دراسات وبحوث

النبي محمد: الإرادة المتفائلة

ميثم الجنابيفلسفة النبوة المحمدية (6)

لقد تكاملت الإرادة المحمدية، الشخصية منها والنبوية في وحدة واحدة تتمثل بذاتها تكامل مكة في مجرى تطورها التاريخي. ومن ثم فإننا نعثر في تأريخ مكة على تاريخ محمد الشخصي بمختلف جوانبه التي بلورت إرادته الحرة في اختيار التحدي الشامل للوثنية والجاهلية من اجل نقل العرب من طور تاريخي ثقافي إلى آخر. إذ تحولت إلى مركز الجزيرة الاقتصادي، بأثر التجارة وتاريخ الرحلات الشتوية والصيفية. وعمل بها محمد قبل النبوة. كما تكاملت روحيا عندما تحولت إلى كعبة الروح العربي الديني والأخلاقي ومن ثم مركز جمعها واستجماعها. بمعنى استقطابها للصيرورة الروحية والعربية في الجزيرة. وهو ما تمثله النبي محمد في دعوته وعمله. وفيها أيضا تداخلت وأخذت بالتكامل المصالح المعنوية والاجتماعية والاقتصادية، أي كل ما كان يعمل على تفعيل المساعي لصنع الهيبة والسلطة والدولة، ومن ثم كل ما كان ينّشط عناصر الفكرة السياسية، أي كل ما كان يقع في صلب الإرادة النبوية لمحمد. فما وراء الروح كانت تكمن قوة الفكرة السياسية، بوصفها فكرة الإرادة التاريخية للانتقال إلى صورة وحالة أخرى. وليس مصادفة أن تكون مكة ميدان التحدي والواجهة وبلورة أسس الفكرة التوحيدية ورؤية البدائل. وفي هذه السلسلة الخشنة تبلورت شخصيته بمختلف جوانبها. إذ تحولت مكة إلى محك الشخصية المحمدية، والشخصية النبوية، وباطنه وظاهره في المواقف. بمعنى أنها تحولت إلى ميدان الصراع الحاد والدائم، العلني والمستتر من اجل كسر إرادته وثنيه عما يسعى إليه.

فقد نظرت قريش إليه في بداية الأمر على انه منها. وخاطبه عمه أبو طالب، بطلب من قريش نفسها، بعبارة "أن قومك قد جاءوني". ولاحقا سوف يجري تحويل هذه العلاقة إلى "مبدأ ديني وسياسي" يتطابق مع فكرة القرشية. وأول من وظفها في تاريخ الاسلام الأموية والسفيانية عبر عثمان بن عفان. مع أن صيغتها الجنينية الأولية والدفينة قد حدسها لأول مرة عتبة بن نافع في مجرى مساومته مع محمد لثنيه عن دينه الجديد. إذ توصل إلى ما يلي: "إن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزّه عزكم". وقبل ذلك وفي مجراه واجه محمد اتهامات قريش المتعددة والمتنوعة. فقد اعتبروه كاهنا، بينما كان الرد "ما هو بزمزمة كلام خفي ولا سجع". وقالوا عنه انه مجنون. وكان الرد "ما هو بمجنون، فما هو بخنقة ولا وسوسة". وقالوا عنه انه شاعر، فكان الرد "عرفنا الشعر، فما هو بشعر". وقالوا عنه انه ساحر، فكان الرد "ما هو بسحر اذ لا عقد ولا نفث".

تعكس اغلب هذه الأوصاف والاتهامات نموذج الرؤية العربية السائدة آنذاك. لكننا نعثر فيها على أبعاد اجتماعية سياسية جلية. ففي الموقف منه بوصفه ساحرا ما يروى عن الوليد بن المغيرة الذي قال: "محمد ساحر، وأن ما يقوم به سحر لأنه يفرّق بين الابن وأبيه، والأخ وأخيه، وبين الزوج وزوجته، وبين المرء وعشيرته". ومفارقة اتهامه بالسحر تقوم في توسيع شهرته في الجزيرة. ولم تقف قريش عند هذا الحد، بل تعدته إلى المسّ به في كل شيء وبمختلف الوسائل بما فيها تعريضه للضرب والاغتيال، وذلك لأنه، حسبما قالوا "قد سفّه أحلامهم، وشتم آباءهم، وعاب دينهم، وفرق جماعتهم، وسّب آلهتهم". وبالمقابل كان الاستهزاء به أسلوبهم المحبب. ولم تكف قريش عن استعمال كل ما بوسعها من التعنيف والإغراء ومختلف الحيل من اجل ثنيه عما يسعى إليه.

فقد كانت مساعي عتبة بن الوليد، وهو من بين أكثرهم تنوعا وشدة في الصراع ضد محمد من اجل كسر إرادته، تستند إلى إغراءه بالمال والجاه والسلطة. وقال بهذا الصدد "إذا أراد المال جمعناه له بحيث يكون أغناهم". و"إذا أراد الشرف والسؤدد وليناه عليهم". و"إذا كان يريد الملك ملّكناه عليهم". ثم خاطبه بعبارة "إذا كان هذا الذي يأتيك رائيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب"., وقد أدى تردد العتبة بن الوليد المتكرر على محمد إن قالوا له: "سحرك والله يا أباً الوليد!".

ولاحقا أخذ الجدل بالانتقال إلى ميدان الفكر والتفكر والتأمل. وواجه محمد كل هذه الهجمة الشرسة المتواصلة بالرد عليها على مستوى الروح والجسد. فعلى مستوى الجسد أغلق أذنيه عن الاستماع لضجة وصخب الأودية الخالية لقريش، وعلى مستوى الروح كانت إجاباته سهلة وقوية كالحقيقة، إضافة إلى خروجها عن حالة المألوف من جهة، ومحكومة بالهموم الكبرى من جهة أخرى.

إنهم يطالبون إلهه بتفجير الأنهار وتوسيع البلاد، وبالجنة الأرضية، وأن يسقط عليهم السماء، أو أن يروا بأعينهم الله والملائكة. أما إجابته فقد كانت في اغلبها تتمحور حول ابراز الفكرة القائلة، بانه ليس بفاعل أي شيء، وانه لا يطالب الرب بشيء، وانه مبشر ونذير فقط. وهنا ينعكس الخلاف الجوهري بين الاتجاهين. فقريش تطالبه بالأخذ، وهو يطالبها بالعطاء.

وتحوّل القرآن إلى ميدان الصراع الفكري. وكان الهجوم عليه شديدا. فقد كان النضر بن الحارث أكثرهم غلوا بهذا الصدد. إذ كان يقول أن القرآن هو "أساطير الأولين"، وانه يستطيع "أن يحدثهم بأفضل منه"، أو أن "يكتب مثله" وما شابه ذلك. واستعانوا باليهود وتوراتهم لتعجيزه بالرد والإقناع. بينما كانت إجاباته أكثر تجانسا وتنطلق من فكرة تقول، بأن "علم الله أوسع مما في التوراة وغيرها". لقد كانوا يستهزئون بالقرآن، ولكنهم كانوا يستمعون ويتابعون ما هو جديد فيه. كما كانوا يتخوفون من اثر آياته القادمة بحقهم. لهذا نراه يطالب أتباعه بقراءة القرآن جهرا كما كان يفعل عبد الله بن مسعود. بينما كانت قريش تنتقم منه عبر الانتقام من أتباعه الفقراء كما هو الحال بالنسبة لتعذيبهم  بلال بن رياح الحبشي وعمار بن ياسر الذي قتلوا أمه. بينما كان رد محمد الأول يقوم في إخراج أتباعه من الضغط المباشر عبر الهجرة إلى الحبشة، ومن ثم الابتعاد عن أذيتهم بالبعد عنهم. وقد كان ذلك فعلا عنيفا وجريئا ومتفائلا في الوقت نفسه. اذ شحذت هذه الهجرة الاستعداد للمقاومة والتحدي، ورسّخت الثقة بالنصر الإلهي أو القادم أو المستقبلي، وأضعفت السيطرة القرشية وتحكمها بالمعارضة. وكشفت عن تنوع البدائل داخل الجزيرة وخارجها، كما وفّرت إمكانية الاحتكاك بالعالم الخارجي. ومن ثم إضعاف الروح القبلي عبر إرساء الأسس النفسية والاجتماعية والعقائدية لفكرة الجماعة والأمة، وأخير كشفت عن الدور الروحي الهائل للنبي محمد.

لقد كانت ملامح الصراع في كل شيء. ووجد ذلك انعكاسه في اغلب آيات القرآن. فقد كانت آيات الله المكية مشحونة بالصراع، مثل قوله "أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا" (ضد العاص بن وائل). و"لا تسبوا الذين يدعون من دون الله" (ضد أبي جهل). و"قالوا أساطير الأوليين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا" (ضد النضر بن حارث). و"لا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ"(ضد الاخنس بن شريق). و"قَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ"(ضد الوليد بن المغيرة)، و"َيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا"(ضد عقبة بن أبي معيط، الذي تفل مرة في وجه محمد). و"ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحيِي العِظام وَهِيَ رَمِيم. قُلْ يُحْييها الّذي أَنْشَأَها أَوّلَ مَرّةٍ"(ضد أمية بن خلف، الذي جاء للنبي محمد متذمرا وخاطبه: "تزعم ان الله يبعث هذا بعدما أرم ؟"، اي بلى. و"إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ"(ضد العاص بن وائل). و"لَقَدِ اسْتُهْزِئَ  بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ"(ضد الوليد بن المغيرة وأبو جهل وأمية بن خلف).

كان الصراع عميقا لا يقبل المساومة. ووجد ذلك انعكاسه في الآيات "قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون. لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُون. وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد. وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّم. وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين". بحيث اوصل قريش لاحقا إلى أن تتخذ أسلوب المقاطعة المادية والمعنوية ضده وضد اهله وبني هاشم. وقد يكون الصراع حول قضية الإسراء والمعراج من بين أكثرها إثارة بهذا الصدد، وذلك لأنها أدت، بأثر الدعاية المضادة القوية من جانب قريش إلى انفراط بعض المسلمين عنه، لكنها صنعت في الوقت نفسه شخصية أبو بكر الصديق، ومن ثم أعطت لمحمد بعدا إلهيا وميتافيزيقيا لا مثيل له من قبل في تاريخ العرب.

كما اتبعت قريش في نهاية المطاف بعد استنفاذ مختلف الوسائل لكسر إرادته إلى أسلوب المقاطعة. فقد قاطعت قريش بني هاشم. وكانت المقاطعة قاسية، بحيث دفعت بزهير بن أبي أمية، بعد أن طاف بالكعبة قائلا: يا أهل مكة! نأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى؟! ومع ذلك استمرت قريش في استفزازه إلى أقصى الحدود بحيث كانوا يرمون القذارة عليه عندما كان يصلي في الكعبة. وكان يجيبهم على أفعالهم تلك بعبارة "يا بني عبد مناف! أي جوار هذا؟!". ذلك يعني ان اغلب كفاحه وصراعه كان يجري مع قريش. كما كانت جغرافية الصراع محصورة في مكة. وفي هذا تنعكس الرمزية التاريخية للتحدي وشحذ الإرادة النبوية في صراعهما من اجل تثبيت دعائم التوحيد.

فقد وصل الخلاف مع قريش إلى طريق مسدود. بمعنى انه استنفذ كل الإمكانيات والوسائل. وبالتالي أصبح الخروج بالنسبة للنبي محمد من حدود مكة إلى مختلف مناطق الجزيرة امرأ لابد منه. ولم يكن ذلك بأثر اليأس منهم فقط، بل وتعبيرا عن استمرار طاقة التحدي وقوة الإرادة المحمدية والنبوية في خوض الكفاح حتى النهاية. وقد مرّ هذا الصراع بتعرجات الدعوة والمصير. فقد كانت رحلته الأولى للطائف فاشلة من حيث مردودها الظاهري، لكنها ناجحة بالنسبة للإرادة. أنها كشفت له عن الإرادة الإلهية لا تنثني ولا تصاب باليأس، وإنها في أعماقها وآفاقها متفائلة. ولعل أهم تجلياتها بهذا الصدد هو أنها وسّعت مدى الإرادة واستعدادها للعمل خارج مكة وبمعزل عن قريش. ومن ثم كانت تحتوي في أعماقها على تجربة الاستعداد للهجرة إلى المدينة، أي كل ما وجد نتائجه الأولية في قبول بعض من الخزرج بالإسلام. وسعى لعرض نفسه على القبائل زمن الحج. وتوجه الى بني حنيفة، الذين واجهوه برد ليس له نظير في قبحه مما فعله أي من العرب. كما رفضته بني عامر بن صعصعة، وطالبوه مقابل تأييدهم، بأن يكون الأمر لهم بعده مقابل تأييدهم.

عكس هذا الموقف التحسس الأولي والثقة المبطنة بإمكانية التحكم بالجزيرة والعرب. وهذه بدورها ليست إلا الصيغة المقلوبة لاستحواذ الفكرة الإسلامية على الجميع بأشكال ومستويات مختلفة. اذ أخذت الأفكار الإسلامية بالتوسع والانتشار في المواقف والاحكام مع توسع وانتشار التأثير المادي والمعنوي والقوة العسكرية والسياسية للنبي محمد. وفيها كلها تبرز الفكرة الجوهرية عن قدرة الله المتعاظمة وتأييد الرسول. ففي يوم حنين قال بجير بن زهير

لولا الإله وعبده وليتم      حين استخف الرعب كل جبان

وقال عباس بن مرداس في تأييده لأولية الله على العشيرة

يغشى ذوي النسب القريب وإنما    يبغي رضا الرحمن ثم رضاك

وقال عبد الله بن وهب

بشرط الله نضرب من لقينا     كأفضل ما رأيت من الشروط

وقال كعب بن مالك

نطيع نبينا ونطيع ربا       هو الرحمن كان بِنَا رءوفا

لأمر الله والإسلام حتى     يقوم الدين معتدلا حنيفا

تحول النبي محمد في مجرى الصراع من اجل تثبيت الإرادة النبوية إلى رمز الهيبة المادية والروحية التامة. فللنبوة تقاليدها الرمزية الخاصة. وينطبق هذا على الهيبة. وفيما يخص "الهيبة النبوية"، فإنها تبدأ من "السماء" وتنتهي بها.

انتهت مرحلة الصراع الأولى بانتصار الإرادة المحمدية والنبوية. واكتملت من الناحية الرمزية بتحويل الأنظار صوب القبلة والبيت الحرام ثم مكة. وفي نهاية هذه العملية تبلور وتكامل الشكل الجديد لتنوير الفكرة الجوهرية القديمة للتوحيد، والتي وجدت تعبيرها وانعكاسها في الآية القائلة: "قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ". أما استمرارها الأعمق فقد حصل على هيئة "الأمة الوسط" كما في الآية القائلة:"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ"، والتي اكتملت فيها الصيغة الأولية لتأسيس المرجعيات الدينية والسياسية الكبرى للإسلام، بوصفها الأساس البنيوي لانتصاره وإرساء أسسه الذاتية. وهذا بدوره لم يكن سوى النتاج الخالص للإرادة المتفائلة للنبي محمد.

***   ***   ***

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

 

في المثقف اليوم