دراسات وبحوث

محمد وإرادة التوحيد الجديد

ميثم الجنابيفلسفة النبوة المحمدية (5)

إن الإرادة الساعية صوب الوحدانية النقية والإخلاص لها تفترض نفي ما هو غيرها بصدد توحيد الناس والعالم الروحي للجماعة والأمة. وهو منطق الإرادة النبوية أو الإرادة المتسامية. فهي الوحيدة القادرة على إيجاد الحلول بحدس الحرية والإخلاص، أي المتحرر من رق التقليد والقيم الجامدة والعادات والعبادات الموروثة، التي ماتت فيها أو تحللت طاقة الوجدان الحي، أي كل ما يتعارض مع حقيقتها الأولى، بوصفها وسائل الوحدة والإرادة الفاعلة بإخلاصها للحق

وقد كان صرف القبلة إلى الكعبة احد المظاهر الكبرى لهذه الإرادة التاريخية. إذ احتوت في أعماقها أيضا على أهم رموز التوحيد الجديد. فقد أدرك النبي محمد طبيعة وعمق الخلاف الآخذ بالتوسع بين اليهودية والنصرانية من جهة، وبين الإسلام الناشئ من جهة أخرى. ومن ثم توصل إلى استنتاج ثابت فيما يتعلق بالأديان والإيمان، بوصفها أنماط لا تلتقي فيما بينها رغم اشتراكها في الفكرة الجوهرية للتوحيد ومبادئها العامة المتعلقة بالحياة والموت، والمبدأ والمعاد، والثواب والعقاب، وكذلك أغلب القيم الأخلاقية الأخرى. ووضع ذلك في الآية القائلة:"وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ". 

احتوى الفعل التاريخي لصرف القبلة على بعدين ديني وسياسي. الأول مرتبط بفكرة البديل الديني الجديد، والثاني كان استجابة لإشكاليات الوجود التاريخي العربي آنذاك من أجل نقلهم من وثنية لا آفاق فيها بالنسبة للتوحيد القومي والدولة إلى طور جديد في التطور التاريخي الثقافي (المرحلة الدينية السياسية). فقد توقف امتداد وانتشار النصرانية واليهودية في شبه جزيرة العرب، كما توقفت الوثنية عن صنع عقائدها الثقافية والدينية الموحدة ودولها. وليس مصادفة أن تتعايش العرب، والعرب العاربة، والغاربة بوصفها حالة وجودية وذاكرة تاريخية. مع انه لا رابط بينهم. بمعنى تعايش الواقع السيئ والذاكرة الأكثر سوءا. الأمر الذي جعل إمكانية تحدي هذا الواقع مرهونة بإرادة تاريخية متسامية كان منفذها الوحيد آنذاك هو الدين التلقائي، أي النابع من الواقع وتحسس وإدراك مشاكله ورؤية بدائله بمعايير المستقبل.

فقد بلورت التقاليد العربية السابقة الروحية منها والفكرية شخصية محمد. وتركت القبلة والمسجد الحرام انطباعات عميقة في نفسه. والأهم من ذلك تعمق عالمه الروحي. ومفارقة الانعزال عن أديان التوحيد الكبرى آنذاك تقوم في شحذها للإرادة التاريخية الجديدة التي جرت أيضا من خلال اكتشاف "بيت الله" القديم بوصفه بيتا أزليا أبديا. ومن ثم هو أقدم وأحدث من القدس. وبغض النظر عن كل الملابسات القابلة للتأويل بما في ذلك مواجهة حالة الانعزال الصامت والناطق، والعداء العلني والمستتر للنصرانية واليهودية من الإسلام، فإن التوجه أو صرف الوجوه صوب الكعبة القديمة قد أنتج "بيت الله الحرام". وتطابق هذا من حيث أبعاده الدينية والسياسية بإعادة الانتماء العميق والضروري في الدين الجديد، بوصفه دين التجربة الذاتية للعرب ومهبط وعيهم الثقافي لفكرة المقدس. وبالتالي، فإن تحويل الأنظار صوب القبلة والبيت الحرام ثم مكة جعل منهم قبلة التحرر من تقاليد الاغيار المتخشبة، والشكل الجديد لتنوير الفكرة الجوهرية القديمة للتوحيد، التي وجدت انعكاسها في الآية القائلة:" قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ".

