دراسات وبحوث

مجدي إبراهيم: ابن عطاء الله السكندري (1)

مجدي ابراهيمنظراً لخطورة ابن عطاء الله الصوفية والفقهية، فقد تناولته أقلام الأساتذة الباحثين في القديم والحديث؛ وتكلم عنه المهتمون بأمر التصوف في جميع الأحقاب الزمنية التي تلت الزمن الذي عاش فيه، وراعت الأدباء والمفكرين عباراته وحكَمه, كما أسرت أهل الله لطافة مناجاته وجمال منطقه وجلال إشاراته؛ لكأنما اللحظة التي يُقرأ فيها ابن عطاء الله على التسليم القلبي والتذوق الإيماني، لهى هى اللحظة التي تنفتح فيها مغاليق الأكوان حتى ليكاد المرء يستشرف منها ما من شأنه أن يخفى كثيراً عليه ويدق، ممّا لم يكد يعلم عنه شيئاً قبلها. إنها بحق للحظة توُّحد، ولحظة إدراك، ولحظة تحقق.

ومن أهم ما كُتب عن ابن عطاء الله السَّكندري قديماً، تلك الموسوعة الوافية الشافية، التي تحدثت عن "الشاذلية"، وأدرجت أكثر المنتسبين إليها، وكان ابن عطاء أهمهم في هذا الكتاب، ونعني به بالطبع كتاب الحسن الفاسي الكوهن: طبقات الشاذلية الكبرى، القاهرة، سنة 1347 هـ، ص 50 – 51).

ويمكننا تلخيص ما جاء فيه عن ابن عطاء من صفات أضفاها عليه صاحب طبقات الشاذلية الكبرى، وخصّه بها ممّا يؤكد قيمته المعرفية ومكانته الصوفية المتقدمة على زمنه، إذْ وصفه بأنه:" الأستاذ الإمام، قطب العارفين، وترجمان الواصلين، ومرشد السالكين، ومنقذ الهالكين، مُظهر شموس المعارف، ومبدي أسرار اللطائف".

ولئن كانت تلك الأوْصاف كالشارة أو العلامة تنطبق في القديم على كل عالم يبرز بأعجوبة في مجال من المجالات، فيُقال في حقه مثل هذه الأوصاف؛ فهى على ابن عطاء الله السَّكندري أصدق، وأحق، وأولى بأن تكون مثل هذه الصفات منطبقة عليه حقيقة ليس فيها مجاز حتى إذا ما تابعنا نعوت صاحب "طبقات الشاذلية" وجدناه يستمر في أوصافه الشخصية وانتسابه إلى الطريقة الشاذلية ليقول بعد أن نَعَتَ ابن عطاء الله بأنه:"مُبدي أسرار اللطائف"، إنه كذلك:" الواصل إلى الله والموصِّل إليه، تاج الدين، ومنبع أسرار الواصلين: أبو الفضل سيدي أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن عيسى بن الحسين بن عطاء الله، الجُدامي نسباً، المالكي مذهباً، الإسكندري داراً، القرافي مَزَاراً، الصوفي حقيقة، الشاذلي طريقة: أعجوبة زمانه، ونخبة عصره وأوانه، الجامع لأنواع العلوم (في عصره): من تفسير، وحديث، وفقه، وتصوف، ونحو، وأصول، وكان متكلماً على طريقة أهل التصوف، واعظاً انتفع به خَلقٌ كثير، وسلكوا طريقه، وقد شهد له شيخه (أبو العباس المرسي) بالتقديم".

والحقُ أن هذه النعوت التي ساقها صاحب "طبقات الشاذلية" فوق كونها تقرّر حقيقة فهى ليست خافية على من يعيش مع ابن عطاء في كتبه ومؤلفاته؛ فهو حَقيقٌ بها جدير على استحقاق بأكثر منها؛ فالرجل لم يَقُلْ شيئاً مخالفاً للواقع الفكري والمعرفي الذي مثله ابن عطاء خلال القرن السابع الهجري في التصوف عامة، والتصوف المصري على وجه الخصوص، والذي يكشف عنه أفق ابن عطاء الله السَّكندري الرحيب ـ من خلال مصنفاته ـ أو تنبئ عنه أذواقه النَّدِيَّة وخياله الخصب الزكي وفؤاده المطرب بذوق الطريق.

على أن جميع المعلومات التي استقاها صاحب "طبقات الشاذلية" عنه، أو عن شيوخه في الطريق مَردُّها كتاب ابن عطاء الله السَّكندري نفسه المعنون بعنوان "لطائف المنن في مناقب سيدي أبي العباس المرسي وشيخه أبي الحسن" وقد حققه الدكتور عبد الحليم محمود وطبع في دار المعارف، القاهرة، سنة 1992م.

***

تذكر المصادر، بل يذكر ابن عطاء الله نفسه، أنه لازم أستاذه، ثم كان من بعده شيخ الطريقة الشاذلية، لازمه اثني عشر عاماً فصار من خواص أصحاب أبي العباس المرسي؛ وكلَّل صحبته بالبشارات، حتى أنه يذكر  في "اللطائف"، قول أستاذه عنه ويعتز بهذا القول أيما اعتزاز: "والله لا يموت هذا الشاب حتى يكون داعياً إلى الله تعالى"، ويقول ابن عطاء نفسه:" دخلت على (أبي العباس المرسي) ذات يوم، فلما دخلت عليه قال: لا تطالبوا "الأستاذ" أن تكونوا في خاطره، بل طالبوا أنفسكم بأن يكون "الأستاذ" في خاطركم فعلى مقدار ما يكون عندكم تكونوا عنده، ثم يقول ابن عطاء الله السَّكندري: "وكنت قد حدثت بعض أصحابه: أريد لو نظر إلىَّ الأستاذ بعنايته، وجعلني في خاطره، ثم قال لي (أي أبو العباس المرسي): أي شيء تريد؟ والله ليَكُوُنَنَّ لك شأنٌ عظيمٌ، والله ليَكُوُنَنَّ لك شأنٌ عظيم، والله ليَكُوُنَنَّ لك كذا وكذا، فكان كما أخْبَر ".

ولسنا نشك في أن ملكة التَّعلق من طريق "الصحبة" بين المشايخ؛ لتكشف من فورها عن أدب وفتح وتذوق وعرفان؛ فإن هذا التعلق نفسه فوق كونه عناية سابقة محفوفة ومدمجة برعاية إلهية تتولاها بالبشارة إشارات الأولياء ولمحات العارفين إلا أن "الصحبة" في خلاله تفرزها في قانون الطريق تلك المقومات الموصوفة بالهيئة الأدبية والفتح الروحي والذوق المعرفي والتطلع العرفاني؛ ولولا وجود هذه الصفات ما قامت في الوقائع المشهودة مرائيهم، ولا تمت بالموافقة بشاراتهم.

ولسوف نناقش هنا قصداً علاقة الصحبة بين أبي العباس المرسي وابن عطاء الله السَّكندري؛ لتدل من فورها على تصوف حي في واقع النفس، بنّاء, تتوافر في طريقه المعرفي والسلوكي تلك الصفات مجتمعة: أدبٌ خالص وذوْقٌ رَاق وتطلعٌ معرفي في إطار قيم العرفان التي هى قيم الفتح والشهود: قيم راسخة في قلوبهم لا تعرف للأغيار من دون الله وجود.

ناهيك عن أن العبارة الصوفية عند ابن عطاء الله السَّكندري ـ وإنْ كانت تسبق الإشارة ـ فهى محض ذَوْق؛ روح صرف ومعنى خالص مجَرَّد عن اللوثات الفكرية والعقلية؛ وأن العرفان ليخرج من جميع جوانبه فيضاً مقروناً بجمال العبارة ولطف الإشارة وصدق التوجُّه ووحدة القصد النقي البهي الجميل الجليل. انظر قوله:

"العارفُ لا يَزولُ اضطرارُهُ، ولا يَكُونُ مَعَ غَير الله قَرَارُه".

لقد صدق الشعراني حين قال عنه إن لكلامه حلاوة في النفوس وجلالة في القلوب، وما كان صاحب "طبقات الشاذلية" بأقل صدقاً من وصف الشعراني حين نعته بأنه "مُبدي أسرار اللطائف". يستطيع من يقرأ ابن عطاء الله على شرعة التذوق والحضور أن يلمس هذه الحلاوة بنفسه، وأن يستشعر جلالة كلامه في قلبه، وأن تستجيش مشاعره لمجرد كلمة كاشفة عن الأسرار الإلهية يقولها خلال بيانه العالي. 

أي نعم، إن الرجل بالفعل "مُبدي أسرار اللطائف"، وهو إذْ يبديها، يبديها من ذاته، ويصدرها عن نفسه مجموعةً مشمولة بعد أن ملكت عليه أقطاره، ويُعطي جميع ما عنده إشارة في نَفَسٍ واحدٍ عجيب وغريب؛ لكأنما ينزع ذاته نزعاً في العبارة يقولها أو يعبر بها، فتجيء مخلوطة بأعصابه ودمه وخلاياه.

إن أفكار الرجل عن إسقاط التدبير كونها حالة روحية ومذهباً صوفياً لهى في كل كتاب من كتبه السبعة من التنوع والغزارة بحيث يمكن معها الوقوف عند كل كتاب، وتتبعها في كل كتاب، والإشارة إليها في كتاب، ومع كل فكرة ولمحة وإشارة تظهر وقفة الإعجاب والتعقب والإطالة والتعليل بما يَدلُّ على عمق هذا المذهب لديه وأصالته الصوفية تُستقى من عين المضمون الديني يتنسب إليه صوفية الإسلام لاسيما التَّصوف السُّني خاصّة.

صحيحٌ أن الأفكار التي نادي بها ابن عطاء الله السَّكندري في إطار مذهبه الصوفي (إسقاط التدبير) ليست ـ في تقديرنا ـ جديدة كل الجدة؛ إذْ كانت آراءً وأفكاراً سابقة عليه بقرون عدة، وجدت لدى المكي والمحاسبي والجنيد والغزالي والقشيري، بمقدار ما وجدت لدى الكثير من رجالات التصوف السُّنيّ، ولكنها مع ذلك كله لم تكن بهذا البريق الروحي ولا بتلك النشوة الروحية العذبة المؤثرة إلا في كتابات ابن عطاء الله ومصنفاته.

ولعلَّ السّر في ذلك يَرجع إلى التجربة الصوفية العميقة لهذا الرجل، وإلى تشرُّبه مذهب التصوف بعد التبحُّر في العلوم الشرعية، واستقاء علوم الحقيقة مباشرة من شيخه أبي العباس المرسي، وتنبؤ شيخه له بأن يكون مفتياً على المذهبين: مذهب الشريعة ومذهب الحقيقة. هذا فضلاً عن البعد الأدبي الظاهر لدى ابن عطاء.

(وللحديث بقيِّة)

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم 

 

 

في المثقف اليوم