دراسات وبحوث

الفلسفة الحضارية للفكرة القومية عند قسطنطين زريق (2)

ميثم الجنابيالثقافة التاريخية والفكرة القومية

 وجد زريق في "الثقافة التاريخية" القوة الفكرية والروحية القادرة على توحيد الشخصية الفردية والاجتماعية والقومية بمعايير الرؤية العقلانية والإنسانية. وذلك لأنها تشكل أساس الاختبار العقلي والنقدي لتجارب الأفراد والأمم والثقافات. فهو الأسلوب الضروري الذي يجعل من الذات الفاعلة والعاقلة جزء من كل حلقات السلسلة الضرورية للوجود الإنساني. من هنا حديثه عن أن هذه الثقافة تؤدي إلى أن يشعر المرء ويدرك نفسه باعتباره فردا وأبن أمة وعضو أسرة عالمية. ومن ثم يضعه ويضع المجتمع والأمة ككل أمام إشكاليات التقدم والحضارة والحرية والعقل والإنسان والكون وما وراء الكون، أي كل ما يشكل قضايا الوجود الإنساني العام. مع ما يترتب عليه من إدراك "ما له وما عليه، وما للأجيال السابقة واللاحقة" كما يقول زريق. وتنعكس في هذه الرؤية والمواقف شعور بالكرامة الظاهرية والباطنية، الفردية والقومية والإنسانية العامة. وليست هذه بدورها سوى الصيغة المعبرة عن رقيه ورقي الأمة الفكري والثقافي. فالشعور بكرامة الإنسان وحرمته هو من أبلغ الأدلة على رقي الفكر وأصالة الثقافة، كمال يقول زريق. ووجد في هذه الخاتمة المقدمة الضرورية لما اسماه بتقوية الأصالة الفردية والقومية والإنسانية. أما الحصيلة النهائية لكل ذلك فهو إرساء أسس الإطلاق والتحرر، أي الحرية والإبداع الأصيل.

إننا نقف هنا أمام حصيلة نظرية ومجردة عامة تقول، بأنه حالما تبلغ "الثقافة التاريخية" في موقفها وفهمها للتاريخ درجة معرفة النفس ونقدها، والتحرر من كل ما يقيدها بهذا الصدد والمسار، والعمل من أجل بلوغ غايتها المتسامية وآثارها المنشودة في فهم الحياة وحقيقتها، حينذاك تصل إلى درجة "حكمة الثقافة التاريخية نفسها"[1]. ولا يعني هذا بدوره سوى جوهرية الوعي التاريخي الذي يرتقي إلى مصاف الإدراك العقلي الشامل لإشكاليات التاريخ، بوصفه إدراكا عقلانيا وعمليا.

فمن الناحية الظاهرية لا يعني الوصول إلى "حكمة الثقافة التاريخية" باعتبارها ذروة "الثقافة التاريخية"، سوى الوجه المباشر لفقدانها في الوعي العربي التاريخي العام والقومي الخاص. لكنها في الوقت نفسه مؤشر على ضرورتها بالنسبة للوعي القومي وتحدياته لمختلف إشكاليات التقدم والحضارة والحرية والعقل والإنسان والكون وما وراء الكون، ومن ثم إشكاليات الحضارة ككل. ومن حصيلة هذين الجانبين يمكن التوصل إلى أن الفكرة المتحركة في رؤية قسطنطين زريق للتاريخ والثقافة التاريخية والحكمة ليست إلا الحلقات الضرورية في الكشف عن حلقات أو أسباب الخلل في الكينونة العربية القومية الحديثة.

إن فقدان هذه الحلقات بوصفها سلسلة واحدة في الوعي النظري والعملي هو الذي أدى ويؤدي إلى تراكم النكبات وعدم الخروج منها. الأمر الذي يجعل من فقدان "الثقافة التاريخية" الحقيقية وبالتالي عدم بلوغ حكمتها، الوجه الآخر لفقدان الوعي التاريخي الفعلي بالمعاصرة، أي فقدان الإدراك الشامل لمعنى وحقيقة الحضارة الحديثة والعيش والعمل والإبداع بمعاييرها. من هنا استنتاجه النظري والعملي القائل، بأن "تكوين هذه النظرة الحضارية عند الشعوب العربية يساعدها على إدراك المعاصرة ومواجهة تحدياتها"[2]. ذلك يعني، أن القضية الحضارية من وجهة نظر زريق هي الوجه الآخر لقضية الحكمة العقلية للثقافة التاريخية. وهذان بدورهما ليس إلا وجهان متحركان لغاية الفكرة القومية الحديثة وفاعليتها الذاتية أو التلقائية. وبالتالي، فإنهما وجهان لقضية الأصالة بوصفها وعيا تاريخيا قوميا ذاتيا.

 الفكرة القومية وقضية الأصالة والحداثة

 توصل زريق في مجرى تحليله لهذه القضايا والجوانب والمستويات إلى انه متى كانت الحضارة حية ناشطة، كما كان الحال بالنسبة للحضارة العربية الإسلامية على سبيل المثال، جاء تفاعلها مدعاة للنمو والإثمار. وبالعكس متى كانت الحضارة ضعيفة أو منحلة، كما هو الحال بالنسبة ط"للعالم العربي الحديث وغيره من المناطق، فإنَّ "أثر المفاهيم الجديدة يزيد من انحلال الحضارة، وقد يؤدي إلى زوالها"[3]. وليست هذه النتيجة سوى الصيغة النظرية المبنية على أساس تأمل ونقد الحالة التاريخية للعالم العربي الحديث في ما يتعلق بإشكالية الأصالة والتقليد. غير أنها مرفوعة إلى مصاف الأبعاد العقلانية الشاملة للقضية القومية الحديثة.