لقد كانت هذه العملية المتدرجة التي جعلت من مكة مدينة الروح التوحيدي الجديد بالنسبة للإرادة التاريخية المتسامية، أي لإرادة النبي محمد أشبه ما تكون بمطرقة التحدي وسندان الإرادة. فقد ظهرت في مجراها وتبلورت شخصيته النبوية. الأمر الذي جعل منها بداية ونهاية مصيره الروحي وفكرته الدينية والسياسية. وليس مصادفة أن يقول عنها وعن بيتها "اللهم زد هذا البيت تشرفا وتعظيما وتكريما ومهابة، وزد عظمة من حجّه واعتمره تشريفا وتكريما ومهابة". وأن تنتهي علاقته بها بتحريرها من قبضة الوثنية والجاهلية والقرشية، أي كل ثالوث المواجهة والتحدي الذي بلور وشحذ إرادته التاريخية. وليس غريبا أن يجري ختم الزمن المكي القديم بتاريخ البديل الإسلامي الذي جرى وضعه في أسطورة العبارة الجليلة القائلة حالما حررها بعد كل زمن العداء والمقاطعة والتهجير والحروب: "إن الله قد حرّم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام إلى يوم القيامة. وإنها لم تحلّ لي إلا ساعة من نهار ثم رجعت إلى حرمتها بالأمس".

تحولت مكة إلى مدينة الروح الأبدية، لأنها مدينة البداية المحرمة. ولم يكن ذلك معزولا عما يمكن دعوته بتمركز قوتها الذاتية، وتمركز الإرادة المحمدية فيها ومن خلالها وحولها. فقد كان تمركز القوة الذاتية لمكة نتاج مرحلة تاريخية طويلة، وجدت تجسدها بأشكال وهيئات ومؤسسات متنوعة. ومن الممكن أن نتخذ من حلف الفضول احد الرموز والعلامات التاريخية الاجتماعية والسياسية الكبيرة بهذا الصدد. والقضية هنا ليست فقط في أثره الفعلي بالنسبة لمركزية القرار، بل ولهويته الرمزية بالنسبة للنبي محمد. فقد عايشه وشارك في تأمله. الأمر الذي أبقى عليه في ذاكرته العملية. وذلك لأن التجربة الناجحة لحلف الفضول جعلته مرجعية مغرية للوحدة الدائمة بوصفها اتفاقا ضروريا ووفاقا عادلا. بحيث نرى الحسين بن علي يدعو إلى تجديد حلف الفضول في حال عدم كف السلطة الأموية عن انتهاك حقوقه في الحجاز. ولم يكن ذلك نكوصا إلى الوراء، بمعنى تخطي ما وضعه الإسلام من قيم وحدود للعلاقة بين الأمة وإمامها، بقدر ما تعني أهميته في الوعي الإسلامي المحمدي نفسه، بوصفه إجماعا على الحق بالحق. أما بالنسبة لحياة الإرادة المحمدية آنذاك، فإن مضمون حلف الفضول يعكس أهمية مكة الروحية والأخلاقية مقارنة بغيرها. إذ تضمن على فقرة تنهي القيام بأي فعل محرّم فيها، والذي وجد انعكاسه أيضا في الفكرة المجردة القائلة، بأن "مكة في الجاهلية لا تقر فيها ظلما ولا بغيا". أما في الواقع فإن الأمر قد جرى بشكل آخر. بل أن القرآن نفسه يحتوي على آيات عديدة في نقدها لقريش ومكة عما فيها من بغي وظلم وضلال. ومع ذلك ظلت مكة تشكل الهاجس الخفي الأكبر لمحمد. لقد كان النبي محمد يحس ويحدس بأنها مركز البدائل، وأنها "أم القرى". وقد جرت الأحداث كلها باتجاه أن تكون مكة "أم القرى" ليس بالمعنى الوجودي المباشر فحسب، بل وبالمعنى الميتافيزيقي. وحصلت هذه النتيجة على صيغتها التامة والثابتة في تمامها وثباتها بوصفها قبلة المسلمين و"بيت رب العالمين".

فعندما اشتد الصراع مع اليهودية آنذاك بوصفها ديانة توحيدية تحولت لاحقا إلى ديانة "قومية" صرف لا تختلف عن ديانات القبائل من حيث وظيفتها، حينذاك وجد في مكة قبلة روحه وملجأ جسده أو كلاهما في كلّ واحد. ولا يعني ذلك تعمق الأبعاد القومية العربية في الإسلام، رغم أنها كانت جزء من صراع المرحلة لكي يبرز ويتأطر، بوصفه دينا نوعيا جديدا ينفي ما قبله من أديان. إلا أن جذوره كانت أعمق من ذلك. إذ تحددت فيه معالم ومسار التمركز الذاتي لمكة في الوعي العربي والإسلامي.

فقد ذلل النبي محمد معالم ومضمون الوثنية المكية بإخراجها إلى عوالم أخرى. وليس مصادفة أن تكون مكة غاية صراعه السياسي. ومع ذلك لم يجعلها مركز إشعاعه اللاحق بعد تحريرها من الهيمنة القرشية. لقد أبقى عليها وحوّلها إلى جزء من منظومة الشعائر الإسلامية فقط. لقد انتزعها من زمن القبائل والعائلات، وأرجعها إلى تاريخ الجماعة والأمة. ووجد ذلك انعكاسه في العبارات المنسوبة إليه بعد فتحها واستباحتها السريعة قائلا:"إن الله حرّم مكة يوم خلق السماوات والأرض. فهي حرام إلى يوم القيامة. ولم تحل لي إلا ساعة من نهار ثم رجعت كحرمتها بالأمس". لقد قضى النبي محمد بهذه العبارة أو الفكرة على مكة الجاهلية وزمنها الوثني عبر إرجاعها إلى أصلها الأول بوصفها مدينة الله الأبدية. 

سرت روح النبي محمد في معراجه صوب المسجد الأقصى، لكنها لم تهدأ إلا في "البيت الحرام". فالأول ظل بعيدا، بينما تتراوح في "المسجد الحرام" روح اليقين والثبات، الذي وجد تعبيره الدقيق في الآية التي خاطبته بعبارة: "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ".

ولا يغير من هذه الحقيقة هروبه اللاحق منها. اذ لم تكن هجرته إلى يثرب هجرانا لمكة بقدر ما كانت الوجه الآخر للرجوع إليها. وذلك لأنها ظلت على الدوام بالنسبة له هاجس التخطيط والفعل وميدان الإرادة وبدائل المستقبل. فقد ظلت مكة تلازم صيرورته وكينونته بوصفها قبلة روحه وجسده، ومن ثم قبلة الروح والجسد. لقد تحولت مكة إلى عنصر جوهري في شعور الانتماء الموحد ووعيه التاريخي. أنها شكلت وعاء الانتماء الذاتي ووعيه الثقافي والروحي. فقد افرد لها التاريخ العربي مكانة البؤرة الروحية والثقافية والعقائدية في الإسلام.

فقد كدست مكة مشاعر العرب تجاه أربابها وتصوراتهم حول القواسم المشتركة بوصفها الصيغة المجردة والمقننة لتجاربهم التاريخية. ومن ثم جمّعت وبلورت هذه القواسم المشتركة في مبادئ وقيم كبرى موحدة. وبالتالي توسطها وتوسيطها لتقاليد العرب بلهجاتها المتنوعة ودياناتهم وأربابهم، بحيث جعلتها معقولة ومقبولة للجميع. ذلك يعني أنها صاغت وبلورت قبل ظهور الإسلام جزئية الاتحاد الروحي العربي. الأمر الذي أدى إلى إنفرادها في التاريخ العربي والإسلامي بمكانة خاصة لم ولن تفقدها فيما يبدو قيمتها المتميزة، شأن كل المدن التي ترتقي إلى مصاف "القبلة" الجاذبة للروح والجسد.

 ولم ينفصل هذا الترابط العربي والإسلامي فيها منذ البدء. فهي عربية بمعايير الجسد، إسلامية بمعايير الروح. والأخير هو الذي نقلها من زمن الوثنية إلى تاريخ الاسلام. وفيه فقط امتلكت معناها "المقدس"، رغم انعدام القدسية في المكان كما هو. فهي لا تتعدى كونها كومة من الحجر والصخر والرمال بمعايير الجسد، لكن الروح الإسلامي هو الذي جعل منها قبلة المسلمين. الأمر الذي وجد طريقه إلى مختلف الأساطير وحكايات الخيال، بوصفها الحالة الملازمة للانتقال إلى الوعي الثقافي الديني. فقد قلّم التوحيد الاسلامي مخالب الوثنية القبلية، مع ما لازمه بالضرورة من تهذيب وتجميل للجسد التاريخي وللروح الثقافي، اللذين تراكمت مكوناتهما في مجرى قرون من الزمن قبل الإسلام، أي كل ما حدد "مصيرها التاريخي". تماما بالقدر الذي لعب دورا هائلا في تثبيتهما بالمعنى العربي الوثني والإسلامي. وليس مصادفة ألا تنكر الرؤية الإسلامية العلاقة الحميمة والمتنافرة أيضا، شأن كل وجود متواجد في العقل والوجدان والذاكرة. بمعنى يطربهم ويدفئهم ويثير فيهم في الوقت نفسه حمية الانتفاض والتمرد. لقد رفع الإسلام مكة مع مرور الزمن إلى مصاف المكان المكرّم. وبقي هذا الاسم يلزمها ويلازمها، كما سيطلق لاحقا على المدينة كلمة المنورة. ثم تجري لاحقا بلورة وصياغة مختلف القصص والحكايات الجميلة والمعتوهة، بوصفها الوحدة المركبة لكل محاولة تسعى لإضفاء القدسية على ما لا قدسية فيه بحد ذاته. وذلك لأن المدن هي نتاج التاريخ، الذي لا ينفي ولا يتعارض عما في بعضها من خواص لا ترتقي إليها المدن الأخرى. وبالأخص تلك التي تجسّد في ذاتها رمزية الوجود الطبيعي والماوراطبيعي، مع أن كل ما في الوجود رمز، كما يقول ابن عربي.

بهذا المعنى، فإنها تكون قد ارتقت إلى مصاف بابل وأثينا وروما ولاحقا بغداد، أي أنها عرضة للزوال والبقاء في الذاكرة التاريخية وإبداعها المتنوع. ولعب الخيال الإسلامي اللاحق دورا كبيرا في توسيع مداها الروحي، رغم أن ملامحها المادية بقت كما صورها القرآن، بوصفها "وَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ" و"بكة المكرمة" التي آمنها الله من الخوف.

وشأن كل مدينة من هذا النوع، عادة ما تستثير اللغة ومباحثها، والتاريخ وذاكرته، والأسطورة وخيالها من اجل رسم ملامحها الفعلية والخيالية، أو حدّها وحقيقتها كما كان يقول الفلاسفة المسلمون. اذ وجد البعض فيها تحريفا لاسم المقرّبة مثل بكة ومكة. والمقربة تعني تلك التي يتقرب الناس لها وبها. وبالتالي تجري ضمن سياق ما نقله ياقوت الحموي عن أن مكة تعني الامتكاك، أي الامتصاص. فهي تمتص الناس وتجذبهم بأثر قدسيتها. وتنتشر في كتب السيرة النبوية تفسير مكة على أنها تعادل معنى الازدحام. ويقال تمككت العظم إذا اجتذبت ما فيه من المخ، فكأنها تجتذب إلى نفسها ما في البلاد أو بفعل جمعها الماء من الجبال والتلال المحيطة، لأنها واقعة في واد. وتختلف هذه التفاسير في البحث عن المعنى، لكنها تلتقي في كونها تأويلات محكومة بالأثر الذي أحدثه الإسلام فيها. 

إن أهمية مكة ومعناها وقيمتها ومصيرها كان محكوما بالتغير الوعي الذي أحدثه الإسلام في وجود العرب. إذ يستمد تقديس مكة مقوماته من الانتصار الإسلامي بوصفه أيضا نفيا لما أنجزته العرب الوثنية في مجال توحيدها الروحي ووعيها الديني والاجتماعي والأخلاقي. وقد ظهرت ملامح هذه الصورة للمرة الأولى بعد الانكسار الذي تعرضت له بأثر غزوة أبرهة الحبشي للجزيرة. أنها أعطت لمكة بعدا ميتافيزيقيا جديدا وقوة لم تتمتع بها من قبل. فقد وقعت الهزيمة عند تخوم مكة كما لو أنها العملاق الخفي الذي اهلك الأعداء بقوة السماء!

فقد كان في غزوة أبرهة الحبشي لمكة بعدا يكشف عن أهميتها المركزية والروحية بالنسبة للعرب آنذاك. ولا يقلل من ذلك كمية الأخبار والمعطيات التي تقلل من هذه الأهمية. وذلك لأنها كانت مجرد جزءا من الصراع والمنافسة. إذ تورد الأخبار التاريخية على سبيل المثال، موقف ثقيف في مهادنتهم أبرهة الحبشي وإشاراتهم له أن ما ينبغي قصده هو مكان الكعبة لتهديمها وليس كعبتهم (بيت اللات). ونعثر في هذا الموقف على واقع يقول، بأن مكة لم تحتل بصورة نهائية وتامة موقع المركز الروحي الموحد لعرب الجزيرة آنذاك. كما تعكس في الوقت نفسه تمسك أهل الطائف بآلهتهم، ومن ثم استمرار صراع الكعبات في الجزيرة. وليس مصادفة ان يتوجه النبي محمد في بداية دعوته بعد صدّ المكيوّن له، إلى الطائف. وهناك حصل على أقسى رد ومهانة. وهكذا استمر الحال حتى بعد احتلال الطائف. اذ أرادوا الاحتفاظ بآلهتهم ولو لعام واحد، والذي رفضه النبي محمد. وسمح لهم بتهديمها بمعاولهم.

إن الحصيلة الجلية لكل هذه الغزوة تقوم في صعود مكة من بين ركام القوة الحبشية المسحوقة بطيور أبابيل الأسطورية. فمن المعلوم إن الأسطورة لا تتكامل بين ليلة وضحاها. وهزيمة أبرهة الحبشي وصيغتها الأسطورية قد تكاملت في مجرى عقود من الزمن. فالزمن في جزيرة العرب آنذاك ليس تاريخا بل زمن الهواء والعواء، أي زمن العواء الذي ينقله هواء الخواء التاريخي في أوديتها وواحاتها. وقد تكاملت هذه الصورة الخيالية تدريجيا إلى ان بلغت نمطها الأعلى في الآية القرآنية القائلة:"وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ*تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ". فمن الناحية الدينية كان ينبغي الوقوف إلى جانب أبرهة الحبشي بوصفه نصرانيا من أتباع التوحيد في هجومه على أوثان الكعبة. بينما نرى القرآن يقف إلى جانب الوثنية في حماية "رب البيت للبيت". وهو تناقض سرعان ما ينحلّ فيما أسميته بالأبعاد الميتافيزيقية الجديدة التي أحاطت بمكة اثر هزيمة الغزوة الحبشية، أي تلك التي أعطت لمكة "مصيرها الأبدي" في الخيال الإلهي بوصفها مدينة الله الجديدة ومأوى بيتها المقدس. فهي الذروة التي تكاملت في الوعي العربي الأسطوري والواقعي ووجدانه القومي. ففي شعر رؤبة بن العجاج نقرأ ما يلي:

ومّسهم ما مّس أصحاب الفيل

 ترميهم حجارة من سجيل

ولعبت بهم طيرا من أبابيل

فمن الناحية الفعلية لم تكن هذه الصورة الأسطورية سوى التعبير المناسب عن حالة العدوى القاتلة التي أصيب بها جيش أبرهة بأثر أمراض الحصبة والجدري. إذ تنقل كتب التاريخ والسير قولا عن يعقوب بن عتبة قوله "أول ما رأيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام". واكتملت هذه الصورة الأسطورية بأبعادها الميتافيزيقية الجديدة في القرآن من خلال ربط قدسية مكة بالله الإسلامي وشعائره الجديدة. اذ أخذت مكة قدسيتها من "الإرادة الإلهية" كما في الآية "أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ؟ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ؟". ومنها جرى صنع مفارقة الفكرة الإسلامية البديلة لمكة في منظومة العقائد والشعائر الإسلامية الجديدة التي طالبت بعبادة "ربت البيت" فيها، كما في الآية " فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ".

بعد ذلك أخذت تتكامل صورة مكة بوصفها قوة مادية روحية لعبت دورا كبيرا في صيرورة الشخصية المحمدية والإسلام ككل. إذ تحولت إلى مركز وعصب الحياة الاقتصادية للجزيرة ورحى حرامها وحلالها الروحي والأخلاقي. كما برزت في شخصيتها فكرة المدينة التي لا تذل ولا تذيل. بحيث نراها تحصل لاحقا على هيئة الفكرة التي جرى وضعها بعبارة "مكة لقاح لا تدين لملك لقاح بالفتح"، أو ما قاله عبد الله الزبعري:

تنكلوا عن بطن مكة أنها    كانت قديما لا يرام حريمها

إن القدسية الجديدة لمكة هي قدسية من طراز نوعي آخر يمكن رؤيتها في الاستعداد السريع للتحول من بيت الآلهة الوثنية إلى بيت الله الإسلامي. الأمر الذي يكشف عن وحدة مسارها التاريخي الذي ذلل الإسلام أبعاد الزمن العابر فيها. بمعنى التحول النوعي في موقع مكة بالنسبة للعقيدة الإسلامية وشعائرها. وما عدا ذلك، فإنها شأن المدن الأخرى. فقد هدمها واحرقها "أمراء المؤمنين" و"خلفاء المسلمين"، خصوصا زمن الأمويين عندما استعصت عليهم في المعارك السياسية والحربية. وكما يذكر الجمحي في (طبقات فحول الشعراء) قصة موت كثير وعكرمة في يوم واحد، وكيف أن أهل مكة خرجوا جميعهم لتشييع جنازة كثير مداح الأمويين وقصائد التشبيب، بينما لم يوجد لعكرمة مولى ابن عباس من يحمل نعشه!

كل ذلك يشير إلى أن المقصود بالقدسية هنا هو القدسية الروحية، أي الفكرة المجردة بوصفها النتيجة المترتبة على سيطرة الإسلام وشخصيته المركزية: محمد. إذ ليست القدسية الروحية سوى النتاج الذي رافق تطور وتوسع وتعمق الوعي الديني العربي وتمركز مؤسساته الكبرى في مكة، أي كل ما نعثر عليه في تطور التصورات الدينية العربية قبل الإسلام. فقد بدأت ظاهرة التمركز والمؤسسات بتنظيم الحمس، الذي لا يشكل بحد ذاته أهمية جوهرية كبرى. غير أن الاعتراف اللاحق بهذه الفئة الاجتماعية الدينية، كان يحتوي ويتضمن على تحول نوعي في المشاعر العربية تجاه مكة ومركزيتها الروحية والأخلاقية. وهي الظاهرة التي أقرّها الإسلام إلى جانب أشياء أخرى عديدة. وتكاملت هذه الصورة مع مرور الزمن بأثر تراكم الخيال والأساطير، التي أضفت على مكة هالة القدسية والتقديس، بحيث جعلتها خارج إطار الخضوع لأية قوة باستثناء "القدرة الإلهية" في قدرها، والتي سعى محمد، بإرادته التاريخية المتسامية، إلى تمثلها وتمثيلها في الفكرة التوحيدية الجديدة للإسلام.

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم