دراسات وبحوث

التحدي المحمدي وتأسيس منظومة المرجعيات الثقافية الكبرى(2-2)

ميثم الجنابي"النبي محمد هو التحقيق الأصيل للحقائق الإنسانية الكبرى والحق الأخلاقي"

من الناحية التاريخية والثقافية تشكل الوثنية مرحلة في مسار الوعي الثقافي الديني، الذي تتداخل فيه بقايا العصبيات الاجتماعية، والفضاء الجغرافي الضيق، والوجود الطبيعي. الأمر الذي يوسع المشاركة الاجتماعية والروحية ولحد ما الفكرية، لكنه يجعل من التعدد مصدر الخلاف وليس الوحدة النامية والمتراكمة في مفاهيم وقواعد متسامية. وقد واجه النبي محمد الوثنية بمختلف أشكالها ومظاهرها ومستوياتها، بوصفها ظاهرة ثقافية دينية. اذ نظر إليها في بداية الدعوة على أنها ممارسة تتطابق مع عبادة الأوثان، ولاحقا طابقها مع احد نماذج الجاهلية، أي الجهل بحقيقة ما فيها ونفيها. فقد وجد، على سبيل المثال، في النسأة نموذجا لأحد مظاهرها، بمعنى تحليل وتحريم القتال في الأشهر الحرام حسب رغبة ومزاج البعض. بحيث تفاخر البعض به، بوصفه تعبيرا عن قوة القبيلة، كما في قول عمير بن قيس أحد بني فراس بن غنم:

السنا الناسئين على معد     شهور الحل نجعلها حراما؟

بينما وجد النبي محمد فيها كفرا وضلالة كما في الآية: "إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا". كما وجد في تقسيم الثروة بين الله والأصنام حكما سيئا لا علاقة له بالحكمة، بل دليل على الجهل الذي يجعل لله أندادا من الحجر وغيره. ووصف هذا السلوك بعبارة "ساء ما يحكمون". وبالمقابل نرى تحديه النقدي لتقاليد الوثنية الحسنة ولكن بعد تهذيبها وتشذيبها أو نفيها بمعايير الفكرة التوحيدية. فقد أبقى محمد على تقاليد العرب الوثنية فيما يتعلق بتحديد الحرب والسلم وسعى إلى تثبيتها بصورة دائمة عبر نقلها من حالة التقاليد والأعراف إلى حالة القواعد والمبادئ الملزمة بعد إدراجها فيما اسماه بما "حرّمه وأحّله الله". وينطبق ذلك على موقفه من الحج، اذ وجد فيه شكلا من أشكال التوحيد الاجتماعي والروحي. من هنا الاهتمام بكافة أجزاءه وجزئياته، أي الشعائر والأوقات والأساليب والقيم والالتزامات فيه بحيث جعل منه عمودا من أعمدة الإيمان والتوحيد، لا يقبل التلاعب والتغيير والتبديل الكيفي والفردي والاعتباطي. وطبق هذا الموقف على جوانب أخرى عديدة.

لقد أراد أن يجعل من اجتهادهم الشخصي ومن تقاليد وأعراف الماضي المؤدية إلى الشقاق والاختلاف كفرا وخروجا على العقل. ووضع موقفه هذا بعبارة أو آية تقول: "يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون". كما أبقى على اغلب التقاليد الموّحدة مثل كل ما كان من حلف في الجاهلية، فإن الإسلام لم يزده إلا شدة. والإبقاء على قطع يد السارق. حيث قطعت قريش يد الذي سرق  كنز الكعبة. وهذا بدوره أدى إلى إثارة حمية إعادة بناءها. كما أبقى على الطواف حول الكعبة وأدرجه ضمن العبادات، لكنه حرم الحمس والطواف العاري للرجال والنساء على السواء.

من هذه الأمثلة ومئات غيرها تتضح مساعي النبي محمد الدائمة لإرساء أسس المرجعيات المتسامية، والتي نعثر على صيغتها النهائية والرمزية في خطبة الوداع عندما قال: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض"، بمعنى تقديم الإسلام بديله التوحيدي الشامل.

إن قيمة الفكرة التوحيدية بهذا الصدد تقوم في نفي وإلغاء الحدود والقيود الطبيعية الضيقة بقيود المبادئ والعقائد، ومن ثم توسيع إطار الخيال الروحي والتأمل العقلي، الذي تكامل وتوّج بظهور الفكرة القيميية والعقائدية عن "الجاهلية". وهنا يكون قد بلغ التحدي الأول ذروته.

 أما التحدي الثاني فقد تركز حول تدقيق وتحقيق الوحدانية الإسلامية. وشأن كل تحد كبير، فإنه عادة ما يبدأ بتحدي النفس. وشكلت مهمة التحرر من الحنيفية، المقدمة الفكرية والروحية والعملية لتدقيق وتحقيق الفكرة الوحدانية الجديدة. والمقصود بالتحرر هنا تذليل مرحلة الخلوة والتعبد والإيمان بالإله الواحد. بمعنى وقوفها عند تخوم الروح الديني والاكتفاء به. وبهذا المعنى، فإن النبي محمد قد أنقذ الحنيفية في الجزيرة من التقوقع الذاتي، ومن ثم التحول إلى دين ضيق قبلي أو قومي أو الاندثار بوصفها كيانا ثابتا وليس كينونة قابلة للارتقاء. فقد شكلت الحنيفية الصيغة العربية للوحدانية في الجزيرة. وكانت أقرب إلى أن تكون حلقة وسطى بين النصرانية والإسلام، أي أنها اقرب إلى النصرانية بمزاج عربي. ومع أن اليهود (العبرانيين) أقرب إلى العرب من حيث العرق والتقاليد الثقافية والتعايش المشترك، إلا أن أحدا من الحنيفية لم يتهّود على الرغم من دعوتهم إلى دين إبراهيم. بل نراهم يعتقدون بأن الدين الحنيفي هو خير الأديان وأكثرها نقاء كما في شعر أمية بن ابي الصلت:

كل دين يوم القيامة عند   الله، إلا دين الحنيفة، بور

بينما كان سلمان الفارسي يبحث عن الحنيفية في الجزيرة فأردوه إلى محمد. الأمر الذي يشير إلى اشتهار محمد بالانتماء لتيار الحنيفية أو انه أحد أشهر ممثليها في مكة آنذاك. إن بلوغ محمد مكانة الذروة في تيار أو مجموعة الحنيفية يشير أيضا إلى إمكانية تجاوزها. وهي القطيعة الأولية التي تبلورت للمرة الأولى في إعلان نبوته. فقد كان ذلك التحدي الأول والأكبر للحنيفية، بمعنى السير بطريقه الخاص عبر تذليل نمط ونمطية التوحيد الروحي. بينما كان التوحيد الجديد يتسم بقدر واحد وموحد للعقيدة الجديدة والإيمان بها وكذلك في طابعها العملي، أي أنها ذات رسالة تتعدى ولع الرقي الروحي والسمو الأخلاقي الفردي.

فقد اشتهر من بين الحنفاء قبل الدعوة الإسلامية ورقة بن نوفل الذي تنّصر، وعبيد الله بن جحش الذي أسلم في البداية ثم تنّصر بعد الهجرة للحبشة، وعثمان بن الحويرث الذي تنّصر ثم ذهب إلى قيصر الروم، وزيد بن عمرو بن نفيل، الذي ظل حنيفيا. وأهم وأشهر ما كان يميز آراءه ومواقفه من الأوثان هو اعتزالها، وترك الميتة والدم، وترك الذبائح التي تذبح على الأوثان، والنهي عن قتل الموءودة. وكان إذا استقبل الكعبة ودخل المسجد يقول "لبيك حقا حقا، تعبدا ورقّا". وتوفي زيد بن عمرو بعد رجوعه من الشام في بحثه عن الحنيفية، الأمر الذي يشير إلى أن مصادر ونماذج الحنيفية هي منطقة الهلال الخصيب والجزيرة. ومن ثم تمثل الحنيفية فكرة البحث عن دين خاص وجديد يستجيب لحالة العرب وتقاليدها الدينية والروحية ويقترب أكثر فأكثر من فكرة الوحدانية المجردة والعيش بموجبها. وهو الأسلوب الذي ميز أيضا سلوك محمد قبل نبوة الإسلام. كما نعثر في مواقفه اللاحقة وتحديه للوثنية العربية على تجسيد وتحقيق اغلب المفاهيم والمواقف المتراكمة في تقاليد وتيار الحنفاء. فقد وصف الإسلام نفسه في بداياته "دينا حنيفا". وتحتوي هذه العبارة على بقايا وآثار وموقع الحنيفية في شخصية محمد. فالروايات المحققة بهذا الصدد تشير إلى انه كان يتعبد في غار حراء شهرا في كل سنة. وكان ذلك مما تحنث، أي تحنف به قريش قبل الإسلام. ذلك يعني أن محمدا هو الممثل الحق والصافي للحنيفية. وتنقل إحدى الروايات عن جدل احد النصارى العرب معه مخاطبا إياه بعبارة: "يا محمد! أدخلت في الحنيفية ما ليس فيها. جئت بها نقية بيضاء". وأيا كانت صحة أو اختلاق هذه المخاطبة، فإن مضمونها يتجاوب مع حقيقة المسار الشخصي لمحمد بانتقاله من الحنيفية التقليدية إلى حنيفية جديدة هي الإسلام. بمعنى تذليل حدودها ونفيها بمنظومة عقائدية وعملية أخرى. فتتبع سيرة الشخصيات الكبرى والمشهورة للحنفاء تكشف عن أنهم كانوا في حالة قلقة أو انتقالية. فأغلبهم تنّصر والبقية الباقية بقت على ما هي عليه. أما محمد فقد نقلها إلى حالة نوعية أخرى. وبإتمامها العملي يكون قد ذلل نواقصها الفكرية والعملية.

قدّم محمد في نبوته الإسلامية دينا جديدا وتشريعا خاصا له رؤيته المتميزة تجاه كل الإشكاليات والقضايا التي واجهها في مجرى صراعه ضد الوثنية العربية أولا، ثم اليهودية ثانيا، والنصرانية ثالثا.

كان الإسلام من حيث صيرورته الأولية وتدقيق مفاهيمه وتحقيق مبادئه نتاجا لتحدي الوثنية العربية والصراع معها. ولم ينته ذلك إلا بفتح مكة. حينذاك تنقطع الهيبة والقوة المادية والاجتماعية والروحية للوثنية العربية. وفِي مجرى الصراع معها كانت تتوازى تحديد ونقد كافة مظاهر العرب الوثنية بوصفها جهلا وجاهلية، والجهاد ضدها زمن الحرب والسلم إلى كسر شوكتها، كما تقول العرب. وقد كان ذلك تحديا ذاتيا للنبوة المحمدية والدين الإسلامي. أما الصراع ضد اليهودية والنصرانية فقد كان من طراز آخر، ألا وهو الصراع من أجل تثبيت دعائم الدين الجديد وفكرته التوحيدية.

كانت اليهودية والنصرانية في شبه الجزيرة العربية أديانا هامشية. اليهودية في بعض مناطق الجنوب (اليمن) والنصرانية في الشمال، بالقرب من حيرة العراق وبصرى الشام. اذ هاجر الكثير من يهود فلسطين بعد العقد السابع للميلاد بأثر السياسة الرومانية. والاختلاف بين يهود الجزيرة ويهود الشام يقوم في كونهم لم يتمسكوا بالتلمود، كما كانوا يزاولون الرعي والزراعة والربا والصياغة، ولهم شعائرهم الخاصة مثل الصلاة ثلاث مرات في اليوم، القدس قبلتهم في الصلاة، ويدعون بالبوق في أوقات الصلاة، ويصومون في عاشوراء. ولم يكن انتشار اليهودية في اليمن معزولا عن أسباب ثقافية.

فاليهود اقرب في ذهنيتهم لعرب الجزيرة آنذاك، بما في ذلك تجاه قضايا الدين من النصرانية الرومية والإغريقية. كما أن لانتشار اليهودية في الجنوب أسباب سياسية، لعل أهمها هو الوقوف ضد روما الساعية للسيطرة باسم المسيح. لكنها لم تحصل على انتشار كبير بسبب طقوسها وشعائرها الثقيلة، التي كانت تتعارض مع مزاج العرب قبل الإسلام. وبعده أكثر! من هنا يمكن فهم فكرة الإسلام عن أن الإسلام هو دين اليسر وليس دين العسر. أما عادة الختان فقد كانت موجودة عند بعض القبائل العربية.

لقد كانت علاقة النبي محمد باليهود في البداية مبنية على معتقدات دينية. من هنا دعمه لهم وتأييده إياهم. وحالما احتك بهم للمرة الأولى في المدينة، فأنه سعى لاستمالتهم عبر الموادعة والمهادنة وعدم التدخل في شئونهم الخاصة، بل وسعى للاتفاق والاشتراك معهم في الصراع ضد الوثنية. غير أن مفارقة الظاهرة تقوم في أن اليهود لم ينتقدوا الفكرة الوثنية. كما أن العرب لم يهتموا بديانة اليهود. لكن الأمر اختلف مع الإسلام. ففي أول وثيقة كتبها النبي محمد حول العلاقة باليهود ورد فيها ما يلي: "من أتبعنا من يهود فإن له النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم"، وإن "يهود بني عوف أمة من المؤمنين. لليهود دينهم وللمسلمين دينهم". لكنه ربط موقفه منهم بنوعية سلوكهم. فهو يواليهم ويدافع عنهم باستثناء "من ظلم وأثم". وطبق هذا الموقف على كل اليهود من بني النجار وبني الحارث وساعدة وجشم وغيرهم. ووضع مهمة نفقة اليهود على أنفسهم، لكنهم يشاركون المؤمنين في حالة الحرب. ومع ذلك أخذ دبيب العداء اليهودي للإسلام والمسلمين حالما تحسسوا القوة الصاعدة التي ستشكل خطرا على وجودهم. حينذاك أخذ التشكيك بالدين الجديد والجدل معه، أي كل ما نعثر عليه في الآيات المثيرة المتعلقة بهذا الجانب. وكانت محاججة اليهود واتهامهم وعداءهم ومحاربتهم للإسلام قد حدثت في المدينة وغابت بصورة كلية في مكة.

أدت هذه المحاججة والصراع والقتال إلى نتائج متنوعة ومختلفة. فهناك من أسلم منهم مثل عبد الله بن سلام بن الحارث (اسمه الأول الحصين)، ومنهم من أسلم ونافق مثل مخيرين الذي قتل في معركة أحد، وهناك من اسلم ونافق وسعى لهدم الإسلام من الداخل كما هو الحال بالنسبة لسعد بن حنين. وهناك من كان يستهزأ بمحمد والإسلام مثل زيد بن اللصيت الذي كان يقول "يزعم محمد انه يأتيه خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته". بينما كانت سياسة محمد الأولية تتسم باللين تجاههم من أجل تحييدهم في الصراع وكذلك لكسر احتكارهم للدين. إلا أن هذه السياسة لم تؤتي ثمارها، الأمر الذي حدد مقدمات الخلاف والصراع والمواجهة، بما في ذلك القتال. ووجد ذلك انعكاسه الأول في الآية القائلة:" ودّ كثير من أهل الكتاب لو يرونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين له الحق. فاعفوا واصفحوا حتى يأتي أمر الله، إن الله على كل شيء قدير".

وبعد انتصار المسلمين في معركة بدر أصبح الصراع مع اليهود أكثر شدة وجلاء. واستعمل اليهود آنذاك أسلوب فرق تسد، وبالأخص فيما يتعلق منه بصراع الأوس والخزرج، وبينهما وبين المهاجرين. ونجحت هذه "السياسة" في بادئ الأمر عبر اللعب على وتر الذاكرة التاريخية للصراع بينهما في "معركة بعاث" التي كان الظفر فيها للأوس. وقد كان تحدي النبي محمد لهم في البداية باستعمال أسلوب المقاطعة أو عزل المسلمين عنهم، كما نعثر عليه في الآية القائلة: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم".

ولا يشذ التحدي الديني السياسي للنصرانية عما هو مميز للموقف من اليهود واليهودية، بمعنى دخوله صرح البناء التدريجي والتأسيسي للفكرة الوحدانية الجديدة. لكنه تحد وصراع اتسم باللين والعطف ولم يتخذ صيغة العداء الفج والقتال المباشر. وهناك ثلاثة أسباب وراء هذه الحالة، الأول وهو أن انتشار النصرانية في الجزيرة كان في نجران، وهي بأوسط أرض العرب آنذاك، حيث كان أهلها والعرب جميعا أهل عبادة أوثان، كما أن انتشارها كان محدودا وضيّقا وتابعا لروما آنذاك. وعموما تراكم الصراع مع النصرانية بصورة تدريجية، لكنه ظل محصورا بفكرة التوحيد ونقد فكرة الثالوث النصرانية. بمعنى أن بؤرة الصراع كانت تدور حول فكرة التوحيد. فقد قالت اليهود العزير ابن الله! بينما اعتبر محمد هذه العقائد زيغ وضلال، ومع ذلك تركهم على دينهم مقابل دفع الجزية ومقدارها دينار واحد في السنة.

أما التحدي الثالث والأخير فقد توج بفكرة دين الجماعة والأمة، أي بلوغ حالة الدين السياسي. وبهذا يكون النبي محمد قد نفّذ المهمة التاريخية الكبرى بنقل العرب من المرحلة الثقافية الدينية إلى المرحلة الدينية السياسية. إذ استطاع إرساء أسس العقيدة الدينية الجديدة عبر تحويلها إلى دين العرب أولا ثم إلى "دين العالمين"، له شعائره الخاصة في العبادات، ورؤيته العقائدية والكونية، ومنظومة قيمه الأخلاقية، وقواعده القانونية. ولازم ذلك القطيعة التامة مع الوثنية العربية بوصفها جاهلية، ومع اليهودية والنصرانية بوصفها أديانا "لأهل الكتاب"، ورفض ما غيرهما. وأرسى بالتالي طبيعة ونوعية العلاقة بين العرب والعربية بوصفهما حملة الإسلام الأوائل، وبين مضمون الفكرة الإسلامية بوصفه دينا وحدانيا خالصا. ووجد ذلك انعكاسه في احد مبادئه وعقائده الكبرى، القائلة بأنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ومن ثم إرساء الأسس العميقة لوعي الذات العربي بوصفه وعيا إسلاميا، ساهم لاحقا بتحويل الإسلام إلى دين عالمي وثقافة كونية. وهذا بدوره كان نتاج سلسلة من التحديات، ومنظومة من الحلول التاريخية الثقافية الكبرى لوعي الذات العربي الجاهلي والإسلامي.

فالانقلابات التاريخية العاصفة في مسار الجماعات الإنسانية عادة ما تضع المشاعر والعقول على محك الرؤية الذاتية للنفس أو تختبرهما بصيغ لا تحصى. غير أن خاتمتها واحدة ألا وهي إدراج كل ما يمكن إدراجه تحت غطاء الذاكرة التاريخية والواقعية والمتخيلة. وهذه بدورها تصبح مرآة ومقياس وعيها الذاتي، الذي لا تصنعه الأحداث العابرة بقدر ما تجبره على تأمل النفس من جديد ولكن بمعايير أخرى. وعادة ما يتسم هذا المجرى بقدر كبير من التناقض، شأن الحياة، لكي يضع الأحداث المتناثرة والمختلفة في جدول الزمن المتكامل في تاريخ الذات الثقافي. وفي مجرى هذه العملية يتراكم وعي الذات ويتهّذب ويتشّذب بالشكل الذي يجعل من الاختلاف أسلوبا للوحدة، ومن الوحدة أسلوبا للاختلاف. بمعنى توحيد الذات واختلافها عن الآخرين. ولا يمكن تصور المسار التاريخي لانتقال الجماعات البشرية إلى حالة الأقوام والأمم دون هذه العملية الضرورية والمتناقضة سواء بمعايير العقل والوجدان أو بمقاييس الفضيلة والرذيلة. وعلى كيفية حل هذا الانتقال، أي كيفية حل إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي للجماعة والأمة والدولة والثقافة، تتراكم نوعية ومنظومة المرجعيات المتسامية لوعي الذات القومي بمختلف أشكاله ومستوياته: التاريخي والثقافي وغيره.

 فما قبل الإسلام لم يكن وعي الذات العربي محكوما أو محتكما إلى منظومة متسامية تحدد أطر ومسار وعيه الذاتي. على العكس! لقد كان مبعثرا ومتناثرا في بنية القبائل المغلقة. فقد كانت تلك المرحلة تتأرجح بين تاريخ عريق لا يخلو من انجازات ثقافية وعمرانية، وحالة انحطاط وتمزق وعيش في تقاليد قبلية ووثنية تعيد إنتاج نفسها بقوة، بحيث تخنق وتسحق كل إمكانية جزئية للخروج منها وعليها.

وعموما، إن الوعي الذاتي الثقافي والقومي والتاريخي يفترض تراكم الأفكار العامة وتحولها إلى مبادئ كبرى ما فوق زمنية، ومن ثم تحويل الزمن الساري إلى تاريخ مكتوب. بعبارة أخرى، إن وعي الذات لا يتشكل بين ليلة وضحاها، كما انه لا تراكم إلا في صحائف التاريخ المدوّن، أي المتجسد في بنية ما فوق المدّون، أي المتجسد في بنية ما فوق زمنية قادرة على الإلهام والاستلهام. وهذا لا يتعارض مع الحقيقة القائلة، بأن التحولات والتقلبات السريعة والبنيوية يمكنها ان تساعد الجماعات والأقوام على تجاوز قرون من الزمن في مجرى عقود من التاريخ الفعلي. فالقدرة القادرة على إحداث تغييرات بنيوية هائلة هي الصيغة العملية المجسّدة لإرادة واعية ومستقبلية. غير ان هذه بدورها ليست إلا كمية الإرادة المتراكمة من جداول الوجود التاريخي للجماعات والأقوام. الأمر الذي يفترض بقدر واحد وجود مركز مادي روحي قادر على لّف الجميع في أفلاكه والدوران بهم لكي تتحول هرولتهم الزمنية المرهقة إلى رقصة التاريخ السعيد، كما نراها على سبيل المثال في تحرير مكة من السيطرة القرشية القبلية واستبدالها بالسيطرة الإسلامية، ومن ثم جعلها مركزا جامعا وشاملا، ومن خلالهما توحيد العرب في لحظة خاطفة هي لحظة التأسيس التاريخي أو وعي الذات العربي المبعثر.

إننا نعثر في تاريخ العرب قبل الإسلام على مظاهر متنوعة وعديدة لتراكم فكرة المركز والوحدة العرقية. وليس التحول السريع في بنية الوعي العربي بأثر سيطرة الإسلام سوى مظهرها الخارجي والتاريخي، الذي يعكس نوعية الإرادة الجديدة، وعقلها المستقبلي، ووجدانها العملي، ومسارها الطبيعي في تذليل الأفق المغلق للجاهلية العربية.

فمصطلح الجاهلية هو من بين أكثر المصطلحات المحمدية دقة من الناحية النظرية والعملية تجاه إشكاليات الواقع والمستقبل العربي، بوصفها لحظات تأسيسية في الصيرورة الإسلامية الجديدة وكينونتها الثقافية. فما قبل انتصار الإسلام لم توجد فكرة وبنية ومرجعيات ومراكز مادية وروحية للتكامل العربي. لقد كان اغلب ما في الجزيرة مثيرا للخلاف والتجزئة. لقد كان هذا جهلا بالنفس والآفاق. غير أن غياب هذه المراكز لم يعن انعدامها. لقد كانت تتواجد زمن الأفراح والأتراح في الضمائر والمشاعر بوصفها إمكانية قابلة للتجسيد والتحقق. لقد كانت هذه الإمكانية موجودة بهيئة عناصر جوهرية متبلورة، لكنها كانت بحاجة إلى تنظيم سياسي. وحالما حصل هذا التنظيم السياسي على صيغته الأولية بعد تحرير مكة من هيمنة القبلية القرشية، انتقل الوعي العربي المجزأ إلى كتلة إسلامية كبرى. لقد ذاب في توحيدية الإسلام وأصبح الإله الاسلامي اله العرب ومركز انتماءهم الروحي.

إن وعي الذات القومي عملية معقدة تحتمل التوسع والانكماش. ونوعية هذا الوعي تتوقف على كيفية حل إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي للفرد والجماعة والأمة، أي على كيفية بناء وتأسيس العقل الثقافي الذاتي. فقد حلّت الجاهلية الوثنية هذه الإشكاليات بمعايير التجزئة القبلية. من هنا دورانها في حلقات مفرغة وتحلل جعلها عاجزة عن تنظيم القوى المختلفة والمتصارعة والمتناثرة في إطار سياسي موحد. فقد كانت القبائل العربية تدور في رحى الزمن الطبيعي متتبعة الماء والكلأ. لكنها كانت تملك تاريخا دون أن يمتلكها، والذي تجسد في فكرة الأشهر الحرام. بمعنى انه بقي أقرب إلى الزمن الروحي الوثني منه إلى التاريخ الثقافي. لهذا كان بالإمكان نسأه أو تأجيله كما لو أن الزمن العوبة للمصالح العابرة وليس تاريخ الوفاق القاضي بفكرة الحرمة والحرام. بينما سيعطي الإسلام للانتماء العربي وحدة جديدة مرتبطة بمبادئ ماوراطبيعية ومن ثم تحريره النوعي من قيم الجاهلية.

 وقد كان هذا هو الأساس العقائدي وروح الإيمان الجديد بالوحدة التي تشذبت وتهذبت في مجرى الفتوحات الإسلامية. فقد كانت تلك الفتوحات من حيث مادتها وروحها عربية إسلامية، الأمر الذي وسّع أبعاد الانتماء المشترك، إلا انه كان يذوب دوما بفضل الإسلام ومبادئه وقيمه في بوتقة العربية الثقافية وليس العرقية. إذ تحتوي المصادر التاريخية العربية الإسلامية على الكثير من الحوادث والوقائع التي تشير إلى شعور الانتماء القومي وهمومه الكبرى، أي كل ما يتوّحد فيه قلق العقل والوجدان. وعادة ما تورد القصص العربية قصة سيف بن ذي يزن مع كسرى الفرس. فقد كان في سلوكه وغاياته معارضة احتلال بآخر. وكل ذلك كان محكوما، كما تنقل الروايات، بسعة همومه أمام مضايق المعوقات. إذ كان يبرز في أقواله وأفعاله الروح العربية. غير أن ذلك لا يعني الانتماء العربي الكامل بل أحد عناصره المهمة. فالانتماء للنفس يفرض التوجه إليها دوما وعدم الذهاب للآخرين. إلا ان للصراع السياسي وواقعية المصالح أثرها في تضييق أو توسيع الهموم والانتماء. فقد كان للعرب انتماءات مجزأة في الوجود والوعي والذاكرة مثل عرب الجنوب وعرب الشمال، وقحطان وعدنان وما إلى ذلك. والاختلاف بينها يعود إلى جذر واحد هو العرب والعربية. فقد اشترك العرب بلغتهم الواحدة ولهجاتها المتنوعة، كما اشتركوا في العادات والتقاليد والعبادات الوثنية.

ومن الممكن إيراد حادثة الكناني الذي قعد وأحدث (خري) في قليس (كنيسة) أبرهة الحبشي، اذ لم يكن سلوكه هذا يحتوي على أية أبعاد دينية في الاحتجاج، بقدر ما كانت رد فعل على محاولة "صرف حج العرب" الذي سعى إليه أبرهة الحبشي. بمعنى إننا نعثر في هذا السلوك على إشارة تقول، بأن كل مكان غير مكة ليس أهّلا للعبادة، وأن أي سلوك معاكس هو شكل من أشكال إخضاعهم السياسي والروحي. ومن الممكن العثور على هذه المشاعر ونوعية انتماءها في الشعر بوصفه "ديوان العرب". فليس هناك من شاعر عربي كبير لم يفصح عن موقفه المباشر أو غير المباشر، القبلي والعام عن مشاعر انتماءه العربي. ولعل ما قاله مطرود بن كعب الخزاعي في رثائه لأولاد عبد منى، إحدى الصيغ النموذجية بهذا الصدد، عندما قال:

لم الق مثلهم عجما ولا عربا  إذا استقلت بهم ادم المطيات

 شكّل الإسلام استمرارا لهذه العملية التاريخية المديدة لوعي الذات القومي والثقافي، لكنه بناها على أسس أخرى بديلة ونافية لما قبلها. لقد أرسى مقوماتها وأساليبها وغاياتها على أساس التوحيد الشامل وبمقاييس ومعايير التجربة الإسلامية، وغرس فكرة الدين الواحد للعرب. وليس مصادفة أن يشدد عمر بن الخطاب لاحقا على وحدة الإسلام والعرب، عندما أعلن فكرته عن انه "لا دينان في الجزيرة"، وفكرة "العرب مادة الإسلام"، بل ونراه يفضّل الخيل العربي على الخيل المقارف، أي غير العربية الخلص. ولا تحتوي آراءه ومواقفه بهذا الصدد على نزعة استعلائية أو قومية، بقدر ما كانت تتمثل واقع العلاقة الفعلية آنذاك بين العرب بوصفهم حملة الإسلام والإسلام كما هو.

كانت علاقة العرب بالإسلام علاقة جوهرية بمعايير الانتقال التاريخي لنقلهم من المرحلة الثقافية الدينية إلى المرحلة الدينية السياسية. وهو انتقال حدد بالضرورة كيفية ونوعية صنع الوعي الذاتي الجديد للعرب، الذي أصبح الإسلام فيه مصدر الرؤية النظرية والعملية تجاه الماضي والحاضر والمستقبل. فقد جمع الإسلام المحمدي بين ماضي العرب ووجودهم وبين الفكرة الإسلامية. ورفض الخروج من جزيرة العرب في مجرى تحديه الأول للعرب الوثنية ووثنية العرب الجاهلية، وشدد على أن القرآن عربي اللغة والخطاب في رده على من اتهمه بغير ذلك، كما في الآية "لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين". وتنظيم العبادات كلها بالشكل الذي تمّثل تقاليد العرب القديمة ولكن عبر صهرها في بوتقة التوحيد الإسلامي.

إن تذويب وعي الذات العربي ما قبل الإسلام في وعي الذات العربي الإسلامي كوّن المقدمة الفكرية لبلورة وعي الذات الإسلامي، أي وعي الذات الثقافي. وهذا بدوره كان يحتوي على عناصر التوحيد الديني السياسي، بوصفه جوهر الفكرة الوحدانية الإسلامية التاريخية. فقد تبلورت ملامح الوحدانية الدينية في مكة، بينما جرى انتظام الوحدانية السياسية في المدينة. وتطابقت هذه العملية من الناحية المجردة والواقعية مع فكرة الجماعة (في مكة) والأمة (في المدينة). وبهذا يكون محمد قد بلغ وحقق الفكرة الدينية السياسية بوصفها ذروة التحدي العقائدي والعملي للوثنية والجاهلية والانتصار عليهما بصورة تامة. الأمر الذي أسس لمنظومة المرجعيات الثقافية الكبرى للإسلام.

***

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم