دراسات وبحوث

فلسفة الذات الإنسانية عند الغزالي(3)

ميثم الجنابي"إن قدر الإنسان على قدر جلالة مراده"

(الغزالي)

إن الضغوط التي تفرضها مشاعر الانتماء للمطلق، هي ضغوط الأنا الباحثة عن وحدتها في عوالم التجزئة والتحلل. إنها تبحث وتنظّم في آن واحد حقائق المعنى المتسامية في الوجود، وتذليل كوامن الضعف الدائمة في الأنا التاريخية، وبالتالي توليفها في قيم الواجب، باعتباره توحيداً لمكونات الكمال في تجارب الأمة. فقد كانت الأمة في تجليها التاريخي هي أمة الإسلام، وفي تجليها الواجب مثالية الكلّ المتناثرة في تجاربها. وبالتالي لم تعن أنسنة المطلق سوى تحقيق التجربة الكلية لتاريخ الخلافة في نظامها المبدع وكمونها المثالي في ما ينبغي. وهذه بدورها ليست إلا الوحدة المماثلة في واقعيتها لتوحيدية الواجب المتسامي. فإذا كانت محاولة الغزالي إيجاد الصلة المعقولة بين الإنساني والإلهي هي الصيغة المعبّرة عن توليفه للتاريخي والمثالي، باعتبارها الحصيلة المجردة للعينات المثلى والمتسامية لتجربة الخلافة الروحية، فإن أنسنتها الأخلاقية هو استدراج منطق الخلافة الروحية في استخلافها لكيانها التاريخي. وبالتالي استمرار وجودها التاريخي والثقافي في مثالها الإلهي. ووجدت هذه الصيغة انعكاسها في موقفه من تساوي الأسماء الإلهية، بمعنى موقعها ووضعها في كل واحد لا تفاوت فيه. ولم يكن ذلك في الواقع سوى الصيغة التي مثّلت فيها أعلام الفكرة المطلقة، أو تجليات المطلق الإسلامي في أسمائه الموِّحدة لعناصر التاريخ والمثال.

فالغزالي لم يضع أياً من الأسماء الإلهية في مرتبة تفوق إحداها الأخرى، بينما جعل الاسم الإلهي الله اسما جامعا للكل. ولم يعن الأخير في منظومته سوى الكلّ الأخلاقي. وقد استمد هذه الفكرة من تقاليد التصوف في سلوكه وأحكامه عن التخّلق بأخلاق الله، أو الكلّ الأخلاقي الجامع لأسمائه الصفاتية. وبغض النظر عما في آرائه من توكيد على تباين واختلاف الأسماء والصفات والذات، وما يقابلها من الأسماء والصفات والذات الإنسانية، واستحالة تذليل البون الشاسع بينهما، إلا أنه لم ينف مشاركة الإنسان لله في أسمائه، بمعنى استعداده على امتلاك ما يمكن امتلاكه في مسعاه الدائم للتخلّق بصفات الحق.

لقد أدى ذلك إلى أن تحتل مبدئية الأخلاق الصارمة، ميدان الترقي الأخلاقي في إدراكه وتحقيقه الذاتي للمطلق، أو تشاكله معه بالشكل الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى "احتقار كل ما في الدنيا والآخرة"[1]. ولم يقصد هو باحتقار الدنيا والآخرة سوى تذليل الهوة غير المتناهية بين الإنسان والمطلق. فقد سعت منظومته عن الأسماء الإلهية في إظهار وحدة الذات الإنسانية في سموها الأخلاقي، وتحرير كيانها الأخلاقي من ثقل السلوك النفعي الضيق ونفسية الأعواض. ولم يقصد هو بذلك رفض ما في المنفعة المادية من أثر ضروري للعيش والوجود والأخلاق، بقدر ما حاول إنزالها من برجها المتحصن بمعايير الفقه النفعي ونفسية التبرير المصلحي. لهذا أكد على ما في المنافع المادية من مصدرية للخير، بل و"منبع الخيرات"[2]. ولم يعن ذلك في منظومته سوى عزل الروابط "الصنمية" وفك ارتباطها في وحدة تكاملها الخاصة، باعتبارها مثالاً واجباً للسلوك الاجتماعي الفردي والجماعي.

لقد سعى الغزالي إلى تأسيس استقلال الذات الإنسانية وتقييد حركتها بالمطلق. مما حدد بدوره طابع العلاقة المعرفية بالمطلق ومهمتها العملية عند العارف. فإذا كانت الأسماء الإلهية تحوي في ذاتها على كافة تجليات الوجود الأخلاقية، فإن ضرورة معرفتها تقوم بالسعي صوب اكتساب ما دعاه أيضاً بمطابقة الصورة العلمية للصورة الوجودية، أو مطابقة العلم للعمل. بمعنى تحوّل مثال اسم الله العالِم إلى نموذج الرقيب الأخلاقي، والخالق بقدرة الاختراع الدائم، أو "استنباط أمور لم يسبق إليها" وتجسيدها والترغيب فيها صوب "منبع الخيرات. ومن ثم يصبح الخير المطلق حافز الإبداع الإنساني في "الرياضات والمجاهدات والسياسات والصناعات"[3]. وبالتالي ليست هذه المعرفة سوى ترتيب الاستمرار العلمي والعملي، الذي تتوحد في ذروته الأخلاقية تراث الماضي ومثال المطلق الإلهي واكتساب المعرفة الدائمة وتوجيهها صوب إدراك بدايتها في الأول والأخير.

غير أن ما يثير اهتمام الغزالي ليس المعرفة ككل،رغم تأكيده على أن المعرفة بالجسمانيات هي مثال المعرفة بالروحانيات، بل "المعرفة الدينية" أو ذات "الواعز الديني" أو الأخلاقي[4]. وطابق حقيقة هذه المعرفة مع حقائق "الفتح النبوي" والكشف الصوفي. وعندما يشدد على أفضلية الإلهام الصوفي، فإن ذلك لا يعني إهماله للمعرفة الحسية والعقلية، بقدر ما أنه أدرجها في توليفة المساعي الأخلاقية. وبهذا لم تعد هذه المعرفة شيئاً ما مجرداً، بل معرفة اجتماعية سياسية وروحية. فالأنبياء تستمد، على سبيل المثال، مثالها العملي من الجمال والجلال الإلهيين (المطلقين). وإذا كانت "مفاتيح الغيب والوجود" أو الممكن والواجب بيد الله، فإن ذلك يستلزم في معرفة الإنسان الكامل تجليها وتحلّيها برؤية الجمال والجلال، التي "يتيسر بها ما تعسر على الخلق من الأمور الدينية والدنيوية"[5].

وقد حدد هذا بدوره وحدة القلق الروحي الأخلاقي والمعرفي، وبالتالي اضمحلال اغتراب الموضوع ونهاياته في ذهنية العارف من خلال تحولها إلى ما يمكن دعوته بمصيره الوجودي الأخلاقي. وذلك بفعل كفّ الحركة الوجودية والأخلاقية عن أن تكون أطراً قائمة بحد ذاتها. وإذا كان ذلك ممتنعاً في الوجود، فإنه أشد امتناعاً في المثال. وسبب ذلك يقوم في مطابقته في آراء الغزالي مع فكرة ترتيب الله للأشياء والموجودات، أو وحدة البداية والنهاية، والأخذ والعطاء، وكل ما يلف عالم الحركة والسكون وتجليها على مثال الاسم الإلهي القابض الباسط، باعتباره الاسم المعبّر عن وحدة الوجود الأخلاقية وإبداعها الصوفي في رياضة النفس. فعزلة الصوفي هي ميدان الانطلاق غير المتناهي، تماماً بالقدر الذي لا معنى للانقباض دون البسط، ولا قيمة للأخير دون الأول. وعلى قوة كل منهما يتكامل الآخر كما هو الحال في كل حال ووجود. فهي الوحدة المتناقضة في ظاهرها والطبيعية في مجراها، باعتبارها وسيلة ارتقاء كل ما هو موجود، بما في ذلك عالم النفس الأخلاقي. فهو أكثر ميادينها دقة وفي حساسيته إرهافاً، لأنه الوحيد الذي تستثيره الكلمة وتهدّئه، تبعثره وتوّحده، تفرِّده وتجمّعه، تبغضه وتحببه، تبعده وتقرّبه، تؤنسه وتوحشه، تهلكه وتنجيه، وتبقي عليه في الوقت نفسه متناثراً في الظاهر والأشياء.

