دراسات وبحوث

مجدي إبراهيم: ابن عطاء الله السَّكندري (2)

مجدي ابراهيماختلفت الآراء في تاريخ وفاة ابن عطاء الله السَّكندري؛ ففي حين يرى صاحب "طبقات الشاذلية"؛ أن ابن عطاء توفى بالمدرسة المنصورية بمصر، ثالث عشر جمادي الآخرة سنة تسع وسبعمائة (709 هـ)، ودفن بسفح جبل المقطم بزاويته التي كان يَتَعَبَّدُ فيها، يرى الشعراني في طبقاته أن وفاته كانت سنة سبع وسبعمائة (707 هـ)، والشعراني من أكثر الذين تأثروا بابن عطاء الله وبمصنفاته، وإنْ كان لم يترجم له طويلاً، وكل الذي قاله عنه أنه تلميذ الشيخ "ياقوت العرشي"، أحد تلاميذ أبو العباس المرسي، ولد ببلاد الحبشة، وقيل سمى بياقوت العرشي؛ لأن قلبه كان لم يزل تحت العرش، وما في الأرض إلا جسده، وقيل لأنه كان يسمع أذان حملة العرش، توفى بالإسكندرية سنة (707 هـ).

ومن قبل كان ابن عطاء الله تلميذاً للشيخ أبي العباس المرسي، وكان ينفع الناس بإشاراته، ولكلامه حلاوة في النفوس وجلالة في القلوب. مات هكذا سنة سبع وسبعمائة وقبره بالقرافة يُزَار. هذا على الرغم من أن الشعراني ينقل مباشرة من كتاب "لطائف المنن" لابن عطاء حين يترجم لأبي العباس المرسي.

ونحن نرجح التاريخ الذي وضعه لوفاة ابن عطاء صاحب "طبقات الشاذلية"، لأنه أوفى ترجمة ابن عطاء الله حقها، في حين أهمل الشعراني هذه الترجمة، رغم تأثره الواضح في كتاباته بالشَّاذُليَّة عموماً، وابن عطاء على وجه الخصوص، ولم يذكر في طبقاته عن ابن عطاء إلاّ الشَّذَرَات.

انتسابه إلى الشَّاذُليَّة:

ويهمُّنا أن نتَعَرَّف على كيفية انتسابه إلى الطريقة الشاذلية، وسبيل الوصول إلى إمامها في ذلك الوقت، وهو أبو العباس المرسي؛ وكيف ألتقىَ ابن عطاء الله بشيخه، وكيف بَرَزَ في الطريقة وأفتى على المذهبين: الشريعة والحقيقة.

أخذ ابن عطاء الله السكندري عهد الطريق إلى الله، على الإمام الكبير أبي العباس المرسي؛ ذلك القطب التي ورث القطبية عن شيخه أبي الحسن الشاذلي فقالَ عنه أنه (أي أبو العباس): "أعلم بطرق السماء منه بطرق الأرض"، وقال في حقه أيضاً: "هذا أبو العباس، منذ أن عَرَفَ الله لم يُحجب عنه، ولو طلب الحجاب لم يجده".

وحينما كتب ابن عطاء الله "لطائف المنن"، ذكر مناقب شيخه أبو العباس المرسي، وشيخ شيخه أبو الحسن الشاذلي، لكن الذي يُعنينا هنا هو: كيف انتسب ابن عطاء الله إلى الطريق؟ إذْ بمعرفة هذا الانتساب يتسنى لنا تحديد العمر الروحي لابن عطاء الله السكندري؛ فلقد كان فيما سبق، قبل انتسابه، من المنكرين على طريق التصوف؛ إذْ يحدثنا أن مخاصمة جرت بينه وبين أحد أصحاب أبي العباس المرسي، قبل أن يصحبه، فقال لذلك الرجل:

ليس إلا أهل العلم الظاهر، وهؤلاء القوم يَدَّعُون أموراً عظيمة، وظاهر الشرع يأباها، وبعد أن جرت المخاصمة أراد أن يذهب بنفسه إلى الشيخ؛ ليرى ما عنده من الحق، هل يوافق أم يخالف؟ فليس من شك أن لصاحب الحق إمارات، هنالك وجد الشيخ يتكلم في الأنْفَاس التي أمر الشارع بها، ممّا أبهره حتى أذهب الله ما كان عنده.

وممّا ذكره في "لطائف المنن" عن قصة صلته بأبي العباس وكيف أصبح من تلاميذه المُقَرَّبين أنه قال: "كنتُ لأمْرِه (أي الشيخ أبي العباس) من المنكرين، وعليه من المعترضين، لا لشيء سمعته منه، ولا لشيء صَحَّ نقله عنه، ولكن جرت المخاصمة بيني وبين أصحابه، فقلت فيهم قولاً عظيماً، ثم قلتُ في نفسي: دعني أذهب انظر هذا الرجل! فصاحب الحَق له إمارات لا يخفى شأنه، فأتيت إلى مجلسه، فوجدته يتكلَّم في الأنفاس ومسألة درجات السالكين إلى الله، ومدى معرفتهم به، وقربهم منه.

فقال: الأول إسلام، وهو: درجة الانقياد والطاعة والقيام بمراسيم الشريعة. وثانيها: الإيمان، وهو مقام معرفة حقيقة الشرع بمعرفة لوازم العبودية. وثالثها: الإحسان، وهو: مقام شهود الحق تعالى في القلب. وإنْ شئت قلت: الأول عبادة، والثاني عبودية، والثالث عبودة. وإنْ شئت قلت: الأول شريعة، والثاني حقيقة، والثالث تحقُّق.

فمازال يقول: وإنْ شئت قلت، وإنْ شئت قلت، وإنْ شئت قلت، إلى أن بَهَرَ عقلي وسلب لبي؛ فعلمتُ أن الرجل إنما يغترف من فيض بحر إلهي، ومددٍ ربانيّ، فأذهب الله ما كان عندي (من إنكار). ثم أتيتُ تلك الليلة إلى المنزل؛ فلم أجد فيَّ شيئاً يقبل الاجتماع بالأهل على عادتي، ووجدت معنى غريباً لا أدري ما هو!

فانفردتُ في مكان انظر إلى السماء وكواكبها وما خلق الله فيها من عجائب قدرته، فلَمَس قلبي أشياء لم أعرفها من قبل؛ فحملني ذلك على العودة إليه مرة أخرى، فأتيت إليه فاستؤذن لي عليه؛ فلمَّا دَخَلت إليه قام قائماً وتلقاني ببشاشة وإقبال حتى دهشت خجلاً، واستصغرت نفسي أن أكون أهلاً لذلك، فكان أول ما قلت له: يا سيدي: أنا والله أحَبُّكَ.

فقال: أحَبَّكَ الله كما أحببتني، ثم شكوت إليه ما أجده من هموم وأحزان.

فقال: أحَوالُ العَبْدُ أربع لا خامس لها: النعمة، والبليَّة، والطاعة، والمعصية؛ فإنْ كُنتَ في النعمة؛ فمقتضى الحق منك الشكر، وإنْ كنتَ بالبلية؛ فمقتضى الحق منك الصبر، وإنْ كنتَ بالطاعة؛ فمقتضى الحق منك شُهود منَّتَهُ عليك؛ وإنْ كنتَ بالمعصية؛ فمقتضى الحق منك وجود الاستغفار. قال ابن عطاء: فقمتُ من عنده وكأنما كانت الهموم والأحزان ثوباً نزعته".

التصوف خلال هذه النسبة:

ويمكننا ممّا تقدَّم أن نستخلص عدة نقاط تدل دلالة قاطعة على (الطريق الصوفي) عند ابن عطاء الله، وتعطي فكرة مجملة عن حقيقة هذا العلم الذي انضم هذا القطب الكبير إلى زمرة القائمين عليه؛ فمن هذه اللحظة تحدد العمر الروحي لديه وسكنت المعرفة بالله قلبه، وأصبح من تلك اللحظة هو العارف بالله حقيقة لمَّا أن غسلت كلمات شيخه ماضيه سواء كان هذا الماضي تنكراً للطريق أو كان هموماً وأحزاناً عكرت صفاء باطنه؛ فهذا الثوب الذي نزعه كان عمراً مضى وانقضى؛ لم يعد بعد هذه اللحظة الفارقة في حياته هو هو كما كان قبلها. لقد تغيرت حياته من جانب في الحياة إلى جانب آخر، من تَوَجُّه إلى تَوَجُّه آخر سواه؛ وانقلب بمجرد نظرة الشيخ إليه إلى عالم آخر سيذوق فيه ما لم يَذُقْه من قبل، عالم التحول والتبدل في الأحوال ثم الترقي فيها إلى معارج الكمال.

النقطة الأولى: وهى أن التصوف "حَالٌ" لا يُستدعى استدعاء بمحض التعمُّد والاستجلاب أو محض التدبير والاستحضار، ولا يكتسب بالمقروء وبالمكتوب وكفى؛ ولكنه من جنس "الموهبة" المُفَاضَة فيضاً لدُّنيَّاً من عين الجود، لا تأتى مطلقاً بالحيلة وبذل المجهود، هو إرادة من الله إلى العبد أن يكون متصوفاً، ولا شيء أكثر من هذا.

إنَّ "الحلاوة" التي يجدها المتصوف في علاقته بالله لا تعدلها حلاوات الدنيا ولو اجتمعت. إنها من أعلى منن الله على عبيد الاختصاص. ومن أجل هذا كان "الجنيد" يقول:"لو علم ملوك الدنيا ما نحن فيه لقاتلونا عليه بالسيوف" . ومما يقوّي هذا ويسانده قول الجنيد أيضاً:"لو علمتُ أن لله تعالى علماً تحت أديم السَّماء أشرف من هذا العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا وإخواننا لسعيت إليه، ولقصدته، أي يسعي إليه كيما يَنَالُ فضيلته وبركته. ولكنه لم يعلم تحت أديم الأرض أشرف من علم التصوف لكي يسعى إليه.

هذه الحلاوة هى أساس "الحال" الذي لا يُستدعى ولا يكتسب ببذل مجهود ولا حيلة دليل، نفهمه من قول ابن عطاء فيما وجده من شدة "الجذب" إلى موارد هذا الحال الذي يعني "الموهبة" ليس فيها استدعاء، أو الحَال الذي يفاجأ القلب فجأة ليس فيه استحضار يدل على ذلك قوله:" فَوَجَدتُ معنى غريباً لَسْتُ أدري ما هو!"؛ وذلك عند مقابلته مع الشيخ لأول مرة، وعودته إلى منزله، وتغيير العادة مع تغيير الحال، ثم يحكى أنه انفرد في مكان بعد أن أصابته جذبة "الحال" وأخذ ينظر إلى السماء وكواكبها وما خلق الله فيها من عجائب قدرته، ثم ينقله "الحال" إلى "التفكر"؛ وهو معنى قوله: "أخذت انظر إلى السماء وكواكبها وما خلق الله فيها من عجائب القدرة"؛ الأمر الذي يدل على أن التَّفَكُّرَ في الأصل مقرون بالأحوال لأن الحال قرين القلب ومادام الحال للقلب قريناً فهو أولى بالخصوصية، ثم ينقله التَّفَكر الذي يسبقه "الحال" إلى أشياء لم يكن ليعرفها من قبل وهو قوله: "فلمس قلبي أشياء لم أعرفها من قبل"؛ الأمر الذي جعله يعود إلى مسرعاً شيخه.

ما معنى هذا؟ معناه: "الحال" الذي لا وَصْفَ له ولا حَدَّ سوى كونه أرادة من الله للعبد؛ فالتصوف من ثمَّ إنْ هو إلا "حال" ولا يزيد. حالٌ يَدُقُّ عن الوصف ولا تسعه بالمطلق عبارة. حَالٌ يشع به الوجدان شوقاً إلى مَعَارف أهل النور.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم