وأنت غائب، والثانية شهدت بدرا ولم تشهده، والثالثة كنت ممن ثبت يوم أحد ولم تثبت ‏أنت‏.

-  صدقت! أما يوم البيعة فإن رسول الله بعثني في حاجة ومدَّ يده عني‏.‏ وأما يوم بدر فإن رسول الله استخلفني على المدينة ولم يمكنني مخالفته، وكانت ابنته رقية مريضة واشتغلت بخدمتها حتى ماتت ودفنتها‏.‏ وأما انهزامي يوم أحد فإن الله عفا عني وأضاف فعلي إلى الشيطان‏". ثم استشهد بالآية (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور رحيم).

‏ لقد جرى تبرير غيابه في بيعة الرضوان ومعركة بدر بصورة مقبولة نسبيا وذلك لتزامنها مع ما كان ينقذه على الأقل أمام الكلمة ومظاهر الأحداث ولحد ما الضمير المتراخي في نعيم الثروة وطيبة القلب. فقد كان تخلّفه عن الاشتراك في معركة بدر مرتبطا بمرض زوجته رقية، حيث أذن له النبي محمد بذلك. وترافق موتها مع انتصار المسلمين في المعركة، فجعله من المشتركين فيها بحيث ضرب له سهمه وأجره فيها، ومن ثم حصوله على حصته من الغنيمة واعتبروه بدريا. وهو فعل يمكن رؤية الأبعاد الرجولية والإنسانية الرقيقة فيه، لكنه فعل بلا فروسية. كما أن تخلّفه عن بيعة الرضوان كانت بطلب من عمر بن الخطاب الذي اقترح إرسال عثمان عوضا عنه إلى مكة لأنه لا ظهير له فيها على عكس عثمان، الذي وجد فيه رجلا مقبولا من جانب قريش بشكل عام وآل سفيان بشكل خاص2 . أما هروبه في معركة احد، فهي المحك الفعلي لشخصيته. بمعنى أنه سلك هنا السلوك الطبيعي المناسب لما في أعماقه وشخصيته. فالرجل لم يكن فارسا ولم يكن شجاعا ولا متمرسا في القتال. وليس من سبب يدعوه لأن يكون مقاتلا وفارسا بالضرورة. غير أن الشجاعة ليست صفة عضلية، بل شخصية ونفسية وذهنية وأخلاقية. من هنا يصبح فقدانها نقصا جوهريا في الرجال وبلأخص زمن رئاسة الدولة. فانعدامها عادة ما يجعل من ضعف الشخصية مرتعا للرذيلة والجبناء، ومن تاريخ الدولة زمن السلطة.

تعكس الصور والحالات المذكورة أعلاه طبيعة ومضمون الصورة الفعلية لعثمان بن عفان وشخصيته، أي الصورة المعبّرة عن تاريخه الواقعي وليس اللاهوتي. وفي الواقع، لا نعثر على تمايز كبير بينهما. والسبب في ذلك يقوم في أن تاريخه الواقعي عادي للغاية، بمعنى أنه تاريخ بلا مآثر بطولية و"معجزات" يمكن أن تلهب العقل والضمير، ومن ثم ضعف قدرتها على شحذ الذاكرة والخيال في إبداع ما يمكنه أن يرتقى إلى مصاف "السماء" و"سر الغيب". وليس اعتباطا أن تسجل في مآثره أيضا زيادته وتوسيعه للمسجد النبوي والمسجد الحرام وكذلك تحويل الساحل الذي اعتاد عليه أهل مكة من منطقة الشعيبة إلى منطقة جدة. وهي إجراءات عادية، لكنها تصبح مقبولة في سلة "المآثر" مازالت المآثر قليلة فعلا.

والشيء نفسه يمكن قوله عما يسمى بالأوليات، أي أول ما قام به في تاريخ الخلافة والأمة. حيث أدرج فيها مجموعة من الإجراءات والأحداث قد يكون أهمها من الناحية التاريخية والثقافية هو ما يسمى بجمع الناس على حرف واحد في القراءة. والمقصود بذلك جمع القرآن وقراءته بطريقة موحدة. غير أن هذا الانجاز الهائل لم يكن من إبداعه الشخصي بقدر ما ارتبط بزمنه. بمعنى أنه كان جزء من تاريخ القرآن وتطور الإدراك الذاتي العربي الإسلامي بضرورة جمع القرآن بوصفه "كتاب الله". إذ لم يكن هذا الجمع معزولا من حيث مقدماته وأسلوبه وغاياته عن آلية فعل الدولة المركزية وسعة انتشارها ومتطلبات توحيدها الروحي والعقائدي. أما الانجازات الفعلية التي ارتبطت بإرادته السياسية ورؤيته باعتباره أول من قام بها وادخلها في ذهنية وذوق الدولة والسلطة والأمة فهي "قطع القطائع"، و"نخل الدقيق"، و"رزق المؤذنين"، و"اتخاذ صاحب شرطة"3 . وتعكس هذه المبادرات الأولويات عند عثمان. بمعنى التركيز على توزيع الأرض وشراء ذمم المؤذنين وتوسيع دائرة التجسس والتنظيم الشرعي للمطاردة. ومع أنها جزء من آلية الدولة، إلا أن تراكمها في أولوياته السياسية يكشف عن طبيعة التحول النوعي في الموقف من السلطة.

وحاول توظيف هذا التحول من اجل أن تكون السلطة أداة قائمة بحد ذاتها. مما أدى إلى قلب العلاقة المتراكمة في خلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب تجاه السلطة من خلال جعل السلطة كيانا قائما بذاته وفوق كل اعتبار آخر. فقد كانت خلافة الصدّيق تجسيدا لمرحلة الانتقال من دولة النبوة إلى الدولة السياسية. من هنا دراما تأويل النص القرآني والسلطة. فقد جعلت هذه العملية الاجتهادية من الوحي مصدرا متساميا وواقعيا. بينما دفعها عمر بن الخطاب إلى الأمام من خلال إعلاء شأن الدولة ومؤسساتها، أي من خلال رفع وحدة الدولة والسلطة إلى مصاف المرجعية التي توازي وحدة الدين والدنيا. وهو استمرار كان يصعب على عثمان تحقيق اليسير منه. من هنا تعاظم التشوه الفعلي في مكونات الدولة والسلطة، والدين والدنيا. بمعنى تعاظم الخلاف والتشوه في الموقف من كمية ونوعية المرجعيات الخفية والعلنية المتراكمة في الوعي السياسي والأخلاقي الإسلامي قبل صعوده إلى سدة الحكم. من هنا بروز أولوية توظيف الوحي (الدين) في كل ما يمكن أن تصل إليه الأيادي وتنطق به الألسن. لاسيما وأن الدولة لم تستطع آنذاك بعد أن تؤسس لقواعد عمل السلطة ونظامها على أسس شرعية وواضحة المعالم.

فقد كانت المرجعية الوحيدة الجلية نسبيا آنذاك هي مرجعية الدين والدنيا. كما كانت في الوقت نفسه قابلة للتأويل غير المتناهي بسبب عدم تعين حدودها السياسية. وقد يكون ذلك هو السبب الذي أربك عثمان حالما اعتلى عرش الخلافة لإلقاء خطبته الأولى، بحيث ارتجّ عليه عقله وفؤاده ولسانه فعجز عن الكلام. بحيث جرى إدراجه إلى جانب "مآثره" الأخرى كونه "أول من ارتجّ عليه في الخطبة"! وذلك لأن عدم تعيين الحدود السياسية لعلاقة الدين بالدنيا بوصفها المرجعية الخفية للقيم النظرية والعملية الإسلامية الأولى، كانت تفسح المجال أمام اجتهاد فردي حر وصريح. وبما أن عثمان لم يكن يتمتع بهذه الصفات، إضافة إلى عمره الكبير الذي بلغ السبعين عند توليه الخلافة، لهذا ارتدّ عليه العمر وبالا والاجتهاد إرباكا. أما النتيجة المباشرة فهي خطبة مبتورة. فعندما خرج إليه الناس ليسمعوا خطبته، فإنه لم يستطع أن يقول أكثر من عبارة واحدة هي: "أيها الناس! إن أول مركب صعب، وإن بعد اليوم أياما، وإن أعش تأتكم الخطبة على وجهها، وما كنا خطباء وسيعلّمنا الله"!!

لقد كان الرجل بسيطا متواضعا مباشرا لا دجل فيه ولا مخاتلة. وعاش بعدها واستطاع أن يستجمع قواه ويخطب بعد أن تعلم ما لم يتقنه مسبقا. وقد أورد الطبري خطبته التي قال فيها:‏"‏إنكم في دار قلعة وفي بقية أعمار فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه. فلقد أتيتم صبحتم أو مسيتم‏.‏ ألا وإن الدنيا طويت على الغرور فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور‏.‏ اعتبروا بمن مضى‏.‏ ثم جدّوا ولا تغفلوا، فإنه لا يغفل عنكم‏.‏ أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين أثاروها وعمرّوها ومتعّوا بها طويلا؟ ألم تلفظهم‏؟‏ ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها. واطلبوا الآخرة، فإن الله قد ضرب لها مثلا والذي هو خير مثال، فقال (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تدروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا"4 ‏.

‏ ولا شيء في هذه الخطبة يمس الحياة والدولة والسياسة والعلاقة بالأمة أو علاقتها به. كما لا تحتوي على فكرة قانونية أو مشروع مستقبلي أو ترتيب للأولويات الكبرى. باختصار أنها اقرب ما تكون إلى كلمات العجائز أمام صغارهن، بوصفها عبارات محكومة بالحديث عن الأمور البديهية والشائعة كما لو أنها اكتشافا. وعادة ما تنسى هذه الذهنية أو تتناسى اشد الأمور جلاء أمام ذكريات الطفولة. ولا طفولة اقوي بالنسبة للذهنية التقليدية من علاقات "الدم". ففيها تتراكم حكايات الزمن الماضي وتأملات الأيام القادمة، وذلك لأن الوعي الذي يربطها لا علاقة له بالخيال المبدع. من هنا تصبح العلاقة بالأقارب مصدر كل شيء. وقد ميزت هذه الصفة شخصية عثمان بن عفان. وفيها يمكن رؤية سرّ مأزقه اللاحق وتعرضه لقتل الانتفاضة الإسلامية الأولى ضد السلطة.(يتبع...)

 

ا. د. ميثم الجنابي

........................

1- السيوطي: تاريخ الخلفاء ص120

 2- الذهبي: تاريخ الإسلام، ج1، ص 253. ‏

3- السيوطي: تاريخ الخلفاء، ص131.

4- ‏‏الطبري: تاريخ الأمم والملوك ج 2، ص 589-590.

 

في المثقف اليوم