دراسات وبحوث

مجدي إبراهيم: رؤية الله (2)

مجدي ابراهيمكان أبو الحسين بن بُنان المَصْري، مِنْ رجالِ الرِّسَالةِ القُشَيْريِّة يقول: "لا يُعَظِّمُ أقْدَار الأوْليَاءِ إلَّا مَنْ كَانَ عَظِيمَ القَدْرِ عِنْدَ اللهِ تَعَالى". وفيه إشارة إلى مكانة الأولياء عند الله تعالى، وإلى مكانة تقديرهم لمن يواليهم بالمحبة والتقدير، وفي الحق أنها لمكانة لا يبصرها إلا من كانت منزلته عن الله عظيمة. وإنه لمن سوء الطالع أن سادت في الفترة الأخيرة على صفحات التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت هجمات شرسة ضد الأولياء وذوي النزعات الروحية تزعمها صغار العقول والقلوب من أطفال الفكر والثقافة المتخلفة، طعنات يوجهونها إلى علوم المتصوفة، ربما كانت بسبب الدخلاء والأدعياء ممن رغبوا في الشهرة وطلبوا الانتشار والذيوع وتشويه الطيب بالخبيث؛ الأمر الذي صعبت فيه التفرقة بين الحق والباطل. ومع اختلاط الحابل بالنابل أصبحت كلمة التصوف كلمة مشينة مهانة وأصبح المنتسبون إليها دراويش بهاليل لا يقدمون ولا يؤخرون، وجودهم كعدمهم، ينظر إليهم نظرات الاحتقار والإذراء. وما هكذا كان التصوف ولا كان رجاله، ولن يكون، لأننا لو طالعنا تاريخ الأفكار الكبرى فلسفية ودينية، سنجد مكانة القيم الروحية راسخة في الوجدان البشري في جميع الثقافات والحضارات الإنسانية، يعول عليها تقدير المطالب العليا في الإنسان على التعميم. أما هذا الذي يحدث اليوم فليس من التصوف في شئ؛ والأغرب الداعي للعجب أنهم استخدموا ألفاظ الصوفية ومصطلحاتهم؛ لتكون عند خصومهم مادة سخرية لاذعة وتندر بغيض ولا هم يعرفون عنها شئياً إلا الأسماء، الأمر الذي جعل الانقسام شريعة التدين الإسلامي في زمن لم يعد للدين فيه قيمة ولا قانون.

من تعظيم أقدار الأولياء لا من التسلط على مناقبهم نشهد لهم بالتفوق الخلقي والخدمة الروحية والامتياز الذوقي في أمور الدين والمعرفة الإلهية. ولنا أن نتابع مسألة الرؤية عندهم التي تحدثنا فيها في المقال السابق لنرى الجنيد يقول :" مَنْ كانَ أبْعَدُ فرؤيته أخْفَى، غَداً رؤية الوجه؛ لأنه لا حجاب (حاجب) بين العِبَاد وبين السَّيِّد. واليَوْم رُؤْية السِّر؛ لأن الحِجَاب قَائم، ورأى محمدٌ صلى الله عليه وسلم بفؤادِه؛ لأن الحُجُبَ كانت هُنَاكَ حِجَابَيْن". وقال ذو النون :" رَاحَتي حيْنَ أفْتَحُ بَصَرَ السِّرِّ إلى ذَاَته". وقال :" إنَّ الله ليسَ بمَحْجوُب عَن الخَلْق، ولكن رَأَى مَنْ نَظَرَ". لاحظ الإشارات هنا كيف تجرى في سياق دلالي مرهون بتجربة فياضة بلوعة المعاناة. ولكن :"رَأى مَنْ نَظَرَ"؛ فليست الرؤية هنا هى الرؤية، وليس النظر هو النظر؛ لأن الذي يشهد أن الله ليس بمحجوب عن خلقه لا يرى في الحقيقة نفس الرؤية ولا ينظر نفس النظر ولكنه يرى حين ينظر لمَّا أن يفتح بصر السر إلى ذاته. إنما قلوب العارفين لها عيون ترى ما لا يراه الناظرون. فنظرهم من ثمَّ ليس هو النظر ورؤيتهم ليست هى الرؤية؛ لأن الرؤية أو النظر أحدهما أو كلاهما من الله، وبالله خصوصية في مراتب الشهود القلبي.

ولا يتبادر إلى الأذهان مطلقاً من مجمل إشارات العارفين أن الرؤيا الروحانية والمشاهدة تمثلان صورة الله تعالى كما يرتسم في العقل بالخيال بطريق الذاكرة أو شدة التأمل؛ فهذا تشبيهٌ محض ومذهبٌ فيما أشار الهجويري باطل في التحقيق. فلقد تقرر لدى الصوفية في صحة عقائدهم أن الله سبحانه ليس بمحدود حتى يشبهه الخيال أو يطلع على ذاته العقل؛ فكل ما أمكن كان مجانساً للعقل. والله تعالى ليس مجانساً لأي شيء، ولو أنه بالنسبة للقديم يكون الحادث أياً كان لطيفاً أو كثيفاً على السواء مجانساً للبعض بدون النظر إلى أضدادها؛ فالمشاهدة في الدنيا تشبه الرؤيا في الآخرة. ويروي "الهجويري" عن ذي النون قصة قال فيها إن ذا النون المصري قال:" رأيتُ مرة وأنا مسافر في مصر بعض الصبية يرمون الحجارة على شاب فسألتهم : ما الذي تطلبونه منه؟ فقالوا: إنه مجنون! فقلت: وكيف رأيتم جنونه؟ فقالوا: إنه أدعى رؤية ربه؛ فألتفتُ إلى الشاب وسألته: هل قلت ذلك أم يتقوّلون عليك؟ فقال: إني أقول إني لو لم أرْ ربي لحظةً لكنت محجوباً، ومن كان محجوباً كان عَاصيَاً (كشف المحجوب: ص367).

فعلى مثل هذا المجاز تحمل رؤية العارفين من المحققين، وليس مرادهم من الرؤية رؤية مقلة ولا جارحة ولا بصر مشهود.

سُئل علي بن أبي طالب رَضىَ اللهُ عَنْهُ :" تَعْبُدَ مَنْ تَرَى أوْ لا مَنْ تَرَىَ؟ فَقَالَ :" أَعْبُدُ مَنْ أَرَىَ لَا رُؤْيَةَ عَيْن؛ ولكن رُؤيَةَ القَلْب بمُشَاهَدة الإيمان".

فما أجاب به الإمام علي بن أبي طالب هو معتمد الصوفية في الرؤية من الوهلة الأولى. وعليه؛ فكل ما يقوله الصوفية في مسألة الرؤية يراد منه رؤية القلب بمشاهدة الإيمان كما أجاب الإمام علي كرم الله وجه، وهذه الرؤية تخضع للحال الذي يجده الصوفي في قلبه مستولياً عليه، أي تخضع للتجربة الروحية ومقاساة الشعور فيها ومعاناة صاحبها بما يلاحقه إزائها مما ليس يمكن أن يتصوَّره سواه؛ هذا مع قلة التعبير عن هذا التصور أو عدمه؛ فليس في الأمر ما يجيز الرؤية البَصَريَّة للصوفي في الدنيا سوى ما يجيزه الذوق لديهم ولا ينفيه وسوى ما تؤكده التجربة عندهم ولا تشكك فيه. ومن هنا توالت إشاراتهم رامزة ولاغزة، فكان أن قال الشبلي:" لم أرْ شيئاً قط إلا الله "؛ بمعنى أنه في حال غلبة الحب وشدة المشاهدة لم يرْ شيئاً إلا الله، وذلك حين يرى الفعل بعين بصره ويشاهد الفاعل بعين بصيرته؛ فهو مع الله رؤية بصيرة. وقد سبقت الإشارة إلى قول محمد بن واسع:  "مَاَ رَأيتُ شَيئاً قَط إلَا وَرَأيتُ الله فيه". وإنَّا من بعدُ لنميل في مسألة الرؤية إلى هذه الوجهة من النظر، وهى وجهة الصوفية في توجهاتهم الروحية: رؤية الله لدى القوم في الدنيا فضلاً عن الآخرة رؤيةً قلبيةً بمشاهدة نور الإيمان. لماذا؟

لأنه غاية الكرامة وأفضل النِعَم، ولا يجوز أن يكون ذلك إلا في أفضل مكان تماماً كما لا يجوز أن يرى الباقي في الدنيا الفانية؛ لأن رؤيته تعالى هى "الزيادة": أفضل النعم ما دامت الدنيا هى في الأصل دار فناء والآخرة دار بقاء. غير أنه تعالى يُرى بالأبصار في الآخرة فقط، وأنه يراه المؤمنون دون الكافرين؛ لأن ذلك كرامة من الله؛ لقوله تعالى :"للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" (يونس: آية 26).

ثم يرى الكلاباذي أنهم لو أعطوا في الدنيا أفضل النعم لم يكن بين الدنيا الفانية والجنَّة الباقية كبير فرق، وَلمَّا منع الله كليمه موسى عليه السلام، من رؤيته، كان من هو دونه أحرى في رأي الكلاباذي بالمنع. وبهذا المنطق، فكأنما الرؤية مستحيلة في الدنيا حتى على الأنبياء, فكيف يكون حَالُ مَنْ هو دونهم؟! (التَّعَرُّف لمذهب أهل التصوف: ص 57 - 58).

ونحن نلاحظ على رأي القشيري ورأي الكلاباذي أن هنالك دَفْعاً في منطق الصياغة لا يمتُّ إلى التصوف بصلة، ولكنه يمتُّ إلى علم الكلام بنسب كبير؛ لكأنهم كانوا يخشون على أنفسهم من التصريح القاطع بإمكان هذه الرؤية في الدنيا على جهة الكرامة للأولياء فينحون في دفعهم منحى علم الكلام بطريقة المتكلمين، ويدفعون عن أنفسهم تهمةً لم يرتكبونها ولم يقولوا بها؛ بل الغالب في دفع تلك الحجج هو تأثير المتكلمين على أذواق المتصوفة، تأثيراً نلمح فيه الخشية تقيةً من التصريح. وكان الأحرى بهم أن يكونوا صُرَحَاءَ في غير مواربة، وأن يطلقوها كما أطلقها البسطامي دَالةً على ذوق الطريق عاملة فيه وفاعلة؛ فكما أنهم جَوَّزوا لأنفسهم أن ينقلوا كلماته وإشاراته؛ فكذلك كان حقيقاً بهم أن يقولوها صريحةً لا ضمناً : نعم ! يُرى الله تعالى في الدنيا رؤية قلوب ببصيرة الإيمان.

عندي أن الهجويري كان قاطع الرأي في هذه المسألة بخلاف القشيري والكلاباذي فقد ذكر في "كشف المحجوب" حيث كان يتحدَّث عن التوحيد عند الصوفية عبارة جاء فيها :" ... وإن التشبيه غير مقبول في حقه (تعالى)، وإن المقابلة والمواجهة لا تنطبقان على جنابه، وإن أولياءه يتمتعون بمشاهدته في هذه الدنيا" (كشف المحجوب: ص 333), ومعنى عبارة الهجويري أن الله تعالى يراه أهل الجنة في الآخرة، ويشهده أولياءه في هذه الدنيا؛ ولكن هذا الشهود شهود قلب وبصيرة لا شهود عين ومقلة وجارحة.

إن منهج الصوفية حتماً ليقضي بهذا الشهود. ويا لصراحة البسطامي التي لم يحابي فيها ولم يُدَاري. قال أبو يزيد البسطامي: "رأيتُ الله في المنام، فقلت: كيف الطريق إليك؟ قال: إذا انقطعتَ عن نفسك وَصَلْتَ" (عبد الرحمن جامي: نفحات الأنس من حضرة القدس، ص 217), ولكن القشيري يرويها باختلاف اللفظ الذي لا يدل على اختلاف المعنى لا في قليل ولا في كثير حيث قال:" وروي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال:" رأيتٌ ربي عز وجل في المنام؛ فقلت: كيف الطريق إليك؟ فقال: أترك نفسك وتَعَالَ" (الرسالة القشيرية؛ ص369)؛ البسطامي كان صريحاً وفياً لتصوفه ولمشَاهِدِهِ الرَّوحانيّة فلم يوارب ولم يداري في حين داري القشيري، فوضع في اعتباره الإجماع، وداري الكلاباذي فصاغ الفكرة صياغات كلامية بعيدةً عن دلالة الذوق الصوفي؛ وحتى الجنيد لم نستثنه من تلك المداراة ! فلم يكن قاطعاً فاصلاً لما أن قال للسائل : ما كُنَّا لنعبد ربَّاً لا نَراه !

نعم ..! قلْها صريحة إنه سبحانه يُرى بعيون قلوب العارفين؛ ولكن الجنيد كإمام مسئول متمكن في عالم الشواهد الروحية لم يكن كأبي يزيد من أصحاب الاستهلاك والاصطلام، فقال كلمته وهو يعرف ما يقول : لن تراه الأبصار في هذه الدار بمشاهدة العيان ولكن تعرفه القلوب بحقائق الإيمان، ثم تترقى من المعرفة إلى الرؤية؛ بمشاهدة نور الامتنان.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم