دراسات وبحوث

مجدي إبراهيم: أبو يزيد البسطامي

مجدي ابراهيمأبو يزيد بن طيفور بن عيسى سُروشان البسطامي: كان جده سروشان مجوسياً فأسلم, وهو من أهل بسطام توفى سنة 261هـ، وقيل سنة 264هـ . وكان لأبي يزيد ثلاثة أخوة : آدم، وطيفور، وعلي. وكلهم كانوا زهاداً وعباداً. إنما كان أبو يزيد أجلهم حالاً. وكانت له في طريق القوم نكت وإشارات عجيبة حتى قال ابن عربي عنه:" أنه القطب الغوث في زمانه". ومن حكمه التي جرت مجرى الأمثال في العقائد الصوفية؛ وهى دليل على تفردهم وامتيازهم بخصوصية الإبداع تفرداً وامتيازاً قد ينقطع معه النظير قوله : ليس العالم من يحفظ من كتاب الله فإذا نسى ما حفظ صار جاهلاً؛ بل العالم من يأخذ علمه من ربه أي وقت شاء بلا تحفظ ودرس. وهذا هو العلم الرباني".

وليس من شك أن هذا العلم الرباني لهو هو الذي يعول عليه شيوخ الصوفية في تعزيز مقامات اليقين، فلا يزال اعتمادهم عليه من أول خطوات الطريق إلى أن يتم لهم الوصول بفضل الله، وهو هو العلم اللَّدُني الكشفي؛ علم الفتوح يتأتى من طريق الأذكار والأوراد لا من طريق النظر العقلي أو الدرس النظري؛ فهو وهب على وهب لا كسب فيه ولا حيلة. ولقد قال أبو يزيد مشيراً إليه، بل وعليه يحمل قوله المشهور: "أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت"؛ ولما أن سئل : بأي شيء وجدتَ هذه المعرفة؟ قال: ببطن جائع، وبدن عار". البطن الجائع كناية عن دوام الصيام، والبدن العاري كناية عن الزهد في المباحات؛ فالزهد في رغائب الدنيا أساس هذا العلم الرباني، وطلب الدنيا بوجه من الوجوه منافٍ لوجوده لدى من يطلبه خالصاً؛ وكاشف للعورات الباطنة لمن يدعيه؛ فكل رغبة في الدنيا هى في الحقيقة ضد هذا القصد وقد تتعارض معه من الوهلة الأولى. ومن أجل ذلك؛ أكد الصوفية صادقين على العزوف عن الدنيا وشهواتها ورغباتها من أجل الفوز بما ينالونه قصداً في الآخرة؛ فجاهدوا نفوسهم وأهواءها حتى استقامت على الطريقة فتحقق لهم العلم الرباني من طريق الوَهْب والفتح والتحقيق.

وأقوال أبو يزيد منشورة في كتب الطبقات ومتفرقة في جميع مصنفات التصوف قديماً وحديثاً، ولا يخلو كتاب كتب في هذا الفن العالي منها، وقد كتب عنه "بارتلد" مادة "بايزيد البسطامي" بدائرة المعارف الإسلامية : الترجمة العربية، المجلد الثالث، العدد الخامس؛ ص 331). وجمع قاسم محمد عباس أعماله الكاملة تحت عنوان : أبو يزيد البسطامي؛ المجموعة الصوفية الكاملة، دار المدى، سورية، الطبعة الأولى سنة 2004م؛ هذا فضلاً عما كتبه قديماً ونشر المخطوطات الخاصة بالسَّهْلَجيِّ وسبط ابن الجوزي وغيرهما، وقام بتحقيقها؛ الدكتور عبد الرحمن بدوي في شطحات الصوفية.

أما فيما يتصل بمسألة الرؤية فقد سُئل أبو يزيد (البسطامي) :" هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟!

فقال :" لَو حُجِبْتُ عَنْهُ لَحْظَةً لَمُتُّ ".

ممّا يُروى عن أبي يزيد : أن حاله كانت عظيم الخطر؛ سواء كانت في مسألة الرؤية أو في غيرها من مسائل المتصوفة. كانت هذه الحال هى التي تقوده وليس هو الذي يقودها، وعرف عنه أنه كان في حالة فناء دائم لا يستيقظ منه ولا يفيق، أو إنْ شئت قلت: حالة سكر دائمة. وكان في غيبة مستمرة لا يصحو منها إلا في أوقات الصلاة، ويُروى في صدد مسألة الرؤية مما ذكره ابن خميس في "المناقب" أنه قال:" كان عندي شاب صغير ملازم للخلوة؛ فقلت له: هل رأيت أبا يزيد؟ قال: لا. فتركته أياماً وأعدتٌ عليه القول: هل رأيت أبا يزيد؟ قال: لا. فلما أكثرت عليه قال: رأيتٌ الله فأغناني عن رؤية أبي يزيد !!

قال: فكرَّرت عليه القول وهو على هذا لا يزيد (رأيتٌ الله فأغناني عن رؤية أبي يزيد!)؛ فغَاظني فقلت : أوَ رأيتَ أبا يزيد مرة كان أنفع لك من رؤية الله سبعين مرة؛ فقال: قُمْ بنا إليه، فخرجنا نطلب أبا يزيد. وإذا به قد خرج من النهر وفروته مقلوبة على كتفه، فلمَّا رآه الشاب صَاحَ ومات، فقلت لأبي يزيد : ما هذا؟!

فإنه ذكر أنه يرى الله وما مات؛ يراك فيموت؟! فقال: نعم! كان يرى الله على قدر حاله، فلما نظر إليَّ رأى الله على قدر حالي؛ فلم يُثبت فمات. قال الراوي: ثم داريناه فغسلناه وكفناه، وصلى عليه ودفنه وبكى" (سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان, نشرة عبد الرحمن بدوي, ضمن شطحات الصوفية؛ ص 213).

وأبو يزيد نفسه هو القائل: "للخلق أحوالٌ ولا حَالَ للعارف؛ لأنه حُجبَتْ رسومه فلا يشاهد في يقظته ونومه غير الله تعالى".

لكن نيكولسون يورد نفس المقولة باختلاف الألفاظ لتدليل على حال الفناء الصوفي عند أبي يزيد: "للخلق أحوالٌ ولا حَالَ للعارف؛ لأنه مُحِيَتْ رسومه وفنيت هُويَّتَه بهوية غيره, وغُيِّبت آثاره بآثار غيره".

وأقوال البسطامي في الشطح والفناء والرؤية والكشف والمشاهدة عديدة، فضلاً عن كونها عميقة الشعور غزيرة العاطفة والوجدان قد أحصاها (السَّهْلَجيِّ في كتاب:" النور من كلمات أبي طيفور"؛ منشور ضمن شطحات الصوفية, ص 149 وما بعدها)؛ وإنما ذكرنا مثل هذه الروايات عن أبي يزيد؛ ليتبَّين لنا مدى اختلاف الصوفية فيما بينهم في مسألة رؤية الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة.

فأقوالُ البسطامي تؤكد رؤية الله في الدنيا قبل الآخرة؛ فلئن كان الصوفية فيما بينهم مختلفون في مسألة الرؤية منهم من يجوِّزها في الدنيا ومنهم من ينفيها؛ فلأنها كانت من الموضوعات المهمة التي أثارها متصوفة بغداد على وجه الخصوص كالحارث بن أسد المحاسبي (ت 243هـ) وأبي القاسم الجنيد (ت297هـ) وأبي حمزة الصوفي (ت 289هـ) وأبي يكر بن إسحاق السراج (ت 286هـ) وأبي الحسن سري السقطي (ت 253هـ) : هل من الجائز رؤية الله في الآخرة؟ في مقابل عدم رؤيته مطلقاً في اليوم الآخر كما تَقَرَّر ذلك في علم الكلام وبخاصة المعتزلة الذين نفوا رؤية الله يوم القيامة، وأوَّلوا الآية القرآنية :" وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة"، قالوا بمعنى أنها منتظرة جزاء الله وثوابه للمحسنين لا بالمعنى الشائع للرؤية واعتبارها نظراً حسياً بالجارحة إلى الله تعالى؛ فكما لا تدركه الأبصار في الدنيا وهو يدرك الأبصار جميعاً؛ فكذلك الشأن في الآخرة لا تدركه الأبصار، الأمر الذي جعل المعتزلة يقيمون منهجهم العقلي على التأويل، ومن ثمَّ كان ممَّا يناقض العقل عندهم أن يتصورا رؤية الله في الآخرة, أو يجوِّزوها (ويحسن للتوسع مراجعة مسألة الرؤية؛ الشهرستاني: نهاية الإقدام في علم الكلام: الفصل الخاص بجواز رؤية الباري عقلاً ووجوبها سمعاً؛ ص 356 وما بعدها, وأيضاً الفخر الرازي: الأربعون في أصول الدين, جـ1 ص 277).

أمّا الصوفية؛ فشأن الرؤية لديهم مختلف عنه في علم الكلام؛ بسبب اختلاف الذائقة الروحية عن النظر العقلي الاستدلالي منهجاً في البحث، وخصوصية للطريق، ودلالة في الاستدلال. واختلاف المنهج عند كل من علماء الكلام والمتصوفة يعني اختلاف المفهوم من ورائه, ومن ثم فالرؤية عند الصوفية يعنون بها رؤية القلب والشهود المباشر لله تعالى في الدنيا، وبالأبصار في الآخرة، وربما أمتد التصور الصوفي لمسألة الرؤية ذوقاً على منهجهم فعدوها علامة كشف ومشاهدة لأفضال الإلوهية في الدنيا للبقاء في حضرة القرب : يسمع الصوفي صوت الحق يناجيه من أعمق أعماق قلبه وضميره، ويرى فيوضاته وعطاياه في عموم ما يشهد ويتذوق وفى شمول ما يلفظ ويقول : رؤية قلب، ومشهد ذوق، وكشف تحقيق وعرفان؛ وليست هى برؤية عيان.

فليست الرؤية معاينة بعين الرؤية، أي بالجارحة البصرية .. لا .. لأن الأبصار ليس لها سوى رؤية المرئيات، بل كلمة "المعاينة" التي يستخدمها الصوفية هنا لها مدلول آخر يختلف عن مدلولها البادي في ظاهرها اللفظي؛ فهى تعني مشاهدة بالبصيرة : المعاينة معاينة قلب، والشهود شهود ذوق وبصيرة، والكشف كشف تحقيق. ولقد فسر أبو علي الرَّوْذَبَاريِّ صراحةً معنى المشاهدة والمكاشفة والمعاينة فقال :"المشاهدة للقلوب, والمكاشفة للأسرار، والمعاينة للبصائر، والمرئيات للأبصار".

المشاهدة للقلوب؛ لأنها ترى كما يرى البصر المحسوس؛ وزيادة. والمكاشفة للأسرار؛ لأنها تطالع عالم الغيب وتفيض عليها المعارف من لدنه متوالية ومتدافعة. والمعاينة للبصائر؛ لأنها مَشْهَد كمَّل العَارِفين من المحققين. 

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم 

 

 

في المثقف اليوم