لقد أراد قسطنطين زريق القول، بأنَّ إشكالية القومية العربية الحديثة هي إشكالية الأصالة. وأن إشكالية الأصالة هي إشكالية الوعي التاريخي، وأن إشكالية الوعي التاريخي هي إشكالية حضارية. وبالتالي، فإنَّ إشكاليات القومية العربية الحديثة هي إشكالية الحداثة في فهم الأصالة والتاريخ والحضارة. لكنها حداثة الوعي الذاتي أولا وقبل كل شيء، أي أصالة الفكرة القومية بوصفها وعيا تاريخيا حضاريا جديدا. ووضع هذه النتيجة في مقدمة إدراكه لقيمة وأهمية تحديد ماهية فكرة الحضارة بالنسبة للعالم العربي.

إن وضع إشكالية الحضارة في أساس الرؤية التاريخية يحتوي على محاولة وضع فكرة "الأصالة" القومية في إطارها الفلسفي الثقافي. من هنا فكرة زريق عن أن قضية الحضارة هي القضية الكبرى في عصرنا، بل وفي كل عصر، لأنها الحيز الذي تنبثق منه وتنتظم فيه مختلف القضايا القومية والإنسانية[4]. وبهذا تصبح فكرة الحضارة التجلي الأكثر نظاما وقيمة بالنسبة للرؤية التاريخية. وحاول زريق تأسيس ذلك من خلال الفكرة القائلة بنفوذ الحضارة إلى عالم القيم. بمعنى أنها تنفذ إلى عالم القيم، التي بمساعدتها يمكن مواجهة مفاهيم أساسية مثل التقدم، والحرية، والكسب العقلي، والإبداع الفني، والخير الفردي والجماعي، وما إلى ذلك. من هنا أهمية وقيمة "النظرة الحضارية" و"التفّهم الحضاري"[5]. إذ بدونها يستحيل إدراك المعاصرة ومواجهة تحدياتها الحاضرة والمستقبل. أما مقاييس هذه النظرة الحضارية والتفهم الحضاري، فقد أرجعه قسطنطين زريق إلى ما يمكن دعوته بالعقل المبدع أو الخلاق. بمعنى أنه سعى إلى رفع معايير الثقافة التاريخية إلى مستوى أوسع قادر على شمول الميادين الكبرى للحضارة بشكل عام والمعاصرة بشكل خاص. وحصر هذه المقاييس بكل من القدرة التقنية والقدرة النظرية (من المعرفة المكتسبة)، والإبداع الأخلاقي والإبداع الجمالي (من دين وفلسفة ونظم مؤسسات وآداب وفنون)، والحرية الفكرية وانتشار المكاسب، والإبداع والتحرر[6].

ووجد في القدرة التقنية، والذخيرة العلمية الخالصة، والقيم الخلقية، والابتكار الفني والأدبي فروعا لأصل واحد، أو مظاهر لعقل واحد هو الإبداع. بحيث جعل من الإبداع تعبيرا عن التحرر ومقياسا له في الوقت نفسه. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن الإبداع بمقدار التحرر، وثمرته الكرامة. وبهذا يكون قسطنطين زريق قد جعل من حلقات الإبداع – التحرر– الكرامة سلسلة الدورة الدائمة لحقيقة الحضارة الحالية وعقلها الفعال.

وعندما حاول تطبيق ذلك على العالم العربي وموقعه في الحضارة العالمية ومواجهة تحدياتها، نراه يعتبر مشكلة التخلف هي مشكلته الأولى. ولعل ضآلة السيادة على الطبيعة ومواردها، وهزال التنظيم الاقتصادي والاجتماعي المظاهر الأكثر جلاء لها. وأعتبر كل ذلك نتاجا لركود العقل وفقدان الفضائل الفردية والاجتماعية التي تكونت في التراث العربي الخاص[7]. بمعنى أنه نظر إلى نقد الذات من خلال إدراك العُقد التي تعيق التحرر الفعلي الشامل، باعتباره الأسلوب الضروري للتقدم والرقي الحضاري. لكنه أبقى في الوقت نفسه على جوهرية ما يمكن دعوته بالمعاناة الذاتية القومية في البحث عن وسائل وطرق ومستويات ونوعية الرقي الحضاري. من هنا يمكن فهم موقفه المعارض للفكرة القائلة بالدوران المطلق للحضارة. وكذلك موقفه المعارض للفكرة القائلة باتجاه الحضارة نحو غاية معينة تقدميا أو رجعيا. ووقف إلى جانب الفكرة الوسط القائلة، بأنَّ "التاريخ يعيد نفسه بمعنى، ولا يعيد نفسه بمعنى آخر"[8]. وليس ذلك في الواقع سوى الصيغة المعبرة عن محاولاته للجمع بين فكرة الأصالة والعقلانية.(يتبع....).

 

ا. د. ميثم الجنابي

.......................

[1] قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص173.

[2] قسطنطين زريق: في معركة الحضارة، بيروت، دار العلم للملايين، ط4، 1981، ص21. الطبعة الأولى عام 1964)

[3] قسطنطين زريق: في معركة الحضارة، ص140.

[4] قسطنطين زريق: في معركة الحضارة، ص7.

[5] قسطنطين زريق: في معركة الحضارة، ص18-19.

[6] قسطنطين زريق: في معركة الحضارة، ص260-286.

[7] قسطنطين زريق: في معركة الحضارة، ص389.

[8] قسطنطين زريق: في معركة الحضارة، ص168-169.

 

في المثقف اليوم