دراسات وبحوث

امين الريحاني: من وجدان التاريخ الى وجدان اللغة وضميرها الحي (2-4)

ميثم الجنابيإن التاريخ بالنسبة للريحاني هو ليس مادة وعي الذات وأسلوب الرؤية الواقعية وفرضيات البدائل الممكنة، بل مدرسة المواجهة الوجدانية مع الواقع وآفاقه. وتحتوي هذه المواجهة في أعماقها على أثر ما ادعوه  بتيار "لغة الضمير" و"تحصين الأركان" كما كان الحال عند جرجي زيدان وأمثاله، دون أن تتمثل استنتاجاتهما بصورة متجانسة مع تجاهلها لإبداع الإصلاحية الإسلامية الكبير. لهذا نراه ينتقد بصورة لاذعة آراء كارليل المليئة بأساليب الازدراء والسخرية في تعامله مع الماضي، معتقدا أن هذا الأسلوب لا يليق في سرد التاريخ لأنه كثيرا ما يشوش المعنى الحقيقي فيه[1]. بينما يعتمد على رؤيته عن البطولة والأبطال في التاريخ باعتباره أسلوبا جوهريا في "نسيان" الماضي، من ثم أسلوبا للتأهب نحو مواجهة الحاضر والمستقبل. ويندفع في نفس الوقت إلى "تسويد" الماضي وتعريته من كل فضيلة من اجل ألا ينخدع المرء به. ففي تعليقه على كتاب (خطط الشام) لمحمود على كرد، الذي جعل من تاريخ الدولة العربية الإسلامية نموذجا مثاليا يستحق التعظيم والبعث والمحاكاة، نرى الريحاني يبحث في التاريخ السوري (العربي) عما اسماه "بالنكسات". بحيث يقدم لنا في كتابه (النكسات) صورة مضادة تماما "للصورة الجميلة" عن التاريخ العربي. إذ يجعل من تاريخ سوريا سلسلة من النكسات القبيحة ابتداء من "الاستيلاء المصري" عليها وانتهاء "بالمماليك"، مرورا بالآشوريين والفرس والسلوقيين والأنباط والغساسنة والرومان والعرب والصليبيين وهولاكو! ويتحول تاريخ سوريا عنده هنا إلى سلسلة من الهدم والردم والخراب والدمار. إضافة لذلك أدت "موضوعية" الريحاني الوجدانية في التعامل مع "أحداث" التاريخ "السوداء" فقط إلى أن يتناسى دورته. وهو نسيان له قيمته الإيجابية في ما اسماه الريحاني نفسه بضرورة التناسي، لأن الهاجس المباشر وراء "اكتشافاته" للنقاط السوداء في التاريخ يتلألأ في بحثه عن العدالة والسلم والحرية والتسامح والعمران. مع أن كل هذه القيم لا يعقل إدراكها بمعزل عن نقائضها. وذلك لأن عمق محتواها نفسه يتحدد تاريخيا بمدى وسعة وعمق وجوه الشر والظلم والاستبداد.

إن تحويل التاريخ إلى "نكبات متواصلة"، لا يبدع وعيا ذاتيا، بل يؤدي في أفضل الأحوال إلى بلورة رؤية نقدية عادة ما تحفر فجوة الانفصال والانقطاع الثقافي مع التاريخ الذاتي. وأقصى ما يستطيع الوعي الفردي والقومي بلوغه فيها هو حدود القيمة الوجدانية للأبطال. وهو السبب الذي جعل الريحاني يطالب الإنسان العربي بقراءة التاريخ من اجل إدراك اللب فيه، و"من اجل نسيان قريضه وقوافيه". ووضع هذه الفكرة في عبارته القائلة "اقرءوا التاريخ متفهمين روحه وروح أبطاله، فتودون إذ ذاك أن تنسوا الماضي"[2]. ومع أن "نسيان الماضي في قريضه وقوافيه" يعني بالنسبة للريحاني استذكار أبطاله وذواته القوية والفاعلة، والذي نعثر عليه في إلحاحه على أن يكون هذا النسيان "مقدمة كتابة صفحة جديدة في تاريخ هذه البلاد"، إلا انه لا يؤدي فعليا إلا إلى اجترار تجارب الماضي والوقوع في دورة التاريخ التجريبية. وذلك لأن الوجدانية العارمة لا يمكنها خزن تجارب الماضي ولا جعلها وسيلة لترسيخ وعي الذات الثقافي ونفيه الدائم.

لقد "حرر" ذلك آراء الريحاني من هاجس الحصانة الذي ميز آراء أسلافه كالطهطاوي وخير الدين التونسي، وأبقى في نفس الوقت عليه بهيئة ذرات منحلّة لا يجمعها نظام، كما هو جلي في مقارناته بين الشرق والغرب. أما مساعيه لتوليفهما في سبيكة جديدة، فإنها مجرد تمني يستحيل تحقيقه، لأنه من مكونات مختلفة. فنراه يعظم إنجازات الغرب الأوربي في مختلف الميادين بحيث جعل منه نموذجا للمحاكاة وحافزا للرقي والتمدن الشرقي من جهة، وينتقد بصورة جلية ومستترة ما يتميز به هذا التمدن الأوربي من نواقص جوهرية.

فنراه ينتهز في مجرى استعراضه لأعلام الشرق والغرب كل فرصة متاحة من اجل كشف خلل الحضارة الأوربية. ففي تطرقه، على سبيل المثال، إلى شخصية تولستوي، نراه يشير إلى "أن أعماله تثبت أقواله، وله أقوال هي اقرب إلى رد الفعل على التمدن الأوربي مما هي إلى التعاليم التي قام عليها هذا التمدن"[3]. وارجع سرّ الخلل الجوهري في التمدن الغربي إلى ما اسماه بمدنية المال. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن "تمدن أهل الغرب مؤسس على التجارة فقط. وروح التجارة الخبيث سائد على دوائرهم الاجتماعية والمدنية والأدبية والدينية". بل التمدن "عندهم هو التمويل بجميع أساليبه"[4].

وارجع أسّ التمدن الغربي، بما في ذلك خارج النطاق الأوربي إلى سيادة ما اسماه بروح التجارة. وكتب بهذا الصدد قائلا، بأن "روح التجارة الخبيثة منبثة في دوائرهم الاجتماعية والمدنية والدينية. ومن اجل التجارة ينشرون حضارتهم في الشرق"[5]. فالولايات المتحدة علي سبيل المثال، حررت "نفسها من سيادة التاج البريطاني، ولكن فيها تيجانا أكثر خباثة"، كما أنه "لا الاختراع ولا الحرية متخلص من سيطرة المال عندهم"[6].

وتوصل في نهاية المطاف إلى أن ما يميز روح المدنية الغربية، بما في ذلك فكرها الإصلاحي، هو "سيادة روح التجارة والقوة والسيطرة"[7]. وهو روح شق لنفسه الطريق في حروب الأوربيين ضد الشعوب الضعيفة والاستيلاء على ثرواتها وقهرها. وليس ذلك في نهاية المطاف سوى النتاج الملازم للخلل الجوهري في الحضارة الغربية، وبالأخص بسبب سيطرة وسيادة التعصب والفكر الفاسد فيها. فهي تتساهل فيما بينها، على عكس ما هو عليه الأمر مع المستضعفين والمختلفين معها. ذلك يعني أنها لا تتمسك بالمبدأ الشريف الذي تدعو إليه[8]. ولعل معاهدة فرساي وما تبعها من نتائج وسياسيات بعد الحرب العالمية الأولى قد ذهبت أدراج الرياح وكشفت عن حقائق التمدن الأوربي. فكل الأحاديث والشعارات عن جمعية الأمم وحرية الشعوب الصغيرة والحكم الذاتي واستئصال السياسة السرّية وتخفيض السلاح وما شابه ذلك، مستمر لحد الآن بل وبقوة أشد وأخشن وأرذل[9]. في حين أن لدى الشرق من الصفات والفضائل ما تمكنه من إنقاذ الحضارة الغربية نفسها من رذائلها. إذ لدى الشرق من السكينة والاطمئنان ما لو وجد شيء منه في الغربيين لقلّت في مجتمعاتهم المنكرات والمفجعات مثل القلق والسكر والانتحار، وكذلك لقلّ تكالبهم على الماديات ولقلّت الحروب. كما توجد عند الشرقيين (والمسلمين بالأخص) من الديمقراطية الحقيقية في الحياة الاجتماعية ما لو توفر لدى الغربيين ليّسر لهم حل المشاكل الاقتصادية التي تهدد بالبلشفية![10].

بصيغة أخرى، إن إنقاذ الحضارة الغربية ممكن من خلال ما اسماه بوصل الشرق بالغرب، أو حسب عبارته بوصل "عالم العلم بعالم الشعر والروح"[11]. لكن إذا كانت آفات التمدن الغربي معروفة ويجري محاربتها، فأن الشرق بدأ ينتفض لتوه. مما يعطي له حق التمرد والانتفاض والثورة إذا استلزم الأمر من اجل الحرية[12]. إننا نعثر في الشرق على أثر التطور الاجتماعي، ولكنه ما يزال يعاني من "ضعف النشوء الطبيعي" و"الارتقاء الخلقي"، أي القوة المادية والأدبية. وأن الذي يقيدهما هو التقاليد والعقائد التي لا تلتئم مع العصر. من هنا فأن نهضة الشرق تفترض تحرره من قيود القديم أولا، ومن ثم الاستناد إلى نظام يقضي على الفوضى المنتشرة فيه[13]. ولا سبيل لذلك غير الثبات الدائم والمجاهدة الذاتية، لأن مشكلة الشرق تقوم في "افتقاره إلى الثبات الذي يتغذى به الإتقان"[14].

وهو افتقار عانى منه الريحاني. فهو لم يستطع تمثل هذا "الافتقار" وتجاوزه منهجيا رغم إدراكه العميق لآثاره وتأثيره في مجال العلم والعمل. فقد أعاقت وجدانية الرؤية وهواجسها العميقة صياغة نظام "للثبات يتغذى به الإتقان" العلمي والعملي. وهي صفة ميزت اغلب كتاباته. ولعل (بذور الزارعين) أحد النماذج الرفيعة لما يمكن دعوته بالحكمة المبتورة. فقد مثل الريحاني مزاج المرحلة العاطفي للخلاص من قيودها. وليس مصادفة أن تتشبع آراءه وآراء "الانعتاق الوجداني" بالحماسة المخلصة "لناموس الارتقاء والتطور". فقد تغلغل يقين الدارونية الطبيعي في وجدانية الرؤية وجعل من "بذر البذور" المهمة الأولى والضرورية، والقيمة الكبرى للفعل والعقل، لأن يقين نموها اللاحق وارتقاءها وتطورها هو نتيجة طبيعية أيضا!

تمثل الريحاني هنا أسلوب شبلي شميل في موقفه من "سنّة الارتقاء والتطور". وعبّر عن ذلك في (وجوه شرقية وغربية) قائلا، بأن من محاسن شبلي شميل هو ثباته على آرائه، وأنه أول من بّشر ونشر مبدأ النشوء والارتقاء في الأمة العربية، وله المقام المنشود فيها[15]. وكرر في أكثر من موضع في كتاباته على جوهرية مبدأ الارتقاء والتقدم والتطور، وجعل منه "ناموسا عاما شاملا ينطبق على الطبيعة الفكر والحياة". وكتب بهذا الصدد يقول، بأن فكرة القضاء والقدر كانت في يوم من الأيام قوة دافعة، أما الآن فأنها قوة مدمرة. والشريعة التي حررت المرأة فيما مضى أصبحت غير مقبولة الآن كما هي. كل ذلك يستلزم أخذه من قبل الجميع أدباء ورجال دين وسياسيين[16]. لاسيما وأن كل ما "ظهر في العالم حتى اليوم من حقائق الاجتماع والسياسة والدين، إنما هو خاضع لناموس التطور والتحول، وناموس النشوء والارتقاء"[17].

لم يكن تركيز الريحاني على "ناموس النشوء والارتقاء" سوى الصيغة النظرية للأعراض النفسية الملازمة للانبهار الوجداني في تأمله بساطة الاكتشاف وروعته في نفس الوقت. فقد ترافق اكتشاف هذه "الناموس" مع بداية اكتشاف "الأنا العربية" و"نشوءها وارتقاءها" المعاصر. فمن الناحية الفعلية لم تكن فكرة النشوء والارتقاء سوى فكرة الصيرورة التاريخية الخاصة للثقافة الأوربية المعاصرة، أي أنها لم تكن عنصرا علميا خالصا فيها. وهو سبب وشرط تغلغلها في نسيج الوعي الفلسفي والسياسي والاجتماعي والأخلاقي وتمثلها بصيغ ومستويات ذوّب حقائقها في صرح الأوربية وكيانها الروحي. بينما لم تكن بالنسبة لتقاليد الوجدانية العربية، كما هو الحال عند الريحاني وسلامة موسى وشبلي شميل، أكثر من فكرة علمية خالصة. وبالتالي فأن "موضوعيتها" كانت جزء من اجتهاد دعاتها ومعتنقيها. إذ لا تاريخ ذاتي فعال ومتواصل بها في الثقافة العربية المعاصرة آنذاك. من هنا ظاهريتها وطفوها على سطح المستنقعات الآسنة كما لو أنها الوردة الوحيدة المرمية من أيد غافلة. إلا أن ذلك لم يفقدها جمالها ورونقها ورائحتها. على العكس! أنها أصبحت محل الإثارة والمنافسة والاحتراب!

لم تكن فكرة "ناموس النشوء والارتقاء" سوى الصيغة الدافعة على ضرورة النشوء الجديد والارتقاء المدني المعاصر كما هو والتي نعثر عليها في إحدى العبارات الطنانة التي أطلقها الريحاني في معرض تقييم المبجل لشخصية محمد علي باشا ودورها في نهضة مصر الحديثة قائلا:"وجاءك من مصر ابن ألباني عظيم ينشد ضالة الكورسكي الأعظم بونابرت"[18]. ولم يكن هذا الإطراء معزولا عن اعتقاده القائل، بأن النهضات الكبرى ترتبط  بسيرة الأبطال في استكمال أداورهم التاريخية بوصفهم "زارعين لبذور التجديد". بينما لم تكن هذه المواقف في الواقع سوى التمثل الجزئي لما في "لغة الضمير" و"تحصين الأركان" من حب للجديد والتمسك العقلاني والإيجابي بتقاليد الماضي. من هنا نراه يسير في اتجاه تجديد اللغة عبر نقد الاهتمام المفرط باللغة القديمة ومفرداتها وحشوها، وعدم تطابق المعنى والعبارة، والكلمة والمنطق. فقد علّق على كلمات من وصف الإسلام بعبارة "نشب مخالبه في أعماق البسيطة، وثبت رجليه على تخوم الأرض، واطلع رأسه من وراء خط الاستواء، ووضع قوادمه على جدران الصين"، بعبارة "تصوير غريب يصور الإسلام بصورة حيوان غريب بدايته طائر ووسطه أسد ونهايته بعير"[19].

إن الجوهري في اللغة بالنسبة للريحاني هو "روح اللغة" وطريقة التفكير فيها. وأسلوب الكاتب الذي هو صورة لشخصيته، والحرية الذوقية والاختراع في معالجة لمواضيع[20]. ومن ثم فأن الجديد هو المشيع للحقيقة والذوق، والنابذ للماضي البائد، والمتبع للجميل[21]. وقدم في (انتم الشعراء) مجموعة وصايا جعل منهن شعارا للتجديد والإبداع، حيث طالبهم فيها بتجريد النفس من قيود التقليد، والصدق في الشعور، والحرية في الفكر، وأخذ البيان من لوح الوجود، وأن يكون في خيالهم حقائق كونية وبشرية، وأن تكون للقصيدة بداية ونهاية، وأن يجري النظر إلى الكون من خلال النفس الباصرة[22].

وليس مصادفة أن يجلّ الريحاني من بين الشعراء الأمريكيين الشاعر ولت ويتمان، الذي فتح طريق "الشعر الحر" وديمقراطية الفكر والأخلاق. ووضع تقييمه لويتمان بما اسماه بفلسفته الأمريكية التي وجدت انعكاسها في شعره، الذي تدور مزاياه على عدم انحصارها بقالب الغريب الجديد فقط، بل بما فيه من الفلسفة والخيال مما هو اغرب وأجّد"[23]. بل أن الريحاني نفسه كتب قصائد من "الشعر الحر"، التي يمكن عدها من بين أول التجارب العربية بهذا الصدد. غير أن قيمتها الحقيقية تقوم لا في شعريتها، بل في تجسيدها لانعتاقه الوجداني ومفهومه عن الحرية. فعندما قلّد الريحاني والت ويتمان في شعره، فانه لم يسع لمحاكاة الفلسفة الأمريكية، بل لإبداع صيغة مناسبة لما سيدعوه بالاستمداد من لوح الوجود العربي في التعبير الحر عن الحياة كما هي، وصدق البيان والاهتمام بحقائق الوجود الكونية والإنسانية عبر معاناة فردية اجتماعية تدرك مسئوليتها تجاه كل ما هو حولها. وعبّر في أشعاره ومأثوراته عن تعامل مع الكلمة، حررها نفسها من قيود البديع التقليدي، كما سعى لتحرير النفس في صغائرها وكبائرها من إسار الجمود والعادة. ووضع هذا المبدأ في موقفه من الشعر العربي عل مثال موقفه من مقارنة المتنبي مع المعري. فقد اعتبر إبداع المتنبي ناقصا بسبب عدم تطابق الحقيقة والمشاعر والعبارة فيه. إذ اعتقد بأن الانسجام في الشعر العربي يكاد ينحصر في الألفاظ وفي الصيغ اللغوية. أما في المعاني فهو نادر وكثيرا ما تجئ المعاني مستقلة بعضها عن بعض ومتقلقلة في قصائد أكثر الشعراء[24]. ولعل المعري هو الوحيد الذي طابق في إبداعه بين الكلمة والمنطق، والعبارة والمعنى، والشعر والحقيقة. وجعل من حياته وشخصيته نموذجا لإبداعه من صدق الشعور وحرية الفكر واخذ البيان من لوح الوجود، والاهتمام بالحقائق الكونية والبشرية، والنظر إلى الكون بعيون النفس الباصرة.

ولا يعني "لوح الوجود" هنا سوى الحياة كما هي بكافة ميادينها ومظاهرها. لهذا أكد على أن الجديد في اللغة لا يعني الخروج على روح اللغة، وألا تصبح الكتابة إفرنجية بحروف عربية. وهو المعنى الذي شدد عليه فيما اسماه بالرجوع إلى لوح الوجود ومنه استمداد الشكل والمعنى[25]. ومن ثم ليس الرجوع إلى لوح الوجود سوى الرجوع إلى النفس. وهذا بدوره ليس إلا المهمة الملحة والمرتبطة بادراك وظيفة الأدب والأديب، والشعر والشاعر تجاه المجتمع والتاريخ والأمة والثقافة. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن الكاتب الحر هو العالم الحقيقي الذي يضع أمام الناس نتائج علمه وثمار بحثه ودروسه حقيقة الأمة[26]. واعتبر الشاعر الحقيقي "مرآة الجماعات"[27]، انطلاقا من موقفه المؤيد للفكرة القائلة بالتوازن بين الشعور والفكر في الآداب والفنون، والخيال الذي ينتشر من حقائق الحياة كما تنتشر الروائح من الأزهار فتقود بالمرء المبدع إلى الحقيقة المادية والاجتماعية التي نشأت منها[28]. وهو موقف يستمد جذوره من الفكرة الأوسع التي أيدها الريحاني والقائلة، بأن الشعر والأثر الفني الجميل فوق صاحبه (مبدعه)[29].

لم تكن أولوية الوظيفة المعرفية والجمالية والعملية سوى الصيغة النظرية والتاريخية لأولوية الإصلاح الأدبي (المعنوي) والسياسي. إذ نعثر فيها على نفس هواجس انعتاق الوجدان من تشديد على قيمة الروح المعنوي ضمن "ناموس النشوء والارتقاء". حيث أكد الريحاني على انه "لا تدوم إلا سنّة التطور". وأن "الثابت في الحياة ثابت إلى حين، أما التجدد فثابت إلى الأبد"[30]. ولا يعني ذلك سوى أن الحركة هي الشيء الوحيد المطلق، وأن الجمود عرضة للفساد، بينما التجدد دائم أبدي. ووضع هذه الرؤية الفلسفية في موقفه من الإصلاح، باعتباره إصلاحا ورقيا، كما هو جلي في عبارته عن أن حقيقة الإصلاح تقوم في ربط "النشوء الطبيعي بالتطور الاجتماعي وبالارتقاء الخلقي"[31]. ذلك يعني انه أعطى للإصلاح الحقيقي أبعادا اجتماعية وأخلاقية مترابطة مستندا بذلك إلى الفكرة العامة عن أن الحركة والتجدد هما الثوابت الوحيدة في الكون، وبالتالي ليس الإصلاح الحقيقي سوى ذاك الذي يعني وحدة هذه المكونات، باعتبارها روابط ضرورية. بمعنى الانطلاق من "الحقيقة الأبدية" للتحوّل والتغيّر ودمجها في الرؤية الاجتماعية والأخلاقية عن التقدم،. أي أنه أعطى للإصلاح بعدا ذاتيا، انطلاقا من أن التدرج في سلم التطور الاجتماعي والارتقاء الأخلاقي هو استمرار للنشوء الطبيعي، كما يقول الريحاني. من هنا تأكيده على أن "الخطر على تمدننا الكاذب هو من الداخل لا من الخارج"[32]. ووضع هذه الفكرة في نقده اللاذع للتقليد الأجوف. وأكد بهذا الصدد على الفرق بين ما اسماه بالإصلاح النهضوي والتقليد الأعمى. وعبر عن ذلك في أحد مواقفه من التقليد الأعمى للغرب في المدارس المعاصرة له. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن مدرسة مثل تلك التي أسسها البستاني في زمانه "لأصلح وانفع من هذه التي يتخرج الشبان فيا متفرنجين لا يعرفون لغتهم ولا تاريخ بلادهم، وقلما يحترمون غير الأجنبي"[33].

حددت هذه الرؤية موقف الريحاني من الإصلاح باعتباره اعتدالا. وكتب عن نفسه يقول، بأنه "إنسان يهمه من الحياة كل ما يفيد الإنسان في جسده وعقله وروحه. الماديات لا يحتقرها، والعقليات لا ينبذها، والروحانيات لا ينكرها. ولكنه رجل ولوع بالتوازن والاعتدال"[34]. وهو موقف حياتي استند إلى آرائه عن قيمة الاعتدال، بوصفه القدر الذي بلور أيضا شخصيته "التوليفية" المعتدلة (مقارنة بانطون فرح وشبلي شميل). من هنا استنتاجه الإصلاحي العميق عن أن "الأمة في مجموعها الراقي والترقي التام لا يكون إلا في التوازن بين قوى العقل والروح والجسد"[35]. ووضع هذه الفكرة في حكمه العام القائل "لو كانت الإنسانية مرنة في معقولها لأثر فيها الحكمة والاعتدال تأثير حسنا سريعا"[36]. من هنا موقفه المعارض لمن اسماهم بالمشعوذين من السياسيين، الذين وجد فيهم سبب وجود التشاؤم المفرط والتفاؤل المفرط في الموقف من التطور في الشرق بشكل عام والعالم العربي بشكل خاص[37]. (يتبع....).

 

ا. د. ميثم الجنابي

......................

[1] أمين الريحاني: وجوه شرقية وغربية، ص43.

[2]أمين الريحاني: النكبات، ص8.

[3] أمين الريحاني: وجود شرقية وغربية، ص18.

[4] أمين الريحاني: أدب وفن، ص7.

[5] أمين الريحاني: الريحانيات، ج1، ص91.

[6] المصدر السابق، ص92.

[7] المصدر السابق، ص103-104.

[8] المصدر السابق، ص16-17.

[9] المصدر السابق، ص266.

[10] أمين الريحاني: وجوه شرقية وغربية، ص103.

[11] المصدر السابق، ص119.

[12] أمين الريحاني: الريحانيات، ج1، ص179.

[13] أمين الريحاني: التطرف والإصلاح، ص29-30.

[14] أمين الريحاني: وجوه غربية وشرقية، ص15.

[15] المصدر السابق، ص59-61.

[16] أمين الريحاني: الريحانيات، ج1، ص185.

[17] المصدر السابق، ص240.

[18] أمين الريحاني: النكبات، ص16.

[19] أمين الريحاني: أدب وفن، ص88-89.

[20] المصدر السابق، ص70.

[21] المصدر السابق، ص55-57.

[22] أمين الريحاني: انتم الشعراء، ص90-92.

[23] أمين الريحاني: هتاف الأودية، ص9.

[24] أمين الريحاني: أدب وفن، ص7-10.

[25] أمين الريحاني: الريحانيات، ج1، ص148-150.

[26] المصدر السابق، ص48.

[27] أمين الريحاني: أدب وفن، ص50.

[28] المصدر السابق، ص43.

[29] المصدر السابق، ص21.

[30] أمين الريحاني: بذور الزارعين، ص37.

[31] أمين الريحاني: التطرف والإصلاح، ص29.

[32] أمين الريحاني: الريحانيات، ج1، ص93.

[33] المصدر السابق، ص171.

[34] المصدر السابق، ج2، ص11.

[35] المصدر السابق، ج2، ص11.

[36] أمين الريحاني: التطرف والإصلاح، ص23.

[37] أمين الريحاني الريحانيات، ج2، ص131.

 

 

في المثقف اليوم