ذلك يعني، أن مهمة الرقي الأخلاقي المعرفي هو فعل الذات الحر. لهذا ربط الغزالي بلوغ ذروة الكلّ الأخلاقي بأفعال التخلّق الفردي، بوصفها عملية دائبة لوحدة العلم والعمل النافية للتجزئة الداخلية. ومن ثم صهر التجزئة في تجارب الفعل الأخلاقي الحر، والمقنن في الوقت نفسه بقيود الإرادة المتسامية ومثالها الصوفي في علاقة المريد بالشيخ. غير أن الغزالي، لم ينظر إلى هذه العلاقة بمعايير الصوفية الخالصة عن آداب الصحبة والمريد، بقدر ما أنه أدرج تراثها في منظومة الفعل الحر، أي توليف عقلانية البناء المنظومي للفكر والبحث عن اليقين.

فالتخلّق بالأسماء الإلهية هو الإدراك العملي الحق لحقيقة النسبة القائمة بين الملموس والمجرد، والنسبي والمطلق. وإذا كانت الأسماء الإلهية كالملك والقدوس والسلاّم والمهيمن تعبر عما هو مطلق فيها، فإن ما يقابلها في عالم الشهادة والملك (كإمكان ووجوب) هو اختلاقهما الدائم في النفس، باعتبارها عملية معرفية وأخلاقية. فالملك المطلق هو الذي يستغني في ذاته وصفاته عن كل موجود. والقدوس هو المنزّه عن كل وصف يدركه حس أو يتصوره خيال أو يسبق إليه وهم أو يختلج به ضمير أو يقضي به تفكير، أو المنّزه عن أوصاف الكمال التي يظنها الناس كمالاً. والسلام هو الذي تسلم ذاته من العيب وصفاته عن النقص وأفعاله عن الشر. والمهيمن هو القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم (بالعلم والقدرة والفعل). وما يقابله في عالم الملك والشهادة من إمكانية السعي الدائم صوب المطلق في واقعيته التاريخية ولا نهائيته المثالية. إذ لا يمكن للإنسان أن يكون ملكاً مطلقاً. وليس مردّ ذلك إلى ما فيه من نقص واعوجاج، بقدر ما أن حدود أفعاله الواقعية هي حدود الملموس (التاريخي). فهو عرضة للتغير والتبدل، وبالتالي لا يتصور أن يحتاج إليه كل شيء، وفي كل شيء. بل يستغني عنه أكثر الموجودات. ولكن قدرته على الاستغناء عن بعض الأشياء تجعله شبيهاً بالملك المطلق. ووضع هذه الفكرة في تأسيسه لماهية الاشتراك بمعايير غير المتناهي، بوصفها الذروة الفعلية للإنسان. فالملك بين الناس وفي ذاته هو من يقدر على التحكم في ذاته وفي "مملكته ورعاياه". وبما أن الإنسان هو صورة الكون الجامع، فإنه يحوي في ذاته على كل مكونات مملكته الوجودية. فجنوده شهوته، ورعاياه لسانه وعيناه ويداه. وبالتالي ليس التحكم فيها سوى إحكام السيطرة عليها. بمعنى تحويل الملوكية الظاهرية إلى عبودية باطنية. وقد عبّرت الصوفية عنها بنادرة طلب أحد الأمراء (أو الخلفاء) من أحد العارفين (الصوفية) قائلاً:

ــ سلني ما حاجتك؟

ــ أو تقول لي هذا ولي عبدان هما سيداك؟!

ــ ومن هما؟

ــ الحرص والهوى. فقد غلبتهما (أنا) وغلباك، وملكتهما (أنا) وملكاك!!

ووضع الغزالي هذه الفكرة في نظرته إلى حقيقة الحرية باعتبارها إحكام السيطرة الأخلاقية في الذات الإنسانية. بمعنى إدراك ضرورة الوجود المطلق بما يتطابق معه. وذلك لأن إدراك ضرورة الوجود المطلق، هو مقدمة التخّلق به. فالأسماء الإلهية هي الرموز المتسامية للذات الإنسانية في جمعها كلية الاتجاه العام للتخلّق بأخلاق الله[6]. فالاسم الإلهي القدوس يعني المنّزه عن كل وصف يدركه حس أو يتصوره خيال أو يسبق إليه وهم، أو يقضي به تفكير. فهو المنّزه عن كل وصف عن أوصاف الكمال التي يظنها أكثر الخلق كمالاً، أو الكمال المطلق، الذي يدرك الإنسان صفاته المناسبة لصفات نفسه. وبغض النظر عن التباين الهائل بينهما إلا أنه شّكل في الوقت نفسه مؤشر "التنزيه" الإنساني، الذي طابقه الغزالي مع تنزيه العلم والإرادة الإنسانيتين. ولا يعني تنزيه العلم سوى التجريد العقلي الرفيع في البحث عن الحقائق المطلقة، أو ما عبّر عنه بكلمات "تنزيه العلم عن المتخيلات والمحسوسات والموهومات، وكل ما يشاركه فيه البهائم من الإدراكات. بل يكون تردد نظره وتطواف علمه عن الأمور الأزلية الإلهية المنزهة عن أن تقترب فتدرك بالحس، أو تبعد فتغيب عنه، بل يصير متجرداً في نفسه عن المحسوسات والمتخيلات كلها، ويقتني من العلوم ما لو سلب آلة حسه وتخيله بقي ربانياً بالعلوم الشريفة الكلية الإلهية المتعلقة بالعلوم الأزلية الأبدية"[7].  وهذه بدورها ليست إلا المعرفة المنّزهة، التي يقابلها في عالم الإرادة الإنسانية السعي نحو الكمال النظري والعملي، أو ما دعاه أحياناً بتنزيه الإرادة عن الدوران حول الحظوظ البشرية، التي ترجع إلى لذة الشهوة والغضب. ولا يعني ذلك سوى متابعة المستوى المعرفي ذاته في ميدان التنوير والتنشيط الأخلاقي في مسعاه الواجب صوب المجرد المتسامي. وصاغ هذه الفكرة بعبارة "الارتقاء إلى ما هو من خواص الإنسانية" أو "الارتفاع عن ضعف البشرية والشهوانية والبهيمية"، انطلاقاً من أن "قدر الإنسان على قدر جلالة مراده. ومن همّته ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج منه"[8].

ومهّدت هذه الآراء لتأسيس فكرته عن رفع شأن الأخلاق بالنسبة للعارف. وليس مصادفة أن يركز على معالم المراقبة الذاتية ومحاسبة النفس في شرحه للأسماء الإلهية كالسميع والبصير والحسيب والرقيب والصبور. وهي الأفكار التي سبق وأن عرض بعض جوانبها في (إحياء علوم الدين)، وبالأخص في ما دعاه بالمقامات الستة لمحاسبة النفس ومراقبتها وهي كل من المراقبة والمحاسبة والمعاقبة والمجاهدة والمعاتبة[9]. أما في (المقصد الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى)، فإنه تناولها ضمن سياق ما يمكن دعوته باخلاق الخاصة والصفوة، دون أن تفقد قيمتها المعنوية لعوام الأمة. فالسمع والبصر، على سبيل المثال، هو كل ما له علاقة بالمحسوس. وبالتالي، فإن حظ الإنسان منهما محدود. وذلك لأن الإنسان لا يدرك جميع المسموعات، ولا يرى جميع المبصورات. ثم إن أدوات السمع والبصر عرضة للتلف والعطب والزوال. وبالتالي ليست حقيقة السمع والبصر سوى حقيقتهما الأخلاقية، أو ما دعاه أيضاً بالحظ  الديني في السمع والبصر. بمعنى ضرورة معرفة الإنسان بأن الله سميع فيحفظ لسانه، وأن يعلم بأن السمع له هو سماع كلام الله وحديث رسوله. في حين أن البصر للإنسان هو لكي ينظر به إلى عجائب الملكوت، وليعلم بأنه بمرأى من الله، وأنه الواعز الأخلاقي والحاكم النهائي فيه.

إن هذه الصياغة الحذرة والزلقة لحد ما في آرائه لها مضمونها المعرفي الأخلاقي والصوف. فهو لم يقصد بسمع كلام الله سوى ما يتطابق مع مفهوم الوحي النبوي والإلهام الصوف.  وليس اعتباطاً أن يضع عبارة كلام الله قبل القرآن والسنة. وهو لا يجاري هنا تقاليد أهل السنّة في دفعها إلى الأمام القرآن والحديث في كل ما جدّ واستجد. لكنه نظر إليها بالعين والسمع الإلهيين،أي بالأسلوب الباحث عن النسبة الضرورية والمعقولة بين النظر والسمع والكلام الإلهي والإنساني، بوصفها صفات تجلي الأخلاق والمعرفة الحقيقية. فإذا كان السمع والبصر بحق الله هو "عبارة عن صفة تتكشف بها كمال صفات المسموعات وكمال صفات المبصرات"[10]، فإن كلامه هو الآخر صفة بها تتكشف كمال صفة "الخط الإلهي" في كل ما هو موجود.

وحدد هذا بدوره مضمون الرقابة الذاتية ومثالها في الاسم الإلهي الرقيب. فالرقيب هو العليم الحفيظ، الذي لا يغفل في مراعاة شيء، ويلحظه على الدوام ملاحظة لازمة لزوماً، لو عرفه الممنوع عنه لما أقدم عليه. وبهذا المعنى فإن الرقيب كأنه يرجع إلى العليم والحفيظ، ولكن باعتبار "كونه لازماً دائماً بالإضافة إلى ممنوع عنه". أما مثاله في الإنسان المتخلّق بأخلاق الله، فهو مراقبة القلب بسدّ منافذ الشر وفتح أبواب الخير. فهي العملية التربوية لرؤية النسبة الحقة بين وجود المثال المطلق ووجوده الفردي. كما أنها النسبة التي يكشف عنها الاسم الإلهي الحسيب. فالحسيب هو الكافي، الذي من كان له كان حسبه. أما حقيقة الكافي فهو الله. فالكفاية "يحتاج إليها المكفي لوجوده ودوام وجوده ولكمال وجوده. وليس في الوجود شيء هو وحده كاف لشيء إلا الله"[11]. وذلك لأن كل ما في الوجود هو واسطة في الكلّ. مما جعله يؤكد على أن احتياج المرء للطعام والشراب والأرض والسماء والماء والهواء والشمس ما هو إلا احتياج لله. وإن الطفل الذي يحتاج لأمه لا يحتاج إلا الله. إذ لا كفاية في الوجود بغيره. فكل ما في الوجود مرتب على هيئة لا ينفصل أحده عن الآخر. والكلّ هو الله. إذ "ليس في الوجود شيء وحده هو حسب شيء سواه. بل الأشياء يتعلق بعضها ببعض وكلها تتعلق بقدرة الله"[12]. وبهذا المعنى لا يمكن إطلاق لفظ الحسيب على الإنسان إلا مجازاً. ولم يعن الغزالي بالمجاز هنا سوى نسبة الكفاية في الإنسان باعتباره واسطة في الوجود من حيث ذاته المنفردة. لهذا أيضاً تكلم عن مجازية كفايته بالإضافة إلى بادئ الرأي وسابق الظن. ففي الحالة الأولى، إن كان كافياً لطفله بتعهده أو لتلميذه بتعليمه حتى لم يفتقر إلى الاستعاضة بغيره، فإنه مجرد واسطة في الكفاية، ولم يكن كافياً بحد ذاته. إذ ليس للإنسان قوام بنفسه، ولا كفاية له بنفسه. أما بسابق الظن، فإنه حتى لو قدّرنا استقلاليته بالكفاية وليس بواسطة، فإن وحده لا يكفي، لأنه يحتاج إلى محل لفعله وكفايته. وهذا أقل الأمور. فالمعدة، على سبيل المثال، هي مستقر الطعام ولابد منها لتكون كافية بإيصال الطعام إلى بدنه. وهذا ما يحتاج إليه في أمور كثيرة لا يحصيها ولا يدخل شيء منها في اختياره. وإذا كان أقل درجات الفعل حاجته إلى فاعل، فالفاعل لا يكفي دون القابل أصلاً. ولم يرد الغزالي من وراء ذلك سوى إظهار واقعية الوسائط بالنسبة للوجود الإنساني وارتباطه بها، باعتباره جزءاً منها رغم ذاته المستقلة وقدرته، أي كل ما يجعل منه حلقة في الوجود ورابطة بين الباقي والزائل، والخالد والعابر. فلإنسان هو الحلقة الوحيدة القادرة في سلسلة الموجودات، على بلوغ الكمال الحقيقي لا الوهمي، وإدراك حقيقة وجوده وصلته بالوجود وبه، باعتبارها الوسيلة المثلى لتربيته الأخلاقية عبر توجيه نيته وفعله، وتأمله وفكره صوب الذات المطلقة. ووضع هذه الفكرة بالكلمات التالية:"أن يكون همه الله، فلا يريد الجنة ولا يشغل قلبه بالنار، بل يكون مستغرق الهمّ بالله وحده"[13].

ولا يعني ذلك في الواقع سوى "تذويب" المطلق في الممكن (الواقعي) أو ما يمكن دعوته بأنسنة الاسم المطلق. فهو يضع نصب عينه مهمة البرهنة على استحالة إدراك المطلق، بفعل تعدي حقيقته كل الاشكال الملموسة والجزئية، رغم أنها ميدان إدراكه المعقول. مما جعله يدقق فكرة التخلّق بأخلاق الله من خلال تشديده على أن المطلق ليس كياناً قائماً بذاته ذا قشور صلدة يكفي كسرها لرؤية حقيقته اللامعة. إذ ليس وجود المطلق الحق سوى الوجود المنفي في إدراك العدم. أما الصيغة القصوى للتعبير عنه فهي صيغة التعبير المفارق للدليل. وحالما يجد هذا التعبير سبيله إلى الوعي، حينذاك يصبح أسلوبه التام هو أسلوب البحث عن المطلق باعتباره الوجود المنفي في إدراك العدم. (يتبع.....).

 

ا. د. ميثم الجنابي

 .........................

[1] الغزالي: المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، ص75.

[2] الغزالي: المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، ص79.

[3] الغزالي: المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، ص79.

[4] الغزالي: المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، ص78.

[5] الغزالي: المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، ص86.

[6] نقف هنا امام نفس الملامح المميزة لابداع الغزالي المتأخر،أي نزعة التوليف الكبرى تجاه مختلف القضايا والمفاهيم والمواقف. وفي الحالة المعنية ما له علاقة بقضايا المثال الإنساني. فقد ربط هنا في كل واحد تقاليد وتراث الفكر الصوفي والتيارات الفلسفية تجاه قضية "التخلّق بأخلاق الله"، وقضية السلوك العملي الساعي لبلوغ حقيقة الحق. فهي الفكرة الجورهية في طريق التصوف. اما التقاليد الفلسفية للهيلينية المتأخرة وبالاخص تيارات الغنوص منها. وقد أشار الغزالي نفسه إليها في معرض حديثه عن الاسم الإلهي المهيمن. (المقصد الأسنى، ص7). ومن الممكن اجراء مقارنة بين ما وضعه الغزالي وما جرى وضعه في كتاب (الأسماء الإلهية) المنسوب إلى ديونيس الاريوباغيتي. غير أن اوجه التباين والاختلاف في المنحى والغاية تجعل لكل منهما تراثه الخاص. إذ ليست "الأسماء الإلهية" عند الغزالي، وفي التراث الإسلامي كل، سوى منظومة تعميق وعي الذات الأخلاقي الملازم بالأخص لروحانية التصوف وأسلوبه المتميز في فلسفة الطريق (الطريقة)، بوصفها أسلوب تربية النفس والإرادة والمريد.

[7] الغزالي: المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، ص68-.69

[8] الغزالي: المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، ص69.

[9] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص394-422.

[10] الغزالي: المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، ص90-91.

[11] الغزالي: المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، ص114.

[12] الغزالي: المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، ص114.

[13] الغزالي: المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، ص115.

 

في المثقف اليوم