دراسات وبحوث

مجدي إبراهيم: زدني فيك تحيّراً

مجدي ابراهيميا دليل المتحيرين زدني فيك تحيراً. هذه صرخة معرفة، الحيرة فيها حيرة معرفة لا حيرة غفلة وجهالة؛ فلا مكان للغفلة والجهالة في هذا المقام، هذه صرخة مناجاة سابقة، والحيرة التي يستشعرها صاحبها حيرة معرفة بالله ومن الله، وطلب الزيادة منها نصيب الزيادة في المعرفة. ودليل المتحيرين هو أقدر القادرين على هدايتهم إليه، وليس من سواه من يمتلك القدرة على إمداد المزيد من المعرفة من طريق الحيرة. لم تكن صرخة الشبلي إذ قال:" يا دليل المتحيرين زدني فيك تحيراً"!؛ وإذ وَصَفَ المعرفة "بدوام الحيرة"؛ لم تكن صرخة جذب خاوية من شعور المعية الإلهية مع بقاء الحجاب، فهو أولاً يناجي دليل المتحيرين لا ليكشف عنه الحيرة فيستريح، ولكن لطلب الزيادة منها؛ فالإشارة توحي بالمفارقة من أول وهلة، غير أنها توحي بالمفارقة فيما لو كانت الحيرة حيرة غفلة وجحود. أما وهى حيرة معرفة وطلب اتصال فلا مفارقة فيها ولذك طلب الزيادة منها فمن زادت حيرته زادت معرفته، ومن توقف عن التحير توقف عن المعرفة.

نلحظ مسألة الرؤية مرة أخرى في قول الجنيد حين سئل :"هَل عَانيتَ أوْ شَاهَدْتَ؟ فقال:" لوْ عَاينتُ لتَزَنْدَقْتُ، وَلَو شَاهَدْتُ لتَحَيَّرْتُ؛ ولكن حَيْرةً في تيهٍ وَتَيْهٍ في حَيْرةٍ "؛ تعني أن الله لا يرى بجارحة بصرية ولكن بشهود قلبي :"رؤية القلب بمشاهدة الإيمان" كما أشار الإمام على رضى الله عنه فيما تقدم؛ حتى إذا ما كنا قد بيَّنا في السابق أن العرفاء فيما بينهم مختلفون في مسألة الرؤية، منهم من يجيزها في الدنيا والآخرة كما سنرى عند أبي يزيد البسطامي لما قال :"لو حُجِبْتُ عنه لحظة لمُتُ"؛ ومنهم من ينفيها في الدنيا ويثبتها في الآخرة؛ فإنَّا هنا لنلاحظ أن للجنيد موقفاً واضحاً وصريحاً في الرؤية قائم على الشهود المباشر بالقلب، لكن هذا الموقف لا يعني أنه صريح الدلالة لرؤية الله في الدنيا، إذْ كان موقفاً معنوياً روحياً محضاً، إلا أن يكون معنى الرؤية هنا شهوداً قلبياً محضاً ولا يزيد. وليس أدل على ذلك من أن رجلاً قال للجنيد رضى الله عنه:" يا أبا القاسم هل رأيتم ربكم حين عبدتموه أم اعتقدتم الوصول إليه بقلوبكم؟".

هذا هو سؤال السائل للجنيد وعلينا أن نتنبَّه للإجابة؛ فلسوف يرى القارئ مراعاة الجنيد لنفي اللغط الكلامي الذي كان سائداً يومها فيما يتصل برؤية الله، كما ذكرنا في السابق، وستكون الإجابة قاطعة مانعة لأي محاولة تخلط بين منهج الذوق والشهود من جهة ومنهج الجدل العقلي من جهة أخرى، وستكشف إجابة الجنيد عن السؤال المذكور عن بعد نظر وإحاطة بالمباحث الكلامية على عصره مما لك يكن متوافراً عند أحد غيره من صوفية زمانه.

قال الجنيد:" أيها السائل: ما كنا لنعبُدَ رَبَّاً لا نَراه، وما كنا بالذي تراه أعيننا فنشبهه، وما كنا بالذي نجهله فلا نزهه؛ فقال الرجل: فكيف رأيتموه؟

قال: الكيفية معلومة في حق البشر، مجهولة في حق الرَّبِّ. لن تراه الأبصار في هذه الدار بمشاهدة العيان، ولكن تعرفه القلوب بحقائق الإيمان؛ ثمَّ تترقى من المعرفة إلى الرؤية بمشاهدة نور الامتنان".

ونور الامتنان هذا محض فضل ومحض عطاء؛ وتوفيق.

هذا قول صريح في عدم جواز رؤية الله بالأبصار في الدنيا؛ ومع ذلك فهو قول صريح أيضاً في وجوبها في الدنيا بمشاهدة قلبية تتأتى بنور الشهود المعرفي ونور الامتنان الإلهي على اصطلاح القوم ومذاقاتهم الشهودية والكشفية.

ولقد سبقت الإشارة إلى أننا قلنا إن العارفين مختلفون فيما بينهم فمنهم من يجوِّز رؤية الله في الدنيا ومنهم من ينفيها؛ فإنما أردنا بذلك طرْح مسألة الرؤية كما طرحها القشيري من قبل من منطلق كونها كرامة لدى الأولياء، ولذلك سمَّاها الجنيد بـ "مشاهدة نور الامتنان".

طرَحَ القشيري السؤال نفسه في صراحة بالغة أيضاً وفي تحديد لا لبس فيه قائلاً :" فإن قيل فهل تجوز رؤية الله تعالى في الدنيا بالأبصار على جهة الكرامة؟ فالجواب عنه: أن الأقوى فيه أنه لا يجوز؛ لحصول الإجماع عليه". هذه واحدة، وهى القاطعة المانعة أنه لا يجوز خرق إجماع المسلمين فيها؛ كونه تعالى لا يُرى بالأبصار في هذه الدار.

ثم يقول القشيري في الثانية:" ولقد سمعت الإمام أبا بكر بن فورك رضى الله عنه يروي عن أبي موسي الأشعري أنه قال: في ذلك قولان، وذلك في كتاب (الرؤية الكبير)؛ (الرسالة القشيرية: ص 360). ومادام في الأمر قولان فإن معنى هذا أن منهم من يجيز هذه الرؤية في الدنيا ومنهم من لا يجيزها؛ والأقوى فيهما نفي جوازها في الدنيا. وكما رَجَّحَ القشيري النفي على الإثبات رجَّحه الكلاباذي في التَّعرُّف حيث قال بإجماع الصوفية على أنه تعالى لا يُرَى في الدنيا بالأبصار ولا بالقلوب إلا من جهة الإيقان.

على أن رُؤيَةَ القَلْب بمُشَاهَدة نور الامتنان عبارة يطول شرحها؛ فقلوب العارفين ترى من نور الامتنان الإلهي ما من شأنه أن يبقيها حية مع دوام الشهود، وتلك هى المنة الباقية، وشَرْحُ هذه العبارة وحدها يحتاج إلى صفحات؛ فإن مشاهدة نور الامتنان هذه لهى "الكرامة" التي يهبها الله لأوليائه في الدنيا : الرؤية التي ينفتح فيها "بَصَرُ السر إلى ذاته"؛ فيشهد فيها العارف ما يعز ويندر شهوده لغيره. غير أنه شهود كما قال يتضمَّن "حيرةً في تيه وتيهاً في حيرة" بسبب أن المشاهدة تَحَيُّر، ولأن المشاهدة توجب الحيرة وبخاصة لو أنطلق المشاهد من لوعة المحبة المحرقة. وموضوع الحيرة هو الذات والصفات؛ وهى على نوعين : حيرة في الذات، وحيرة في الصفات. أما الأولى فيمكن تسميتها بحيرة الجهالة والشك؛ وهى كفر وشرك؛ لأن العارف لا يمكنه أن يشك أبداً في وجود الذات الإلهية. وأما الحيرة الثانية؛ فهى حيرة المعرفة والتوحيد, بمعنى أن صفات الله تعالى بعيدةٌ عن تصور العقول، فالحيرة ها هنا : توحيد أو هى ثمرة التوحيد والمعرفة.

وفي هذا المعنى نستحضر صرخة الشبلي :" يا دليل المتحيرين زدني فيك تحيراً"!؛ وكان وَصَفَ المعرفة "بدوام الحيرة"؛ فهو في البداية أثبت وجود الله سبحانه وكمال صفاته ووضَّح أنه هو مقصد الناس, مجيب الدعوات، وأنه ليس للمتحيرين تحيراً إلا فيه، إذْ ذَاَكَ طلب زيادة الحيرة منه، أي زيادة المعرفة؛ ولأن كل من أزادت حيرته في مشاهدة الله ارتفعت درجته؛ أي: ارتفعت معرفته بالله. وإذا اتصلت الحيرة بالمعرفة اتصلت في الوقت نفسه بالفناء في التوحيد؛ ولمحمد بن واسع إشارة يقول فيها :"مَنْ عَرَفَ الله قَلَّ كلامه ودَاَمَ تحيُّره"؛ وتعليل ذلك أن الأشياء التي ليست قريبة من العقول وبعيدة عن تصور الإدراك المحدود، لا يمكن معرفتها بدون الحيرة. والتحيُّر ليس يأتي إلاَّ بعد مقاساة التجربة (أي الفناء في التوحيد) وإلاَّ بعد التخلق بالأسماء الإلهية؛ ولأن المشاهدات، والكشوفات، والفتوحات، واللطائف، وكل رقائق الأولياء ودقائقهم ليست تحصل إلا في حال الفناء؛ في بطن التجربة، في التَّيه الروحي، وموالاة الواحد حقاً وقصداً.

ولنتذكر قول الجنيد السالف فنستبصر عن قُرْب معنى هذا الكلام:" إن لله تسعة وتسعين اسماً، فمن أقرَّ بها فهو المسلم، ومن عَرَفَهَا فهو المؤمن، ومن عامل الله بها فهو العارف، ومن عامل بها ولم يسكن إليها، وطلب المسمى فهو الموَحِّد، وله المشاهدة ". أي له المشاهدة من جَرَّاء مجاهدته فيما عامل، وفيما لم يسكن إلى ما عامل.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم