دراسات وبحوث

النبوة المحمدية وتأسيس العقل الإسلامي

ميثم الجنابيفلسفة النبوة المحمدية (9)

لكل مرحلة تاريخية ثقافية عقلها الثقافي الخاص، ومن ثم عقلانيتها النظرية والعملية. فالإبداع العقلي والعقلاني الذي يلازم بالضرورة الانتقال من مرحلة تاريخية ثقافية إلى أخرى يحتوي على تأسيس الرؤية النظرية والعملية لإنجاز مهمات التحدي التاريخي، ومساعي الإرادة التاريخية لحل إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي عبر إرساء أسس المرجعيات الثقافية المتسامية أو المافوق تاريخية. ففي المرحلة الثقافية الدينية، على سبيل المثال، يتباين العقل (الذهنية والنفسية العامة) ومساره الخاص عبر نوعية العناصر الجوهرية في رؤيته النظرية والعملية العاملة على إرساء منظومة المرجعيات المتسامية. ففي وادي الرافدين جرت عبر فكرة مركزية الدولة وقوانينها "الإلهية"، وفكرة الحق والحقوق، وفكرة المدينة والمدنية، بينما جرت في مصر القديمة عبر فكرة مركزية الدولة، وفكرة الأخلاق العملية والإدارية، وإلوهية الفرعون، والقانون الأخلاقي والديني. في حين اتخذت في الصين القديمة فكرة أولوية وجوهرية الدولة المركزية، ومركزية الدولة وحدودها، وفكرة الأخلاق العملية السياسية والإدارية، والأهمية التأسيسية للأسلوب الفلسفي في حل إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي كما نرى نماذجه الكبرى في فلسفة لاوتسه وكونفوتسه (كونفوشيوس) وتيار القانون والشرعية. أما في اليونان فقد جرت عبر فكرة الدولة -المدينة، وجوهرية الرؤية الفلسفية في التعامل مع إشكاليات الوجود التاريخي وقضايا ما وراء الطبيعة، والإقرار بإمكانية وأحقية التنوع في اختيار النظام السياسي، كما نرى نموذجه الأعلى في الفلسفة السقراطية والأفلاطونية والأرسطية والرواقية والفيثاغورية وغيرها.

كل ذلك يكشف ويبرهن على الطابع التاريخي والثقافي للعقل، بوصفه معاناة وتجربة تاريخية متميزة وأصيلة، لكنها تعمل وتفعل ضمن حدود مرحلتها التاريخية الثقافية، وفِي الحالة المعنية ضمن حدود المرحلة الثقافية الدينية. ذلك يعني، إن العقل النظري والعملي هو عقل ثقافي، لأنه يحل إشكاليات الوجود بذهنيته الخاصة ومعاناته العملية، الأمر الذي يجعل من "العقل الجديد" عقلا تاريخيا وثقافيا وليس منطقيا. فالأخير هو احد أساليب المعرفة المجردة، بينما الانتقال من مرحلة إلى أخرى هو انتقال تاريخي وثقافي. ومع كل مسار تاريخي نوعي، أي تحول وانتقال من مرحلة إلى أخرى أكثر رقيا، تتضح معالم العقل الثقافي.

وبالنسبة للإسلام يعادل العقل الثقافي العقل التوحيدي أو العقل الاسلامي، بينما تعادل العقلانية النظرية والعملية فكرة الأصول، مع ما ترتب عليه من خصوصيته المتحققة في فكرة ومنهج الاعتدال والوسطية (تجاه كافة القضايا السياسية والأخلاقية والمعرفية والحقوقية وغيرها). وذلك لأن الاعتدال هو أسلوب وجود الأشياء ونموذج النظام الأفضل للبشر. فهناك على سبيل المثال، ترابط عضوي بين العدل والاعتدال. فكلاهما من جذر واحد، ويرميان إلى غاية واحدة، ويعبران عن نفس المساعي العامة النظرية منها والعملية، انطلاقا من أن العدل هو القيمة الكبرى في الأخلاق، والاعتدال أسلوبها الضروري.

اذ ليس العدل في نهاية المطاف سوى الصيغة الحقوقية والأخلاقية للحرية. وبالتالي، فإنه الرصيد غير المرئي للبحث عن الحقيقة وتأسيسها العملي في ميدان الوجود الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي للأفراد والمجتمعات. وليس مصادفة ألا تخلو أية فكرة متسامية من العدل والدعوة إليه. بل يمكننا القول، بأن تاريخ الرقي الإنساني الروحي هو تاريخ ارتقاء فكرة العدل. وقد كانت الإرادة المحمدية تحتوي في أعماقها منذ البدء على هاجس العدل العميق والاعتدال العقلاني، الذي يرفض ويناهض نفسية وذهنية الغلو والتطرف بمعايير ومقاييس المرحلة الدينية السياسية. وليس مصادفة أن تسعى اغلب الفرق الإسلامية المناهضة لسلطان الخلافة والإمامة الجائرة إلى تأسيس حقيقة العدل باعتباره اعتدالا، أي أن اغلب الاتجاهات الفكرية الكبرى في الحضارة الإسلامية كانت تسعى لتأسيس رؤيتها الخاصة عن العدل المجرد بالشكل الذي يتناسب مع الأصول الكبرى العامة للإسلام، وبكيفية انكسار هذه الأصول في مبادئها الملموسة وعقائدها العملية. وضمن هذا السياق تعادل أصول القرآن والسّنة المحمدية الصيغة الدينية للعقل النظري والعقل العملي، بينما تعادل أصول القياس والإجماع اللاحقة الصيغة السياسية أو الدنيوية للعقل الثقافي.

فإذا كان القياس بالمعنى المنطقي المجرد والثقافي الملموس يعني البحث عن تنوع الأدلة العقلية، فإن الإجماع هو توحيدها المنطقي المجرد. وليس مصادفة أن يقف النبي محمد موقف سلبيا من الشعر، وهو ابن وسليل التقاليد التي جعلت من الشعر ديوان العرب ومنطق لسانها العقلي والوجداني. وذلك لأنه وجد فيه وجدانا فرديا أو قبليا متحزبا. إضافة إلى الخلاف الجوهري بين كون الشعر مصدره الشيطان، والوحي مصدره الرحمن. والشعر تقرير وأحكام بينما القرآن جدل وبيان. الأمر الذي جعل من هيمنة العقل الجدلي والبياني فيه أمرا محتوما. فالبيان حالة ملازمة للوحي الديني، كما انه يستجيب لقيمة وأهمية البيان أو البلاغة في الوعي العربي وتقاليده. فهو يحتوي على مختلف أساليب وأنماط المعرفة العقلية مثل الشك واليقين والبحث والجدل والتدليل التاريخي والمنطقي والتجريبي وغيرها.

غير أن ما يميز العقل الإسلامي كونه عقلا إيماني، أي أن العقل جزء من الإيمان أو الإيمان نفسه، وأن الإيمان هو جزء من العقل أو العقل نفسه. وفي هذه العلاقة الجديدة لوحدة الطبيعي والماوراطبيعي تبلورت ماهية العقل الإسلامي، ومن ثم أثره بالنسبة لنقل العرب إلى المرحلة الدينية السياسية. وترتب على ذلك تلاقي وتناغم العقل الديني والعقل السياسي بالشكل الذي يستجيب لمرجعيات المرحلة الدينية السياسية كما بلورها الاسلام المحمدي في مرجعيات الوحي، والسنّة، والعقل، والمعرفة، واليقين، والاعتدال ورفض الغلو.

إن العقل الإيماني الإسلامي هو عقل توحيدي، يتداخل فيه العقل الثقافي والإسلامي وتوليفهما بهيئة عقل إسلامي ثقافي فسح المجال أمام قبول القياس أو العقل المنطقي المقارن والإجماع أو العقل المنطقي الجامع. ولكليهما أصول في الفكرة المحمدية عن التعقل والتأمل والإدراك والمعرفة، وفكرة التوحيد الاجتماعي (الأمة) انطلاقا من فضيلة الاختلاف، بوصفه أسلوبا لبلوغ اليقين الجامع، ودرء اختلاف الفتنة والصراع. فقد كان مضمون العقل الإسلامي كما تبلور بصورة تدريجية وخرج من رحم الفكرة التوحيدية المحمدية بوصفه عقلا ثقافيا أيضا، يرمي إلى تأسيس قيمته المجردة لتذليل الاختلاف القاتل، وتشجيع الاختلاف الخلاق، وأولوية المصالح العامة باستناده إلى العلم والمعرفة المنطقية وآثار السلف المجتهد.

 لقد تبلورت معالم ومفاهيم ومرجعيات العقل الإسلامي الأول (المحمدي) في مجرى الصراع التاريخي الهائل من اجل إرساء أسس التوحيد والعدل. ومنهما تحددت ملامح الوسطية الإسلامية بوصفها المرجعية النظرية والعملية للعقل الإسلامي المحمدي.

ذلك يعني، إن العقل الإسلامي المحمدي مبني على ثالوث التوحيد والعدل والاعتدال. فالتوحيد هو العقيدة العامة التي تعادل معنى الوحدة والواحدية، والعدل هو أسلوب تحقيق الفكرة التوحيدية وقيمها الأخلاقية والقانونية، والاعتدال يعادل رفض الغلو في الأقوال والأعمال والسريرة والعلن.

ومن هذا الثالوث تبلورت مرجعية العقل، بوصفه أصلا من أصول الإسلام ومظاهره المتنوعة في وحدة العقل والشرع، والعقل والنقل، أي كل ما سيشكل مضمون العقل الثقافي الإسلامي. وما قبل بلوغ العقل الإسلامي الأول مرتبة العقل الثقافي الاسلامي، كان ينبغي لهذا العقل أن يرسي أسسه الضرورية.

فكما لا ينجح التحدي الفردي إلا بوجود إرادة فردية متسامية، كذلك لا ينجح التحدي التاريخي بدون إرادة تاريخية كبرى. فالأول وثيق الارتباط باليقين الفردي المتفائل، والثاني وثيق الارتباط بالعقل الثقافي الجديد. وهذا بدوره ليس إلا العقل المؤسس لمنظومة المرجعيات المتسامية، أي منظومة البديل التاريخي الذي يعي الخلل البنيوي أو المأزق التاريخي للعنصر الجوهري في صيرورة وكينونة المرحلة التاريخية الثقافية السابقة.

فقد كان القرآن والوحي أساس الصيرورة التاريخية للعقل الإسلامي المحمدي، الذي جرى وضعه في أساس قراءة الواقع وتوسيع وتدقيق الفكرة الوحدانية. ومن خلالهما جرى تحديد السلوك العملي لاستكمال مهمات الإرادة التاريخية المتسامية وتنفيذ متطلباتها. ومن الممكن رؤية ذلك في تناثر الآيات القرآنية التي كانت تعاتبه وتنتقده وتوبخه وتحذره، أي كل تلك الصيغ المعبرة عن مراقبة النفس ونقدها ووعي سلوكها الدقيق. ففي هذه الآيات تنعكس أولا وقبل كل شيء ملامح ونماذج نقد الذات والمحاسبة، أي التأمل الذاتي للأفعال والأقوال، لكي لا تكون سنّة بعده. فهناك فرق جوهري بين النظرة المتسامية للأفعال وبين التقليد المباشر أو الفج. فعندما شاهد، على سيل المثال، جثة حمزة والتمثيل به بعد مقتله، قال:" لولا أن تحزن صفية ويكون سنّة من بعدي لتركته حتى يكون في بُطُون السباع وحواصل الطير". وقال أيضا "لأن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثّلن بثلاثين رجلا منهم". عندها قال المسلمون بأثر ذلك: "سوف نمّثل في قريش مثلة لم تمثل بها العرب". وبأثر ذلك ظهرت الآية: "وإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ". بينما نراه يغير موقفه من الصلاة على قبور الفاسقين أو المنافقين كما هو الحال بالنسبة لنموذج ابن سلول. فقد صلى النبي على قبره، بينما وقف عمر بن الخطاب بالضد منها. لكن النبي محمد رفض موقفه، ولاحقا عدّله بالآية: "وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا، وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ، إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ". بينما أثارت حادثة الإسراء والمعراج جدلا وشكوكا كبيرة. وبغض النظر عن تغير وتطور وتباين واختلاف المواقف من هذه القضية، إلا أن الإجماع الأولي كان يدور حول إبراز المعنى الروحي في الإسراء والمعراج، كما نرى صداه اللاحق في آراء وتفسير ابن مسعود وقتادة والحسن البصري، الذين ركزوا في شرحهم إياها على فكرة الهداية الإسلامية. وقبلهم كما ينقل عن عائشة قولها بأن النبي محمد اسري بروحه وليس بجسده. غير أن مأثرة الإسراء والمعراج الكبرى فيما يتعلق ببلورة العقل الإسلامي تقوم في كشفها عن تجانس الفكرة الإسلامية وشحذ قوتها من خلال إثارتها للفتنة العقلية والجدلية. وقد وضعها محمد في آية تقول "وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ". ومن خلالها وعبرها جرى توحيد المعنى.

كان "نزول الوحي" مرتبطا دوما بأحداث محددة ومعينة وثيقة الارتباط أو العلاقة بالنبي محمد. مما أدى إلى تحويل أحداث الزمن العابر إلى تاريخ "إلهي" (أبدي). بينما ترتفع العبارة بأثر ذلك إلى مصاف الآية القرآنية، التي تقرأ الاحداث والوجود عبر تحويلها الى آية إلهية أو خطاب إلهي. فقد ابتدأ الوحي على سبيل المثال في رمضان كما في الآية "إنا أنزلناه في ليلة القدر"، أو أن يصور معركة بدر بعبارة "يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَا". بينما انقطع عنه الوحي لمدة خمس عشرة ليلة عندما قال لليهود الذين حاولوا إحراجه بأسئلتهم، بأنه سيرد عليهم غدا دون ان يتبعها بعبارة "إن شاء الله"، بينما انقشع هذا الانقطاع بالآية "والضحى والليل إذا سجى". وشأن كل قراءة جديدة للوجود فإنها أثارت مختلف أنواع الجدل، التي تراوحت بين الصد والرد بمختلف أشكالها. ومن بين أكثرها أهمية بهذا الصدد هو ظهور حالة صعوبة فهم بعض ما في القرآن. اذ تشير بعض الروايات إلى قول أبي سفيان للأخنس بن شريق: "لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها". بينما وجد البعض الآخر فيه شكلا من أشكال الشعر، مثل اعتباره هجوا. فقد كانت العرب تفهم الواقف النقدية لمحمد تجاه أفكارهم الوثنية وجاهليتهم الأخلاقية  على انه هجاء لهم كما في موقف أم جميل زوجة أبي لهب، التي التقت بابي بكر في الكعبة وقالت له: "يا أبا بكر! أين صاحبك؟ فقد بلغني انه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه"، أي لضربت فمه بالحجر. والشيء نفسه يمكن قوله عن التصورات والأحكام العربية الوثنية التي واجهها في مجرى ظهور وبلورة الآيات القرآنية. فقد كان اغلب هذه التصورات والأحكام في البداية تتصف بالاستغراب، ثم السخرية والاستهزاء، ثم الرد والجدل، وبعدها التأمل الخفي والعلني لما فيها من معاني. ولم يكن ذلك بالأمر المستغرب. فقد كانت اغلب آيات القرآن تعبيرا عن وقائع الحياة اليومية. ومن الممكن أن نتخذ مما سمي بحديث الأفك نموذجا لهذه الظاهرة. فعندما طلب النبي محمد من عائشة التوبة، إجابته: "وأيم الله، لأنا كنت أحقر في نفسي وأصغر شئنا من أن ينزل الله فيّ قرآنا يقرأ في المساجد".

إن تحول الوحي الذاتي إلى قرآن شامل مرتبط بوحدته الداخلية، بوصفها معاناة صادقة ومحكومة بفكرة التوحيد الصادق، والإخلاص الصادق مع النفس. من هنا غياب التبرير، لأنه معاناة مزيفة، ومن ثم لا يكشف الحقيقة كما هي. ومن الممكن العثور على ذلك في نموذج ما يسمى بعمرة القصاص عندما أفسدت عليه قريش العمرة عام ستة للهجرة. بعدها خاض معركة دخول مكة عنوة. ولم تكن ذريعة، بل استمرار فكرة الشهر الحرام والمحرمات قصاص. أنها تحتوي في ذاتها على إعادة تأسيس لتقاليد الأشهر الحرام العربية القديمة، أي تجربة الروح المسالم مع النفس. وعموما يمكننا القول، بأن القرآن هو مدونة الأحداث والصراع كما نراه في نموذج " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ"، لأن الأخير كان يقول "محمد يعدنا بأشياء بعد الموت لا نراها"، ثم ينفخ في يديه ويقول "تبا لكما!"، كما كان نبتل بن الحارث يقول أن محمدا "أذن"، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ...". بينما قال معتب بن قشير يوم أحد:"لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا". وكان الرد بالشكل التالي، و"طائفة قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا"

 وهو نفسه من قال يوم الأحزاب:"محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن الذهاب إلى الغائظ". وكان الرد:"وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرور". في حين كان وديعة بن ثابت عادة ما يقول إنما كنّا نخوض ونلعب. وكان الرد:"وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ؟". أما سورة (المنافقين) فقد كانت متعلقة بالرد على عبد الله بن سلول الذي قال في غزوة بني المصطلح: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل". بل إن جميع الآيات القرآنية ذات صلة بالحوادث والمواجهات والاختلافات التي واجهها محمد. فهي أما اختزال للموقف والتقييم والبدائل، أو إعادة صياغة لغوية ضمن مسار الفكرة الإسلامية أو ضمن سياق الرؤية المحمدية. ونعثر على ذلك في التكثيف الدقيق والجمالي لعبارات وكلام العرب الوثنية بعد صهرها في بوتقة القراءة الجديدة للقرآن. حينذاك يجري دمجها بوصفها وحيا. فقد كان ابن الزبعري على سبيل المثال يدعو لجدل محمد وفكرته عن أن جميع الآلهة التي تعبد ستكون حصب في جهنم، بالشكل التالي: سلوا محمد، أكلّ ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود يعبدون عزيرا، والنصارى تعبد عيسى بن مريم؟ وكان رد النبي محمد بالشكل التالي:"وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ.". كما نعثر على مختلف أشكال المحاسبة الذاتية كما هو الحال بالنسبة لحالة ابن مكتوم الأعمى، التي وجدت انعكاسها في سورة (عبس). بل أن المائة الاولى من آيات (سورة البقرة) ذات صلة بالرد على اليهود ومنافقيهم. وهناك ستون آية من (آل عمران) حول معركة أُحد. أما سورة (الحشر) أو الجلاء، فقد كانت تتعلق بالجدل حول الحرب مع بني النضير وإجلاؤهم إلى خَيْبَر. كما أن سورة (براءة) كانت تسمى في زمن النبي محمد وبعده بسورة (الحشر) لما كشفت من أسرار الناس. وضمن هذا السياق يمكن فهم التمايز الذي اخذ بالوضوح والبروز على مثال الشخصية المحمدية وليس على مثال الأسلوب والصيغة والعبارة. فقد صحح أبو بكر في إحدى المرات بيت من الشعر قاله النبي محمد بصورة خاطئة أو ليست دقيقة، عندما استبدل الكلمات بما لا يتوافق مع القافية، بعدها قال أبو بكر:"اشهد أنك كما قال الله (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي)". غير أن هذا لا يعني انه لم يعرف الشعر، على العكس. فهو لم يقف ضد الشعر كما هو، بل أراد تطهيره من حمية الجاهلية.

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم