دراسات وبحوث

عبد الأمير كاظم زاهد: التحولات الفكرية عند الاباضية (2)

قراءة سوسيولوجية في التطور العقدي

الجزء الأول من البحث

ومن أبرز ما افرزته السقيفة من معطيات نظرية ومنهجيه: انها اظهرت ان بعض كبار الصحابة كانوا يرون ان السلطة في الاسلام لم يوضع لها معيار شرعي أو قانون قراني أو رؤى دستورية دينية على عصر النبي وعليه فالخلافة متروكة للمصالح العامة وهي مسؤولية المجتمع الذي تنوب عنه انذاك مراكز القوى لانها القوى الفاعلة فصارت فرصة لأهل الغلبة، ولافتقاد المعايير لمشروعية السلطة سواء الإلهية (بالنص) والاجتماعية (بالأفضل) فقد صارت محلا للاجتهاد الشخصي، وسواء تم تغييب هذين المعيارين او تم التغاضي عنهما فقد اضحت الخلافة مطلبا ورغبة لكل من تؤهله (قوته) للظفر بكرسي الحكم لذلك ساد فيما بعد نمط الحكام المتغلبين في القرون اللاحقة على دول المسلمين وقد افرد الماوردي في كتابه الاحكام السلطانية مبحثا في مشروعية المتغلب.

ولعل لحظة السقيفة هي اللحظة التي تحول فيها الفكر الديني من حقائق الهية الى ايديولوجيا سياسية فصارت الشورى (مسوغاً) برجماتيا وليس مفهوماً دينيا، وكانت السقيفة هي اللحظة المنتجة للسلطة التي يؤسسها المهاجرون فقط وكانت الحاسمة مع عدم اختيار الرجل الاول في الاسلام

وبسبب افتقاد الالية وجدنا تعدد معايير اختيار الحاكم فيما بعدها فقد اوصى ابو بكر لعمر بلا انتخاب ولا شورى ثم اوصى عمر الى (الستة) (1) فكانت السلطة غاية تتعدد الوسائل للوصول اليها لكنها عقلا لا يصح تصورها بلا قوانين ضابطة لكن الذي حصل ان بيعة السقيفة تحولت رغم كونها استثنتاء لظروف خاصة الفراغ السياسي الى اصل يقاس عليه غيره من الاحداث وأن كتّاب ومؤلفين وضعوا ادبيات السلطة تلك بوصفها اصول يستند اليها بعد عدة قرون كالماورديi في الاحكام السلطانية وابو يعلى الفراء وابو عبيد القاسم بن سلام.(2)

يلفت الأنظار ايضاً أن فترة خلافه عمر التي امتدت أكثر من عشر سنوات لم تلق أي احتجاج من اي فريق سواء من رفض قرار السقيفة من الانصار أو العلويين او من غيرهم الا ما نقل من نصائح لعلي بن ابي طالب لسلطة عمر وكانت توجيهات وارشادات لكن الذي حصل في الشطر الثاني من خلافة عثمان من هياج وثورة ومحاصرة واسقاط السلطة بقتل الخليفة دل على لحظة الانفجار وليس بدء الاحتقان. ولم تكن تلك الاحتجاجات على مفهوم الخلافة الذي صاغته السقيفة فقط انما على السياسات التي سار عليها عثمان أي على نقص الشرعية والمشروعية معا ولانهم قد اضفوا على الخلافة صفة القداسة فقد اضعف التمرد هذا تلك الصفة

د - وتظهر التجربة المبكرة لتشكل السلطة لجوء القوم بعد مقتل عثمان الى الطلب من علي (ع) أن يتولى الامر بعد مقتل عثمان وقد جاء الاختيار لعلي ع اضطراراً من مجموعات الضغط لوجود فراغ سياسي ورفض علي ع الامر

ويمكننا تفسير الرفض بان ما انتهى اليه الواقع بسبب رداءة الادارة السابقة التي اسست قيما جديدة واستحكمت في المجتمع فلا يمكن ان تصلح الامور بين ليلة وضحاها، وفعلا فقد تواترت الآخبار في أن علياً (ع) كانت لديه تطلعات عديدة للتغيير لكنه لم يتمكن من انجازها لمعارضة العامة التي تأسس وعيها المشوه في ربع قرن خلت ومن جراء البدء بالاصلاحات كان تمرد اصحاب الجمل الذي يعد انشقاقا خطيرا ثم تمرد معاوية الذي لم يقف ضده المهاجرون والانصار رغم معرفتهم بمعاوية وتاريخه المضاد للاسلام وللنبي وقفة جادة وبعد الموافقة على التحكيم في حرب صفين رفضت مجموعة هذا الاجراء وطالبت باستمرار القتال وتشكلت على هذا الموقف (فرقة) كلامية اسموها الخوارج وكان تمرد اصحاب النهروان، و اخيرا نشهد سقوط تجربة التصحيح واستشهد الامام علي ع فكان شهيد الحق والاصلاح وشهيد النزعة التصحيحية التي كان يريد ان يضع الامة عليها فقد كان ظهور الخوارج احدى تلك المخرجات وقد يخطر ببالنا سؤال

لماذا لم يظهر الخوارج في زمن عثمان رغم الاستئثار بالمال وسوء الادارة وولاية الامصار بالمحسوبيات لبني امية بينما ظهروا بشراسة وعلنية وتخطيط ورؤى في زمن علي (ع) ؟ هذا ما يجب أن نبحث له عن تفسير واشير هنا الى ان بعض الكتاب قد ذكر ان ذي الخويصرة كان مع الذين قتلوا عثمان ومع ذلك لم يتشكل الخوارج كجماعة منظمة في زمن عثمان ثم تزعم هذا الرجل جماعة من الخوارج فيما بعد ويساق هذا الخبر للتدليل ان تأسيسهم كان ابان الثورة على عثمان وهذا الراي ضعيف جدا والدليل ان كتب التاريخ لم تسم الذين خرجوا على عثمان خوارج، انما انحصر الاسم بمن خرج محتجاً على التحكيم لأنهم تحولوا الى فرقة منظمة لها اتجاهها السياسي ورؤيتها الخاصة.وفي الازمنة اللاحقة ومع اصطدام الخوارج ببني امية روى أهل الحديث عشرات الاحاديث في ذم الخوارج على اني أظن أن بعضها قد صدر فعلاً عن النبي، لكن جزءاً اخر منها كان الدافع فيه استمرارهم بقتال دولة بني أمية، فكان الامويون يدفعون المال باتجاه تشويه معتقداتهم وإظهار السوء فيهم كما هي سياستهم مع معارضيهم مؤكدين على أن ما صدر عنهم من سلوكيات القتل والنكاية والتمرد والجهل واللجوء الى التأويلات السطحية المتسرعة، افعال شائنة تكفي ادلة لادانه منهجهم ومسلكهم.(2)

- ولعل من الصحيح القول أن علياً (ع) انما قاتلهم فلأنهم (مجرمون وقتلة) أي لدواعٍ جنائية كونهم قد ارتكبوا اصناف بشعة من الجريمة المنظمة.

اما اراؤهم فهي عند علي لاتزال في نطاق الخلاف المشروع والحوار المقبول لذلك كلف الامام علي ع أبن عباس بالحوار معهم على قاعدة انه طالما كان الخلاف فكريا فلم يمنعهم من التواجد في مساجد المسلمين ولم يحرمهم من نصيبهم من الفيء، ولم يقاتلهم حتى ارتكبوا جناية القتل وله (ع) في ذلك للامام ع كلمة مشهورة فقد قال (أن لهم علينا ثلاث، الا نبدأهم بقتال مالم يقاتلونا، والا نمنعهم من مساجد الله ان يذكروا فيها اسمه، والا نحرمهم من الفيء مادامت ايديهم مع ايدينا) (3).وقال فيهم اكلمة غاية في الاهمية (ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فادركه) لذلك نهى أن يقاتل الخوارج بعده فقال لا تقاتلوهم بعدي

- لقد وظف الخوارج مقولات دينية عديدة توظيفاً ايديولوجيا منها مفهوم الهجرة والتفاصل، ووجوب الأمر بالمعروف وانكار الباطل والظلم في جميع الاحوال بلا حساب للنتائج والمالات، واطلقوا شعار الحكم بما أنزل الله على عمومياته البدائية مؤسسين نظرية (الحاكمية) التي ستظهر فيما بعد عند الجماعات التكفيرية ولم يبالوا انهم وقعوا في الغلو الفاضح، والجهل المركب بالدين وشق عصا الطاعة على امام يتفرد بان بيعته استوفت تمام الشرعية، ثم استحلوا دماء المسلمين واسسوا لمنهجيات العنف الديني الذي ظهر في العصور التي تلت ظهورهم.

اصول عقائد الخوارج

تشكلت اصول المعتقدات عند الخوارج من تداعيات الممارسة السياسية والقتالية وابرزها

تكفير الخليفة عثمان والامام علي واصحاب الجمل وكل من رضي بالتحكيم و تكفير من لا يكفرهم وتكفير معاوية وبني اميه الا عمر بن عبد العزيز وبذلك يؤسسون مبدا تكفير الخصوم في الراي والاجتهاد ويستخدمن الدين استخداما سياسيا عنيفا

يرون ان الأيمان مرتبط بالعمل وساقوا لمفهوم الايمان مفهوما مركبا من (عقائد + عمل) وهو منطلق الرؤية الوهابية المعاصرة .

