دراسات وبحوث

الفلسفة الحضارية للفكرة القومية عند قسطنطين زريق (4)

ميثم الجنابيماهية القومية العربية

من الممكن العثور على الصيغة الأوسع والأكثر تدقيقا لرؤيته النقدية والبديلة لماهية القومية العربية ومقومات نجاحها في ما اسماه بشروط نجاح القومية. وأدرج ضمنها ستة شروط كبرى وهي:

- ضرورة بلوغ نوع من التطور والانسجام في الحركة القومية، وبدونها يستحيل نجاحها وتحقيق أهدافها،

- وعلمانية (دنيوية) الدولة،

- ومنافاة الإقطاع،

- والتطور الاقتصادي الحديث،

- وانتشار العلم والمعرفة،

- وأخيرا القضاء على القبلية والطائفية1.

على أن تكون هذه الشروط التأسيسية محكومة بفكرة الحرية، والوحدة، والثقافة الحضارية الحديثة. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه لا يمكن للحركة القومية العربية المعاصرة أن تنتصر دون أن تدرك وتحلّ إشكاليات التحرر والاتحاد والحضارة2 . وفي الوقت نفسه ربط هذه الشروط والأفكار الكبرى بنوعية القادة السياسيين الذين ينبغي أن ترتقي عندهم الفكرة القومية وغايتها إلى مصاف الفكرة الصوفية. بحيث نراه يتكلم عما اسماه بالحاجة للصوفية القومية. وكتب يقول، بأنه "إذا كان لابد من صوفية قومية في قلوب القادة وفي نفوس الشعب، فلتكن صوفية تضع القومية في نظامها الحضاري، أي كل ما يساهم في خلق إنسان عربي أقدر وأرقى ومجتمع متحرر"3 .

إن رفع الفكرة القومية إلى مصاف الفكرة الصوفية، يعني ضرورة تجريدها التام عما سواها. وهي الفكرة التي شاطرها الفكر القومي العربي الحديث عند مختلف شخصياته. وقد يكون الموقف من الدنيوية (العلمانية) هو محكها النظري والعملي المباشر. فقد كتب قسطنطين زريق منذ وقت مبكر في (الكتاب الأحمر) بأن الدولة العربية المنشودة دولة قومية لا دولة دينية، والأديان عندها هي سبيل المرء إلى خالقه في العبادات، فهي مصونة ومحترمة وفق ما يرد عنها في القوانين. ونعثر على نفس الفكرة بعد تدقيق جوانبها لاحقا عندما كتب يقول، بأن العلمانية ليست معاداة الدين والروحانية، أي "إنها لا ينبغي أن تتعارض مع الدوافع الروحانية أو الكفر بالله"4 . إن العلمانية (الدنيوية) ضرورية للقومية بحد ذاتها. وأعتقد زريق، بأن القومية علمانية بالضرورة. ووضع ذلك في استنتاج ملزم يقول: "إن القومية والأمة ينبغي أن تؤسس وتستند إلى ذاتها، أي أن تكون أمينة لذاتها وللقومية، بمعنى العمل بمنطق القوى التي أوجدت القومية في العصر الحديث"5 . وبما انه لا يمكن للقومية أن تنتصر دون تجانس تطورها لهذا "يستلزم كأول شرط علمانية الدولة"6 .

لم يكن هذا اليقين الجازم بصدد علاقة الدنيوية والقومية، سوى الوجه الآخر للرغبة الجامحة في تذليل بقايا البنية التقليدية في الوعي. وذلك لأنه لا إلزام منطقي ولا واقعي ولا حتمي لهذه العلاقة. فقد كانت هذه المرجعية جزءً من تقاليد التجربة الأوربية. كما أن التجربة الأوربية لم تذلل في الواقع العلاقة الخفية بين الديني والدنيوي بهذا الصدد. فصعود القومية، على الأقل في ميدان النزوع الأورومركزي والكولونيالي، كان وثيق الارتباط بالتراث الديني من حيث التمثل والاستغلال والتوظيف والتطويع. غير أن آراء قسطنطين زريق ومواقفه وأحكامه بهذا الصدد كانت تتمثل رحيق الفكرة القومية المجردة، والرغبة في تجسديها بوصفها فكرة منطقية. وهذا بدوره ليس إلا الصيغة النظيفة واللطيفة لبقايا وآثار الرؤية الأيديولوجية وأوهامها التاريخية الخلابة للعقل والضمير.

القومية والفكرة العقلانية

أوصل التحليل التاريخي واستشراف الواقع وآفاق العالم العربي الحضارية قسطنطين زريق إلى استنتاج مهم ألا وهو ضرورة العقلانية. ولا يغير من قيمة هذا الاستنتاج كونه كان أقرب إلى الحدس منه إلى منظومة فكرية لها حدودها الخاصة. فعندما تطرق إلى حالة العالم العربي المعاصرة له، فأنه اعتقد أن ما يميزها هو هيمنة الفكرة والحالة الثورية. ومن ثم لم يقف بالضد منها بقدر ما دعا إلى مهمة تحويلها إلى "ثورية عقلية"، أي ثورية تتخذ من العقل دليلا لها. لأن العقل هو الأكثر ثورية في التاريخ، كما يقول قسطنطين زريق. وبالتالي، فإنَّ استمداد هذه الثورية لروحها من العقل يجعلها الأكثر ثورية. وذلك لأنه يحررها من قبح الغوغائية والأهداف الآنية. إذ تكمن فيها ما اسماه قسطنطين زريق بضمانة الثورية اللازمة للشعوب العربية. بعبارة أخرى، إن "العقلانية" هي التي ينبغي أن تكون مضمون الثورية العقلية. ووضع هذا الاستنتاج في قوله "لا ندحة للعرب إن أرادوا النجاة والفوز في معركة الحضارة التي هي مصدر المعارك الأخرى ومحورها، من أن "تتعقلن"7 .

ووضع هذه الحصيلة في فكرة أوسع تقول، بأننا بالعقلانية ندرك أن مشكلتنا الأولية هي التخلف. وبها نقدم على محاسبة النفس، وعبرها يمكن السير في مضمار التحضر (التقدم). ذلك يعني انه حاول أن يعطي للعقلانية الثورية بعدها المناسب من خلال إبراز وإفراز أولوياتها النظرية والعملية. إذ لكل قومية وحضارة وتاريخ خصوصيته. فعندما تطرق، على سبيل المثال، إلى ما اسماه بطغيان الحضارة الغربية، فإننا نراه أيضا يكشف عن مبادئها الجوهرية، التي شكلت مصادر إيمانها ومعتقداتها وهي: الإيمان بالعالم الطبيعي وبأنه العالم الحقيقي، وأن الإنسان أهم كائن في هذا العالم الفعلي، ومبدأ العقل8 . مما حدد بدوره موقفه من الحكم على الحضارة الغربية. ذلك يعني أنه نظر إليها عبر جوهرية المبادئ الفاعلة والمحدد لكثير من خصالها، وليس من خلال ما يبدو على سطحها من مظاهر الاقتصاد والسياسة وغيرها. لقد حاول البحث عن مبادئ مرجعية فوجدها في ما أشار إليه. لكنه في الوقت نفسه اعتقد، بأنَّ انجازات الحضارة الغربية والمادية منها بالأخص تعاني من مفارقات عديدة. ومن بين اشد مفارقاتها إثارة بهذا الصدد اثنتين، الأولى وهي مفارقة التطور العلمي التقني والنظم السياسية والفكرية، والثانية هي مفارقة التطور العلمي التقني والأخلاقي.

مما سبق يتضح، بأن قسطنطين زريق أراد القول، بأنَّ لكل بديل عقلاني مقدماته الفكرية ومبادئه الكبرى وقواعده، أي كل ما يشكل أولويات عقله النظري والعملي. والأولويات التي ينبغي أن تختارها العقلانية الثورية العربية تقوم في مواجهة تحديات التخلف من خلال قواعد كبرى حصرها في سبع وهي:

- مصارحة النفس ونقدها بوصفه دليلا على النضج وبرهان على القدرة والثقة بالنفس،

- والحاجة إلى فيض من التوق الحضاري،

- وإيمان بالعقل وتوق إلى الحقيقة،

- والتطلع والتشوف للمستقبل،

- واكتساب الذهنية المنفتحة،

- وتنمية الثروات الطبيعية والقدرات الإنتاجية،

- وأخيرا العقلية الثورية 9.

وليست هذه المبادئ أو القواعد الكبرى للأولويات سوى الصيغة الايجابية لنقد الحالة العربية. فعندما تناول مقدمات النكبة والأسباب القائمة وراء هزيمة العرب آنذاك أمام بني إسرائيل، نراه يشير إلى أن السبب الجوهري يكمن في كون "مجتمعنا العربي والمجتمع الإسرائيلي الذي نجابهه ينتميان إلى حضارتين مختلفتين أو إلى مرحلتين متفاوتتين من مراحل الحضارة. وهو السبب الأساسي لضعفنا على كثرة أعدادنا وتفوقهم على قلة عددهم"10 . ذلك يعني أن مصدر التخلف بالنسبة له يكمن في فكرة المستوى الحضاري للمعاصرة ومقوماتها الأساسية وهي العلم والعقلانية. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن تفوق الحضارة الحديثة يقوم أساسا على انجازاتها العلمية النظرية والتطبيقية. وبما وراء هذه الانجازات من عقلانية متطورة11 . وبما أن العلم هو مصدر القوة في كل شيء بما في ذلك القوة الاقتصادية والسياسية، فإن السؤال المتعلق بكيفية حل هذه المشكلة في العالم العربي يفترض "قلب المجتمع العربي قلبا جذريا سريعا من مجتمع انفعالي توهمي ميثولوجي شعري إلى مجتمع فعلي تحقيقي عقلاني علمي"12 .

إننا نقف هنا أمام تحديد شكلاني شديد ومكثف لمتضادات ثنائية كبرى وهي ثنائية انفعال– وفعل، أوهام – وتحقيق، أسطورة – وعقلانية، شعري – وعلمي. وبغض النظر عما في هذه الصيغة من تبسيط مباشر وراديكالية مشحونة بحالة النكبة الثانية (1967) إضافة إلى استنتاجاتها السياسية ومقارناتها الحضارية المتسرعة المحكومة بأثر الهزيمة، إلا أنها تحتوي على نبض الفكرة الداعية للخروج من واقع الأزمة أو التخلف إلى ميدان الحداثة الحقيقية. وبهذا يكون قسطنطين زريق قد حاول جعل الفكرة التاريخية فكرة مستقبلية. وفي الوقت نفسه نظر إلى المستقبل بوصفه مشروعا بديلا بمعايير العلم والحداثة. وبهذا يكون قد سعى لإدراك التاريخ الذاتي بوصفه تاريخا واقعيا وعقليا يفترض البحث عن حلقة الربط بين الحداثة والمستقبل. ووجد هذه الحلقة في الرؤية الواقعية والعقلانية المتسمة بالاعتدال.(يتبع....).

 

ا. د. ميثم الجنابي

......................

1- قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص203.

2- قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص204.

3- قسطنطين زريق: في معركة الحضارة، ص393.

4- قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص37.

5- قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص38.

6- قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص203.

7- قسطنطين زريق: في معركة الحضارة، ص411.

8- قسطنطين زريق: في معركة الحضارة، ص355-356.

9- قسطنطين زريق: في معركة الحضارة، ص388-411.

10- قسطنطين زريق: معنى النكبة مجددا، بيروت، دار العلم للملايين، 1967، ص13.

11- قسطنطين زريق: معنى النكبة مجددا، ص13.

12- قسطنطين زريق: معنى النكبة مجددا، ص17.

 

 

في المثقف اليوم