يرون وجوب الخروج على الحاكم الظالم كما يرونه او المخالف لوجهات نظرهم خلافا للمبدا العام عند المذاهب السنية من تحريم الخروج على الحاكم – ما عدا ابو حنيفة -

تكفير كل من لم يخرج على حاكم ظالم وانه مخلد في النار.

الخلافة شورى مطلقة بلا شرط القرشيه

وتاريخيا ظل الخوارج يقاتلون بني اميه حتى سقوط دولتهم 132هـ ثم انقرضوا وجوداً ولكن آراءهم تظهر بين آونة واخرى لاسيما في تجسدات الجماعات التكفيرية المتطرفة القديمة والوسيطة والمعاصرة. ومن اللافت غياب المدونات الفكرية للخوارج حتى ان ابن النديم قال انهم قوم كتبهم مستورة (4) وقال عنهم ابن تيمية عرفناهم من نقل الناس عنهم ولم نقف لهم على مصنف (5) ويواجه البحث عن تراثهم صعوبات التغييب الرسمي اي تغييب سلطة الخلافة التي كانت تمنع انتشار فكر الاخر او تستاصله. فليست كتبهم مستورة كما يقول ابن النديم علما ان غالب نقل الناس عنهم لم يكن دقيقا لذلك فالخوض في فكر المعارضة السياسية لدول الخلافة يواجه صعوبات جمة و مما يؤيد ذلك انهم مثلا انشقوا الى عدة فرق كان لكل منها اراء ومن ابرز فرقهم الازارقة، النجدات، الصفرية والإباضية ومما تقدم نشير الى ما يأتي:

يبدو أن التوظيف السياسي للدين قد بدأ مع السقيفة الاولى عام 11 هـ واستمر ظاهرة محايثة لسيرورة التطور السياسي الاسلامي الى يومنا هذا وكان الهدف منه ادعاء هوية طهرانية وشيطنة الآخر للانقضاض عليه بعد تكفيره، واغتنام امواله وسبي ذراريه.لانهم تشكلوا على تلقين المقولات وتحريم النقد والمراجعة والتامل واعادة النظر وادعاء امتلاك الحقيقة

أن آراء بعض الكتاب والمؤرخين الرسميين في الخوارج ربما صيغ اغلبها صياغة منحازة لأن الدولة الاموية كانت هدفاً لهجماتهم لذلك فان ادانه فكر الخوارج واستبعادهم من دائرة الاسلام لا تستند الى البحث العلمي الصرف انما استندت للمعتقدات التأويلية للخوارج والسلوكيات الاجرامية عندهم و لتحريض السلطة ضدهم

صحيح أن داعش ومثيلاتها أخذت من فكر الخوارج الكثير الا انه وطبقاً لفتاوى السعودية فان المغرر بهم من داعش لا يزالون مسلمين ولا يزال الاعتراف باسلامهم قائما عند المؤسسة الدينية الوهابية وكذا عند الازهر وظني لان ادبياتهم تعكس مكنونات الفكر السني وليس تطورات فكر الخوارج فالفكر السني السلجوقي والمدونات التي بين ايدينا منه مملوءة بأفكار داعش.

يلفت النظر أن الخوارج حاربوا بني امية ماعدا (عمر بن عبد العزيز) لأنه عندهم افضل حكام بني أمية وفي ذلك انصاف منهم لكنهم بعده قاتلوا بني امية فانكسروا أمام جيوش الدولة الاموية وكانت اخر ثوراتهم في المدينة في زمن آخر الحكام الأمويين مروان بن محمد وقد هزموا فيها ايضاً و انتهت شوكتهم في بدايات عصر الدولة العباسية فنقلوا نشاطهم الى شمال افريقيا وهناك حاربهم الادارسة والفاطميون ثم انقرضوا وجودا وبقوا تراثا عنفيا في تراكمات التراث الإسلامي

ومن المسلك السياسي للخوارج نجد عند الاباضية ما يتفقون به مع اسلافهم وما يختلفون فيه معهم:

أن الخلافة حق شائع للمسلمين، فاذا حصل رجل عن طريق الشورى على هذا المنصب اطاعوه واذا جار وانحرف استحلوا قتله اذا لم يتب ويعود الى ما يرونه عدلاً، وهذا اصل مشترك بين الاباضية الحديثة واسلافهم من الخوارج

انهم يقدمون الفاضل على المفضول والفاضل عندهم من يندب نفسه ويخرج للجهاد.

يرون أن الافتخار بالجنس كفر (6) لذلك فالتفرقة بين العرب والأمم الأخرى محرّمة.

كل مسلم لا يرى رأيهم فهو كافر يستحلون قتلة واغتنام أموال وسبي ذراريه وبهذه يختلف عنهم الاباضيون

يقتلون من يكذب عليهم من اصحابهم.وبهذه ايضا اختلف الاباضية معهم كما سيرد تفصيله

لا يجيز الخوارج التقية بكل اشكالها. وهذا موضع اخر للاختلاف مع الاباضية

يرون أن مرتكب الكبيرة كافر كفر مله تاب أو لم يتب وهو مخلد في النار. وهذا ايضا موضع خلاف ين الاباضية واسلافهم من الخوارج

موقف الكلاميين المسلمين من الخوارج: أختلف العلماء في توصيف الخوارج فقال اغلبهم انهم مسلمون عصاة مجرمون وفساق فابن حجر يراهم فساقاً (7) بتأويل فاسد، أما مالك وعياض فانهما يرونهم (اهل بدعة) يستتابون ويتم العفو عنهم وجاء في فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية للازهر أنهم من الفرق الضالة. واعتبرهم البخاري مرتدين معاندين يقاتلون بعد اقامة الحجة عليهم (لأنهم مرقوا من الدين) و وافقه ابو بكر بن العربي الذي يراهم مارقين للنص الوارد بهم.وذهب الملطي الى تكفير الخوارج وزعم عليه الإجماع (8) ووافقه الصنعاني (9) وتقي الدين السبكي (10) وهناك من توقف فيهم، و ذهب بعض سلفية الحجاز الى تكفيرهم لأنهم وافقوا المعتزلة والجهمية

الاصول التاريخية للاباضية:

يقول مؤرخو الاباضية ان اصولهم تعود الى القرن الاول الهجري وربما الى اسلافهم الذين حملوا قضية رفض التحكيم بعد صفين (11) وقد أنعزل فريق فيها من جيش الامام علي يقدر ب (16000) رافضين التحكيم (12) وناصبوا العداء لبني هاشم وآل البيت (ع) وكذلك لبني امية فيما بعد ونادوا بإلغاء شرط القرشية في الخلافة (13) حتى لا توضع حواجز امام اختيارهم لخليفتهم ودخلوا في عدة معارك مع معاوية، فارسل معاوية على الكوفة زياد بن ابيه واليا عام 45 هـ وتمكن من الحاق الهزيمة بالخوارج وكسر شوكتهم في البصرة.فلما أعلن ابن الزبير رفضه الخضوع لبني امية اجتمعوا بقيادة نافع بن الازرق وتوجهوا الى الحجاز للقتال معه ولضم ابن الزبير اليهم وكان انضمامهم له ليس لنصرته او لاحقية قضيته انما كانوا مترددين في ان ابن الزبير اذا أنضم لهم قاتلوا لأجله والا فانهم يدافعون عن البيت الحرام بمكة (14) فلم يتوافقوا مع ابن الزبير وانفضوا عنه (15) وكان عبد الله ابن إباض ضمن الذين قاتلوا مع ابن الزبير فلما شاهد غلو اصحابه في جدالهم مع ابن الزبير لاسيما عن عثمان اختلف ابن اباض معهم واستقل عنهم بعد أن أنفضوا جميعا عن ابن الزبير. فلما عادوا للبصرة تنادى نافع بن الازرق لقتال من يخالفه الرأي فامتنع ابن إباض بعد أن أجرى مراجعة للمقولات المتطرفة للخوارج (16) ويفسر عمر النامي موقفه هذا انه كان للاحتفاظ بدعم المسلمين له ولتثبيت موقف مسالم امام السلطات لتجنب ملاحقتها (17)

لذلك لا يستطيع باحث ان يقطع الصلة تماما بين مؤسسي المذهب الاباضي والخوارج لكن يمكن أن يرصد تحولا عقديا عن الجذر التاريخي لهم، فبعض الجذور متقاربة وبعض المنطلقات متشابهة، غير أن الاباضية تركوا الغلو وهذا ربما يرجع الى ظروف نشأتهم * وقسوة بني امية وبقائهم قلة مدانة وعوامل اخرى لعل من بينها انهم اجروا مراجعة حرة وطليقة وانتهوا الى اجراء تعديلات على العقائد والفكر والسلوك الديني فتحولوا الى فكر وتجربة تاريخية تعاقبت عليها التعديلات والمراجعات واهمها تلك التي ادت الى ظهور الاباضية كمذهب مسالم ؟ لكن المؤرخين لا يرون ذلك فهناك من ينكر ان الاباضية فصيل من الخوارج ويرى انهم فرقة ومذهب مستقل والاغلب يعتقد انهم فرقة منشقة من الخوارج لان مصادر غير الإباضية ترى أن الإباضية فرع من الخوارج غاية الامر انهم انفصلوا عن خطهم العام ليكونوا اصحاب آراء معتدلة، وايا كان فمن الصعب الوثوق بالتقييمات التراثية للكتمان الذي اعتمدوه في عدم البوح بأدبيات الإباضية وللموقف الرسمي الحاد والمضاد لهم .

ان الوثائق التي كشف عنها عمر النامي تذهب الى أنهم يرون ان بدايتهم كانت مع نشوء المعارضة لسياسة عثمان (18) وانهم اعتبروا علياً قبل التحكيم اماماً شرعياً وناصروه ونظرواً الى طلحة والزبير وعائشة أنهم الفئة الباغية (19)، وأن امامهم جابر بن زيد دخل مع عائشة في جدال ووجه اليها اللوم، ولم يذكروا توبتها الا عن الدرجيني بكتاب (مخطوط) وناصروا علياً في حربه ضد معاوية لكنهم خطأوه حينما قبل التحكيم، وخلعوه وأنتخبوا خليفة غيره

الاباضية والخوارج:

يبدو أن البصرة في منتصف القرن الاول كانت حاضنة للجماعات التي تخلفت عن معركة الجمل ولحقت بها بقايا معركة النهروان، وتجمعوا هناك بين 60-64هـ وكانوا قد وجدوا في حركة عبد الله بن الزبير ضد الامويين فرصة للقتال ولكسب ابن الزبير لصفوفهم فلما عجزوا اعتبروا قتالهم دفاعاً عن الكعبة، لكنهم لما اختلفوا تماماً مع ابن الزبير عادوا للبصرة ومن هنا بدات التحولات ويؤيد ذلك ما ذهب اليه الذهبي الذي يرى ان ابن إباض قد تراجع عن فكر الخوارج (20) وهناك مصادر لغير الإباضية ترى أن الإباضية فرع من الخوارج انفصلوا عن خطهم العام ليكون لهم آراء معتدلة

تحولات الإباضية في الفكر والرؤية الفقهية

في اطروحتي للدكتوراه التي نوقشت في الجامعة اللبنانية عام 2019 كنت افكر في وضع معيار يمكن التوصل من خلاله الى جواب لسؤال مهم وهو: كيف نتوصل الى ان المنظومة الدينية لهذا المذهب أو ذاك يمكن ان تحمل الدوافع لممارسة العنف الديني؟ أو تسكت عن تسربها الى عقل الاتباع دون ان تجرمها؟ وكيف نتوصل الى ان المنظومة الدينية محايدة بين ثقافة التسامح والحوار، وثقافة التعصب والعنف وقد اكتشفت أن هذا المعيار يقف عند ما يطلق عليه (المقتضي) أي المعطيات، أو مدخلات عوامل تشكل العقل المذهبي أو الديني في ضوء المقتضيات ويمكن تلمس السمات والنزعات الكامنة في تكوين العقل الديني لاتباع ذلك الدين او المذهب ويتكون المعيار من خمسة محاور:

الأول: نوع النشأه التأسيسية الاولى للمنظومة والدينية وهو ما يمكننا ان نستفيد من التأسيس الأول لها.

الثاني: نمط المعتقدات وآثارها على العلاقات الاجتماعية وعلى فهم الأخر والتعاطي معه.

الثالث: منهج التفكير وأنتاج المعرفة العامة فيها وآثاره على نمط أكتشاف الحقيقة وطرق اكتشاف المواقف والمفاهيم أزاء المشكلات والتحديات

الرابع: الآراء الفقهية التي يتبناها المذهب ونوعها لاسيما جهة تنظيم العلاقة مع الآخر المختلف معها عقدياً وحقوقياً.

الخامس: نوع المواقف التي تصدر عن قيادة هذه المجموعة خلال فترة التكوين والتطور والصيرورة

نشأة الإباضية:

اختلف الباحثون في نشأة الإباضيه على آراء:

الرأي الأول: ما ذهب اليه كتاب الفرق والمقالات الى انهم فرقة من الخوارج* ويعد الاشعري أول من نسبهم الى الخوارج (21) وبعده جاء البغدادي الذي وصفهم بانهم من الخوارج واعتبرهم من الفرق الضالة وصفهم بانهم اصحاب فضائح وشنائع، ويصف احد كتاب الإباضيه رأى البغدادي بقوله: أنه حشر في وصف الاباضية مالا يعرفه الإباضية (22)

واورد البغدادي بان الإباضية من الفرق التي لا يجوز للسني الصلاة خلفهم والتزوج منهم، ولا يأكل ذبائحهم وردد هذا في مقدمة كتابه وفي ثناياه صوله (23)، ووافقهم أبن حزم في كتابه (الفصل في الملل والنحل) واورد لهم مقالات انكرها المتأخرون منهم، وقيل أنه قد رأى في الاندلس انهم فرقة ضالة تنسب نفسها الى ابن اباض وادرج اقوالهم على انها اعتقادات عموم الاباضية (24)، وكرر الاسفراييني في كتابه (التبصير) ما كتبه البغدادي وأورد عنهم أنهم يكفرون الامة (25).

واما الشهرستاني الذي يعد كتابه (الملل والنحل) من اهم مراجع الفرق والمقالات وهو الكتاب المعتمد كمصدر توثيق في هذا المجال قد نسب اليهم ما نسبه من هم قبله من كتاب الفرق (26) وبناءً على هذه الاقوال التي سطرها كتاب الفرق والمقالات فالإباضية متناسلة من جماعة متطرفة توسلت الى نشر مقالتها بالقوة وإراقة الدماء وأن اسلافهم من الخوارج نشأوا نشأة عنفية وهم أول جماعة في تاريخ الاسلام تنشر العنف الديني وقد تمردوا على الامام الشرعي ثم قاموا بأفعال شنيعة وقطعوا الطريق واعلنوا أن بلاد المسلمين دار كفر وحرب يجب جهادهم وكفّروا من قعد عن جهادهم ودعوا اصحابهم الى البراءة منهم، وحرموا نكاح نساء بقية المسلمين وحرموا أكل ذبائحهم، بل اعتبروا اطفالهم كفاراً يجوز قتلهم فهم مثل مشركي العرب عند البعثة النبوية.

الراي الثاني: أن الإباضية فرقة مستقلة عن الخوارج وهي أول مذهب فقهي نشأ في الاسلام اسسه التابعي (جابر بن زيد) وكان من طلبة الفقه والكلام وقد تنقل بين البصرة ومكة ويقولون ان جابر ناظر الخوارج بان الله حرم دماء المسلمين (27) واغتنام اموالهم وسبي ذراريهم ويزعم المعاصرون انه المؤسس للاباضية (28) ويعارضهم في ذلك مثلا يحيى بن معين لانه اعتبر جابر من المحدثين الثقاة ولو كان اباضياً لاعتبره اهل الحديث مبتدعاً ولم يرووا عنه لان علماء الجرح يرفضون الرواية عن المبتدع والحال انهم رووا عنه فدل على انه ليس إباضيا (29) ورغم ذلك يصر المتاخرون من الاباضية بانه كان راس الدعوة للاباضية، عاش مسالما في زمن الوالي الاموي عبيد الله بن زياد وكان ممن نالهم القمع علماً انه كانت له علاقة حسنة مع الحجاج، لكن بعد اشتداد دعوته حبسه الحجاج ونفاه الى عُمان، ويقال انه الواضع الأول لأسس الإباضية، وذهب آخرون ان له تعزى التعديلات التي أجريت على فكر الخوارج المتسرب لهم من (المحكّمة الاوائل) عن طريق جماعة نافع ابن الازرق أو غيرهم

وجابر ابن زيد من التابعين (30) وهو من علماء البصرة ويقال انه تلميذ لابن عباس وقد روى عن ابن عباس (31) وكان أهل البصرة يرجعون اليه في الفتوى، قال النووي أن له مذهباً يتفرد به (32) واختلفوا في سنة وفاته على اقوال منها سنة (93هـ) (33) اما صلته بالإباضية فقد كانت البصرة موطنهم ومنطلقهم والازد هي القبيلة التي يتكاثرون فيها، ولا يستبعد من انهم كانوا يجالسونه ويستفتونه، او قد اباح بعضهم لنفسه أن ينسب نفسه اليه في مذهبهم وعقيدتهم غير ان المتأخرين من الإباضية جعلوه المؤسس الاول (34).

يقول البرادي: أن نسبة المتأخرين التأسيس لجابر اروج لمقالتهم حتى يقبلها المسلمون لانتسابها الى شخص معتبر من التابعين لكنه قال أن علماء عصره صرحوا بان لا علاقة له بالمذهب الخارجي، قال ابن سيرين (قد (برأه الله منهم) (35) وعن البخاري انه لم يسمع منه شيء مما يقوله الخوارج (36) وكذا ابو بكر الحميدي (37) ونقل عنه ابن ابي حاتم في الجرح والتعديل ان بعض الناس سمع منه قوله (ابرأ الى الله من ذلك) اي من الإباضية والخوارج

ويذكر اغلب الإباضية المعاصرون أن المؤسس الثاني للإباضية هو عبد الله بن إباض، الذي كان يقتدى بـ جابر بن زيد (38) ويعد ابن اباض الأكثر علنية من جابر، لما حصل منه من مناظرات مع اهل المقالات الاخرى ومناظراته ورسائله وكلامه الى عبد الملك بن مروان، لذلك غلب اسمه عليهم فصاروا يدعون بالاباضيه ويقول باحثون ان الامويين اطلقوا اسم الإباضية عليهم لئلا يرتبطوا بجابر بن زيد (39) لمكانته بين الناس الا ان ابن حجر قال في لسان الميزان انه رأس الإباضية من الخوارج (40) ووصفه انه من طبقة التابعين فقد كان في زمن معاوية وعاش حتى زمن عبد الملك بن مروان، ويذكر انه كان مع الخوارج الذين انضموا الى عبد الله بن الزبير في معركته ضد جيش الشام ثم سجنه ابن زياد والى بني امية على البصرة، ثم نفاه كما يقول البلاذرى وقد زعم الخوارج في قتالهم مع ابن الزبير غضبة منهم لمكة، لأنهم لا يرون له نصرة (41)، وذكر الطبري انه كانت كلمتهم واحدة فصاروا احزاباً، ويقال انهم اختلفوا مع ابن الزبير لما مدح عثمان (42) فعادوا الى قتال من لا يؤمن بمقالتهم ووصفهم بالمشركين ثم تخلوا عن ذلك، فقال إبن إباض انهم كفار بالنعم وليسوا مشركين، وتجوز مساكنتهم ومعاملتهم وحرم اسر نساءهم واغتنام اموالهم ومقاتلتهم ولأجله اجتمعت الإباضية على امامته (43) فكانت اشهر مسألة يختلف فيها الإباضية عن الخوارج وهي حكمهم على بقية المسلمين بانهم كفار كفر الشرك، وبذلك يكون ابن إباض قد ترك مذهب الخوارج بأهم مفاهيمه ومقولاته الشهيرة يؤيد ذلك ما قاله ابن حجر (انه رجع عن بدعته) (44)

واياً ما كانت الرواية الحقيقية، أو الراجحة، فأن الإباضية الحاليين يصرون على الانتساب له ويصرون انهم ليسوا خوارج، وتذكر كتبهم انهم بعد وفاته دخلوا مرحلة الدعوة السرية في زمن ابي عبيدة مسلم بن ابي كريمة وهو (خليفة جابر) المتوفى في خلافة المنصور العباسي ويذكرون انهم في هذه الفترة حصلت مراجعة عقدية وفكرية لأقوالهم وظهرت للمراجعة نتائج ومحاولات لتطوير الفكر الإباضي فيما بعد باتجاه الفهم الايجابي للدين وتعددت محاولات التطوير في الفكر الإباضي ونشير الى بعض منها:-

رسالة ابن إباض لعبد الملك التي يبرأ فيها من الخوارج.وتوثيق الصلات مع عمر بن عبد العزيز من خلال ابي عبيدة.وتطوير الفكر الإباضي عن طريق المجالس السرية لشيوخهم وقادتهم (45) ودفعهم نحو الاعتدال، والتخلي عن الفكر المتطرف وقد قام ابو عبيدة بالعمل ضد النزعة العقائدية العنيفة وتحويلها الى حركة فكرية ثقافية، لاسيما وقد انقطع عن الحكام كلياً وحذر من التعامل مع الولاة وقبول المناصب على الرغم من أنها كانت مسموحة في زمن سلفه جابر وهذه ايضا من تطورات الموقف الإباضي.لكن التاريخ يسجل عليه انه منع الإباضية من التزوج بغيرهم (منعاً مقاصديا) وليس منعاً شرعياً لمنع تسرب الاخبار عن حركتهم (46) بينما كان جابر يسمح بذلك.واوجد نموذج ابن ابي عبيدة نموذج (المجتمع المغلق المتعاون) اي المجتمع الذي ينفصل تماماً عن المسلمين لكنه يتكافل في ما بينهم (47) وهو نموذج لتنمية وتطوير جماعه، وعزلهم عن البيئة غير الإباضية

ولم تقف الاباضية مع يزيد بن المهلب الذي ثار في زمن يزيد بن عبد الملك (101-105) وكان قد هرب من السجن، وقدم الى البصرة وثار فيها وامتدت ثورته الى الاهواز والسند، فجاءهم جيش الشام وهزمهم في معركة العقر (102هـ).

وفي مطلع القرن الثاني دخلت دعوه الإباضية الى شمال افريقيا على يد سلمه بن سعيد في القيروان وقد جذب اليه البربر. لكن جاء في كتاب (اقناع اللائم) أن الخوارج في زنجبار يقيمون مراسيم الحزن يوم عاشوراء ويحبون الامام الحسين (ع) لقيامه بالسيف ومقاومته للظلم الاموي (48) وفي ذلك تعديل واضح على فكر الإباضية الذين كان اسلافهم يعادون عليا وابناءه

***

الأستاذ المتمرس الدكتور عبد الأمير كاظم زاهد

.......................

(1) حسن ابراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 45

2) ظ الاحكام السلطانية للفراء والماوردي وكتاب الاموال لابي عبيد

(2) محمد علي الصلابي، الخوارج نشأتهم وعقائدهم ص 110.

*انوه هما الى ان بعض الكتاب العرب والمستشرقين كانوا يجمعون الى جنب الخوارج الشيعة في كتاب واحد، وهدفهم واضح !!!

(3) ابن شيبه: المصنف 7/562.

(4) ابن النديم: الفهرست

(5) ابن تيمية: الفتاوى الكبرى

*لم يخرج ابن إباضي للعلن حتى قضى الامويون على الخوارج وتحولوا من حركة سياسية الى مذهب معرفي فقه وعقائد.

(6) ظ فان فلوتن: السيادة العربية، ترجمة حسن ابراهيم حسن ص 69. المسعودي مروج الذهب 2/406.

(7) فتح الباري 12/301. م.ن: 12/301

(8) الملطي: التنبيه والرد 54.

(9) تطهير الاعتقاد 4/14.

(10) أبن حجر: فتح الباري 12/313.

(11) أبن كثير: البداية والنهاية 7/280.

(12) م. ن: 2880.

(13) حسن ابراهيم حسن تاريخ الاسلام السياسي 1/376.

(14) الطبري: تاريخ الامم 5/564.

(15) الطبري: تاريخ الامم 4/165.

(16) الكامل في التاريخ 3/1040، العقد الفريد 1/261.

(17) عمر النامي: دراسات عن الاباضية ص 45.

(18) هذه النصوص في كتاب (احداث عثمان) ورسالة عبد الله بن إباض وسيرة سالم بن ذكوان، ظ النامي ص 52.

(19) ذات المصادر (مخطوطة) نقلاً عن النامي.

(20) الذهبي: لسلن الميزان 3/248.

*يقال أن نشأة الخوارج كانت في زمن عثمان بن عفان، وهم من احتج على سياساته وهم من ساهموا في قتله ثم تمردوا على الامام علي (ع) لأنه قبل التحكيم في معركة صفين وصارت لهم رؤية عقائدية وفقه خاص وآراء ومفاهيم صاغتها الاحداث التي مرت بهم، ظ محمد جواد مشكور: موسوعة الفرق ص 60

(21) مقالات الاسلاميين ص  .

(22) علي الصلابي: الإباضيه.

(23) البغدادي: الفرق بين الغرق ص 72.

(24) ابن حزم: الفصل في الملل والنحل

(25) الاسفرايني: التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن فرق الهالكين

(26) الشهرستاني: الملل والنحل

(27) عمر النامي: دراسات عن الإباضية 75.

(28) الصلابي: الاباضية ص 34.

(29) ظ     نشأة الحركة الإباضية 122-123

وراجع: ابو نعيم: حلية العلماء 2/28، تذكرة الحفاظ 1/102

أبن سعد: الطبقات 7/180.

(30) سير اعلام النبلاء 4/481.

(31) ظ الجرح والتعديل 2/494.

(32) النووي: الاسماء واللغات 1/141. وفي سير اعلام النبلاء 4/483

(33) سير اعلام النبلاء 4/383

(34) البرادي: نشأة الحركة الإباضية / البصرة 96.

(35) اكمال تهذيب الكمال 3/122.

(36) البخاري: التاريخ الكبير 2/204.

(37) ظ المعرفة والتاريخ 2/13.

(38) عوض خليفات: نشأة الحركة الإباضية ص 115.

(39) محمد علي دبوز: تاريخ المغرب الكبير 2/398.

(40)      لسان الميزان   ، ابن حزم: جمهرة انساب العرب 218.

(41) البلاذري: انساب الاشراف 6/12.

(42) أبن كثير: البداية والنهاية 11/667.

(43) الاسفراييني: الفرق بين الفرق 82-83.

(44) ابن حجر: لسان الميزان 4/418.

(45) الصلابي ص 51.

(46) نشأة الحركة الإباضية /166.

(47) م. ن: 167.

(48) ص 211.

في المثقف اليوم